Skip to main content

Full text of "lis_aka24"

See other formats




دارالشرو هف 


الغلاف والتصميم 


ظيمّة دا رالشتروقالأوات 
/1ه-5١٠ام‏ 

يسيع جم قوق الطتي ع حل هوظة 
© دارالشروهق 


شارع سييويه المصرى 

مدينة نصر- القاهرة ‏ مصر 
تليفون :077799 ؛ 

فاكس :/ا5ه/ا١‏ ؟ )1١17(‏ 
حصوء. انام عط © عمقل :الفح 


».510101116 . بقارا ا 


11100 





دارالشرو قف 





الأعمالالكاملة 


» »»© »© 


ع 


الل ص والكلاتَ اراق 
7,7 


التهان الله 2 منيشيىا لمعم 


// رخرت 
شيا اتد الثم )اذ 
١6١‏ 0:0 
مج مه ٠‏ م.م و د 
مر فق اليل 


161/ 


110 








مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية» ولكن الجو غبار خانق وحر لا يطاق. وفى انتظاره 
وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط » وسواهما لم يجد فى انتظاره أحدا. ها هى الدنيا 
تعودء وهاهو باب السجن الأصم يبتعد منطويا على الأسرار اليائسة . هذه الطرقات 
المثقلة بالشمسء. وهذه السيارات المجنونة» والعابرون والجالسونء والبيوت والدكاكين» 
ولاشفة تفتر عن ابتسامة. . وهو واحد. خسر الكثير» حتى الأعوام الغالية خسر منها 
أربعة غدراء وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديا. آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق» 
وللخونة أن ييأسوا حتى الموت» وللخيانة أن تكفر عن سحتتها الشائهة . نبوية عليش» 
كيف انقلب الاسمان اسما واحدا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حسابء وقدها ظننتما 
أن باب السجن لن ينفتح » ولعلكما تترقبان فى حذرء ولن أقع فى الفخ » ولكنى سأنقض 
فى الوقت المناسب كالقدرء وسناء إذا خطرت فى النفس انجاب عنها الجر والغبار 


1 الل ص وَالكلابَ 


والبغضاء والكدر. وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر. ماذا تعرف الصغيرة عن 
أبيها؟ . . لاشىء» كالطريق والمارة والجو المنصهر . طوال أربعة أعوام لم تغب عن بالهء 
وتدرجت فى النمو وهى صورة غامضة؛» فهل يسمح الحظ بمكان طيب يصلح لتبادل 
الحب. ينعم فى ظله بالسرور المظفر» والخيانة ذكرى كريهة بائدة؟ استعن بكل ما أوتيت 
من دهاء » ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» جاءكم من يغوص فى الماء 
كالسمكة ويطير فى الهواء كالصقر ويتسلق الجدران كالفأر وينفذ من الأبواب 
كالرصاص . ترى بأى وجه يلقاك؟ كيف تتلاقى العينان؟ أنسيت يا عليش كيف كنت 
تتمسح فى ساقى كالكلب؟ ألم أعلمك الوقوف على قدمين؟ ومن الذى جعل من جامع 
الأعقاب رجلا؟ ولم تنس وحدك يا عليش ولكنها نسيت أيضاء تلك المرأة النابتة فى طيئة 
نتنة اسمها الخنيانة . ومن خلال هذا الكدر المنتشر لا يبسم إلا وجهك يا سناء.ء وعما 
قريب سأخبر مدى حظى من لقياك؛ عندما أقطع هذا الشارع ذا البواكى العابسة» طريق 
الملاهى البائدة» الصاعد إلى غير رفعة» أشهد أنى أكرهك . الخمارات أغلقت أبوابها 
ولم يبق إلا الحوارى التى تحاك فيها المؤامرات» والقدم تعبر من آن لآن نقرة مستقرة فى 
الطوار كالمكيدة؛ وضجيج عجلات الترام يكركر كالسب» ونداءات شتى تختلط كأما 
تنبعث من نفايات الخضرء أشهد أنى إكرهك . ونوافذ البيوت المغرية حتى هى خالية» 
والجدران المتجهمة المقشفة. وهذه العطفة الغريبة عطفة الصيرفى, الذكرى المظلمة» 
حيث سرق السارق» وفى غمضة عين انطوى, الويل للخونة . فى هذه العطفة ذاتها 
زحف الحصار كالثعبان ليطوق الغافل» وقبل ذلك بعام خرجت من العطفة تحمل دقيق 
العيد والأخرى تتقدمك حاملة سناء فى قماطهاء تلك الأيام الرائعة التى لا يدرى أحد 
مدى صدقهاء فانطبعت آثار العيد والحب والأبوة والجريمة فوق أديم واحد. وتراءت 
الجوامع الشاهقة» وطارت رأس القلعة فى السماء الصافية» وانساب الطريق فى الميدان» 
وتجلت خضرة البستان تحت الأشعة الحامية» وهبت نسمة جافة رغم القيظ منعشة» ميدان 
القلعة بكل ذكرياته المحرقة . وكان على الوجه الذى لفحته الشمس أن ينبسط وأن يصب 
ماء باردا على جوفه المستعر كى يبدو مسالا أليفا فيمثل دوره المرسوم كما ينبغى . واجتاز 
وسط الميدان متجها نحو سكة الإمام . ومضى فيها يقترب من البيت ذى الأدوار الشلاثة 
فى نهايتها وعلى مفرق عطفتين جانبيتين يتفرع إليهما الطريق الأول. فى هذه الزورة 
البريئة سيكشف العدو عما أعده للقاء» فادرس طريقك ومواقعه» وهذه الدكاكين التى 
تشرئب منها الرءوس كالفيران المتوجسة . وجاءه صوت من ورائه يقول: 

- سعيد مهران! . . ألف نهار أبيض . . 

توقف عن المسير حتى أدركه الرجل فتصافحا وهما يغطيان على انفعالاتهما الحقيقية 


110 





الل صّوَالكلات 9 


بابتسامة باهتة. إذن بات للوغد أعوان» وسيرى قريبا ما وراء هذا الاستقبال» ولعلك 
تنظر من الشيش مستخفيا كالنساء يا عليش . 

- أشكرك يا معلم بياظة. . 

ولحق بهما كثيرون من الدكاكين على الحانبين» وارتفعت حرارة التهانى» وسرعان ما 
وجد نفسه مطوقا من جميع الجهات بحشد من أصدقاء غريمه ولا شك», واستبقت 
الحناجر قائلة : 

انمه لله غلى سلا لف 

-مبارك للأصدقاء والأحباب. . 

- قلنا من القلوب سيفرج عنه فى عيد الثورة. . 

فقال وهو يتفحصهم بعينيه اللوزيتين العسليتين: 

-الشكر لله ولكم. . 

فربت بياظة على منكبه قائلا : 

عاتعال إلى الذكان لتعري الخرنات ! 

فقال بهدوء : 

-فيما بعد عند العودة. . 

-العودة؟ ! 

وصاح أحد الرجال موجها حنجرته إلى الدور الثانى من البيت : 

-يا معلم عليش! . . يا معلم عليش انزل هنى سعيد مهران! 

لاداعى للتحذيريا خنفساء. إنى قادم فى ضوء النهار. . وأعلم أنكم تترقبون. . 
وعاد بياظة يتساءل : 

العودة من أين؟ 

- لدى حساب يجب أن أسويه. . 

فتساءل بوجه ممتعض : 

- مع من؟ 

-أنسيت أل أنت؟ ١‏ :وأن ابت الطنغيرة عند علش ؟ 

-تعم» ولكل خلاف حل فى الشرع . . 

وقال آخر: 

- والتفاهم خير. . 





٠١‏ الل ص والكلات 

وثالث قال بتبرة المسالم : 

- سعيد أنت قادم من السجن والعاقل من اتعظ ! 

فقال وهو يدارى حنقه المختنق : 

-من قال إنى جئت لغير التفاهم؟! 

وفتحت نافذة فى الدور الثانى وأطل منها عليش فارتفعت الرءوس إليه فى توتر. 
وقبل أن تبدر كلمة خرج من باب البيت رجل طويل عريض» فى جلباب مقلم» ينتعل 
حذاء حكوميا فعرف سعيد فيه المخبر حسب الله . وسرعان ما تظاهر بالدهش وقال 
منفعل : 

- ماذا دعا إلى إقلاقك وما جئت إلا للتفاهم؟ 

فمضى نحوه مسرعا وتحسسه مفتشا عما يريب فى صدره أو جيوبه» فعل ذلك بمهارة 
وخفة ودربة وهو يقول: 

- اسكت يا بن الثعلب, ماذا تريد؟ 

- أنت تعرف التفاهم! 

داتعم هق أجل أبنت .+ 

عندك المحكمة . . 

- سألا إليها عند اليأس! 

وصاح عليش من أعلى : 

-دعه يدخل» تفضلوا. . 

اجمعهم حولك يا جبان. إنما جئت أجس حصونك . وعند الأجل لا ينفع مخبر ولا 
جدار. ودخلوا حجرة الاستقبال فتفرقوا فوق الكنب والمقاعد. وفتحت النوافذ فاندفع 
الضوء والذباب» وتبدت فى البساط السماوى نقط سود من أثر حروق. وحملق عليش 
من صورة كبيرة فى الجدار معتمدا بقبضتيه عصا غليظة . أما المخبر فقد جلس إلى جانب 
سعيد وراح يعبث بحبات مسبحة . ودخل عليش سدره فى جلباب فضفاض منتفخ حول 
جسم برميلى» رافعا وجها مستديرا تمتلئ اللغد تحت ذقن مربع وأنف غليظ محطم 
العرنين. صافح سعيد متظاهرا بالشجاعة وقال: 

حمدا لله على سلامتك! 

وسرعان ما تأزم الجو بالصمت وتبودلت نظرات قلقة حتى عاد عليش يقول وكأغا 
يرعب فى نع صعضه جديدة: 


11100 





الل ضّوالكلات ١١‏ 


- ما فات فات» وكل ما حصل يقع كل يوم» وقد تحدث أمور مؤسفة وتنهار صداقات 
بدا سعيد وهو يتابعه بعينيه البراقتين وجسمه النحيل القوى كأنه غمر يتربص بفيل» ولم 


يسعه إلا أن يردد قوله : 

لايعيب إلا العيب.. 

وحدجته أعين كثيرة عقب ترديده وكفت يد المخبر عن العبث بحبات المسبحة فأدرك 
هو ما يجول بخاطرهم فقال مستدركا: 

أوافقك على ما قلت حرفا بحرف. . 

فقال المخبر بضجر : 


ادخلوا فى الموضوع وأعفونا من اللف. . 

فتساءل سعيد بسخرية خفية : 

- من أى ناحية؟ 

ناحية واحدة هى التى يجوز الكلام فيها وهى ابنتك! 

- وزوجتى وأموالى يا جرب الكلاب! الويل. . الويل» أريد أن أتلقى نظرة من 
عينيك . كى أحترم من الآن فصاعدا الخنفساء والعقرب والدودة. سحقا لمن يطرب 
لأنغام امرأة. 

ولكنه هز رأسه بالإيجاب. فقال أحد ماسحى الجوخ : 

- بنتنك فى الحفظ والصونء مع أمهاء وشرعا يجب أن تبقى مع أمها بنت ستة أعوام» 
وإن شئت أزورك بها كل أسبوع . . 

فرفع سعيد صوته متعمدا ليسمع من الخارج : 

- شرعا هى حق لى لشتى الملابسات والظروفف. . 


فتساءل عليش فى غلظة : 
ماذا تقصد؟ 


ولكن المخبر عاجله قائلا : 

-لن يجىء من الكلام إلا وجع الدماغ . . 

فقال عليش بيقين : 

- لم أرتكب جرهة ولكنها القسمة والنصيبء, والواجب أيضاء واجب المروءة دفعنى 
إلى ما فعلت. ومن أجل البنت الصغيرة أيضا! 





١‏ الل صّوَالكراتتَ 


- واجب المروءة يا ابن الأفعى! الغدر والخيانة المزدوجة . المطرقة والفأس وحبل 
المشنقة . ولكن ما شكل سناء الآن؟ 

وقال بهدوء ما استطاع : 

- لم أتركها فى حاجة» كانت لديها أموالى» أموال طائلة. . 

فهتف المخير : 

- تقصد مسروقاتك؟! تلك التى أنكرتها فى المحكمة! 

-ولا مليم! صدقونى يار جال» كانت الحال لا يسر يها عدو ولا حبيب» وحقاقمت 
بالواجب . . 

فتساءل سعيد فى تحد : 

- خبرنى كيف أمكنك أن تعيش فى سعة وأن تنفق على الآخرين؟ 

فصاح عليش محتدا : 

وقال رجل من ماسحى الحوخ : 

اخز الشيطان يا سعيد. . 

وقال المخير: 

-أنا عارفك وفاهمكء. أنا خير من يقرأداخل رأسك. ولكنك ستهلك نفسكء لا 
تخرج عن موضوع البنت فهذا خير لك . . 

فتراجع سعيد باسما وهو يخفى عينيه فى الأرض وقال باستسلام : 


بالحق نطقت ياحضرة المخبر . . 

أنا عارفك وفاهمك ولكنى سأماشيك احتراما لهؤلاء الرجال» هاتوا البنت» أليمس 
الأفضل أن نعرف رأيها أولا؟ 

- كيف يا حضرة المخبر؟ 


-يا سعيد أنا فاهمك» أنت لا تريد البنت» ولا تستطيع أن تأويهاء ولن تجد لنفسك 

مأوى إلا بعد الجهد. ولكن من العدل والرحمة أن تراهاء هاتوا البنت. . 

بل هاتوا أمها. كم أرغب أن تلتقى العينان. كى أرى سرا من أسرار الجحيم . الفأس 
والمطرقة. وقام عليش ليجىء بها . 

وعندما ترامى وقع الأقدام القادمة خفق قلب سعيد خفقة موجعة وتطلع إلى الباب 


11100 





الل ص والكلات س١‏ 


وهو يعض على باطن شفتيه. مسح تطلع شيق وحنان جارف جميع عواصف الحثق . 
وظهرت البنت بعينين داهشتين بين يدى الرجل » ظهرت بعد انتظار طال ألف سنة . 
وتبدت فى فستان أبيض أنيق وشبشب أبيض كشف عن أصابع قدميها المخضوبتين. 
وتطلعت بوجه أسمر وشعر أسود مسبسب فوق الجحبين فالتهمتها روحه. وجعلت تقلب 
عينيها فى الوجوه بغرابة» وفى وجهه خاصة باستنكار شديد لشدة تحديقه ولشعورها بأنها 
تدفع نحوه» وإذا بها تفرمل قدميها فى البساط وتميل بجسمها إلى الوراء . لم ينزع منها 
عينيه ولكن قلبه انكسرء انكسر حتى لم يبق فيه إلا شعور بالضياع . كأنها ليست بابنته . 
رغم العينين اللوزيتين والوجه المستطيل والأنف الأقنى الطويل. ونداء الدم والروح ما 
شأنه؟ أم هو الآخر قد خان وغدر؟ . وكيف له رغم ذلك كله بمقاومة هذه الرغبة الجامحة 
فى ضمها إلى صدره حتى الفناء؟ 

وقال المخبر بضجر ودون اكتراث : 

أبوك يا شاطرة! 

وقال عليش بوجه لا يبين عن شىء . 

-سلمى على بابا. . 

كالفأرة! م تخاف؟! ألا تدرى كم يحبها؟! ومد نحوها يده ولكنه بدل الكلام شرق 
فازدرد ريقه . وابتسم فى رقة وإغراء. وقالت سناء لا. وتحركت لتتسلل راجعة لولا 
الرجل وراءها. وهتفت «ماما)» فدفعها الرجل برقة وهو يقول: 

- سلمى على بابا. . . 

وتجلت فى الأعين نظرات اهتمام» وشماتة. وآمن سعيد بأن جلد السجن ليس 
بالقسوة التى كان يظنها . وقال متوسلا: 

تقالو زا فنا 

ولم يعد يحتمل رفضها فقام نصف قومة ومال نحوها فهتفت : 

0 

أنا بايا . 

فرفعت عينيها إلى عليش سدرةمستغربة فقال سعيد بإصرار: 

أنا باباء أنا » تعالى. . 

فتأبت واشتد ميلها إلى الوراء . جذبها نحوه بشىء من القوة. صرخت . ضمها إلى 
صدره فدافعته باكية. ومال نحوها ليلثم ‏ رغم هزيته ويأسه فاها أو خدها ولكن شفتيه 
لم تلثما إلا ساعدها المتحرك فى عصبية غير راحمة . 





١ ١‏ لل ص والكلات 


أنا باباء لا تخافى» أنا بابا. . 
وأفعمت رائحة شعرها روحه بذكرى أمها فتقبضت أساريره . وازدادت البنت مدافعة 
وبكاء حتى قال المخبر : 

-على مهلك البنت لا تعرفك . . 

فتركها تجرى يائساء ثم اعتدل فى جلسته وهو يقول بغضب: 

-سوف آخذها. . 

ومضت هنيهة صمت قبل أن يقول له بياظة : 

-هدئ نفسك أولا. . 

فقال بإصرار: 

والآيد إن تعوة إلى د 

فقال المخبر بحدة : 

-دع القرار للقاضى . 1 

ثم القت تسو عليشن مسائلا: 

- نعم؟ 

الأمر لا يخصنى فى شىء ولكن أمها لن تفرط فيها إلا بالشرع . . 

فقال المخبر : 

- كما قلت أول الأمرء كلمة واحدة لا ثانى لهاء وهى المحكمة! 

وشعر سعيد بأنه لو تمادى فى الغضب لا نفجر جنونه فتسلط على مشاعره بقوة غير 

طبيعية مذكرا نفسه بأشياء كاد ينساهاء وقال بهدوء نسبى : 

- نعم المحكمة! 

فقال بياظة : 
دواليقت كما تر تعيش فى برعاية وراسة. : 

وقال المخبر فى لهجة لم تخل من سخرية : 
ابحث أولا عن طريق مستقيم تأكل منه لقمتك. . 
رغم هذا بدا أنه يسيطر على نفسه أكثر فأكثر حتى قال : 
-نعم» كل هذا حق» ولا داعى للأسف من ناحيتى» وسأعاود التفكير فى الأمر كله 
ولاشك أنه خير أن أنسى الماضى وأن أبحث عن عمل حتى أهيئ للبنت مكانا طيبا 
فى الوقت المناسب . 


111 00 





/ لل ص وَالكراتَ 1١‏ 


وساد الصمت دهشة فتبودلت نظرات مصدقة وغير مصدقة» وكرر لمكي فشك غان 


المسبحة متسائلا : 
انتهينا؟ 
فقال سعيد: 
متكهه ولكين أونه كي 
د كتنلك؟! 
دعم .. 


فصاح عليش: 

ضاع أكثرها بيد سناء وسأحضر لك ما تبقى منها . 

وغاب الرجل برهة ثم عاد حاملا على يديه عامودا متوسطا من الكتب» فوضعه وسط 
الحجرة. وقام سعيد إلى المجموعة فتناول كتابا إثر آخر وهو يقول بأسف : 

-ضاع أكثرها حقا. . 

وضحك المخبر متسائلا : 

- من أين لك هذا العلم؟ 

ثم وهو ينهض معلنا انتهاء المقابلة : 

أكنت تسرق فيما تسرق الكتب؟ 

وابتسم الجميع ولكن سعيد أقبل يحمل الكتب دون أن يبتسم . . 


الفصل الثانى 


نظر إلى الباب المفتوح. المفتوح دائما كما عهده من أقصى الزمن» وهو يقترب منه 
ضاربا فى طريق الجبل . مشوى ذكريات ورحمة فى حى الدراسة القائم بين ذراعى 
المقطم. الأرض أطفال ورمال ودواب وهو من التعب والانفعال يلهث. وجرت عيناه 
وراء الصغيرات من البنات بلا ملل. وما أكثر الكسالى المستلقين فى ظل الخبل بعيدا عن 
الشمس المائلة . ووقف على عتبة الباب المفتوح قليلا» ينظر ويتذكرء ترى متى عبر هذه 
العتبة آخر مرة؟ يا له من مسكين بسيط كالمساكين فى عهد آدم . حوش كبير غير مسقوف 
فى ركنه الأيسر نخلة عالية مقوسة الهامة» وإلى اليمين من دهليز المدخل باب حجرة 
وحيدة مفتوح . لا باب مغلق فى هذا المسكن العجيب . وخفق قلبه فأرجعه إلى عهد بعيد 





15 / لل ص وَالكرابٌ 


طرى» طفولة وأحلام وحنان أب وأخيلة سماوية. المهتزون بالأناشيد يملئون الحوش 
والله فى أعماق الصدور يتردد. انظر واسمع وتعلم وفتح قلبك. . هكذا كان يقول 
الأب. وفرحة كالجنة بعثها الحلم والإيمان» وفرحة بالغناء والشاى الأخضر أيضا. ترى 
كيف حالك يا شيخ على يا جنيدى يا سيد الأحياء؟ وترامى إليه صوت من داخل الحجرة 
وهو يختم الصلاة فابتسم سعيدومرق من باب الحجرة حاملا كتبه . وهاك الشيخ 
متربعا على سجادة الصلاة غارقا فى التمتمة. وهذه الحجرة القديمة لم يكد يتغير منها 
شىء. الحصر جددت شكرا للمريدين ومازال الفراش البسيط لصق الجدار الغربى» 
وشعاع الشمس المائلة ينسكب من كوة عند قدميه» أما بقية الجدران فقد اختفى أسفلها 
وراء أرفف المجلدات» ورائحة البخور المستقرة كأنا لم تتبخر منذ عشرات الأعوام. 
تخفف من حمله واقترب من الشيخ قائلا: 

-السلام عليكم يا سيدى ومولاى! 

أتم الشيخ تمتمته ثم رفع رأسه عن وجه نحيل فائض ال حيوية بين الإشراق تحف به لحية 
بيضاء كالهالة . وعلى الرأس طاقية بيضاء منغرزة فى سوالف كثة فضية. حدجه بعين 
رأت الدنيا ثمانين عاما ورأت الآخرة . عين لم تفقد جاذبيتها ونفاذها وسحرها فلم يملك 
سعيدمن أن يهوى على يده فيقبلها وهو يدفع دمعة باطنية استقطرها من جو الذكريات 
والأب والأمل والسماء فى الماضى البعيد. 

وعليكم السلام ورحمة الله. . 

هذاصوت زمان! ترى كيف كان صوت أبيه؟ كأغا يتذكر ضصوت أبيه بعبنيه فير 
وجهه وشفتيه وهما يتحركان ولكن الصوت انتهى . وأين المريدون؟ أين أهل الذكر؟ يا 
سيدى محمد على بابك! وتربع أمامه على الحصيرة وهو يقول: 

أجلس دون استتذان لأنى أذكر أنك تحب ذلك ! 

شعر بأن الشيخ ابتسم من دون أن ترتسم على شفتيه الغارقتين فى البياض ابتسامة. 
توي هل تدكرهة 

لا تؤاخذنىء لا مكان لى فى الدنيا إلا بيتنك. . 

ترك الشيخ رأسه يهوى فى صدره وهو يقول بصوت هامس : 


أنت تقصد الجدران لا القلب. . 

فتنهد سعيد» وبدا لحظة كأنه لم يفهم شيئاء ثم قال بصراحة ودون مبالاة: 
خرجت اليوم فقط من السجن . . 

فأغمض الشيخ عينيه متسائلا : 

- السجن! 


11100 





الل ص ءَالكطات 1 


-نعمء أنت لم ترنى منذ أكثر من عشرة أعوام» وفى تلك الفترة من الزمن حدثت 
أمور غريبة» ولعلك سمعت عنها من بعض مريديك الذين يعرفوننى . . 

- لأننى أسمع كثيرا لا أكاد أسمع شيئا. . 

- على أى حال لا أحب أن ألقاك متنكراء لذلك أقول لك أننى خرجت اليوم فقط من 
السجن. . 

فهز رأسه فى بطء وهو يفتح عينيه قائلا فيما يشبه الأسى : 

-أنت لم تخرج من السجن. . 

فابتسم سعيد. كلمات العهد القديم تتردد من جديد. حيث لكل لفظ معنى غير 

معناه. وقال: 

-يا مولاى» كل سجن يهون إلا سجن الحكومة. . 

فرنا إليه بعين رائقة ثم تمتم: 

-يقول إن كل سجن يهون إلا سجن الحكومة. . 

فابتسم سعيد مرة أخرى . كاد ييأس من التلاقى. ثم تساءل فى حرارة : 

- هل تذكرتنى؟ 

فغمغم الشيخ دون مبالاة: 

- ولك الساعة التى أنت فيها! 

ومع أنه لم يشك فى أنه تذكره إلا أنه تساءل مستزيدا من الثقة : 

- وأبى عم مهران الله يرحمه؟ 

ب الله برحمنا: : 

-ما أجمل الأيام الماضية! 

-قل ذلك إن استطعت عن الساعة . . 

ولا 

واللةيرهها! 

- قلت إنى خارج اليوم من السجن. . 

فهز رأسه فى طرب مفاجئ قائلا : 

-وقال وهو على الخازوق باسما: جرت مشيئته بأن نلقاه هكذا. . 

- أبى كان يفهمك . كم أعرضت عنى حتى خلتك تطردنى طردا. ورجعت بقدمى إلى 
جو البخور والقلق. هكذا يفعل موحش القلب الذى لا بيت له . وقال: 





١ ١8‏ لل ص والكرات 


- مولاى » قصدتك فى ساعة أنكرتنى فيها ابنتى . . 


فقال الشيخ متأوها : 
-يضع سره فى أصغر خلقه! 
فقال جادا: 


- قلت لنفسى إذا كان الله قد مد له العمر فسأجد الباب مفتوحا. . 

فقال الشيخ بهدوء : 

- وباب السماء كيف وجدته؟ 

- لكنى لا أجد مكانا فى الأرض» وابنتى أنكرتنى . . 

- ما أشبهها بك . . 

- كيف يا مولاى؟ 

- أنت طالب بيت لا جواب. . 

فأسند رأسه المفلفل إلى يده المعروقة الدكناء وقال: 

- كان أبى يقصدك عند الكرب» وجدت نفسى. . 

فقاطعه بهدوء لا يخرج عنه : 

-أنت تريد بيتا ليس إلا. . 

تضاعف شعوره بأنه يعرفه» وقلق دونما سبب مفهوم» وقال: 

-ليس بيتا فحسبء أكثر من ذلك» أود أن أقول اللهم أرض عنى . . 

فقال الشيخ المترنم : 

- قالت المرأة السماوية «أما تستحى أن تطلب رضا من لست عنه براض؟ !2 . 

وضج الخلاء فى الخارج بنهيق حمار ختم بحشرجة كالبكاء . وغنى صوت لا حلاوة 
فيه ( البخت والقسمة فين». كما ضبطه أبوه وهو يغنى ١حزر‏ فزر» فلكمه برحمة وقال له 
أهذه أغنية مناسبة ونحن فى الطريق إلى الشيخ المبارك». وترنح الأب وسط الذكرء 
غابت عيناه» بح صوته» تصبب عرقا. 

وجلس عند النخلة يشاهد صفى المريدين تحت ضوء الفانوس ويقضم دومة وينعم 
بسعادة عجيبة . وكان ذلك سابقا لنزول أول قطرة حارقة من شراب الحب. وأغمض 
الشيخ عينيه فكأنه نام . وألف هو المنظر والجو حتى البخور لم يعد يشمه. وطرأت فكرة 
بأن العادة أساس الكسل والملل والموت . وهى المسئولة عما عانى من خيانة وجحود 
وضياع جهد العمر سدى . وتساءل ليوقظه : 

ألا تزال تحيا الأذكار هنا؟ 


11101 





الل ضءَالكلابت 1 


فلم يجبه . وساوره القلق فعاد يسأل: 
- ألا ترحب بى؟ 
ففتح الشيخ عينيه قائلا : 
دشعك] لعلالتل للفو 
لكف صاحي اليث! 
فقال فى مرح طارئ : 
صاحب البيت يرحب بك . وهو يرحب بكل مخلوق. بكل شىء. . فابتسم سعيد 
متشجعاء فاستدرك الشيخ قائلا : 
أما أنا فصاحب لا شىء. . 
وكان ضوء الشمس المرسوم على الحصيرة قد انسحب إلى الجدار فقال سعيد : 
ماعل كل فال فهنا النيت يس كبا قان يك أن ونش كل ناصبد: وادت ا 
مولاى جدير بكل شكر. . 
فقال الشيخ : 
-اللهم إنك تعلم عجزى عن مواضع شكرك فاشكر نفسك عنى ء هكذا قال بعض 
الشاكرين! 
فقال سعيد برجاء : 
-إنى فى حاجة إلى كلمة طيبة . . 
فقال فى عتاب حليم : 
دلا كانت 
وأحنى رأسه حتى انتشرت لحيته على صدره وراح مستغرقا. انتظر سعيد صابراء ثم 
تزحزح إلى الوراء ليسند ظهره إلى رف من رفوف الكتب» وجعل يتأمل الشيخ الجميل . 
ولما طال انتظاره سأله : 
-هل من خدمة أؤديها لك؟ 
فلم يعن بالالتفات إلى قوله.ء ومضى زمن صامت وعينا سعيد تتابع طابورا من النمل 
يزحف بخفة بين ثنيات الحصيرة . وإذا بالشيخ يقول : 
خذ مصحفا واقرا. . 
-غادرت السجن اليوم ولم أتوضاً. . 
دكوفا قرا 
فقال بلهجة جديدة شاكية : 





0" الل ص لكاب 


- أنكرتنى ابنتى» وجفلت منى كأنى شيطانء ومن قبلها خانتنى أمها! 
فعاد الشيخ يقول برقة : 
- توضاً واقرأ. . 
- خانتنى مع حقير من أتباعى» تلميذ كان يقف بين يدى كالكلب» فطلبت الطلاق 
محتجة بسجنى » ثم تزوجت مله. . 
-توضاً واقرأ. . 
فقال بإصرار: 
- ومالى» النقود والحلى» استولى عليهاء وبها صار معلما قد الدنياء وجميع أندال 
العطفة أصبحوا من رجاله. . 
- توضاأً واقرأ. . 
بعبوس وقد انتفخت عر وق جبينه : 
- لم يقبض على بتدبير البوليسء كلاء كنت كعادتى واثقا من النجاة» الكلب وشى 
بى» بالاتفاق معها وشى بى» ثم تتابعت المصائب حتى أنكرتنى ابنتى . . 
فقال الشيخ بعتاب : 
-توضاً واقرأ 98 قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله 4. واقرأ ©[ واصطنعتك 
لنفسى © وردد قول القائل «المحبة هى الموافقة أى الطاعة له فيما أمرء والانتهاء عما 
زجرء والرضا بما حكم وقدر). 
ها هو أبى يسمع ويهز رأسه طربا. ويرمقنى باسما كأنما يقول لى اسمع وتعلم . وأنا 
سعيد وأود غفلة لأتسلق النخلة أو أرمى طوبة لأسقط بلحة. وأترنم سرا مع المنشدين. 
ومع العودة ذات مساء إلى بيت الطلبة بالجيزة رأيتها مقبلة تحمل سلة. جميلة وجذابة» 
طاوية هيكلها على جميع ما قدر لى من هناء الجنة وعذاب الجحيم . ماذا كان يعجبك من 
إنشاد المنشدين؟ لما بدا لاح منار الهدى» ورأيت الهلال ووجه الحبيب . لكن الشمس لم 
تغرب بعد . آخر خيط ذهبى يتراجع من الكوة. أمامى ليلة طويلة . هى أولى ليالى 
الحرية . وحدى مع الحرية. أو مع الشيخ الغائب فى السماء. المردد لكلمات لا يمكن أن 
يعيها مقبل على النار . ولكن هل من مأوى آخر آوى إليه؟ . . 


11100 





الل ص والكلات ١‏ 


الفصل الشالث 


قلب صفحات جريدة «الزهرة» حتى عثر على ركن الأستاذ رءوف علوان. وراح يقرأ 
بشغف وهو لم يزل على مبعدة أذرع من بيت الشيخ على الجنيدى حيث قضى ليلته . لكن 
من أى مدد يستمد رءوف علوان وحيه؟ ملاحظات عن موضة السيدات» مكبرات 
الصوتء. رد على شكوى زوجة مجهولة! أفكار لذيذة حقا ولكن أين رءوف علوان؟ 
بيت الطلبة وتلك الأيام العجيبة الماضية. الحماس الباهر الممثل فى صورة طالب ريفى 
رث الثياب كبير القلب . والقلم الصادق المشع . ترى ماذا حدث للدنيا؟ وماذا وراء هذه 
الأعاجيب والأسرار؟ وهل ثمة أحداث وقعت كأحداث عطفة الصيرفى؟ حوادث نبوية 
وعليش والبنت الصغيرة المحبوبة التى أنكرت أباها. على أن أقابله . الشيخ أعطانى فراشا 
فوق الحصيرة للنوم ولكنى فى حاجة إلى نقود. على أن أبدأ الحياة من جديد يا أستاذ 
علوان. أنت لا تقل عظمة عن الشيخ على» أنت أهم ما لدى فى هذه الحياة التى لا أمان 
لها. وتوقف عن السير أمام مبنى جريدة الزهرة بميدان المعارف. ضخم حقا بحيث لا 
يسهل السطو عليه! وهذا الطابور من السيارات المحدق به كحراس الجدران الرهيبة . 
وأصوات المطابع وراء قضبان البدروم كهيمنة الراقدين فى العنابر. ودخل ضمن تيار 
الداخلين ثم وقف أمام مكتب الاستعلامات وسأل بصوت غليظ النبرات : 


-الأستاذ رءوف علوان؟ 

فرمقه الموظف فيما يشبه الامتعاض لنظرة عينيه اللوزيتين الجريئة لحد الوقاحة . وأجابه 
بيجقاء : 

-الدور الرابع . ّ 


قصد من توه المصعد فوقف بين قوم بدا فيهم غريب المنظر ببدلته الزرقاء وحذائه 
المطاط» وزاد من غرابته نظرته الحادة الجريئة وأنفه الأقنى الطويل . ولمح بين الواقفين فتاة 
فلعن فى سره نبوية وعليش وتوعدهما بالويل. وما أن انتهى إلى طرقة الدور الرابع حتى 
مرق إلى حجرة السكرتير قبل أن يتمكن الساعى من اعتراضه . وجد نفسه فى حجرة 
كبيرة مستطيلة زجاجية الجدار المطل على الطريق» وليس بها موضع لجالس. وسمع 
السكرتير وهو يؤكد لمتحدث فى التليفون أن الأستاذ رءوف مجتمع برئيس التحرير وأنه 
لن يعود قبل ساعتين . شعر بأنه غريب حقاء لكنه وقف دون مبالاة» يحملق فى الوجوه 
بوقاحة كأغا يتتحداهم. وقديما كان يرمق أمثالهم بعين تود ذبحهم» فما حال هؤلاء 





1 الل ص والكلاب 


اليوم؟ أما رءوف فلن يصفو له هنا. وما هذا المكان بالملتقى المناسب للأصدقاء القدامى . 
ورءوف اليوم رجل عظيم فيما يبدو. عظيم جدا كهذه الحجرة. ولم يكن فيما مضى إلا 
مجر اع : ال وميد اناري الا مقع ار شاي "انها كانت ب ادي 
للحرية . ترى كيف أنت اليوم يا رءوف؟ هل تغير مثلك يا نبوية؟ هل ينكرنى مثلك يا 
سناء؟ ولكن بعدا لأفكار السوء. هو الصديق والأستاذء وسيف الحرية المسلول» وسيظل 
كذلك رغم العظمة المخيفة والمقالات الغريبة وسكرتاريته الرفيعة . وإذا كانت هذه المجلة 
لن تمكننى من عناقك فعن دفتر التليفون سأعرف مسكنك . . 

افترش العشب الندى عند كورنيش النيل بشارع النيل ومضى ينتظر. انتظر طويلا على 
كثب من شجرة حجبت ضوء المصباح الكهربائى» تحت سماء غاب عنها الهلال مبكرا 
تاركا النجوم تومض فى ظلمة رهيبة . وجرت نسمة رقيقة لطيفة مقطرة من أنفاس الليل 
عقب نهار أحمر طغى فيه الصيف طغيانه . ولم تفارق عيناه الفيللا رقم ١8‏ لحظة واحدة» 
موليا النيل ظهره شابكا راحتيه حول ركبتيه . يا لها من فيللا خالية من ثلاث جهات» 
والجهة الرابعة حديقة مترامية. وأشباح هذه الأشجار تتناجى حول جسد الفيللا 
الأبيض» منظر قديم طالما شهد بالثراء وذكريات التاريخ . ولكن كيف؟ ما الوسيلة؟ وفى 
هذه المدة القصيرة؟ حتى اللصوص لا يحلمون بذلك . اعتدت فى الماضى ألا أنظر إلى 
فيللا هكذا إلا عند رسم خطة للسطو عليهاء فكيف آمل اليوم مودة وراء فيللا؟! رءوف 
علوان أنت لغز وعلى اللغز أن يتكلم» أليس عجيبا أن يكون علوان على وزن مهران؟! 
وأن يمتلك عليش تعب عمرى كله بلعبة الكلاب؟ 

ووثب واقفا عند توقف سيارة أمام باب الفيللا. ولما رأى البواب يفتح الباب على 
مصراعيه عبر الطريق بسرعة خاطفة ثم تصدى للسيارة منحنيا قليلا ليراه صاحبهاء ولكن 
الرجل لم يعرفه فى الظلام فهتف بصوته الغليظ القوى : 

- أستاذ رءوف . . أنا سعيد مهران! 

اقترب رأس الرجل من النافذة المفتوحة وهو يقول بصوت حلقى متزن: 

-سعيد!. . أووه. . 

ا ا بي يد 
وجمود دون أن يفتح باب السيارة» ثم فتح الباب وجاءه الصوت قائلا: 

-اركب. . 

بداية حسنة . رءوف علوان هو رءوف علوان بالرغم من السكرتارية الزجاجية 
والفيللا العجيبة. وانحدرت السيارة فى نمشى كضلع القيثارة متجهة نحو مدخل 


السلاملك. 
لانت 





الل ص وَالكلاتتَ 0 


- سعيد » كيف حالك يا رجل» ومتى خرجت؟ 


-نعم؟ كان يجب أن أقصدك ولكنى شغلت بمسائل عاجلة» وكنت فى حاجة إلى 
الراحة فبت ليلتى عند الشيخ على الجنيدى» أتذكره؟ 

فقال وهما يغادران السيارة إلى بهو الاستقبال : 

1 1 شيخ المرحوم والدك» شهدت حلقاته معك أكثر من مرة. . 


مكافك | 


وأضاء خادم النجفة فخطفت بصر سعيد بمصابيحها الصاعدة ونجومها وأهلتها. 
وعلى ضوئها المتتشر تجلت مرايا الأركان عاكسة الأضواء» وتبدث التحف الثاوية على 
الحوامل المذهبة كأنها بعثت من ظلمات التاريخ» وتهاويل السقف وزخارف الأبسطة 
والمقاعد الوثيرة والوسائد المستقرة عند ملقى الأقدام. وأخيرا استقر البصر على وجه 
الأستاذ الممتلىئ المستدير» ذلك الوجه الذى طالما عشقه وحفظه على ظهر قلب لطول ما 
أحدق فيه منصتا. وبينا راح الخادم يفتح بابا مطلا على الحديقة فى الجدار الأيسر ويكشف 
عنه ستائره مضى وهو ينظر إلى الأستاذ ويلحظ الروائع مسترقا. وسرعان ما جرى تيار 
دسم مفعم بالعبير» واختلطت الأضواء بالشذا فأوشك رأسه أن يدور. وجهه امتلة 
كوجه بقرة. وشىء خفى سرى فى شخصه جعله تمتنعا رغم طلاقة الوجه وحسن 
السلوك وابتسامة الثغر. وثمة رائحة سحرية لا تصدر إلا عن دم أزرق رغم أنفه المائل إلى 
الفطس وفكيه البارزين . وقلبه يخفق فى إشفاق ويتساءل عن المقر إن انهدم الركن الوحيد 
الباقى. وجلس رءوف على كنبة قريبة من باب الفراندا وأشار إليه أن يجلس على مقعد 
وثير يمثل جانبا من ضلع لمربع من المقاعد تطوق عامودا نورانيا شفافا موشى بصور 
أسطورية» فجلس بلا تردد وبلا مبالاة كعادته . ومد الأستاذ ساقيه الطويلتين متسائلا : 

- هل جتئتنى فى الحريدة؟ 

- نعم ولكنى اقتنعت بأنها مكان غير مناسب للقاء! 

فضحك عن أسنان اكتنف منابتها لون أسود ثم قال: 

الجريدة عبارة عن دوامة لا تهدأء وهل انتظرت هنا طويلا؟ 

دعم كافل! 

فضحك رءوف مرة أخرى وقال بلهجة ذات معنى : 





ع / لل صّوَالكراتَ 


-لا شك أنك عرفت هذا الطريق من قبل؟ ! 

فضحك سعيد أيضا قائلا : 

- طبعاء عرفت فيه زبائن لا ينسى فضلهم » فيللا فاضل باشاحسنين وقد خرجت من 

زيارتها بألف جنيه» وقرط ماسى نادر من فيللا الممثلة كواكب . . . 

وجاء الخادم يدفع أمامه نضدا قامت عليه زجاجة وكأسان. وجردل صغير أنيق 
بنفسجى اللون ملىء ثلجاء وطبق نضد فوقه التفاح على هيئة هرم . وصحاف فواتح 
شهية» وإبريق مياه فضى . وأومأ الأستاذ للخادم فانسحب وراح يملا بنفسه الكأسين ثم 
قدم أحدهما إلى سعيد ورفع الأخرى قائلا: 

-صحة الحرية. . 

وأفرغ سعيد كأسه دفعة واحدة على حين تناول رءوف رشفة ثم سأله: 

- وكيف حال بننك؟ أوووه» نسيت أسألك لم بت ليلتك عند الشيخ على؟ 

إنه لم يدر شيئا ولكنه مازال يذكر أنه أنجب بنتا. وفى إيجاز بارد قاس سرد له تاريخ 
مأساته حتى قال : 

- أمس زرت عطفة الصيرفى فوجدت مخبرا فى انتظارى كما توقعت,. وأنكرتنى 

ابنتى وصرخت فى وجهى . . 

وملا كأسا أخرى دون استئذان فقال رءوف: 

حكاية مؤسفة» أما بنتك فمعذورة» إنها لا تتذكرك» وسوف تعرفك وتحبك . . 

- لم تعد لى ثقة فى جنسها كله . . 

هكذا أنت الآن» أما غدا فمن يدرى؟ ستغير رأيك بنفسك» وهذا هو حال الدنيا. . 

ورن جرس التليفون فقام رءوف إليه وتناول السماعة ثم أصغى قليلاء وسرعان ما 
ابتهج وجهه بابتسامة عريضة.» فرفعه ومضى به إلى الفراندا. تابعه سعيد من أول الأمر 
بعينيه الحادتين . امرأة؟ ! . . هذه الابتسامة وهذه الرحلة إلى الظلام لا تكونان إلا لامرأة. 
ترى أما زال أعزب؟ ها هما يجلسان جنبا إلى جنب» يتبادلان الشراب والحديث» ولكن 
ثمة شعورا كالإحساس الخفى المنذر باكتشاف دمل يوسوس له بأن معاودة هذا اللقاء 
شىء عسير حقا. لا يدرى لاذا يطبق عليه . وهو يصدقه كإنسان يعتمد كثيرا على غرائزه 
الملهمة . إنه اليوم من أهل الطريق الذى لم يعتد زيارته إلا معتديا. ولعله تورط فى 
الترحيب به مضطرا. ولعله تغير حقا فلم يبق من الشخص القديم إلا ظل صورته. 
وجلجلت ضحكة فى الفراندا فازداد تشاؤما. وتناول تفاحة بهدوء ومضى يقضمها. ما 
حياته إلا امتداد لأفكار هذا الرجل الضاحك فى التليفون فإذا كان قد خانها فالويل له. 


111 010 





لل صوالكات م 


وأخيرا عاد رءوف علوان من الفراندا فوضع التليفون على حامله ثم جلس وهو يبدو 
راضيا تماما: 

مباركة عليك الحرية» هى كنز ثمين يعزى عن فقد أى شىء مهما غلا . . 

فتناول قطعة من البسطرمة وهو يهز رأسه بالإيجاب ولكن دون اهتمام جدى : 

- وها أنت تخرج من السجن لتجد دنيا جديدة. . 

وملا كأسين ومضى سعيد يلتهم ألوان الطعام بشراهة . وحانت منه نظرة إلى صاحبه 
فابتسم هذا بسرعة ليغطى على نظرة امتعاض! أنت مجنون إن تصورت أنه يرحب بك 
من قلبه . ماهى إلا مجاملة بنت حياء» ولن يلبث أن يتبخر هذا الحياءء. كل خيانة تهون 
إلا هذه. ياللفراغ الذى سيلتهم الدنيا. ومد رءوف يده إلى علبة سجائر محلاة بنقوش 
صينية فى تجويف بالعامود المضىء فتناول سيجارة وهو يقول: 

-ياعم سعيد» زال تماما جميع ما كان ينغص علينا صفو الحياة. . 

فقال سعيد من فم مكتظ : 

- طالما هزتنا الأنباء فى السجن» من كان يحلم بشىء كهذا؟ ! 

ثم وهو يحدجه بنظرة باسمة : 

لا حرب الآن! 

لتكن هدنة! » ولكل جهاد ميدان . . 

وألقى سعيد نظرة فيما حوله قائلا : 

وهذا البهو الرائع كالميدان. . 

وأسف على إفلات هذه الملاحظة . ولمح فى عينى صاحبه نظرة باردة. ألا يعرف 
لسانك ما الأدب! وتساءل رءوف بهدوء غاضب : 

-أى وجه شبه بين هذا البهو والميدان؟ 

فزاغ قائلا : 

أقصد أنه مثال للذوق الرفيع. . 

فضيق رءوف عينيه أمتعاضا وقال بسخط واضح: 

- المراوغة عبث» أفصح عما بنفسكء أنا أفهمك وأنت خير من يعرف ذلك! 

فضحك سعيد متوددا وهويقول: 

-لم أقصد سوءا على الإطلاق . . 

- يجب أن تذكر دائما أنى أعيش بعرقى وكدى . . 





5 ا لل ص وَالكات 


- هذا ما لا شك فيه مطلقاء بالله لا تغضب هكذا. . 
فراح يدخن السيجارة بسرعة عصبية دون أن ينطق حتى اضطر سعيد إلى التوقف عن 
الأكل وقال بلهجة المعتذر: 
- لم أتخلص بعد من جو السجن فيلزمنى وقت طويل حتى أسترجع آداب الحديث 
والسلوكء» ولا تنس أن رأسى مازال دائرا من أثر المقابلة الغريبة التى أنكرتنى فيها 
ابنتى . . 
والظاهر أن رءوف أعرب عن عفوه برفع حاجبيه الصاعدة شعيراتهما إلى أعلى» وما 
رأى عينى الرجل تنتقلان بين وجهه وبين الطعام كأنما يستأذنه فى معاودة الأكل قال 
بهدوته السابق : 
دكل. : 
فهجم سعيد على بقايا الصحاف بلا تردد ولا تأثر بما كان حتى مسحها. وعند ذاك 
قال رءوف ولعله رغب فى إنهاء المقابلة : 
- يجب أن يتغير الحال تماماء هل فكرت فى المستقبل؟ 
فقال سعيد وهو يشعل سيجارة : 
-لم يسمح الماضى بعد بالتفكير فى المستقبل . . 
- يخيل إلى أن النساء أكشر عددا من الرجال فلا تكثرث لنيانة امرأة: أمابتتك 
فستعرفك يوما وتحبك.ء المهم الآن أن تبحث لك عن عمل . . 
فقال وهو ينظر إلى تمثال إله صينى بدا آية فى الوقار والنعاس : 


تعلمت فى السجن الخياطة ! 
فتساءل الأستاذ فى دهشة : 
أترغب فى أن تفتح دكان خياط؟ 
فقال بهدوء: 

مكل تاكبد كل ! 

ماذا إذن؟ 

فقال وهو يحدجه بنظرة وقحة : 


-لم أتقن فى حياتى إلا حرفة واحدة. . 
فتساءل كالمترعج : 

- أترجع إلى اللصوصية؟ 

-هى مجزية جدا كما تعلم. . 


11100 





الل ص والكلات 1 


فصرخ بحدة: 

- كما تعلم! من أين لى أن أعلم؟ ! 

فرمقه بدهشة قاتلا : 

-لم تغضب هكذا؟ قصدت أن أقول كما تعلم عن ماضى» أليس كذلك؟ وخفض 
رءوف عينيه كأغا يقنع نفسه بقوله ولكن وضح أنه لم يعد فى الإمكان أن يعود وجهه 
إلى صفائه الطبيعى . وقال بلهجة من يرغب فى الإجهاز على الحديث : 

8ا ا ل 
أنت تعرفهاء ولكن اليوم غير الأمس» إذا عدت إلى اللصوصية فلن تكون إلا لصا 
فحسب! 

فانتتر واقفا فى عصبية وهو يواجه اليأس فى صراحته القاسية» ولكنه خنق انفعاله 

بإرادة من حديد فعاد إلى الجلوس وهو يقول بهدوء : 

اختر لى عملا مناسبا! 

- أى عمل » تكلم أنت وأنا مصغ إليك. . 

فقال بسخرية خفية فى الأعماق : 

-يسعدنى أن أعمل صحفيا فى جريدتك! أنا مثقف, وتلميذ قديم لك» قرأت تلالا 
من الكتب بإرشادك» وطلما شهدت لى بالنجابة . . 

فهز رءوف رأسه فى ضجر حتى لعب الضوء فوق شعره الأسود الغزير وقال: 

- لاوقت للمزاح» أنت لم تمارس الكتابة قط وأنت خرجت أمس فقط من السجن» 
وأنت تعبث وتضيع وقتى بلا طائل . . 

فقال بامتعاض : 

-إذن على أن أختار عملا حقيرا؟ 

لا عمل حقير على الإطلاق مادام شريفا. . 

غلبته المرارة بعد اليأس فلم يعد يبالى بشىء» وبسرعة جرى ببصره فى أنحاء البهو 

الأنيق» ثم قال فيما يشبه التحدى : 

-ما أجمل أن ينصحنا الأغنياء بالفقر. . ! 

فكان جوابه أن نظر فى ساعته فقال سعيد برقة : 

- أنا واثق من أننى أخذت من وقتك أكثر ما يجوز. . 

فقال رءوف بصراحة شمس يوليو: 

- نعم فأنا مرهق بالعمل! 





8 ٍ لل ص وَالكرابتت 


فوقف وهويقول: 

- أشكر لك الضيافة والعشاء ونبل الأخلاق. . 

وأخرج رءوف حافظة نقوده فأعطاه منها ورقتين من ذات الخمسة الجنيهات قائلا: 
حتى تفرج» ولا تؤاخذنى إذا قلت لك إننى مرهق بالعمل» وإنه من النادر أن تجدنى 
خاليا كما وجدتنى الليلة . 

فتناول الجنيهات باسما وصافحه بحرارة» ثم قال بئبرة رجاء : 


الفصل الرابع 


هذا هورءوف علوانء الحقيقة العارية» جثة عفنة لا يواريها تراب . أما الآخر فقد 
مضى كأمس أو كأول يوم فى التاريخ أو كحب نبوية أو كولاء عليش. أنت لا تنخدع 
بالمظاهر فالكلام الطيب مكر والابتسامة شفة تتقلص والجود حركة دفاع من أنامل اليد 
ولولا الحياء ما أذن لك بتجاوز العتبة. تخلقنى ثم ترتد» تغير بكل بساطة فكرك بعد أن 
تسد فى شخصىء كى أجد نفسى ضائعا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل» خيانة لئيمة لو 
اندك المقطم عليها دكا ما شفيت نفسى . ترى أتقر بخيانتك ولو بينك وبين نفسك أم 
خدعتها كما تحاول خداع الآخرين؟ ألا يستيقظ ضميرك ولو فى الظلام؟ أود أن أنفذ إلى 
ذاتك كما نفذت إلى بيت التحف والمرايا بيتك» ولكنى لن أجد إلا الخيانة . سأجد نبوية 
فى ثياب رءوف أو رءوف فى ثياب نبوية أو عليش سدرة مكانهما وستعترف لى الخيانة 
بأنها أسمج رذيلة فوق الأرض . من وراء الظهر تبادلت الأعين نظرات مريبة قلقة 
مضطربة كتيار الشهوة التى يحملها. . كالقطة الزاحفة على بطنها فى هيئة الموت نحو 
عصفورة سادرة . وغلبت الانتهازية ثمالة الحياء والتردد فقال عليش سدره فى ركن عطفة 
أو ريما فى ب بيتى «سأدل البوليس عليه لتتخلص منه»» فسكتت أم البنت» » سكت اللسان 
الذى طالما قال لى بكل سخاء أحبك يا سيد الرجال. هكذا وجدت نفسى محصورا فى 
عطفة الصيرفى ولم يكن الجن نفسه يستطيع أن يحاصرنى» وانهالت على اللكمات 
والصفعات. كذلك أنت يا رءوف» لا أدرى أيكما أخون من الآخرء ولكن ذنبك أفظع 
ياصاحب العقل والتاريخ» أتدفع بى إلى السجن وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمراياء 
أنسيت أقوالك المأثورة عن القصور والأكواخ؟ أما أنا فلا أنسى! 

وبلغ جسر عباس فجلس على أريكة حجرية وانتبه إلى الطريق لأول مرة. وقال 


1110م 





الل ص وَالكلاتَ ١‏ 


بصوت مسموع كأتما يخاطب الظلام «خير البر عاجله؛ الساعة وقبل أن يفيق من 
دهشته !» لا سبيل إلى التردد فمهنتك هى مهنتك » صالحة وعادلة» وبخاصة عندما تطبق 
على فيلسوفها. وعندما أفرغ من تأديب الأوغاد فسأجد فى الأرض متسعا للاختفاء . هل 
يمكن أن أمضى فى الحياة بلا ماض فأتناسى نبوية وعليش ورءوف؟ لو استطعت لكنت 
أخف وزنا وأضمن للراحة وأبعد عن حبل المشنقة ولكن هيهات أن يطيب العيش إلا 
بتصفية الحساب . لن أنسى الماضى لسبب بسيط هو أنه حاضر لا ماض - فى نفسى . 
وستكون مغامرة الليلة ابتداء أفتتح به العمل» وستكون مغامرة دسمة. وجرى النيل 
كأمواج من الظلام تنغرس فى جنباتها أسهم الضياء المنعكسة من مصابيح الشاطئ. وساد 
صمت شامل مريح» ثم دنت النجوم من الأرض عندما اقترب الفجر . وقام عن مجلسه 
فتمطى ثم سار على مقربة من الشاطئ نحو المكان الذى جاء منه. جعل يتقدم على مهل 
متحاشيا الأنوار الضئيلة الباقية حتى هذه الساعة من الفجر» وتباطأ أكثر عندما لاح لعينيه 
القصر الخالى من نواحيه الشلاث. وراقب الطريق بحدة. أرضه وأسوار القصور 
والشاطئ ثم استقرت عيناه على القصر . بدا القصر مسدل الجفون تحرسه الأشجار من 
كل جانب كالأشباح. نامت الخيانة فى هدوء بديع لا تستحقه ألبتة. مغامرة دسمة 
ستعطى ردا حاسما على خداع العمر كله. وعبر الطريق فى خطوات طبيعية دون تلفت 
أو حذرء ثم سار بحذاء السور فى الشارع الجانبى وهو يتفحص ما أمامه بعناية شديدة» 
فلما اطمأن إلى خلو المكان مال فجأة لصق السور منغرزا فى الياسمين والبنفسج وتوقف 
عن أية حركة . إن يكن فى القصر كلب غير صاحبه ‏ فسيملا الدنيا نباحاء ولكن لم تند 
عن الصمت همسة واحدة. يارءوف.. تلميذك قادم ليحمل عنك بعض متاع الدنيا. 
وتسلق السور بخفة وبأطراف محنكة كأنها أطراف قرد ولم تعقه الأغصان الكثيفة الملتفة 
الغارقة فى الأوراق والأزهار» ثم اعتمد على قبضتيه ورفع جسمه بققوته الذاتية إلى ما 
فوق الأسنان المدببة وهبط به حتى اشتبكت ساقاه بالأغصان فى الداخل فلبد بها ريثما 
يسترد أنفاسهء وليراقب الحديقة المكتظة بالشجيرات والأشجار والظلمة . عليك أن 
تصعد إلى السطح ومنه تهبط إلى الداخل حتى تعرف طريقك. لا آلة معك ولا بطارية 
ولافكرة سابقة عن المكان. لم تسبقك نبوية إليه لتعمل غسالة أو خادمة بعض الوقت 
فهى اليوم مشغولة بعليش سدرة. وقطب بعنف ليطرد عنه هذه الأفكار» ونزل بحذر إلى 
الأرض» ثم زحف على أربع متجها نحو جدار الفيللا. ودار مع البناء متحسسا الحيطان 
حتى عثر على ماسورة . . وأخذ يتسلق بمهارة البهلوان. وكان السطح مقصده غير أنه مر 
بنافذة مفتوحة غير بعيدة منه» وفى الحال قرر تجربتها . . سدد ساقه نحو النافذة حتى 
انطرحت على حافتهاء وشد أعصاب يديه متنقلا بهما فوق كورنيش الحائط حتى استقر 
جميعه فوق حافة النافذة. وانزلق إلى الداخل فوجد نفسه فى مكان حدس أنه مطبخ . 





7 الل ص وَالكرابَ 


وضايقته كثافة الظلمة فجد باحثا عن الباب» وكان يتوقع ظلمة أكثف فى الداخل» ولكنه 
حلم بحافظة نقود رءوف أو بعض التحفء وكان عليه أن يتقدم. تسلل من الباب 
متلمسا الحدار بيديه» وقطع مسافة غير قصيرة وكثافة الظلام تكاد تصدهء ثم أحس تيارا 
خفيفا من الهواء يلفح وجهه. من أين يجىء الهواء؟ وانعطف مع انعطاف الجدار الأملس 
وتقدم مادا ذراعه محركا أصابعه حتى لمست أسلاكا بلورية مسدلة محدثة وسوسة خفيفة 
انقبض لها قلبه. ستارة لااشك فى ذلكء» اقترب الآن من هدفهء واتجه فكره نحوعلبة 
الثقاب فى جيبه دون أن يمد لها يداء وفتح بخفة ثغرة دلف منها إلى الداخل» وضيق ما 
بين ذراعيه ليعيد الستارة إلى وضعها الطبيعى دون صوت . وتقدم خطوة فارتطم بمقعد أو 
بقائم ما لا يدريهء وتفادى منه وهو يرفع رأسه. متلمسا نوراخافتا ساهرا وقد تعلق أمله 
بالوصول إليه ‏ ولكنه رأى ظلاما مطبقا كالكابوس . وفكر فى إشعال عود ثقاب للحظة 
واحدة. . وبغتة دهمه نور ساطع من كل ناحية . نور شديد انقض عليه كلكلمة قاضية . 
انغلق جفناه بلا إرادة ولما قتحهما رأى رءوف علوان على بعد ذراعين . على بعد ذراعين 
فى روب طويل بدا فيه عملاقاء ويده مدسوسة فى جيبه مشدودة كأنها تقبض على 
سلاحء هكذاظن. ونظرة عينيه الباردة زادت قلبه المهزوم برودة» وانطباق شفتيه الناطق 
بالعداوة والكراهية . والصمت القاتل أثقل من سور السجن» والسجان عبد ربه سيقول 
هازئا ما أسرع أن رجعت . وانطلق صوت نحاسى من وراء ظهره يتساءل : 


- ننادى البوليس؟ 
فالتفت وراءه فرأى ثلاثة من الخدم يقفون صفا غير أن رءوف خرج عن صمته قائلا : 


ولما فتح الباب ثم أغلق وراءهم أدرك خطفا أنه باب خشبى ذو زخارف عربية محلى 
الرأس بحكمة أو مثل أو آية من الصدف . وأرجع رأسه من التفاتته ليتلقى النظرات 
العابسة ويسمع صوته الخشن وهو يقول: 
- من الغباء أن تجرب ألاعيبك معى أناء أنا فاهمك وحافظك عن ظهر قلب . . 
لم ينبس ومضى يفيق من ضربة المفاجأة ولكن على استسلام كاليأس وإن داخله 
شعور بأنه لن يسلم إلى القبضة التى أفلت منها أمس أو هكذا شعر. . 
- كنت فى انتظارك» على أتم استعدادء بل ورسمت لك طريق السيرء وددت لو 
يخطى ظنى » ولكن أى سوء ظن فيك يخطى؟ ! 
غض بصره لحظات فرأى ما تحت قدميه من مشمع لامع ثم رفعهما دون أن يحاول 
الخروج عن صمته . 
لا فائدة» لن تنتهى من حقارتك» وستموت حقيراء وخير ما أفعله أن أسلمك إلى 
الو مضه 
0 111 





أ لل ص وَالكلاتَ ام 


فاحتلج جفناه وانفرجت شفتاه فى عصبية ) فتساءل رءوف بحدة: 

ماذا جئت تريد؟ 

فغض بصره مرة أخرى . 

- أنت تفصح عن عداوتك» نسيت الإحسان وتركزت فى الحقد والحسد. إنى أعرف 
أفكارك بقدر ما أعرف حركاتك . . 

وبصوت خافت وبعينين تختفيان فى الأرض قال : 

- رأسى دائر» مازال دائرا منذ خرجت من السجن. . 

كذاب» لا تحاول خداعىء أنت تتوهم أنى صرت واحدا من الأغنياء الذين كنت 
أحمل عليهم » وعلى هذا الأساس أردت أن تعاملنى. . 

-ليس الأمر كذلك. . 

- إذن لم تسللت إلى بيتى ؟ لم تريد أن تسرقنى؟ 

تردد سعيد مليا ثم قال : 

-لا أدرى» لست فى حالة طبيعية » وأنت لن تصدقنى! 

طبعاء لأنك تعلم أنك كاذب» لم تقتنع بكلماتى الطيبة» ثار حسدك وغرورك» 
اندفعت كالجحئون نفسه كما هى عادتك» ولك ما تشاء فستجد نفسك فى السجن مرة 
آخرى . . 

فقال فى تسليم : 

-لاعذر لك. أنا أقرأ أفكارك» قرأت كل جملة مرت بعقلك» كل جملة. الصورة 
الكاملة التى تتصورنى فيهاء والآن آن لى أن أسلمك للبوليس. . 

فمد يده كالر جاء قائلا : 

-كلا. 

كلا؟ ! ألا تستحقه؟ 

دبل ولكن كلا . . 

فنفخ غاضبا وهو يقول: 

- إن رأيتك مرة أخرى فسأسحقك كحشرة . . 

وهم بالتحرك فى سبيل النجاة ولكنه صاح به : 

أرجع النقود! 

فجمد بصره دقيقة» ثم دس يده فى جيبه فأخرج الورقتين فتناولهما الآخر قائلا: 





ا ١‏ لل ص وَالكراتَ 


-لاترنى وجهك مرة أخرى . . 

عاد إلى شاطئ النيل وهو لا يصدق أنه نجا ولكن راحة النجاة تكدرت بالهزيهة . 
وعجب تحت أنفاس الفجر الرطيبة كيف أنه لم ينتبه إلى هوية الحجرة التى ضبط فيها وأنه 
لم يكد يرى منها إلا بابها المزرخرف وأرضها الشمعية. واستسلم لرحمة الفجر الندية 
متعزيا إلى حين عن كل شىء حتى ضياع الورقتين» ثم رفع رأسه إلى السماء فهاله لمعان 
النجوم المتألق فى هذه الساعة من الفجر. . 


الفصل الخامس 


حملق الرجال القليليون بأعين لا تصدق» وقاموا قومة رجل واحد: 

-يا أرض احفظى ما عليك! 

- ليلة بيضا بالصلاة على النبى . 

وأحدقوا به وعلى رأسهم معلم القهوة وصبيه وعانقوه وقبلوا وجنتيه. وشد سعيد 
مهران على أيديهم واحدا فواحدا وهو يقول بامتنان: 

- أشكرك يا معلم طرزان» أشكركم يا إخوان. . 

- متى؟ 

- أول أمس . 

تفاءلنا خير بأخبار العيد. 

_الحمد لله. 

- وبقية الجدعان؟ 


- بخير» وكل شىء بأوان! 

ولبثوا يتبادلون الأخبار حتى أخذه المعلم إلى أريكته ورجاهم أن يعودوا إلى مجالسهم 
فعادت القهوة إلى هدوئها. لم يتغير شىء كأنه تركها بالأمس . الحجرة المستديرة» النصبة 
النحاسية» الكراسى الخشبية ذات المقاعد من القش المفتول» الزبائن القلائل المعروفون 
الموزعون فى الأركان» يحتسون الشاى ويعقدون الصفقات . ومن خلال النافذة الكبيرة 
والباب لاح الخلاء شاملا متراميا إلى غير نهاية» والظلام كثيفا لا تخففه بارقة» والصمت 
مهيبا عدا ضحكات متقطعة يرمى بها الهواء من الخارج » وجرى تيار جاف منعش ما بين 
الباب والنافذة يحمل طابع الصحراء من القوة والنقاء . تناول سعيد الشاى من الصبى ثم 
رفعه إلى فيه قبل أن يبرد . ومال نحو المعلم متسائلا: 


1110م 





الل ص والكلات امم 


- كيف حال الشغل؟ 

فلوى طرزان شفته السفلى فى امتعاض وقال : 

- ندر من يعتمد عليه من الرجال! 

-لم كفى الله الشر؟ 

تنابلة كأنهم موظفو الحكومة! 

فندت عنه نفخة ساخرة وقال: 

- التنبل على أى حال خير من الخائن» بسبب خائن دخلت السجن يا معلم طرزان. 
-يا لطف الله! 

فحدجه بنظرة نافذة متسائلا : 

- ألم تسمع بالخبر؟ 

فهز المعلم رأسه فى أسف ولاذ بصمت مبين» فهمس سعيد فى أذنه 

- يلزمنى مسدس جيد! 

فقال طرزان بلا تردد: 

مف امر كي 

فربت على منكبه شاكرا ثم قال بشىء من الارتباك: 

بالف لسو 1 

فوضع أصبعه الغليظ على شفتيه قاطعا كلامه فى عتاب وهو يقول: 

- لاعاش من أحوجك إلى اعتذار! 

وأتى على ما فى القدح فى ارتياح» ثم قام ماضيا إلى النافذة. وقف وراءها ناصبا 
قامته النحيلة المفتولة المتوسطة الطول فبسط الهواء جناحى جاكتته كالشراع» ومد البصر 
إلى الخلاء المتتشر على الأرض المفعم بالظلام» فتبدت النجوم فى السماء الصافية 
كالرمال وكأن القهوة جزيرة فى محيط أو طيارة فى سماء . وفى أسفل الهضبة التى تقو 
عليها القهوة تحركت السجائر ‏ كالنجوم_فى أيدى الجالسين فى الظلمة من رواد الهواء 
الطلق. وعند الأفق الغريى لاحت أنوار العباسية بعيدة جدا يشعر بعدها بمدى توغل 
القهوة فى الصحراء . وأطل من النافذة فصعدت إليه أصوات الجالسين حول الهضبة» 
النازحين إلى الصحراء طلبا للهواء والراحة. وانحدر إليهم صبى القهوة حاملا نارجيلة 
تتوهج جمراتها ويتطاير منها الشرر مطقطقا. واحتدم السمر تتخلله الضحكات. وقال 
صوت يافع ملتذا بالحديث فيما بدا : 

-دلونى على مكان واحد فى الأرض ينعم بالطمأنينة؟ 





ع الل ص والكلات 


فأجابه آخر متحديا: 

-هذا المجلس» ألا ينعم مجلسنا بالطمأنينة؟ 

- تقول «الآن» وهذه هى المأساة . . ! 

- لم نلعن القلق والمخاوف» ألا تعفينا فى النهاية من التفكير فى المستقبل؟ 

-إذن فأنت عدو للسلام والاستقرار! 

-إذا كان حبل المشنقة حول عنقك فالطبيعى أن تخشى الاستقرار. 

- هذه مسألة خاصة يمكن معالجحتها فيما بينك وبين عشماوى . . 

- أنتم تثرثرون فى هناء لأنكم فى حمى الظلام والصحراء ولكنكم لن تلبثوا أن تعودوا 

إلى المدينة فما الفائدة؟ 

- المأساة الحقيقية هى أن عدونا هو صديقنا فى الوقت نفسه. . 

أبدا المأساة الحقيقة هى أن صديقنا هو عدونا. . 

-بل إننا جبناء» لم لا نعترف بهذا؟ 

-ربما ولكن كيف تتأتى لنا الشجاعة فى هذا العصر؟ 

- الشجاعة هى الشجاعة . 

-والموت هوالموت . . 

الظلام والصحراء هى هذا كله! 

ياله من سمر. ماذا يقصدون؟ لكنك شعرت بأنهم يعبرون عن حالك على نحو ما. 
نعم على نحو غامض كأسرار هذا الليل. أنت أيضا كانت لك يفاعة متوثبة. والقلب 
سكران برحيق الحماس . والسلاح تحصل عليه للجهاد لا للاغتيال. وراء هذه الهضبة 
التى تقوم عليها القهوة كان فتية يتدربون على القتال بثياب رثة وضمائر نقية. وساكن 
القصر رقم ١9‏ على رأسهم. على رأسهم ويمرن ويلقى بالحكم. المسدس أهم من 
الرغيف يا سعيد مهران» المسدس أهم من حلقة الذكر التى تجرى إليها وراء أبيك . وذات 
مساء سألك «سعيد. ماذا يحتاج الفتى فى هذا الوطن؟» ثم أجاب غير منتظر جوابك 
(إلى المسدس والكتاب» المسدس يتكفل بالماضى والكتاب للمستقبل» تدرب واقرأ». 
ووجهه وهويقهقه فى بيت الطلبة قائلا «سرقت؟ . . هل امتدت يدك إلى السرقة حقا؟ 
برافو» كى يتخفف المغتصبون من بعض ذنبهم » إنه عمل مشروع يا سعيد» لاتشك فى 
ذلك» وشهد هذا الخلاء مهارتك . قالوا إنك الموت نفسه وإن طلقتك لا تخيب . وأغمض 
عينيه مستسلما للهواء النقى وإذا بيد توضع على كتفه فالتفت وراءه فرأى المعلم طرزان 
مادا يده الأخرى بالمسدس وهو يقول: 

نار على عدوك بإذن الله. . 


11100 





/ لل صوَالكاتَ وم 


فتناوله ومضى يتفحصه ويختبره» ثم سأله: 

- بكم يا معلم؟ 

-هدية! 

-كلاء كل ما أرجوه أن تمهلنى إلى ميسرة . . 

- كم طلقة تحتاج؟ 

وعادا معا متجهين نحو أريكة المعلم . وعندما مرا بباب القهوة لعلعت فى الخارج 
ضحكة أنثوية فضحك المعلم طرزان وقال: 

-نورء ألا تذكرها؟ 

نظر سعيد إلى الظلام خارج الباب فلم ير شيئا وتساءل : 


- أما زالت تجىء إلى هنا؟ 
من حين لآخرء ستفرح لرؤيتك . 
صايدة؟ 


- طبعاء ولد ابن صاحب مصنع حلوى. . 

ولما جلسا على الأريكة نادى المعلم صبيه وقال له: 

- بصنعة لطافة قل لنور أن تأتى . . 

لتأت ليرى ماذا فعل الزمان بها. التى عبثا أرادت امتلاك قلبه . قلبك الذى كان ملكا 
خالصا للخائنة . وليس أقسى على القلب من أن يروم قلبا أصم . عندما تخاطب البلابل 
حجرا أو تداعب النسمة أسنانا مدببة. حتى هداياها إليه كان يهديها إلى نبوية عليش. 
وربت المسدس وهو مستكن فى جيبه وعض على أسنانه . وظهرت نور عند الباب غير 
متوقعة للمفاجأة التى تنتظرها . فلما رأته توقفت على بعد خطوات فى ذهول . ونظر 
إليها باسما وفى إمعان. بدت أنحل مما كانت واختفى وجهها اما تحت المساحيق 
الدسمة . ونطق بالإغراء فستان أبيض انطلقت منه الأذرع والسيقان بلا حرج وقد شد 
حول جسدها كالمطاط حتى صرخ التهتك» وعربد شعر رأسها القصير فى تيار الهواء . 
وسرعان ما هرعت إليه حتى تلاقت الأيدى وهى تقول : 

حمدا لله على سلامتك . . 

وضحكت ضحكة عصبية تدارى بها تأثرهاء ثم اندست بينه وبين المعلم طرزان . 

- كيف حالك يا نور؟ 

فأجاب طرزان باسما : 


-هى كما ترى نور ونور! 





م / لل صوَالكلاتَ 


وقالت المرأة : 

- بخير» وأنت؟ صحتك عال» لكن عينيك؟ أنا أعرفك وأنت غضبان! 
فتساءل باسما: 

- كيف؟ 

-لا أدرى كيف أقول. نظرة محمرة! وإنذار يتحرك فى شفتيك . . 
ضحكء ثم قال بأسف : 

-سيأتى صاحبك ليأخذك . . . 

فقالت وهى تهز رأسها لتزيح خصلة شعر عن عينيها : 

-إنه لا يعرف رأسه .من رجليه! 

على أى حال فأنت مقيدة به. . 

فرمته بنظرة ماكرة وهى تتساءل : 

أتحب أن أدفنه فى الرمال؟ 

- ليس الليلة» سنلتقى فيما بعد. . 

ثم بشىء من الاهتمام : 

- قيل إنه لقطة؟ 

-نعم» وسنذهب بسيارته إلى مدفن الشهيد فهو يحب الخلاء! 

وتجلت فى عينيه نظرة اهتمام لم تخف عليهاء وتساءل وكأنما يحدث نفسه: 
يحب الخلاء عند مدفن الشهيد؟ 

اضطرب جفناهاء وازداد اضطرابها عندما التقت عيناهماء ثم تساءلت فى عتاب : 
- أرأيت أنك لا تفكر فى؟ 

وهو لا يكاد يلقى بالا إلى عتابها : 

- لم ؟ أنت عزيزة جدا! 

-بل أنت تفكر فى اللقطة! 

فابتسم قائلا : 

-إنه ضمن تفكيرى فيك! 

- إن انكشف أمرى ضعت,ء أبوه قوى وأهله كالنمل» هل أنت فى حاجة إلى النقود؟ 
- فى حاجة إلى السيارة أشد! 


1110 





/ ا ذن 


وقام وهو يقرص خدها برقة ويقول: 
- كونى طبيعية جداء لن يحدث شىء ما تخافين» ولن تتجه إليك الظنون» لست 


تجنب الطريق الملاصق للثتكنات » واخترق الصحراء نحو مدفن الشهيد ليبلغه فى 
أقصر وقت . وكان كأنما يهتدى ببوصلة مركبة فى رأسه لسابق درايته بصحراء العباسية . 
وعندما لاحت له قبة المدفن الضخمة تحت ضوء النجوم راحت عيناه تفتشان عن المكان 
الذى تنزوى فيه السيارة. ودار حول المدفن وهو يحد بصره ولا يعثر على ضالته حتى بلغ 
ضلعه الجنوبى فتراءى له شبح هيكلها راقدا على بعد. مضى نحوها مصمماء ثم مالبث 
أن أحنى ظهره حتى انخفض رأسه إلى مستوى ركبته . واقترب منها فوضح لأذنيه أن 
الصمت يتخلخل بهمسات مغرقة فى السر. سيذعر قلب هانئ وتتبدد مسرة ولكن لا 
ذنب لك . الاختلال يطبق علينا مثل قبة السماء وقديما قال رءوف علوان إن نوايانا طيبة 
ولكن ينقصنا النظام . واشتد اقترابه فيما يشبه الزحف حتى قبضت راحته على مقبض 
الباب ونفحته حرارة النفثات . 

شد على المقبض وجذب الباب بقوة هاتفا: 


-لا تتحرك! 

وانطلقت من عنف المفاجأة آهتان» ولاح له الرأسان وهما يتطلعان إليه فى فزع . لوح 
بالمسدس قائلا بوحشية : 

- سأطلق النار لأدنى حركة» اخرجا. . 

وجاءه صوت نور متوسلا: 

-فى عرضك . . 


وتساءل الآخر بصوت مختنق مبحوح كأنه ينطلق خلال رمل وحصى : 
ماذا. . ماذا تريد من فضلك؟ 
رسا 
ألقت نور بجسمها إلى الخارج قابضة على ثيابها كومة واحدة. وتبعها الشاب وهو 
يدس نفسه فى بنطلونه متعثرا . ولم يمهله فقرب منه المسدس حتى هتف بصوت باك : 





مم / لل صّوَالكراتَ 


-لا. . لا. . لاتطلق. . 

فقال بصوت غليظ آمر: 

النقود! 

الجاكتة فى الداخل . . 

فدفع نور إلى الداخل قائلا: 

-ادخلى أنت. . 

فدخلت متأوهة من عنف الدفعة وهى تردد: 

- فى عرضك اتركنى ! 

-هاتى الحاكتة . . 

وتناولها منهاء وبسرعة أخذ المحفظة ورماه بها آمرا: 

عندك دقيقة لتنجو بحياتك! 

انطلق الشاب فى الظلام كالشهاب . وارتمى هو داخل السيارة بسرعة فائقة» وسرعان 
ما أدار المحرك فاندفعت مدوية.. وأكملت ارتداء ثيابها وهى تقول: 

- فزعت حقيقة كأن لم أكن أتوقعك! 

فقال والسيارة تنطلق بسرعة مخيفة : 

-بلى ريقك . . 

فأعطته زجاجة تناول منها جرعة ثم ردها إليها ففعلت مثله ثم قالت: 

ركبه سابت» مسكين! 

- قلبك أبيض » أما أنا فلا أحب أصحاب المصائع . . 

فاعتدلت فى جلستها وهى تقول بلهجة ذات معنى : 

- الحقيقة أنك لا تحب أحدا! 

ولم يجد رغبة فى المغازلة فلم يرد» وبدا أن السيارة تتجه نحو العباسية فتوسلت إليه 
قائلة : 

حضوو يتاك ! 

وكان يفكر فى ذلك أيضا فمال مع الطريق المتفرع الذى يفضى فى النهاية إلى 
الدراسة. وخفف من السرعة قليلاء ثم راح يقول: 

- قصدت قهوة طرزان لأحصل على مسدس ولأتفق إن أمكن مع سائق تاكسى من 
زملاثنا القدامى فانظرى كيف رمى لى الحظ بهذه السيارة؟ 


011001 





الل صوالكلات 2 


ألا ترى أننى نافعة دائما؟ 

-دائماء وكنت رائعة» لم لا تشتغلين ممثلة؟ 

- ولكنى فزعت أول الأمر حقيقة. . 

- وبعد ذلك؟ 

- أرجو أن أكون قد أتقنت دورى حتى لا يشك فى . 

- لم يكن فى رأسه عقل ليشك فى أحد. . 

واتجه رأسها نحوه ثم سألته : 

- لم تريد المسدس والسيارة؟ 

-لزوم العمل. . 

-يا خبر! متى خرجت من السجن؟ 

- أول أمس . 

- وتعود إلى التفكير فى ذلك؟ 

- هل يسهل عليك تغيير صنعتك؟ 

فلم تجبه ونظرت إلى الطريق المظلم الذى تلمع أرضه بضوء السيارة وقد اقترب الجبل 
عند المنعطف كقطعة من الليل أشد كثقافة» ثم قالت برقة: 

- أتدرى كم حزنت عندما علمت بسجنك؟ 

كم 

بشىء من الحدة : 

متى تكف عن السخرية؟ 

لكنى جاد جدا وواثق من صدق قلبك . . 

- أما أنت فلا قلب لك. . 

حجزوه فى السجن كما تقضى التعليمات . . 

أنت دخلت السجن بلا قلب. . 

-لم الإلحاح على حديث القلوب. اسألى الخائنة واسألى الكلاب واسألى البنت التى 

أنكرتنى . 

- سنوفق يوما فى العثور عليه . . 

- وأين تبيت هذه الليلة؟ . . هل تدرى زوجتك أين أنت؟ 


لا أظن! 





5 الل ضوالكرات 


هل أنت ذاهب إلى بيتك ؟ 

-لا أظن» ليس الليلة على أى حال. . . 

فقالت برجاء: 

- تعال إلى بيتى . . 

تسكنين وحدك؟ 

- شارع نجم الدين وراء قرافة باب النصر. . 

-رقمه؟ 

- البيت الوحيد فى الشارع» تحته وكالة خيش» ووراءه القرافة. . 

ضحك سعيد قائلا : 

-يا له من موقع فريد! 

فجارته فى ضحكه ثم قالت : 

- لا يعرفنى هناك أحدء ولم يزرنى فيه أحد» ستكون أول رجل يدخله» وشقتى فى 

أعلى دور. . 

وانتظرت كلمته ولكنه شغل بمراقبة الطريق الذى ضاق عرضه ما بين الجبل وبين 
البيوت ابتداء من مسكن الشيخ على الجنيدى» ثم أوقف السيارة عند رأس الدراسة 
والتفت إليها قاتلا : 

- هنا مكان مناسب لنزولك . . 

ألا تأتى معى؟ 

- سآتى فيما بعد. . 

- أين تذهب فى هذه الساعة من الليل؟ 

- أذهبى من فورك إلى القسم» واحكى لهم ما حدث بالحرف كأنك لم تشاركى فيه. 

وأعطى لهم أوصافا بعيدة عنى كل البعد» أبيض سمين فى خخده الأيمن أثر جرح 

قديم » قولى إنى خطفتك وسرقتك واعتديتك عليك . . 

اعتديت على؟ 

فاستطرد جادا رغم ملاحظتها : 

- وأن ذلك كان فى صحراء زينهم » وأنى قذفت بك خارجا ثم هربت بالسيارة. . 

- وهل تزورنى حقا؟ 

- نعم » أعدك بهذا وعد رجل » هل تحسنين التمثيل فى القسم كما فعلت فى السيارة؟ 


1110 





الل ص والكلات .1 


دمع السلامة. . 
ثم انطلق بالسيارة . 


الفصل السابع 


قمة النجاح أن يقتلا معاء نبوية وعليش . وما فوق ذلك يصفى الحساب مع رءوف 
علوان» ثم الهرب » الهرب إلى الخارج إن أمكن . ولكن من يبقى لسناء؟ الشوكة المنغرزة 
فى قلبى . أنت تندفع بأعصابك بلا عقل . عليك أن تنتظر طويلا وتدبر أمرك ثم تنقض 
كالحدأة . الآن لا فائدة من الانتظار. أنت مطارد. منذ علم بالإفراج عنك وأنت مطارد . 
وبحادثة السيارة ستشتد المطاردة . ومحفظة ابن صاحب المصنع لاتحوى إلا جنيهات 
معدودات فهذا أيضا من سوء الحظ . وإن لم تضرب سريعا إنهار كل شىء. ولكن من 
يبقى لسناء؟ الشوكة المنغرزة فى قلبى . المحبوبة رغم إنكارها لى . هل أترك أمك الخائنة 
إكراما لك؟ أريد جوابا فى الحال. كان يحوم حول البيت القائم على مفرق ثلاث عطفات 
بحارة سكة الإمام فى ظلمة حالكة. والسيارة تنتظر فى نهاية الطريق من ناحية ميدان 
القلعة. أغلقت الدكاكين وخلا الطريق ؛ وظاهر أن أحدا لم يكن يتوقعه . فى هذه الساعة 
يأوى كل مخلوق إلى جحره . لا ينتظر أن يدهمه أحد ليحاسبه . وربما أعد عدته ولكنه - 
هو_لن ينثنى عن عزمه. ولو عاشت سناء وحيدة العمر كله. ذلك أن الخيانة بشعة جدا يا 
أستاذ رءوف. وتطلع إلى نوافذ البيوت ويده قابضة على مسدسه فى جيبه . الخيانة بشعة 
يا عليش. ولكى تصفو الحياة للأحياء يجب اقتلاع الخبائث الإجرامية من جذورها. 
واقترب من باب البيت ملاصقا للجدار ثم دخل . وصعد السلم فى حذر شديد. وظلام 
دامس مارا بالدور الأول فالئانى ثم الثالث. ها هو الباب المغلق على أدنأ النوايا 
والشهوات . من سيفتح إذا طرق الباب؟ هل تجىء نبوية؟ هل يكمن المخبر فى مكان ما؟ 
النار تنتظر المجرمين. ولو اضطر إلى اقتحام الشقة . لابد أن يعمل» وأن يعمل فى الحال» 
فحرام أن يتنفس عليش سدرة يوما كاملا وسعيد مهران طليق . وستفوز بالهرب سالا . 
كما فزت عشرات المرات . وكما تتسلق العمارة فى ثوان» وكما تثب من الدور الثالث 
فتصل الأرض سا ما. وكما تطير إذا شئت. وطرق الباب يبدو ضروريا ولكنه سيثير 
الريب» وبخاصة فى هذه الساعة» وستصوت نبوية حتى تملا الدنيا غباراء ويجىء 
الأنذال» ويظهر المخبر أيضا. فلتحطم الشراعة. هذه هى الفكرة التى كانت تدور فى 


رأسه وهو قادم بالسيارة من بعيد» هاهو يعود إليها أخيرا. وأخرج مسدسه. ووجه منه 





3 / لل ص وَالكراتت 


ضربة إلى زجاج الشراعة من خلال القضبان الملتوية فتحطم وتناثر محدثا صوتا كالصراخ 
المبحوح فى صمت الليل . اقترب من الباب حتى كاد يلتصق به وصوب مسدسه إلى 
الداخل» وانتظر بقلب خافق وعين غائصة فى ظلمة الردهة. وترامى صوت يصيح 
«من ؟»). صوت رجل» صوت عليش سدرة» ميزه رغم نبض الصلدغ المدوى . وفتح 
الرجل بدوره وتهاوى فأدركه بأخرى قبل أن يستقر فوق الأرض . وانطلق صراخ حاد 
مرتعب مستغيث بائس » صوات نبوية فصاح بها «وسيأتى دورك» لامهرب منىء أنا 
الشيطان نفسه)»). واستدار ليهرب» ومضى يثب فوق الدرجات بلا حرص حتى بلغ بكر 
هدوء. ثم سمع نوافذ وهى تفتح وأصواتا وهى تتلاقى فى تساؤل ونداءات غامضة» 
وبلغ موقف السيارة عند رأس الطريق فجذب بابها ودخل . وعند ذاك لمح شرطيا قادما 
يجرى من الميدان نحو عطفة سكة الإمام فغاص فى أرض السيارة. وواصل الشرطى 
جريه نحو الصراخ فلبث فى مكمنه حتى اطمأن إلى بعده من وقع قدميه ثم نهض فى 
حذر شديد فجلس وراء عجلة القيادة وانطلق بالسيارة دون إبطاء . ودار مع الميدان فى 
سرعة طبيعية والضجة تلاحق حواسه. ولفه ذهول شامل فساق السيارة بلا وعى. 
القاتل. هناك رءوف علوان» الخائن الرفيع الممتاز» أهم فى الواقع من سدرة وأخطر. 
القاتل» أنت من زمرة القتلة» جنسية جديدة» ومصير جديد» خطف أرواح خبيثة بعد 
خطف أشياء ثمينة. سيأتى دورك» لا مهرب منىء أنا الشيطان نفسه . بفضل سناء 
وهبتك الحياة» لكنى أحطتك بعقاب أشدمن الموت» هو الخنوف من الموت» الذعر 
الأبدى» لن تذوقى للراحة طعما مادمت حيا. انحدرت السيارة فى شارع محمد على 
ومازال يسوقها بلا وعى ولا فكرة عنده ألبتة عن المكان الذى يقصده. الآنيردد كثيرون 
اسم القاتل» فعلى القاتل أن يختفى» عليه أن يحذر ما أمكنه حبل المشنقة. لا تمكن 
عشماوى من أن يسألك «ماذا تطلب؟» وعلى الحكومة أن تجود بهذا السؤال فى مناسبة 
أفضل . وانتبه إلى نفسه فإذا بالسيارة تقطع آخر شوط فى شارع الجيش مندفعة نحو 
العباسية فانزعج لهذه العودة الغريبة إلى المكان الخطر. وضاعف من سرعتها حتى بلغ 
منشية البكرى فى دقائق . ثم وقف عند أول شارع متفرع من الطريق العام. وتركها فى 
هدوء دون أن يلتفت يمنة أو يسرة. سار على مهل كأنه يتريض » وشعر بخمود» ثم بألم 
كأنه رد فعل للمجهود العصبى الشديد الذى بذله . لا مأوى لك الساعة. ولا أى ساعة . 
نور؟ من المجازفة أن يذهب إليها الليلة بالذات» ليلة التحقيق والشبهات والظلام يجب 
أن يمتد إلى الأبد. . 


ل نت 





/ لل ص وَالكراتَ اود 


الفصل الثامن 


دفع باب مسكن الشيخ فأطاع دون مقاومة» دخل ورده وراءه. وجد نفسه فى الحوش 
غير المسقوف. ولاحت النخلة فارعة كأنها ممتدة فى الفضاء حتى النجوم الساهرة» فقال 
لنفسه يا له من مكان صالح للاختفاء! وحجرة الشيخ مفتوحة بالليل كما هى بالنهار 
وغارقة فى الظلمة وكأنها تنتظر أوبته فمضى إليها فى هدوء . سمع الصوت يغمغم فلم 
يميز من غمغمته إلا «الله». واستمر يغمغم كأنه لم يشعر أو لا يريد أن يشعر بدخوله. 
انزوى فى ركن باليسار جنب كتبه» وانحط على الحصيرة ببدلته وحذائه المطاط 
ومسدسه. ثم مد ساقيه واستند إلى ذراعيه ملقيا برأسه إلى الوراء فى إعياء شديد. رأس 
كخلية النحل» وأين المفر؟ تريد أن تستعيد سماع الطلق النارى» وصوات نبوية» وأن 
تسعد بأنك لم تسمع لسناء صرخة واحدة. ويحسن أن تقول للشيخ «السلام عليكم»» 
ولكن نبرات صوتك عاجزة. عجز مفاجئ كالغرق. وكنت تظن أنك ستموت نوما 
بمجرد أن يمس جلدك الأرض! تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم 
وقلوبهم إلى ذكر الله متى ينام هذا الرجل الغريب؟ لكن الرجل الغريب ترنم بصوت 
مرتفع نوعا لأول مرة. 

الوجد عندى جحود2 مالم يكن عن شهودى 

ثم قال بصوت خيل إليه أنه ملأ الحجرة «انفتحت عيون قلوبهم وانطبقت عيون 
رءوسهم)». انتزع من آلامه ابتسامة وقال لنفسه: لذلك فهو لا يشعر بى . ولكنى أنا أيضا 
لا أشعر بنفسى . وبغتة سبح الأذان فوق أمواج الليل الهادئة. وذكر ليلة قضاها مسهدا 
حتى الأذان شوقا إلى سعادة موعودة فى النهار التالى لم يعد يذكر عنها شيئا. ونهض 
عند سماعه الأذان هانئا بالخلاص من رقاد أليم فتطلع من النافذة إلى زرقة الفجر وابتسامة 
المشرق وفرك يديه حبورا بالسعادة الوشيكة التى لم يعد يذكر عنها شيئا. لذلك فهو يحب 
الفجر للنعمة والزرقة والابتسامة والسعادة المنسية. وهاهو الفجر مرة أخرى ولكنه من 
الإعياء لا يستطيع حراكا ولا مسدسه. وقام الشيخ للصلاة فأشعل المصباح» ولم يبد 
انتباها لوجوده. وفرش سجادة الصلاة واتخذ مكانه فوقها وإذا به يتساءل: 

ألا تصلى الفجر؟ 

فلم يستطع جواباء إلى هذا الحد بلغ منه الإعياء. وأقام الشيخ الصلاة» ومالبث 
سعيد أن غاب عن الوجود . حلم بأنه يجلد فى السجن رغم حسن سلوكه. وصرخ بلا 





1 الل ص والكلات 


كبرياء وبلا مقاومة فى ذات الوقت. وحلم بأنهم عقب الجلد مباشرة سقوه حليبا . ورأى 
سناء الصغيرة تنهال بالسوط على رءوف علوان فى بئر السلم . وسمع قرآنا يتلى فأيقن أن 
شخصا قد مات . ورأى نفسه فى سيارة مطاردة عاجزة عن الانطلاق السريع لخلل طارئ 
فى محركها واضطر إلى إطلاق النار فى الجهات الأربع» ولكن رءوف علوان برز فجأة 
من الراديو المركب فى السيارة فقبض على معصمه قبل أن يتمكن من قتله وشد عليه بقوة 
حتى خطف منه المسدس » عند ذاك هتف سعيد مهران: اقتلنى إذا شئت ولكن ابنتى 
بريئة» لم تكن هى التى جلدتك بالسوط فى بئر السلم وإئما أمهاء أمها نبوية وبإيعاز من 
عليش سدرة. ثم اندس فى حلقة الذكر التى يتوسطها الشيخ على الجنيدى كى يغيب عن 
أعين مطارديه فأنكره الشيخ وسأله : من أنت وكيف وجدت بيننا بأجابه بأنه سعيد مهران 
ابن عم مهران مريده القديم وذكره بالنخلة والدوم والأيام الجميلة الماضية. فطالبه الشيخ 
ببطاقة الشخصية فعجب سعيد وقال إن المريد ليس فى حاجة إلى بطاقة» وإنه فى المذهب 
يستوى المستقيم والخاطئ فقال له الشيخ إنه يطالبه بالبطاقة ليتأكدمن أنه من الخاطئين لأنه 
لاا يحب المستقيمين فقدم له مسدسه وقال له ثمة قتيل وراء كل رصاصة فى ماسورته 
ولكن الشيخ أصر على مطالبته بالبطاقة قائلا إن تعليمات الحكومة لا تتساهل فى ذلك 
فعجب سعيد مرة أخرى وتساءل عن معنى تدخل الحكومة فى المذهب فقال الشيخ إن 
ذلك كلهتم بناء على اقتراح للأستاذ الكبير رءوف علوان المرشح لوظيفة شيخ المشايخ 
فعجب سعيد للمرة الثالثة وقال إن رءوف علوان بكل بساطة خائن ولا يفكر إلا فى 
الجريمة فقال الشيخ إنه لذلك رشح للوظيفة الخطيرة ووعد بتقديم تفسير جديد للقرآن 
الشريف يتضمن كافة الاحتمالات التى يستفيد منها أى شخص فى الدنيا تبعا لقدرته 
الشرائية» وأن حصيلة ذلك من الأموال ستستغل فى إنشاء نواد للسلاح ونواد للصيد 
ونواد للانتحار فقال سعيد: إنه مستعد أن يعمل أمينا للصندوق فى إدارة التفسير الجديد 
وسيشهد رءوف علوان بأمانته كما ينبغى له مع تلميذ قديم من أنبه تلاميذه» وعند ذاك قرأ 
الشيخ سورة الفتح وعلقت المصابيح بجذع النخلة وهتف المنشد يا آل مصر هنيئا فا حسين 
لكم... 

وفتح عينيه فرأى الدنيا حمراء ولا شىء فيها ولا معنى لها. ثم رأى الشيخ متربعا فى 
هدوء يكتنفه البياض الناصع من الجلباب الفضفاض والطاقية واللحية» فلما ندت عن 
سعيد حركة لدى استيقاظه نظر الشيخ إليه فى هدوء أيضا. وجلس سعيد فى عجلة ورنا 
إلى الشيخ كالمعتذر» وفى الوقت نفسه دهمته الذكريات فى سرعة اللهب . وقال الشيخ : 


- نحن فى العصر وأنت لم تذق طعاما. . 
نظر سعيد إلى الكوة ثم أعاد إلى الشيخ النظر وهو يتمتم فى ذهول : 
<العصا 


11100 





لل ص وَالكلاب هه 


-تعمء قلت أدعه فى نومه» وهداية الله تنزل فى أى حال تريدها مشيئته وداخله 
القلق» ترى ألم يره أحد فى نومه طوال النهار؟ 

- كنت أشعر فى نومى بدخول أناس كثيرين . . 

- أنت لم تشعر بشىء» ومع ذلك فقد جاء واحد بلقمة الغداء» وجاء آخر فكنس 
المكان وسقى الصبارة والنخلة وفرش الحوش استعدادا لاستقبال المحبين! 

فسأل باهتمام : 

- متى يجيئون يا موللاى؟ 

- مع المغرب » متى جئت أنت؟ 

-مع الفجر. . 

وصمت ملياء ثم مسح الشيخ على لحيته وقال: 

- أنت تعيس جدا يا بنى! 

فتساءل فى قلق : 

-لمه؟ 

-غت نوما طويلا ولكنك لا تعرف الراحة»؛ كطفل ملقى تحت نار الشمس» وقلبك 
امحترق يحن إلى الظل ولكن يمعن فى السير تحت قذائف الشمسء ألم تتعلم المنى 
بعد؟ ! 

فقال سعيد وهو يدعك عينيه اللوزيتين المحمرتين : 

- فكرة مزعجة أن يراك الآخرون وأنت نائم . . 

فقال الشيخ بلا اكتراث : 

من غاب عن الأشياء غابت الأشياء عنه . . 

ومر بيده بخفة فوق جيب المسدس وساءل نفسه ترى ماذا يصنع هذا الشيخ لو أنه 

صوب نحوه مسدسه؟ متى يمكن أن يهتز هدوءه المثير؟ وعاد الشيخ يسأله : 

أنت جائع؟ 

كلا . 

فقال وشبه ابتسامة تلوح فى عينيه : 

- ذا صح الافتقار إلى الله صح الغنى بالله . . 

-إذا! 

ثم بلهجة ساخرة : 

مولاىء ماذا كنت تفعل لو ابتليت بمثل زوجتى ولو أنكرتك كما أنكرتنى ابنتى؟ 





1 الل ص وَالكراب 


فلاحت فى العينين الصافيتين نظرة رثاء وقال: 
فى حاجة إلى ذلك» لعله رآك وأنت تطلق النار» لعله يرى أكثر من ذلك . وارتفع صوت 
تحت الكوة ينادى بجريدة «أبو الهول» فقام بسرعة إلى الكوة فناداه ثم مد يده بالقرش 
وعاد بالجريدة إلى مجلسه وقد نسى الشيخ تماما. التصقت عيناه بعنوان ضخم أسود 
#جريمة شنيعة بالقلعة!») وجرت عيناه على الأسطر بسرعة جنونية . ولم يفهم شيئا. أهى 
جريمة أخرى؟ لكن ها هى صورته» هاهى صورة نبوية» هاهى صورة عليش سدرة . فمن 
المضرج فى دمه؟ قصته بارزة أمام عينيه» فضيحة مذاعة كالغبار الخماسينى» الرجل الذى 
شيئاء وينبغى أن يقرأ من جديد . ينبغى أن يعرف من المضرج فى دمه وكيف استقرت 
رصاصته فى صدره . القتيل رجل آخر يرى صورته لأول مرة فى حياته. اقرأ من جديد. 
لقد ترك عليش سدرة ونبوية بيتهما فى نفس اليوم الذى زارهما فيه بحضور المخبر 
والأعوان» وحلت مكانهما فى الشقة أسرة جديدة» ولعلها دفعت خلو رجل 5 الصوت 
الذى سمعه لم يكن صوت عليش سدرة . الصوات الذى سمعه لم يكن صوات نبوية . 
الجسم الذى سقط كان جسم شعبان حسين العامل بمحل الخردوات بشارع محمد على . 
سعيد مهران جاء ليقتل زوجته وصاحبه القديم فقتل الساكن الجديد شعبان حسين . وشهد 
أحد جيران عليش بأنه رأى سعيد مهران وهو يغادر البيت عقب ارتكاب الجريمة وأنه نادى 
الشرطى ولكن صوته ضاع فى الضجة التى شملت الطريق كله . أى هزيمة جنونية . أى 
جرية بلا جدوى» وسيطارده حبل المشنقة وعليش آمن» هذه هى الحقيقة كأنها جوف قبر 
انكشف . وانتزع عينيه من الجريدة فرأى الشيخ على الجنيدى ينظر إلى السماء من خلال 
الكوة ويبتسم . ولسبب ما أخافته ابتسامته. ورغب فى أن يقف أمام الكوة لم بصره فى 
خط نظر الشيخ لعله يرى فى السماء ما جعله يبتسم . لكنه لم ينفذ رغبته . ليبتسم وليطلع 
على مكنونه إذا شاء ولكن سيجىء المريدون عما قريب وربما تعرف عليه بعضهم من رأوا 
صورته فى الجريدة . آلاف وآلاف يتأملون صورته الآن بغرابة وحموف وللة بهيمية خخفية . 
قضى عليه بلا جدوى. مطارد وسيظل مطاردا إلى آخر لحظة من حياته» وحيد عليه أن 
يحذر حتى صورته فى المرأة» حى بلا حياة كجئة محنطة» سيجرى من جحر إلى جحر 
كفأر يتهدده السم والقطط وهراوات المشمئزين» كل هذا وأعداؤه يمرحون. والتفت 
الشيخ نحوه وقال برقة: 

- أنت متعب» قم فاغسل وجهك . . 

فقال بضيق وهو يطوى الجريدة : 


11100 





ا لل ص والكلات لوا 


- سأذهب وأريحك من منظرى . : 

فقال فى مزيد من الرقة : 

-هذا مأواك. . 

- نعم» ولكن لم لا يكون لى مأوى آخر؟ 

فقال وهو يطرق: 

- لو كان آخر ما جئتنى ! 

اذهب إلى الجبل حتى يهبط الظلام . لا تغادره حتى يهبط الظلام . تحاش الضوء وَل 
بالظلام. تعب بلا فائدة. ذلك أنك قتلت شعبان حسين . من أنت يا شعبان؟ أنا لا 
أعرفك وأنت لا تعرفنى . هل لك أطفال؟ هل تصورت يوما أن يقتلك إنسان لا تعرفه 
ولايعرفك. هل تصورت أن تقتل بلا سبب؟ أن تقتل لأن نبوية سليمان تزوجت من 
عليش سدرة؟ وأن تقتل خطأ ولا يقتل عليش أو نبوية أو رءوف صوابا؟ وأنا القاتل لا 
أفهم شيئا ولا الشيخ على الجنيدى نفسه يستطيع أن يفهم . أردت أن أحل جانبا من اللغز 
فكشفت عن لغز أغمض . وتنهد بصوت مسموع . وعاد الشيخ يقول: 

-يا لك من متعب! 

- ودنياك هى المتعبة . 

فقال الشيخ فى رضى : 

- نتغنى بهذا أحيانا. 

ونهضء ثم قال وهو يهم بالذهاب: 

وداعايا مولاى. . 

فقال الشيخ كالمحتج : 


- قول لا معنى له على أى وجه قلته» قل إلى اللقاء . 


الفصل التاسع 


ياله من ظلام! انقلب خفاشا فهو أصلح لك . وهذه الرائحة الدهنية المتسربة من باب 
شقة ما فى هذه الساعة من الليل! متى تعود نور وهل تعود بمفردها؟ هل يمكن أن أبقى فى 
بيتها حتى أنسى؟ لعلك تظن يا رءوف أنك تخلصت منى إلى الأبد؟ بهذا المسدس 
أستطيع أن أصنع أشياء جميلة على شرط ألا يعاكسنى القدر. وبه أيضا أستطيع أن أوقظ 
النيام فهم أصل البلايا. هم خلقوا نبوية وعليش ورءوف علوان. . 





1 الل ص والكلات 


وخيل إليه أنه سمع وقع أقدام صاعدة» ثم تأكد من ذلك ونظر من فوق الدرابزين. 
فرأى نورا خافتا يتتحرك فى بطء على الجدران نور عود ثتقاب كما ظن . واقتربت الأقدام 
ثقيلة متمهلة فقرر أن ينبهها إلى وجوده تفاديا من مفاجأة مزعجة . وتنحنح فجاء صوتها 
يسأل فى ارتياع : 

-من ؟ 

فأدلى برأسه إلى أقصى حد ممكن وقال هامسا : 

- سعيد مهرأن. . 

وأسرعت الأقدام فى خفة حتى انتهت إلى مكانه وهى تلهث والعود يلفظ أنفاسه. 
وقبضت على عضده فى انفعال» وبنبرة تنازعها الابتهاج وتقطع الأنفاس قالت: 

أنت! . . يا كسوفى . . » انتظرت طويلا. . ؟ 

وفتحت الشقة ثم دخلت جاذبة إياه من ذراعه . وأضاءت مصباحا فظهر مدخل 
مستطيل صغير خال من أى شىء . ومالت به إلى حجرة جانبية كشف مصباحها 
الكهربائى عن حجمها المتوسط وأضلعها المربعة» ثم سارعت إلى النافذة ففتحتها على 
مصراعيها لتلطف من جوها المختنق . وارتمى على إحدى الكنبتين المتقابلتين وهو يقول 
متشكيا : 

- جئت عند منتصف الليل » ولبثت أنتظر حتى شاب شعرى . . 

فجلست على الكنبة اللأخرى بعد أن أزاحت عنها أقمشة مفصلة وكومامن 
القصاصات وقالت: 

-الحق أنه لم يكن عندى أدنى أمل فى أنك ستجىء . ٍ 

وتلاقت الأعين المتعبة» فابتسم ليدارى تحجر باطنه» وتساءل : 

حتى بعد وعدى الصريح؟! 

فابتسمت ابتسامة خفيفة ولم تجب, لكنها قالت: 

- أمس استجوبونى فى القسم حتى أزهقوا روحىء أين السيارة؟ 

فقال وهو يخلع جاكتته ويرمى بها إلى جانبه كاشفا عن قميص طحينى متلبد بالعرق 
والغبار. 

- قضت الحكمة بأن أتركها رغم حاجتى إليهاء سيجدونها ويردونها إلى صاحبها كما 

ينبغى لحكومة تتحيز لبعض اللصوص دون البعض! 

فسألته فى قلق : 

-ماذا فعلت بها أمس؟ 


1110م 





الل ضّوالكلات 1:4 


- لاشىء ألبتة فى الحقيقة» وستعلمين كل شىء فى حينه . . 

ونظر نحو النافذة وهو يتنفس فى عمق قائلا : 

- جهة بحرية فيما أظن» هواء لطيف حقا. . 

خلاء حتى باب النصره هنا القرافة . . 

فابتسم قائلا : 

لذلك فهواؤها غير فاسد! 

تنظر إليك بنهم . وأنت تمتعض ضجرا . وبدل العزاء تتذكر طعنة فى الكبرياء . وقالت 
نور راجعة إلى أفكارها الأولى : 

- انتظرت طويلا على السلم» أنا آسفة جدا. . 

فامتحنها بنظرة غامضة وهو يقول : 

- سأنزل ضيفا عندك لأجل طويل . . 

فارتفع رأسها ابتهاجا وهى تقول : 

-امكث طول العمر إن شئت. . 

فأومأ إلى النافذة وهو يقول باسما: 

-حتى أنتقل إلى الجيران! 

وبدا أنها لم تسمعه لتفكير لاح فى عينيها ثم تساءلت : 

- وأهلك ألا يسألون عنك؟ 

فأجاب وهو ينظر إلى حذائه المطاط : 

2ل أهل لوه 

- أعنى زوجتك؟ 

تعنى الألم والجنون والرصاص الضائع . تريد اعترافا مؤذيا للكرامة . وستجد أن فتح 
القلب المغلق يزداد عسرا. ولكن ما جدوى الكذب والجرائد تنعق بالفضيحة؟ 

حقلت أ اهل ان 

أنت تفكرين فى معنى القول. ويشرق وجهك بالسرور. وأنا أكره هذا السرور. 
وأرى الآن أن الذبول استقر تحت عينيك . وتساءلت: 

الطلاق؟ 

لوح فى ضجر قائلا : 

- طلقت وأنا فى السجن» ولندع هذا الحديث جانبا. 





10 الل ص وَالكلاتَ 


- خنزيرة! مثلك ينتظر ولو حكم عليه بتأبيده! 

الماكرة . مثلى لا يحب الرثاء . احذرى الرثاء . ياضيعة الرصاص فى الصدور البريئة! 

الحق أنى أهملتها كثيرا! 

-على أى حال هى امرأة لا تستحقك! 

صدقت. ولا أى امرأة. لكنها مفعمة حيوية وأنت تترنحين فوق الهاوية. نفخة 
واحدة ثم تنطفئين. ومالك فى قلبى سوى الرثاء . وقال: 

- لا يجوز أن يشعر بى أحد! 

فقالت ضاحكة وكأنها وثقت من امتلاكه إلى الأبد: 

- أحطك فى عينى واكحل عليك! 


هز منكبيه باستهانة» فقامت وهى تقول : 

- سأعد لك مائدة » عندى طعام وشراب» أتذكر كم كنت جافا معى فى الماضى؟ 

-لم يكن عندى وقت للحب. . 

فلحظته بعتاب وهى تقول : 

- وهل يوجد ما هو أهم منه؟. . وكنت أقول لنفسى لعل قلبه حجر ومع ذلك فلم 

لذلك لجأت إليك أنت! 

فقالت بامتعاض : 

- أنت لم تقابلنى إلا صدفة» ولعلك كنت نسيتنى ماما . 

فقطب عمدا وهو يتساءل: 

- أتظنين أنى لا أستطيع أن أجد مكانا آخر؟ 

فأشفقت من غضبه» وأقبلت عليه فأحاطت خديه براحتيها وهى تقول معتذرة : 

- نسيت أن العسكرى يمنع زوار الحديقة من معاكسة الأسدء آسفةء ولكن ما أسخن 
وجهك. وذقنك خشنة جداء ما رأيك فى دش بارد؟ ! 

فأعرب عن ترحيبه بابتسامة : 

إلى الحمام» وعندما تخرج ستجد المائدة معدة» سنأكل فى حجرة النوم فهى أجمل 
من هذه الحجرة وتطل مثلها على القرافة. . 


لا نت 





الل ص اكرات 6١‏ 


الفصل العاشر 


ارتدى بدلة الضابط على سبيل التجربة فحدجته نور رافعة يديها فى تسليم وإن لم 
يكن شىء لا يمكن أن يهددها. مدينة الصمت والحقيقة . ملتقى النجاح والفشل والقاتل 
مرة. وشخير نور يبدو أنه لن ينقطع إلا حين تستيقظ عند الأصيل . وستبقى أنت فى هذا 
الأحياء فستذكر بالقبور الخيانة ثم تذكر بالخيانة نبوية وعليش ورءوف . وأنت نفسك 
ميت منذ أطلقت الرصاصة العمياء» ولكن عليك أن تطلق مزيدا من الرصاص . 

وسمع تثاؤبا كالتأوه فتراجع عن شيش النافذة ملتفتا نحو الفراش فرأى نور جالسة» 
شبه عارية» منكوشة الشعر تعيسة القسمات . نظرت إليه بارتياح وهو تقول: 

فقال فى كأبة : 

- هذا فى الحلم» أما فى الحقيقة فأنت التى ستذهبين بعيدا وأنا الذى سأنتظر. . 

وذهبت إلى الحمام ثم عادت وهى تجفف رأسها ووجهها. وتابع يديها وهما تصوران 
وجهها فى صورة جديدة» بهيجة شابة . هى - مثله ‏ فى الثلاثين ولكنها تكذب علنا لتبدو 
أصغرء وسخافات ورذائل لا حصر لها تمارس علناء وليست السرقة كذلك ويا 
للاأسف. وأوصلها حتى الباب وهو يقول: 

لاتنسى الحرائد. . 

ومضى إلى حجرة الجلوس فاستلقى على كنبة . وحيد بكل معنى الكلمة حتى كتبه 
منسية عند الشيخ على الجنيدى . وتسلى بالنظر إلى السقف الأبيض الباهت المعروق 
وكأنه مرآة تعكس بساط الحجرة المنجرد. ومن خلال النافذة بدت سماء المغيب كدرة 
يدور بها سرب من الحمام من آن لآن. وجفولك يا سناء مؤلم حقا كمنظر القبر. ولا 
أدرى إن كنا سنلتقى مرة أخرى» أين ومتى؟ ولن يخفق قلبك بحبى فى هذه ا حياة المليئة 
بالرصاصات الطائشة . وكالرصاص تطيش رغاتب كثيرة فى الدنيا مخلفة وراءها سلسلة 
من الحلقات المحزنة . ابتداء من الحلقة الأولى عند بيت الطلبة فى طريق مديرية الجيزة . لم 
يكن عليش سدرة إلا شخصا عابرا لا قيمة له أما نبوية فقد هزت القلب حتى اقتلعته من 
جذوره. ولو أن الخيانة الكامنة ظهرت فى صفحة الوجه كما تظهر آثار الحميات الخبيثة لما 





١ه‏ / لل صوَالكاب 


تجلى جمال فى غير موضعه ولا عفيت قلوب كثيرة من عبث المكائد . والبقال يقع دكانه 
أمام بيت الطلبة وتجىء نبوية حاملة السلطانية لتشترى ما تشاء فى ثياب مهندمة بل تعد 
زينة وسط أمثالها من الخادمات لذلك عرفت بخادمة الست التركية نسبة إلى تركية عجوز 
كانت تقيم بمفردها فى بيت محاط بحديقة كبيرة فى آخر الطريق وكانت غنية ومتكبرة 
وتفرض على كل من يمت إليها بسبب أن يكون جميل١‏ وأنيقا ونظيفا فتبدت نبوية دائما 
مشطة الشعر منسابة الضغيرة حتى العجز منتعلة شبشبا يطوق جلبابها حيوية جسد ثائر 
وحتى الأعين غير المسحورة أى أعين الآخرين وصفت جمالها بأنه جمال فلاحى لذيذ 
الطعم باستدارة الوجه الخمرى والعينين العسليتين والأنف القصير الممتلئ والفم المتشرب 
بماء الحياة والدقة الخضراء فى الذقن كالخال وكان يقف عند باب بيت الطلبة عند الانتهاء 
من الخخدمة ينظر نحو آخر الطريق الذى تجىء منه حتى تلوح لعينيه القامة البديعة والمشية 
الحبيبة وتقترب وتقترب باعثة باقترابها أجمل مشاعر الحياة كأنها موسيقى عذبة تستقبل 
بها حيث حلت وتتبعها عيناك فى نشوة الخمر وتندس معها بين عشرات الواقفات أمام 
البقال وتغيب حينا وتظهر حينا وأنت تزداد غراما وسؤالا ورغبة فى عمل شىء أى شىء 
ولو كلمة أو إشارة أو تعويذه وتمضى هى أخيرا فى طريق العودة منذرة بالاختفاء بقية نهار 
وليلة كاملة فتصعد منك تنهيدة مريرة وتبوخ النشوة رويدا وتخرس العصافير فوق أشجار 
الطريق ويتتشر جو الخريف فجأة ثم مرة تلحظ أن عودها يميس تحت نظراتك وأنها تنيه 
دلالا فلا تقف أنت عند حد وباندفاعك الطبيعى تسبقها فى الطريق ثم تعترض سبيلها 
عند النخلة الوحيدة القائمة فى نهاية الحقول بجرأة غريبة تعترض سبيلها حتى ذهلت أو 
تظاهرت بالذهول وسألتك محتجة من أنت فأجبت بدهشة من أنا أنت تسألين من أنا ألا 
تعرفين من أنا أنا صاحب العين التى يعرفها كل شبر فى كائنك فقالت بحدة أنا لا أحب 
قلة الأدب فقلت ولا أنا أنا مثلك لا أحب قلة الأدب وعلى العكس أحب الأدب والجمال 
والرقة وكل أولئك هو أنت أنت ألا تعرفين الآن من أنا ولا بد أن أحمل عنك هذه السلة 
وأوصلك حتى باب البيت فقالت لست فى حاجة إلى مساعدتك ولا تقف فى طريقى مرة 
أخرى وسارت فسرت إلى جانبها متشجعا بابتسامة خفيفة ضاعت فى الاكفهرار المصطنع 
أحسست بها كما تحس بأول نسمة رقيقة متسللة فى ليلة زامتة فقالت ارجع يجب أن 
ترجع ستى تجلس فى النافذة وستراك إذا تقدمت أكثر من هذا خطوة واحدة قلت أنا عنيد 
وإذا أردت أن أرجع فلنرجع معا بضع خطوات ليس إلا عند نخلتنا الوحيدة إذ لابد أن 
أتكلم ولماذا لا أتكلم هل أنا لا أملاً العين وهزت رأسها فى عنف ولكنها أبطأت السير 
وغمغمت فى احتجاج وغضب ولكنها أبطأت فى السير وتقوس عنقها كالقطة المتنمرة 
ولكنها أبطأت فى السير فلم أعد أشك فى أنى وصلت وأن نبوية لا تخلو من بعض 
مشاعرى وأنها مطلعة تماما على تاريخ وقفاتى التنهدية عند بيت الطلبة وأن نظرة الطريق 


1110م 





/ لل صّوَالكاتتَ 0 


ستتحول إلى أمور لها خطرها فى حياتى وحياتها وحياة الدنيا جميعا التى ستزداد بها عدا 
فقلت إلى غد وتوقفت خشية عليها من لذع لسان تركى عجوز يقيم فى شارع مديريتنا 
كاللغز ثم تراجعت إلى النخلة ومن فرحتى تسلقتها بسرعةوقفزت من علو ثلاثة أمتار 
إلى أرض مزروعة جرجيرا ثم رجعت إلى بيت الطلبة وأنا أغنى بصوتى الغليظ كأنى ثور 
هزه الطرب وعندما دفعتك ظروف قهرية إلى العمل فى سيرك الزيات مضت بك الحياة 
من حى إلى حى ومن بلدة إلى بلدة وخفت أن يصدق عليك المثل القائل أن البعيد عن 
العين بعيد عن القلب فقلت لها لتتزوج على سنة الله ورسوله وأنتما تقفان عند مشارف 
الجامعة التى لم تدخلها ظلما ودخلها كثير من الأغنياء ولم يكن فى الطريق ضوء ولا فى 
السماء إلا هلال غليظ استقر فوق الأفق وابتهجت ونظرت إلى الأرض حتى لمع جبينها 
الضيق تحت شعاع الهلال فقلت إن عملى مربح ومستقبلى هائل ومسكنى فى الدراسة 
دور أرضى نظيف بطريق الجبل على مقربة من مسكن الشيخ على الجنيدى وستعرفين 
الشيخ المبارك عندما نتزوج ويجب أن نتزوج فى أقرب وقت إكراما لحبنا طويل العمر وآن 
لك أن تمركن ستك التجوز فقالت أناعبمة ولس لن الاعمة :سيد الأربعين فقلت 
على بركة الله وقبلتها أمام الهلال والفرح من جماله عاش أحدوثة على كل لسان 
والزيات نقطنى بعشرة جنيهات وعليش سدرة من سروره بدا كأنه صاحب الفرح ولعب 
دور الصديق الأمين ولكن لم يكن صديقا على الإطلاق وأعجب شىء أنى خدعت به 
وأنا الذى يخافه الجن الأحمر كنت البطل وكان عابد البطل يحبنى ويتملقنى ويتجنب 
غضبى ويلتقط فتات العيش من كدى وشطارتى وآمنت بأننى لو أرسلته مع نبوية إلى 
الصحراء التى تاه فيها سيدنا موسى لظل يرانى قائما بينه وبين نبوية فلا يحيد عن الأدب 
وهى كيف تميل إلى الكلب وتعرض عن الأسد ولكن القذارة مركبة فى طبعها قذارة 
تستحق القتل فى الدنيا وفى الآخرة وعلى شرط ألا يطيش الرصاص الأعمى فيصيب 
الأبرياء ويعمى عن الأوغاد والسفلة ويترك قلوبا يمزقها الألم ويحرقها الغضب ويعبث 
بها الجنون فتنسى كل شىء طيب فى الحياة حتى ليلة الدخلة ولعب الصبيان فى الحارة 
والحب قبل الفساد ومولد سناء ورؤية وجه سناء لأول مرة وسماع بكائها لأول مرة 
وحملها على الساعدين لأول مرة وابتساماتها التى لم أحصها وليتنى أحصيتها أو صورتها 
وليتنى أنسى فيما نسيت جفولها وصراخها الذى رددته أركان الأرض وجفت بسببه 
الينابيع والنسائم وكافة المشاعر الطيبة فى الوجود. وانتشر الظلام نعم انتشر الظلام فى 
الحجرة وخارج النافذة وزاد صمت القبور صمتا ولا يمكن أن تضىء المصباح كى تبقى 
الشقة كما تبقى عادة فى أثناء غياب نور وستألف عيناك الظلام كما ألفت الوجوه الكريهة 
ولن تجد فرصة للسكر خشية أن تحدث حركة عنيفة أو ترفع صوتا منكرا إذا يجب أن تبقى 
الشقة صامتة كالقبر وحتى الأموات أنفسهم لن يفطنوا لوجودك هنا والله وحده يعلم 





ه ا لل صّوالكرات 


كيف تصبر على هذا السجن وإلى متى كما كان يعلم وحده أنك ستقتل شعبان حسين لا 
عليش سدرة ولابد أن تخرج عاجلا أو آجلا للتجول فى الليل ولو فى الأماكن الآمنة 
ولكن فلنؤجل ذلك إلى حين حتى يقتل البوليس تعبا فى البحث عن لا شىء ولنسأل الله 
ألا يدفن شعبان حسين فى قبر من هذه القبور فإن هذه المنطقة القديمة لا تتحمل ثقل 
المفارقات القاسية واصبر اصبر حتى تعود نور ولا تسأل متى تعودنور وعليك أن تكابد 
الظلمة والصمت والوحدة مادامت الدنيا لا تريد أن تغير من عاداتها السيئة ونور المسكينة 
كذلك فحبها القديم لك ما هو إلا عادة سيئة وهو يرتطم بقلب قتله الألم والغضب وينفر 
من إقبالها كما ينفر من ذبولها ولا يدرى حقا ماذا هو فاعل بها إلا أن يشاربها نخب 
الضياع والأسى ويرثى لمحاولاتها الطيبة اليائسة ولن ينسى فى النهاية أنها امرأة كما أن 
نبوية امرأة الخائنة الجبانة سيقتلها الخوف على حياتها حتى يلتف الحبل حول عنقك أو 
تستقر فى قلبك رصاصة مجرمة ويشوه البوليس سيرتك فينقطع ما بينك وبين سناء إلى 
الأبد حتى حبك لن تدرى عن صدقه شيئا كأنه رصاصة طائشة كذلك . . 

واختلس النوم سعيد مهران وحلم بعض الوقت ولم يدرك أنه كان يحلم إلا عند 
يقظته» عند وعيه لوجوده فى الظلام والوحدة بشقة نور بشارع نجم الدين وتأكده من أن 
عليش سدرة لم يفاجئه فى مخبئه ولم يطلق عليه الرصاص تباعا. ولم يدر عن الوقت 
شيئا سرعان ما سمع همس المفتاح فى القفل وصفقة الباب وهو يغلق وشراعة باب 
الحجرة وهى تنضح بضوء المدخل . وظهرت نور باسمة حاملة لفة كبيرة فأقبلت عليه 
تقبله وهى تقول : 

- وليمة! معى العجاتى وتسباس ومانولى! 

اشارية؟ 

-لزوم العمل» سأستحم ثم أرجع» وإليك الجرائد. . 

وتابعها بعينيه حتى ذهبت ثم انهمك فى مراجعة الجرائد الصباحية والمسائية على 
السواء. لم يكن فيها جديد بالنسبة إليه ولكن ثمة اهتمام بالجرية والمجرم فاق ما كان 
ينوقعه وبخاصة ما نشر فى جريدة «الزهرة»» جريدة رءوف علوان» كتبت الحريدة فى 
إسهاب مثير عن تاريخه فى اللصوصية » وسلسلة المغامرات التى كشفت عنها محاكمته» 
وقصور الأغنياء التى سطا عليهاء وعن شخصيته» وجنونه الخفى» وجرأته الإجرامية 
التى انتهت إلى سفك الدماء . يا للعناوين الكبيرة السوداء . آلاف وآلاف يناقشون الساعة 
جرائمه ويتندون بخيانة نبوية له ويتراهنون على مصيره. إنه محور الأخبار ورجل الساعة 
وقلبه ينقبض خوفا وزهوا. الانفعال يكاد يمزق عروقه وعشرات الأفكار تتزاحم فى رأسه 


1110 





/ لل صّوالكرات هه 


فى اللحظة الواحدة وتيار مثل تيار الخمر يغمر خياله فيؤمن بأنه سيتمخض عن أمر خطير 
لايقل شأنا عن الخلق أو النصر» فيود لو يتصل بالناس ليعرب لهم عما يهز صدره فى 
الصمت والوحدة.» وليؤكد لهم بأنه سينتصر ولو بعد الموت. إنه وحيد حيال الجميع 
ولكنهم لا يعلمونء» لم يفقهوا بعد حديث الصمت والوحدة» ولا يفطنون إلى أنهم أيضا 
لهم حديث صمت ووحدة, والمرأة التى تعكس صورهم باهتة مضللة فيتوهمون أنهم 
يرون قوما غرباء» وثبتت عيناه على صورة سناء فى دهشة وتأثر. وجرى بصره على 
الصور جميعاء صورته الوحشية وصورة نبوية بدت كامرأة ساقطة» ثم عاد إلى سناء 
المبتسمة . أجل إنها تبتسم» لأنها لا تراه ولأنها لا تدرى شيئا. وتفحصها بكل قوة ورغبة 
فدهمه شعور بأنه عبث وأن الليل خارج النافذة يتنفس حزنا أصيلا . وتمنى فى يأسه لو 
يستطيع الهرب بها إلى مكان لا يعرفه أحد. وأن يراها ولو كآخر طلب له فى الدنيا قبل 
الشنق . وقام إلى الكنبة الأخرى ليلتقط المقص من بين قصاصات القماش المكومة ثم عاد 
ليقتطع الصورة بعناية من الجريدة . ولما خرجت نور من الحمام كانت نفسه قد هدأت نوعا 
ما ونادته من حجرة النوم فمضى إليها وهو يعجب كيف أنها حملت إليه جميع الأنباء 
وهى لا تدرى عنها شيئا. وتجلى كرمها فى المائدة التى أعدتها فسال لعابه شوقا إلى 
الطعام والشراب. وجلس إلى جانبها على كنبة مواجهة للفراش أمام الخوان الحافل» 
ولرضاه ربت شعرها المبتل وهويقول على سبيل التحية : 

- أنت امرأة ولا كل النساء. . 

وعصبت شعرها بمنديل أحمر» وراحت تملا الأكواب» مبتسمة طوال الوقت لقوله» 
مبدية عن لونها الأسمر الباهت بلا زواق» منتعشة بالحمام كطعام متواضع لكنه طازج» 
مطمئنة فى جلستها معتزة بامتلاكه ولو إلى حين» فارتاح إلى ذلك كله دون حماس . 
وحدجته بنظرة ارتياب وقالت: 

- أنت تقول هذا! أكاد أصدق أحيانا أن الرحمة قد تعرف قلوب رجال البوليس قبل أن 

تعرف قلبك . . 

- صدقينى أنا سعيد بك . 

-حمًا؟ 

- نعم» رقة قلبك لا يكن أن تقاوم . 

- ألم أكن كذلك فى الزمان الأول؟ 

هيهات أن ينسينا انتتصار سهل هزيمة دامية . وقال: 

- كنت وقتذاك بلا قلب. . 


والآن؟ 





05 الل ص والكرات 


فتناول كوبه قائلا : 

- لنشرب ولتبتهج . . 

وأقبلا على الطعام والشراب بشهوة صادقة» حتى سألته: 

- كيف قضيت وقتك؟ 

فأجاب وهو يغمس ريشة فى الطحينة : 

- بين الظلمة والقبورء أليس لك أموات هنا؟ 

- أمواتى فى قبور البلينا. رحمة الله على الجميع . . 

وصمتا فوضحت أصوات التمطق واحتكاك الأكواب وطقطقة الصينية . وعاد سعيد 
يقول: 

- سأطلب منك أن تشترى لى قماشا يصلح لبدلة ضابط . . 

-ضابط؟ 

- ألا تدرين أننى تعلمت الخياطة فى السجن؟ 

فتساءلت بنظرة قلقة : 

- ولكن لمه؟ 

- جاء دورى فى الجهادية! 

- ألا تفهم أنى لا أريد أن أفقدك مرة أخرى؟ 

فقال بثقة غريبة : 

- لا تخافى على لولآ الغدر ما فكن البوليس تن أبداء.. 

تنهدت فى امتعاض فراح يقول من فم مكتظ : 

- أنت نفسك ألست عرضة للخطر؟ 

تو وهويسم؟ 

كأن يهاجمك قاطع طريق فى الصحراء مثلا؟ 

وضحكا معاء ثم مالت نحوه فقبلت شفتيه اللزجتين بشفتين لزجتين وقالت: 

الحق أننا لكى نعيش يجب ألا نخاف شيئا. . 

فتساءل وهو يومى إلى النافذة بذقنه : 

حتى الموت؟ 

أعوذ بالله. . . 

ثم باستهانة : 


11100 





ا لل ص وَالكراتَ لاه 


وحتى هذا أنساه عندما يجمعنى الزمان يمن أحب . : 
أعجب بحرارة قلبها وقوة إصراره. ولفتوره شعر نحوها بالرثاء والامتنان. وكانت 
تفةافراشنة قانق اللضباح الغاري فى تداك الساعة من الليل + 


الفصل الحادى عشر 


لا يمر يوم دون أن تستقبل القرافة ضيوفا جددا. وكأن لم يبق من غاية إلا أن تقبع وراء 
الشيش لترى الموت فى نشاطه الدائب . والمشيعون أحق بالرثاء. يذهبون فى جموع 
باكية» ثم يعودون وهم يجففون الدموع ويتحادثون . وقوة أقوى من الموت نفسه هى التى 
تقنعهم بالبقاء . هكذا دفن الذاهبون من أهلك . عم مهران الكهل الطيب بواب عمارة 
الطلبة. العمل والقناعة والأمانة. وقد اشتركت معه فى الخدمة منذ الطفولة . ورغم 
البساطة والفقر كانت الأسرة تفوز فى ختام يومها بجلسة هنية فى الحجرة الأرضية 
بحوش العمارة» الرجل وامرأته يتحادثان والطفل يلعب . ولإيمانه بالله اعتنق الرضى » 
وكان الطلبة يحترمونه . ونزهته الوحيدة كانت فى الحج إلى بيت الشيخ على الجنيدى, 
وعن طريقه عرفت أنت بيت الشيخ . يا سعيد تعال معى» سأدلك على رياضة هى خير 
من اللعب فى الحقل» ستذوق لذة العيش فى جو البركة» بهذا يطمئن قلبك وطمأنينة 
القلب هى خمير زاد فى الدنيا. وتلقاك الشيخ بنظرة عامرة بالحنان فأعجبت أيا إعجاب 
بلحيته البيضاء» وقال يخاطب أباك « هذا ابنك الذى حدثتنى عنه» النجابة فى عينيه» 
قلبه أبيض كقلبك» وستجده إن شاء الله من الطيبين». والحق أنك أحببت الشيخ على 
الجنيدى جدا. فتنتك وضاءة وجهه وإشعاع المحبة المنبثق من عينيه . كذلك أعجبتك 
الأنغام والأناشيد فلعبت بأوتار قلبك حتى قبل أن يهذبه الحب . وقال له عم مهران يوما 
«علم هذا الغلام ماذا يجب عليه أن يفعل» فأجاب الشيخ وهو يحنو عليه بنظرة انحن 
نتعلم من المهد إلى اللحد» ولكن يا سعيد ابدأ بأن تحاسب نفسك. وليكن فى كل فعل 
يصدر عنك خير لإنسان»! واتبعت قوله على قدر استطاعتك ولكنك لم تحققه على أكمل 
وجه إلا حين احترفت اللصوصية! وتتابعت أيام كالأحلام ثم اختفى عم مهران 
الطيب. اختفى الرجل على نحو لم يفهمه الغلام» وبدا الشيخ على الجنيدى نفسه 
عاجزا أمام اللغز . (يا بؤسك. يابؤسنا. مات أبوك» هكذا صاحت أمك وهى تصوت 
وأنت تهز رأسك» وتدعك عينيك لتفيق من النوم بعد أن أيقظك صراخها فى الحجرة 
الأرضية بعمارة الطلبة. وبكيت فزعا لأنه لم يكن فى وسعك أن تفعل شيئا. ولكن تجلت 





4ه الل ص وَالكراتَ 


فى تلك الليلة شهامة رءوف علوان الطالب بكلية الحقوق. كان شهما فى جميع 
الأحوال» وكنت تحبه كما تحب الشيخ على الجنيدى وأكثر» وهو الذى سعى فيما بعد 
إلى أن تحل مكان أبيك فى خدمة العمارة» أو أن تحل أنت وأمك فى مكان أبيك وهو 
الأصدق, فنهضت بالمسئولية فى سن مبكرة» ثم اختفت أمى . وكدت تهلك بسبب 
مرضها كما لا بد أن يذكر رءوف علوان. ويوم النزيف الذى لا ينسى» يوم طرت بها 
إلى أقرب مستشفى . مستشفى صابر الذى يقوم كالقلعة وسط حديقة غناء. وجدت 
نفسك أنت وأمك فى قاعة استقبال عند المدخل فخيمة بدرجة لم تجر لك فى خيال» وبدا 
المكان كله وكأما يأمرك بالابتعاد ولكنك كنت فى مسيس الحاجة إلى إسعاف» إسعاف 
سريع . ودلوه على الطبيب الشهير وهو خارج من غرفة فجرى إليه بجلبابه وصندله 
صائحا «أمى . . الدم. . » فتفحصه الرجل بعينين زجاجيتين مستنكرا ومد بصره إلى حيث 
استلقت الأم على مقعد وثير بثوب كالسخام . وثمة ممرضة أجنبية كانت تراقب ما يجرى 
عن كثب فبإزاء ذلك اكتفى بالاختفاء صامتا. ورطنت الممرضة بلغة لم يفهمها ولكنه 
شعر بأنها تشاركه بعض مأساته . وغضب غضبة رجل رغم حداثة سنه. صاح محتجا 
لاعنا. ورمى بمقعد إلى الأرض فأحدث دويا وتطايرت قشرة مسنده. وجاء خدم 
كثيرون» وما لبث أن وجد نفسه وأمه وحيدين فى الطريق المسقوف بالأغصان. وعقب 
شهر من الحادث ماتت الأم فى قصر العينى . وطيلة احتضارها ظلت قابضة على يدك 
وثأن أن قضول عيلة عينبينا: غيير اللنقن غضون شير المرقن سرقت 4 لول هرق 
سرقت طالبا ريفيا من نزلاء عمارة الطلبة . واتهمك الطالب دون تحقيق وانهال عليك 
ضربا حتى جاء رءوف علوان فخلصك من قبضته» وسوى المسألة بلا مضاعفات. كنت 
إنسانا حقايا رءوف وفضلا عن ذلك كنت أستاذى أيضا. وحين خلا إليك قال بهدوء 
«لاتخف. الحق أنى أعتبر هذه السرقة عملا مشروعا!». ولكنه استدرك محذرا «ولكنك 
ستجد البوليس لك بالمرصاد» . وقال لك أيضا ساخرا «ولن يتسامح القاضى معك مهما 
تكن بواعثك مقنعة فهو أيضا يدافع عن نفسه» . ثم تساءل بالسخرية نفسها: «أليس عدلا 
أن ما يؤخذ بالسرقة فبالسرقة يجب أن يسترد؟». ثم هتف غاضبا: (إنى أتعلم بعيدا عن 
أهلى وأكابد كل يوم عذابا وجوعا وحرمانا». أين ذهبت تلك الحكم يا رءوف؟ لعلها 
ماتت كأبى وأمى وأمانة زوجتى . ولم يكن بد من أن تهجر عمارة الطلبة سعيا وراء الرزق 
فى مكان آخر . وانتظرت عند النخلة الوحيدة فى نهاية الحقل حتى قدمت نبوية فوثبت 
نحوها وقلت لها: لا تخافى» يجب أن أكلمك. أنا ذاهبٍ» سأجد عملا أوفر ربحاء 
وأنا أحبك» لا تنسينى أبداء أنا أحبك وسأحبك دائما وسوف أثبت لك أنى قادر على 
اسعادك وعلى فتح بيت محترم لك . وفى تلك الآيام كانت الأحزان تنسى والجروح تلتثم 
والأمل يحصد الصعاب. فيا أيتها القبور الغارقة فى الظلمة لا تسخرى من ذكرياتى! 


110 





ا لل ص ءَالكاتَ حك 


ونهض من استلقائه فجلس على الكنبة فى الظلام وخاطب رءوف علوان كأنه يراه 
أمامه قائلا ففى سخرية : 

- لو قبلت أن أعمل محررا فى جريدتك يا وغد لنشرت فيها ذكرياتنا المشتركة 

ولخسفت نورك الكاذب. . 

ثم تساءل بصوت مسموع : 

-إلام أطيق أن أبقى فى الظلام حتى تعود نور قبيل الفجر؟ 

واستولت عليه بغتة رغبة لا تقاوم فى أن يغادر البيت للقيام بجولة فى الليل. وانهارت 
مقاومته كما ينهار بناء آيل للسقوط فى ثوان. وفى دقائق كان يغادر البيت فى حذرء فاتجه 
نحو طريق المصانع» ومنه مال نحو الخلاء . وازداد بمغادرة المخبأ وعيا بإحساس المطارد . 
فشارك الفئران والثعابين مشاعرها حين تتسلل . وحيد فى الظلمة» تتربص به المدينة التى 
تلوح أضواؤها فى الأفق» ويتجرع وحدته حتى الثمالة» وجلس إلى جانب طرزان على 
أريكته ولم يكن بداخل القهوة إلا رجل واحد من مهربى السلاح وصبى القهوة على حين 
ضج سفح الهضبة بالسمر. وسرعان ما جاءه صبى القهوة بالشاى» ثم مال طرزان نحوه 
هامسا: 

- لا تقم فى مكان واحد أكثر من ليلة. . 

وقال المهرب: 

- اهرب إلى الصعيد. . 

فتساءل سعيد: 

لا أحد لى فى الصعيد. . 

فعاد المهرب يقول: 

- كثيرون تحدثوا عنك أمامى بإعجاب . . 

فتساءل طرزان يحنق : 

- والبوليس هل يعجب به أيضا؟ 

فضحك المهرب حتى اهتز جسمه هزة غريبة كأنه يمتطى جملا مسرعاء ثم قال: 

-البوليس لا يعجبه العجب! 

- ولا الصيام فى رجب. . 

فقال صبى القهوة يحماس : 

-أى ضرر فى سرقة الأغنياء! 





4 الل ص اكرات 


فابتسم سعيد فى ارتياح كأنه تلقى تحية فى حفل تكريم ثم قال : 
الجرائد لسانها أطول من حبل المشنقة» وماذا ينفعك حب الناس إذا أبنغضك 
البولس؟ 
ونهض طرزان فجأة فاندفع نحو النافذة وأطل منها ملتفتا يمنة ويسرة» ثم عاد يقول 
باهتمام : 
-خيل إلى أنى رأيت وجها ينظر إلينا! 
فالتمعت عينا سعيد» وردد ناظريه بين النافذة والباب. وخرج الصبى مستطلعاء على 
حين قال المهرب : 
- أنت ترى دائما أشياء لا وجود لها. 
فهتف به طرزان : 
- اسكت» أنت تظن أن حبل المشنقة لهو ولعب! 
وغادر سعيد القهوة بيد قابضة على المسدس فى جيبه . ومضى فى الخلاء وهو يتلفت 
ويتصنت فى حذر وتصميم . وتضاعف إحساسه بالمطاردة والوحدة والقلق» وأدرك أنه 
لا يمكن أن يستهين بكتلة الأعداء المفعمة شهوة وخوقًا والتى لن يرتاح لها بال حتى تراه 
جثة هامدة. وعندما اقترب من البيت بشارع نجم الدين رأى النور فى نافذة نور فداخله 
أول شعور بالراحة منذ غادر القهوة. ووجدها راقدة فهم بمداعبتها ولكنه تبين فى وجهها 
إعياء صارخاء واحمرارا فى العينين لا يكون إلا لعلة. وجلس عند قدميها وهو يسأل: 
مالك يا نور؟ 
فقالت بصوت ضعيف جدا: 
- ميتة ! تقايأت حتى مت . . 
-الخمر؟! 
اغرورقت عيناها وهى تقول : 
- طول عمرى وأنا أشرب! 
وكان يرى دمعها لول مرة فتأثر وهو يسأل : 
خاذقها السي؟ 
- ضربونى ! 
+ البواس 4 
- شبان لعلهم طلبة وأنا أطالبهم بالحساب. . 
انحرف جانب فيه فى رثاء وتمتم : 


11100 





١ لل ص وَالكراتت‎ ١ 


-اغسلئ وعنهك واشيريئ قليلا من الماع.': 
فيما بعدء أنا تعبانة جدا . . 


فتمتم غاضبا: 


الكلاب! 
وربت ساقها إعرابا عن رثائه فقالت وهى تشير إلى لفة على الكنبة الأخرى : 
قماش البدلة! 


كصورنه خدانا وامسانا» وقاوت هن تقول كالمعتلارة: 

-لن أروق فى عينيك هذه الليلة . . 

لاعليك؛ اغسلى وجهك ثم نامى. . 

وفصل بينهما الصمت» ونبح فى مشارف القرافة كلب» وصعدت عن نور تنهدة 
كالبخار» ثم ارتفع صوتها وهى تقول فى حزن بالغ : 

-قالت أمامك مستقبل كالورد. . 

فتساءل متعجبا: 
وه 

-ضاربة الودع » وقالت سيجىء الأمان والأطمئنان. . 

فنظر إلى سواد الليل المتراكم خارج النافذة». واستطردت هى تقول : 

- متى يجىء؟ . . الانتظار طال ولا فائدة» ولى صديقة أكبر منى بأعوام تقول وتعيد 

القول أننا نصير عظاما أو أسوأ من ذلك فحتى الكلاب تعافنا. . 

وخيل إليه أن الصوت المتكلم نافذ من قبر فامتلاً شجنا ولم يجد ما يقوله. وقالت هى 

-ضاربة الودع متى تصدقين؟ أين الأمان» أريد نومة مطمئنة وصحوة هنية وجلسة 

وديعة» هل يتعذر ذلك على رافع السماوات السبع؟ ! 

كذلك أنت حلمت بهذه الحياة ورغم ذلك مرت حياتك وكلها تسلق مواسير وقفز من 
الأسطح ومطاردة فى الظلام ورصاصات طائشة تقتل الأبرياء . 

وقال لها واجما: 

- أنت فى حاجة إلى النوم . . 

- أنا فى حاجة إلى الوعدء وعد ضاربة الودع» وسوف يأتى ذلك اليوم. . 

ب لس 

فقالت بحدة: 


- أنت تلاطفنى كأننى طفل . . 





1 / لل ص وَالكاتَ 


الفصل الثانى عشر 


ارتدى بدلة الضابط على سبيل التجربة فحدجته نور بدهشة ولكنها لم تلبث أن قالت 
فى ترسل! 

فأشار إلى البدلة وهو يقول: 

-عن حكمة صنعتها . . 

وتفحص صورته فى المرآة بعناية ثم قال ساخرا : 

- أظن من المناسب أن أقنع برتبة صاغ . . 

ولكنها سمعت عن أسطورته فى الليلة التالية مباشرة» ورأت عديدا من صوره فى 

- قتلت! يا مصيبتى! ألم أتوسل إليك؟ 

فلاطفها بيده قائلا : 

حدث ذلك قبل أن نلتقى . . 

فزاغ بصرهاء وقالت فى شك ويأس : 

- أنت لا تحبنى» أنا أعرف هذا» ولكن كان من الممكن أن نعيش معا حتى تحبنى ! 

- هذه الفرصة موجودة. 2 

لكنك قتلت» ما الفائدة؟ 

فابتسم فى اطمئنان وثقة وقال: 

-ما أسهل أن نهرب معا. 

-ماذا ننتظر؟ 

-حتى تهداً الزوبعة. . 

فضربت الأرض بقدمها قائلة : 


110 





الل صّوَالكلاتَ و 


سمعت أن الجنود يملأون مخارج القاهرة» كأنك أول قاتل . . ! 
الجرائد. . الحرب الخفية! . . ولكنه قال فى هدوء مصطنع : 
- سأهرب حين أقرر الهرب وسترين. . 
وقبض على ضفيرتها كالغاضب وقال موبخا: 
ألا تعرفين من يكون سعيد مهران! الجرائد كلها تتحدث عنه» وأنت لاتؤمنين به 
أصغى إلى » سنعيش معا إلى الأبد»ء وستصدق كلمة ضاربة الودع! 
ومضى فى الليلة التالية إلى قهوة طرزان» هربا من الوحدة وطلبا للجديد من الأنباء . 
وما كاد يظهر عند مدخل القهوة حتى بادره طرزان فذهب به إلى الخلاء بعيدا ثم قال 
معتذرا: 
- لاتؤاخذنى» حتى قهوتى لم تعد بالمكان المأمون لك. . 
فقال سعيدواجما وإن أخفى الظلام وجومه: 
ظئنت الزوبعة قد هدأت . . 
-إنها تزداد كل يوم اشتعالا بسبب الجرائد» اختف. ولكن لا تُحاول الخروج من 
القاهرة الآن. . 
ألا تجد الجرائد موضوعا غير سعيد مهران؟ 
-إنها تقص على الناس أنباء غزواتك الماضية حتى أثارت عليك المحافظة . . وهم 
بالذهاب فقال له طرزان وهو يودعه: 
- فلنتقابل بعيدا عن القهوة إذا شئت. . 
وعاد إلى مخبئه فى بيت نور. إلى الوحدة والظلمة والانتظار. وهتف بغضب : 
- أنت يا رءوف وراء كل ذلك . . 
جميع الجرائد سكتت أو كادت إلا جريدة «الزهرة». ما زالت تنبش عن الماضى 
وتستفز البوليس . إنها توشك أن تنادى ببطولته سعيا وراء القضاء عليه . ولن يهدأ رءوف 
علوان حتى يطوق عنقه بحبل المشنقة . ومعه القانون والحديد والنار. وأنت هل لحياتك 
التالفة معنى إلا أن تقضى على أعدائك . عليش سدرة مجهول المكان ورءوف علوان فى 
قصر من حديد . ولكن ما معنى حياتك إن لم تؤدب أعداءك؟ ولن تحول قوة دون تأديب 
الكلاب. أجل لن تحول دون ذلك قوة. وبصوت مسموع تساءل : 
-رءوف علوان» خبرنى كيف يغير الدهر الناس على هذا النحو البشع؟! 
الطالب الثائر. الثورة فى شكل طالب . وصوتك القوى يترامى إلى عند قدمى أبى فى 





31 , لل ص لكات 


حوش العمارة قوة توقظ النفس عن طريق الأذن. عن الأمراء والباشوات تتكلم . وبقوة 
السحر استحال السادة لصوصا. وصورتك لا تنسى وأنت تمشى وسط أقرانك فى طريق 
المديرية بالجلابيب الفضفاضة وتمصون القصب . وصوتك يرتفع حتى يغطى الحقل 
وتسجد له النخلة تلك هى الروعة التى لم أجد لها نظيرا ولا عند الشيخ الجنيدى . هكذا 
كنت يا رءوف . وبفضلك وحدك ألحقنى أبى بالمدرسة . وعند إحراز النجاح ضحكت 
ضحكة عظيمة ولوالدى قلت «أرأيت؟ . . لم تكن تريد أن تعلمه. انظر إلى عينيه» 
سيكون من يقوضون الأركان». وغلمتتى حب الكتاب وناقشدى كأنى ند لك.. وكدت 
بين المستمعين لك عند النخلة التى نبتت عند جذورها قصة حبى وكان الزمان تمن 
يستمعون لك. الشعب. . السرقة. . النار المقدسة. الثروة. . الجوع . . العدالة المذهلة. 
ويوم اعتقلت ارتفعت فى نظرى إلى السماء . وارتفعت أكثر يوم حميتنى عند أول سرقة . 
ويوم رد حديثك عن السرقة إلى كرامتى . ويوم قلت لى فى حزن «سرقات فردية لا قيمة 
لهاء لابد من تنظيم!». ولم أكف عن القراءة والسرقة بعد ذلك . وكنت ترشدنى إلى 
الأسماء الجديرة بالسرقة. ووجدت فى السرقة مجدى وكرامتى. وأغذقت على أناس 
كان من بينهم للأسف عليش سدرة. وبصوت غاضب قال فى الحجرة المظلمة : 

أأنت حقا رءوف علوان صاحب القصر! أنت الثعبان الكامن وراء حملة الصحف؟ ! 
تود أن تقتلنى كما كان الآخرون. وكما تود أن تقتل ضميرك . وكما تود أن تقتل الماضى . 
لكنى لن أموت قبل أن أقتلك . أنت الخائن الأول . ما أعبث الحياة إن قتلت غدا جزاء قتل 
رجل لم أعرفه . فلكى يكون للحياة معنى وللموت معنى يجب أن أقتلك . لتكن آخر 
غضبة أطلقها على شر هذا العالم. وكل راقد فى القرافة تحت النافذة يؤيدنى . ولأترك 
تفسير اللغز للشيخ على الجنيدى . . 

وعند أذان الفجر سمع الباب وهو يفتح. وجاءت نور حاملة الشواء والشراب 
والجرائد» وبدت مبسوطة شوية كأنما نسيت أشجان الأمس وأحزان أمس الأول. الدنيا 
بطعامها وشرابها وأخبارها. وقبلته فقبلها بامتنان» وبلا تكلف لأول مرة. ود ألا تغيب 
عنه. وهى القلب الذى يودعه الحب قبل الموت. وفض سداد الزجاجة فى مجلسهما 
المعتاد فملاً كوبا ثم صبه فى جوفه نارا. وسألته وهى ترنو إلى وجهه المتعب : 

-لم لم تنم؟ 

وكان يتصفح الجرائد فلم يجب فمضت تقول بإشفاق : 

-الانتظار فى الظلام عذاب. . 

فسألها وهو يرمى بالجرائد جانبا : 

- كيف الحال فى الخارج؟ 


11100 





/ لل صّوَالكلاتَ م 


كحاله كل يوم. . 

ونضت عنها ثيابها إلا قميصا شفافا فسطعت أنفه رائحة بودرة ملبدة بالعرق» ثم 
استطردت : 

- ويتحدث عنك ناس كأنك عنترة ولكنهم لا يدرون عذابنا. . 

فقال ببساطة : 

أكثرية شعبنا لا تخاف اللصوص ولاتكرههم. . 

وتواصلت خمس دقائق فى التهام الشواء ثم قال: 

- ولكنهم بالفطرة يكرهون الكلاب. . 

فقالت باسمة وهى تلعق أناملها : 

-أنا أحب الكلاب . . 

-لا أعنى هؤلاء. . 

-تعمء ولم يخل بيتى منها أبدا حتى شهدت موت آخر واحدة وبكيت كثيرا فصممت 

ألا أعاشرها مرة أخرى . . 

فقال ساخرا: 

- ينبغى أن نتجنب الحب إذا توعدنا بالتعب. . 

- أنت لا تفهمنى ولا تحبنى . . 

فقال برجاء . 

- لا تكونى ظالمة» ألا ترين أن الدنيا كلها ظالمة؟ ! 

وأفرطت فى الشراب حتى دار رأسها واعترفت له بأن اسمها الحقيقى هو شلبية 
وقصت عليه نوادرمن عهد البلينا. الطفولة والمياه الراكدة والشباب والهرب . ثم قالت 
بخيلاء : 

- وأبى كان عمدة. . 

فال ببساطة : 

كان خادم العمدة! 

قطبت ولكنه بادرها قائلا : 

-أنت التى قلت فى الزمان الأول. . 

فضحكت كاشفة عن أسنان مغطاة بالبقدونس وقالت: 

أقلت ذلك حما؟ 





75 الل صّوَالكراتت 


فقال بحدة: 

- ولذلك انقلب رءوف علوان خخاثنا. . 

فحدجته بنظرة إنكار متسائلة : 

من رءوف علوان؟ 

فقال بسخط : 

لا تكذبى» إن من يعانى الظلمة والوحدة والانتظار لا يطيق الكذب . . 


الفصل الثالث عشر 


عقب منتصف الليل اخترق سعيد الصحراء وفى الجانب الغربى من السماء شىء من 
القمر. وعلى مبعدة مائة متر من هضبة القهوة صفر ثلاثا وراح يننظر. لم يكن بد من أن 
يضرب ضربته أو يجن . وكان يأمل أن يجد عند طرزان الخبر . وما لبث أن جاء طرزان 
كموجة من الظلام فتعانقا ثم سأله : 

-هل من جديد؟ 

فقال الرجل وهو يلهث بما يتناسب مع سمانته : 

أخيرا جاء واحد منهم . . 


دمن ؟ 
فشد على يده قائلا : 


المعلم بياظة وهو الآن فى القهوة يعقد صفقة. . 

-لم يضع الانتظار هباء» ماذا تعرف عن طريقه؟ 

- سيرجع من طريق الجحبل . . 

- تشكر يا معلم. . 

وابتعد مسرعا نحو الشرق مهتديا بالضوء الوانى حتى الغابة المحدقة بعيون المياهء 
وسار بحذاء ضلعها الجنوبى حتى رأسها المدبب الغائص فى الرمال عند بدء الطريق 
المنحدر نحو الجبل . توارى وراء شجرة متربصا. وجرى هواء جاف منعش فصدرت عن 
رقعة الغابة الصغيرة وشوشة,» وترامى الخلاء كالغناء» ويده قابضة على المسدس» يفكر 


11100 





/ لل ص وَالكلاتت /ا5 


فى الفرصة الممكنة» فى الانقضاض على عدوه غير المنتظرء ثم فى بلوغ الهدف المضنى» 
وأخيرا فى الهلاك كآخر مستقر. وقال بصوت لم تسمعه الأشجار الثملة بالهواء : 

- عليش سدرة ثم رءوف علوان فى ليلة واحدة» ثم ليكن ما يكون. . 

وتوثب يصارع الانتظار ولكن لم يطل به الانتظار فما لبث أن لاح شبح يسرع فى 
الظلام آتيا من ناحية الهضبة نحو رأس الغابة. ولما لم يعد بينه وبين بدء الطريق إلا متر 
اندفع سعيد من مكمنه مصوبا نحوه مسدسه هاتفا: 

دقف.. 

وتسمر الشبح كأنه تكهرب» وحملق فى الرجل دون أن ينبس بكلمة» فقال سعيد: 

- بياظة أنا أعرف أين كنت وماذا فعلت ومقدار ما تحمل من نقود. . 

فوضح تنفس الشبح كالفحيح وندت عن ذراعه حركة خفيفة مترددة سرعان ما 
همدت » وغمغم: 

فلوس العيال! 

فلطمه على وجهه لطمة زادت الليل سوادا فى عينيه وقال بنبرات منطلقة : 

- ألم تعرفنى يا بياظة الكلب؟! 

فهتف بياظة : 

-من؟. . عرفت الصوت ولكنى لم أصدق . . سعيد مهران؟ ! 

لا تتحرك» ستقتل عند أول حركة. . 

- أنت تقتلنى! لم؟ ليس بيننا عداوة! 

فمد سعيد يده إلى صدره حتى عثر على الكيس المثقل ثم انتزعه من مربطه بقوة وهو 
يقول: 

هذه واحدة! 

فهتف بياظة بجزع : 

- هذا مالى»ء ولست عدوا لك. . 

اخرس» لم آخذ كل ما أريد بعد. . 

- بيننا زمالة يجب أن تحترم . 

فحرك المسدس فى يده وقال: 

إذا أردت النجاة بحياتك فخبرنى أين يقيم عليش سدرة؟ 

فقال الرجل بتوكيد: 





1 الل صّوَالكلاتَ 


-لا أعرف ولا أحد يعرف. . 

فلطمه لطمة أخرى أشد من الأولى وصاح بغضب: 

- سأقتلك إن لم تدلنى على مكانه» ولن تسترد نقودك حتى أتأكد من صدقك! 

فقال الرجل بنبرة متألمة : 

-لا أعرف,» أقسم لك أنى لا أعرف. . 

-كذاب! 

أحلف لك بالطلاق إن شئت! 

-هل ذاب كما يذوب الملحم؟ 

فقال بنبرة تستجدى تصديقه : 

- لا أعرف ولا أحد يعرف» انتقل من شقته عقب زيارتك له خوفا من بطشكء انتقل 
إلى روض الفرج . . 

-عنوانه؟ 

- انتظر يا سعيد» بعد قتل شعبان حسين سافر ومعه أسرته دون أن يخبر أحدا عن 
وجهته» كان مرتعبا وكانت المرأة مرتعبة» ولايدرى أحد عنهما شيئا! 

دياف 

أحلف لك بالطلاق بالثلاثة! 

فلطمه الثالثة فتأوه وصاح بصوت ممزق: 

-لم تضربنى يا سعيد؟ ربنا يجحمه حيث يكون» أهو أخى أو أبى حتى أموت 
سبي 

وصدقه فى النهاية على رغمه» ويئس من العثور على غريمه . ولو لم تكن تطارده 

جريمة قتل لصبر وانتظر حتى تحين الفرصة ولكن الرصاصة الطائشة أصابت أعز أمانيه . 
وإذا ببياظة يقول : 

د أنت ظلسس ! 

فلم ينبس فاستطرد الرجل : 

وقلوني؟] 

وتحسس الرجل خديه الملتهبتين ثم قال 

- أنا لم أسئ إليك فلا يحق لك أن تغتصب مالى» ولى عليك حق الزمالة! 

فقال باحتقار: 


1110م 





/ لل صٌوالكلات 54 


كنت ضمن أعوانه. . 

- كنت صديقه وشريكه ولا يعنى هذا أن أكون عدوكء ولا شأن لى بخيانته . . 

انتهى الصراع ولم يبق إلا التراجع » وقال سعيد بصراحة : 

-إنى فى حاجة إلى نقود. . 

فبادره بياظة : 

- لك ما تشاء. . 

قنع سعيد بعشرة جنيهات . وذهب الرجل وهو لا يصدق بالنجاة. ووجد سعيد نفسه 
كما بدأ وحيدا فى الخلاء وقد تجلى ضوء القمر بوضوح أكثر وارتفعت مناجاة الأشجار. 
يبدو أن عليش سدرة قد أفلت من مخالب التأديب . نجا بخيانته ليزيد الخونة الآمنين 
واحدا. أما أنت يا رءوف فالأمل الباقى فى ألا تضيع حياتى عبثا . . 


رجع إلى البيت ثم غادره ضابطا برتبة صاغ والساعة تدور فى الواحدة. اتجه إلى 
شارع العباسية متجنبا أضواء المصابيح متخذا مشية طبيعية جدا بفضل قوة أعصابه. 
واستقل تاكسى إلى جسر الجلاء» ومر فى طريقه بأفراد من الشرطة فلم يرت لمنظرهم 
بطبيعة الحال. وذهب إلى مرسى القوارب القريب من الجسر فاكترى قاربا صغيرا لملة 
ساعتين ومضى يجدف جنوبا صوب قصر رءوف علوان فى هواء رطيب وتحت سماء 
صافية مرصعة بالنجوم وتربيع القمر معلق فوق أشجار الشاطئ. وكان يشعر بفورة نشاط 
عجيب وبأن حدثا متفجرا سينطلق عما قريب من صدره. أقنع نفسه بأن نجاة عليش 
سدرة ليست هزية مادام سينزل عقابه برءوف علوان» إذ أن رءوف هو رمز الخيانة التى 
ينضوى تحتها عليش ونبوية وجميع الخونة فى الأرض . وقال لرءوف علوان وهو يجدف 
بقوة: جاء وقت الحساب» ولو كان الحكم بيننا غير الشرطة لضمنت تأديبك أمام الناس 
جميعاء الناس معى عدا اللصوص الحقيقيين» وذلك ما يعزينى عن الضياع الأبدى . أنا 
روحك التى ضحيت بها ولكن ينقصنى التنظيم على حد تعبيرك» وأنا أفهم اليوم كثيرا ما 
أغلق على فهمه من كلماتك القديمة» ومأساتى الحقيقية أننى رغم تأييد الملايين أجدنى 
ملقى فى وحدة مظلمة بلا نصير» ضياع غير معقول ولن تزيل رصاصة عنه عدم معقوليته 
ولكنها ستكون احتجاجا داميا مناسبا على أى حال» كى يطمئن الأحياء والأموات ولا 
يفقدون آخر أمل . ومال بالقارب نحو الشاطئ فى نقطة تواجه القصر على وجه 





07 الل ص وَالكات 


التقريب . وهبط منه إلى الأرض ثم جذبه بقوة حتى صار مقدمه فوق السفح» ثم ارتقى 
المنحدر إلى الكورنيش مكتسبا من بدلته الرسمية ثقة وطمأنينة . لاح الطريق خاليا ولا أثر 
لمخبر حول القصر فانبعث الارتياح فى نفسه ولم يخل فى الوقت نفسه من حنق . واكتنف 
الظلام القصر عدا مصباح الباب فتأكد لديه أن صاحب القصر لم يرجع بعد وأن ذلك 
سيعفيه من اقتحام البيت ويذلل له أكثر من عقبة . وفى مشية طبيعية مضى إلى الشارع إلى 
يسار القصر فقطعه حتى آخره ثم مال مع شارع الجيزة نحو الشارع الآخر إلى يمين القصر 
عائدا منه إلى الكورنيش وهو يتفحص المكان كله ببصر من حديد. ومضى نحو شجرة 
فلبد فيما يليها من رقعة محجوبة عن مصباح الطريق وراح ينتظر. واستقرت عيناه على 
القصر طيلة الوقت عدالحظات كان يريحهما بالنظر إلى سطح الماء المعتم» ودارت أفكاره 
أثناء ذلك حول خيانة رءوف» والخدعة التى حطمت حياته» والضياع الذى يحدق به» 
والموت الذى يسد طريقه» وكيف أن كل أولئك جعل من موت رءوف أمرا لا بد منه. 
وكان يتابع كل سيارة قادمة وهو يتوثب . وأخيرا توقفت سيارة أمام باب القصر وراح 
البواب يفتح الباب على مصراعيه . وأسرع سعيد نحو الشارع إلى يسار القصرء سار 
ملاصقا للسور» ثم توقف عند نقطة محاذية للسلاملك حيث سيغادر الرجل سيارته . 
وتهادت السيارة فى تمشى الحديقة حتى وقفت أمام السلاملك . وأضئ المصباح فغمر 
النور المدخل كله . أخرج سعيد مسدسه وصوبه نحو الهدف . وفتح باب السيارة. نزل 
رءوف علوان. وصاح سعيد: 

-رعوف! 

انتبه الرجل إلى مصدر الصوت فى دهشة فصاح سعيد : 

أنا سعيد مهران. . خذ. . 

غير أنه فى نفس الوقت انطلقت نحوه من الحديقة رصاصة أصاب أزيزها صميم أذنه . 
حدث ذلك قبيل أن يطلق مسدسه فاضطرب اضطرابا مفاجئا وهو يطلق النار. وانحنى 
بسرعة ليتفادى من الرصاص المتتابع . ولكنه رفع رأسه فى تصميم يائس وحذر وسدد 
مسدسه مرة أخرى وأطلق رصاصة وأخرى فى عجلة ولهوجة. وقع ذلك كله فى ثوان ثم 
انطلق يعدو بأقصى سرعة نحو شاطئ النيل فوثب نحو القارب. ودفعه إلى الماء» وفى 
الثانية التالية كان يجدف بكل قوته نحو الشاطئ الآخر. دار شعوره حول نفسه 
كالدوامة» وانطلقت قواه من أعمق مكامنها مباشرة وبلا أدنى وعى» وخيل إليه أن 
رصاصا ينطلق» وأصواتا تتجمع»ء وأن بعض جسمه يذوب . وكانت المسافة بين 
الشاطئين فى منطقة عبوره ضيقة فسرعان ما بلغ الشاطى. ووثب إليه تاركا القارب 
للموج يفعل به ما يشاء. وصعد إلى أرض الشارع بيد قابضة على المسدس فى جيبه . 


1110م 





الل ضّوَالكراتَ 7 


ورغم ما شعر به من تشتت فقد سار على مهل» وفى هدوءء لا يلتفت يمنة ولاايسرة. 
وتأكد لديه أن أقداما تتدافع نحو الشاطئ» وأن أصواتا تحتدم وتعلو فوق الجسرء 
واخترقت الجو الخامل صفارة مجنونة . وتوقع فى كل لحظة أن يلحق به مطارد . وتأهب 
للتمثيل بكافة احتمالاته أو لدخول المعركة الأخيرة. ومر به تاكسى قبل أن يقع حادث 
فناداه» واستقلهء وما كاد يتخذ مجلسه حتى شعر بألم حاد ولكنه رغم ذلك شعر بنعمة 
النجاة. وتسلل إلى المسكن فى ظلام حالك. واستلقى على الكنبة ببدلته الرسمية. 
وعاوده الألم كاشفا هذه المرة عن مكانه فوق الركبة فامتدت يده إليه فاستشعر سائلا 
لزجا. أووه. . هل ارتطم بشىء؟ رصاصة؟ وراء السور أم وهو يجرى؟ وتحسس 
موضعه فرجح لديه أنه مجرد جرح سطحىء, ولو كان رصاصة فقد احتكت به ولم تنفذ 
فيه. وقام فخلع البدلة فى الظلام وفتش عن جلبابه فوق الكنبة فارتداه. وذرع الحجرة 
ليطمئن على رجله. قديما أنت قطعت شارع محمد على جريا برصاصة مستقرة لساعتها 
فى ساقك . أنت قادر على فعل العجائب . وقد تفوز بالهرب أيضا. أما الجرح فقليل من 
البن يضمده. ولكن هل قتل رءوف علوان؟ ومن الذى أطلق النار من الحديقة؟ حذار أن 
تكون أصبت ضعيفا بريئا آخر . ولكن لا بد أن رءوف علوان قد قتل فيدك لا تخطى. 
كما شهدت بذلك الصحراء وراء الهضبة . وسوف ترسل خطابا إلى الصحف بعنوان 
«الماذا قتلت رءوف علوان» . عند ذاك تسترد الحياة معناها المفقود. فالرصاصة التى 
تقتل رءوف علوان تقتل فى الوقت نفسه العبث . والدنيا بلا أخلاق ككون بلا جاذبية . 
ولست أطمع فى أكثر من أن أموت موتا له معنى . 

وأقبلت نور فى غاية من الإعياء محملة بالطيبات» وقبلته كعادتها وانبسطت أساريرها 
لتلقى بتحية لقاء ولكن بصرها جمد فجأة على البنطلون فنحت اللفة على الكنبةهاتفة : 

-دم! 

ولحظ ذلك لأول مرة فكشف عن رجله قائلا: 

- جرح بسيط نتيجة ارتطام بباب التاكسى . 

فصاحت: 

أنت خرجت مرتديا البدلة لسبب» أنت لن تقف عند حد. وسوف أموت كمدا. . 

- قليل من البن يشفى هذا الجرح قبل طلوع الصبح. . 

طلوع الروح! أنت تقتلنى قتلاء آه. . متى يزول الكابوس؟ ! 

ونشطت فى نرفزة فكبست الجرح بالبن وعصبته بقصاصة من بقايا الفستان الذى 
كانت تخيطه» وظلت طيلة الوقت تندب حظها . وقال لها: 

خذى دشا فهذا أنفع لك. . 





١ 7‏ لل ص وَالكلاتَ 


فذهبت وهى تقول : 

ولا رجعت إلى مجلس حجرة النوم كان قد شرب ثلث الزجاجة فعاوده شىء من 
الاستقرار المريح » واستقبلها قائلا : 

- اشربى» أنا هنا فى مكان آمن مطمئن لن تمتد إليه عين البوليس . . 

فقالت فى نكد وهى تمشط شعرها المبتل : 

-أنا تعيسة جدا. . 

- من يستطيع أن يحكم عن الغد؟ 

-عملنا! 

- أنت تقول هذا! 

وأكثر» أنت جنة وسط الرصاص الذى يجد ورائى . : 

وتنهدت تنهدة طويلة كمناجاة فى الليل فقال: 

-أنا تعيسة» لا أود إلا أن تبقى فى السلامة . . 

-ما تزال أمامنا فرصة. . 

-الهرب! فكر فى الهرب. . 

نعم . . ولكن لننتظر حتى يغمض الكلب عينيه. . 

فقالت بحدة: 

ولكنك تخرج بلا مبالاة» تود أن تقتل زوجتك والرجل الآخرء ولن تقتلهما 

سائق تاكسى » دافع عنك بحرارة ولكنه قال إنك قتلت رجلا ضعيفا بريئا . 2 

ونفخ فى غضب » ودارى ألمه الطافح بشربة مليئة» وأشار لها لتشرب فرفعت الكوب 
إلى فيها. وتساءل: 

وماذا سمعت أيضا؟ 

فى العوامة التى سهرت فيها قال أحدهم عنك إنك منبه مسل فى الملل الراكد. . 


1110 





/ لل لكات 7و 


- وأنت ماذا قلت؟ 

فلحظته بعتاب وقالت: 

ولا كلمة» أنا أحافظ عليك, أما أنت فلا تحافظ على نفسك» وأنت لا تحبنى 
ولكنك أعز على من النفس والحياة» وطول عمرى لم أعرف السعادة إلا بين يديك 
ولكنك تفضل الهلاك على حبى. . 

وبكت والكوب فى يدها فطوقها بذراعه وهمس فى أذنها : 

- ستجديننى عند وعدى» سنهرب ونعيش معا إلى الأبد. . 


الفصل الخامس عشر 


يا للعناوين الضخمة والصور المثيرة كأنه الحدث الأكبر الذى تتلقفه الصحف . وسألوا 
رءوف علوان فأجاب أن سعيد مهران كان خادما فى عمارة الطلبة على عهد إقامته بها 
وأنه كان يعطف عليه كثيراء وأنه زاره بعد خروجه من السجن مستجديا فأعطاه مالا ليبدأ 
حياة جديدة ولكنه حاول سرقة بيته فى الليلة نفسها فقبض عليه وعنفه ولكنه أطلق 
سراحه رحمة به» وجاء أخيرا ليقتله! واتهمته الصحف بالجنون. جنون العظمة والدم. 
لقد أفقدته خيانة زوجته عقله فهو يطلق النار بلا وعى. ولم يصب رءوف علوان ولكن 
البواب المسكين سقط . برىء ضعيف آخر . 

وصاح سعيد وهو يقرأ الخبر: 

اللعنة! 

الدوى يقرع بقوة صاروخية. وثمة مكافأة ضخمة لمن يرشد إليه . ومقالات تحذر 
الشعب من العطف عليه. أنت أهم ما فى الحياة اليوم. وستظل كذلك حتى تزهق 
روحك. إنك مثار الخنوف والإعجاب كالظاهرات الطبيعية الخارقة. وسيدين لك 
بالسرور كل من خنقه الملل. أما مسدسك فالظاهر أنه لا يقتل إلا الأبرياء وستكون أنت 
آخر ضحية له . وتساءل بصوت جاف: 

أهذا هو الجنون؟! 

كنت دائما تطمح إلى زلزلة الكون من أساسه . حتى وأنت مجرد بهلوان وغزواتك 
الظافرة للقصور كانت خخمرا يسكر يها رأسك الفخور. وكلمات رءوف التى آمنت بها 
وكفر بها قاكلها أطاحت برأسك حتى الموت . 





١ 7:‏ لل ص وَالكلاتت 


ولبث وحيدا فى الليل» وكان فى الزجاجة خمر فشربها حتى آخر نقطة. ووقف فى 
الظلام يطوقه صمت المقابر ودار رأسه رويدا. وشعر بأنه يتغلب على الصعاب ويستهين 
بالموت ويطرب لأنغام خفية . وقال مخاطبا الظلام : 
-رصاصة طائشة جعلت منى رجل الساعة . . ! 
ومضى إلى الشيش فنظر من خلاله إلى القرافة وقد رقدت القبور تحت ضوء القمر 
وقال: 
-يا حضرات المستشارين اسمعوا لى جيدا فقد قررت الدفاع عن نفسى بنفسى . . 
ورجع إلى وسط الحجرة ثم نزع عنه جلبابه لشدة الحرارة فى الحجرة ولارتفاع الحرارة 
فى جوفه من فعل الخمر . واختلج جرحه بالألم تحت العصابة فآمن بأنه آخذ فى الالتثام . 
وحملق فى الظلام قائلا : 
- لست كغيرى تمن وقفوا قبلى فى هذا القفصء إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم 
اعتبار خاص» والواقع أنه لا فرق بينى وبينكم إلا أنى داخل القفص وأنتم خارجه» 
وهو فرق عرضى لا أهمية له ألبتة» أما المصحك حقا فهو أن أستاذى الخطير ليس 
إلا وغدا خائناء ويحق لكم العجبء. ولكن يحدث أن يكون السلك الموصل 
للكهرباء قذرا ملطخا بإفرازات الذباب. . 
ومال نحو الكنبة فاستلقى عليها. . وترامى إليه من بعيد نباح كلب . ولكن كيف 
تطمئن على قضاتك وبينك وبينهم خصومة شخصية لا شأن لها بالصالح العام؟! . إنهم 
أقرباء للوغد ويفصل بينك وبينهم قرن من الزمان. وأنت تطالب بشهادة الضحية. 
وتؤكد أن الخيانة باتت مؤامرة صامتة . . 
أنا لم أقتل خادم رءوف علوان» كيف أقتل رجلا لا أعرفه ولا يعرفنى؟ إن خادم 
رءوف علوان قتل لأنه بكل بساطة خادم رءوف علوان» وأمس زارتنى روحه 
فتواريت خجلا ولكنه قال لى ملايين هم الذين يقتلون خطأ وبلا سبب. . 
ستتألق هذه الكلمات وتتوج بالبراءة. أنت واثق مما تقول. وفضلا عن ذلك فهم 
يؤمنون فى قرارة أنفسهم بأن مهنتك مشروعة» مهنة السادة فى كل زمان ومكان» وأن 
القيم الزائفة حقا فهى التى تقدر حياتك بالملاليم وموتك بألف جنيه . وقاضى اليسار 
سأطلب دائما رأس رءوف علوان ولو كآخر طلب من عشماوى» حتى قبل رؤية 
ابنتى » وأنا مضطر إلى ألا أعد العمر بأيام لأن المطارد يقتات بزمنه انفعالات تنهال عليه 
فى وحدته كالمطر. . 


111 0 





الل ص والكراتَ 7 


لن يكون الحكم أقسى من جفول سناء . قتلتك قبل المشنقة وعطف الملايين عليك 
عطف صامت عاجز كأمانى الموت . ألا يغفرون للمسدس خطأه وهو ربهم الأعلى؟ 
- إن من يقتلنى إغا يقتل الملايين» أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء» وأنا المثل والعزاء 
والدمع الذى يفضح صاحبه» والقول بأننى مجنون ينبغى أن يشمل كافة العاطفين 
فادرسوا أسباب هذه الظاهرة الجنونية واحكموا بما شئتم. . 
واشتد به الدوار فقضى بأنه عظيم بكل معنى الكلمة عظمة هائلة ولكنها مجللة 
بالسواد عشيرة للمقابر ولكن عزتها ستبقى بعد الموت . وجنونها تباركه القوة السارية فى 
جذور النبات وخلايا الحيوان وقلب الإنسان. وسرقة النوم فلم يدر كيف سرقه»ء ولم 
يفطن إلى أنه نام حقا إلا حين استيقظ على ضوء يغمر الحجرة. وفتح عينيه فرأى نور 
واقفة تنظر إليه من عينين ميتتين وقد تدلت شفتها السفلى واحدودب ظهرها فى قنوط » 
بدت مثالا صادقا لليأس والضياع . أدرك ماوراء ذلك فى ثانية . لقد سمعت عن الجريمة 
الأخيرة فانكمشت أنفاسها . 
- أنت أقسى مما أتصورء لا أفهمك, ولكن بالله اقتلنى رحمة بى. . 
وجلس على الكنبة دون أن ينبس . 
- أنت تفكر فى القتل لا فى الهرب». وسوف تقتل» هل تظن أنك ستهزم الحكومة 
بجنودها الذين يملأون الشوارع؟ 
اجلسى ولنتحدث فى هدوء 
- من أين لى الهدوء؟ وفيم نتحدث؟ انتهى كل شىء, اقتلنى رحمة بى. . 
فقال بهدوء رقيق : 
د لأا سوه اذا 
-لن أصدق كلمة ما تقول» لماذاتقتل البوابيين؟ 
فهتف بحدة : 
- لم أقصد مسه بسوء! 
والآخر؟ من هو رءوف علوان؟ ماذا بينك وبينه؟ أكانت له علاقة بزوجتك؟ 
فضحك ضحكة جافة كالسعلة : 
- فكرة مضحكة! ثمة أسباب أخرىء إنه خائن أيضا ولكن من نوع آخرء لا أستطيع 
أن أفهمك كل شىء. . 
- ولكنك تستطيع أن تعذبنى حتى الموت . . 





7 الل ص والكلات 


قلت اجلسى لنتحدث فى هدوء. : 

-أنت لازلت تحب زوجتك» تلك الخائنة» ولكنك تعذبنى أنا. : 

فقال متوجعا: 

- نور لا تزيدينى عذاباء أنا فى غاية من النتكد. . 

وصمتت متأثرة بتوجعه الذى لم تره من قبل . ثم قالت بحزن شديد: 

- إنى أشعر بأن أعز ما فى حياتى يحتضر. . 

- وهم وخوفء أما المغامر مثلى فلا يعترف بالشدائدء سأذكرك بذلك. . 
فتساءلت بلهجة ندب: 

- متى ؟ 

فقال مدعيا ثقة لا حد لها: 

- أقرب مماتتصورين! 

ومال نحوها فجذبها من يدها إليه»ء ولصق جبينها بجبينه حتى امتلا أنفه برائحة الخمر 


اقترب الفجر ونور لم تعد. أنهكه الانتظار والفكر حتى شعر بضربات السهاد تنهال 
على جمجمته . وإذا بالظلمة الحارة تنحسر عن تساؤل أحمر : هل يمكن أن تلعب المكافأة 
الموعودة بقلب نور؟ حقا تلوث دمه بسوء الظن لآخر قطرة. والخيانة فى عينيه أضحت 
كرائحة الغبار فى اليوم الخماسينى . وكم ظن فى الماضى أن نبوية ملك يديه» ولعلها فى 
الواقع لم تحبه قط حتى على عهد النخلة الوحيدة فى نهاية الحقل. ولكن رغم ذلك كله 
فنور لن تخونه؛ ولن تسلمه إلى البوليس طمعا فى مكافأة» فقد ضجرت من المعاملات 
وتقدم العمر وباتت تحن إلى عاطفة إنسانية خالصة . ينبغى أن يندم على سوء ظنه» ولكن 
متى تعود نور؟ لقد اشتد بك الجوع والظمأ والانتظار. كحالك يوم وقفت تحت النخلة 
تنتظر . تنتظر نبوية ونبوية لا تجىء. وجعلت تحوم حول بيت العجوز التركية وأنت تقضم 
أظافرك» وكدت من اليأس أن تطرق الباب فى طيش جنونى . أى هزة فرح كانت تسكر 
جوارحك عند بزوغ طلعتها! هزة شاملة متغلغلة مطربة مسكرة تشدك من أطراف 
أصابعك إلى السماء السابعة. فيها الدمعة والضحكة والاندفاع والثقة الجامحة. ولكن لا 
تتذكر عهد النخلة بعد ما انقضى وفصل بينك وبينه الدم والرصاص والجنون. انظر ماذا 


11101 





الل ص وَالكراتت ا 


أنت صانع بمرارة الانتظار فى هذه الظلمة ا حارة القاتلة . يبدو أن نور لا تريد أن تعود, لا 
تريد أن تنقذه من عذاب الوحدة والظلمة والجوع والظمأ. ورغم كل شىء فقد نام وهو 
أيأس ما يكون من الندم . ولما فتح عينيه رأى الشيش ينضح بنور النهار ووهج الحر يشتعل 
فى الحجرة المغلقة. ووثب إلى أرض الحجرة فى انزعاج ثم انتقل إلى حجرة النوم 
فوجدها كما تركتها المرأة أمس. ودار بالشقة» كلاء نور لم تعدء ترى أين باتت المرأة» 
وماذا منعها عن العودة؟ وإلام يقضى عليه بهذا السجن المنفرد؟ وقرصه الجوع رغم قلقه 
وأفكاره فذهب إلى المطبخ فوجد فى الصحاف كسر من الخبز وفتات لحم عالقة بالعظام 
وبعضا من البقدونس فأتى عليها فى نهم شديد وتمصمص العظام ككلب . وتقضى النهار 
وهو يتساءل عن غيابها وهل تعود» يجلس حينا ويتمشى حينا آخر. ولم يجد من تسلية 
إلاافى النظر من الشيش إلى القرافة» ومتابعة الجنازات» وعد القبور دون جدوى . وجاء 
المساء ولم تعد . لا يمكن أن يقع هذا بلا سبب . أين نور؟ مزقه القلق والضيق والجوع . 
نور فى مأزق بلا ريب . ولكن يجب أن تخلص من مأزقها ثم تعود وإلا فكيف تمضى به 
الحياة! 

وغادر البيت عقب منتصف الليل دون أن يسمع همس حذائه أحد. وقطع الخلاء نحو 
قهوة طرزان. وعند موقفه المعتاد صفر ثلاثا وانتظر حتى جاءه المعلم طرزان. وصافحه 


الرجل وهو يقول له: 
دكن شريد المووي له يسان امد ار 
أريد طعاما! 


يا خبر أبيض ! جوعان! 

-نعم» لا تعجب لشىء يا معلم! 

- سأرسل الولد ليحضر لك الكباب» ولكن من الخطر حقا أن تخرج. . 

- تعرضنا فيما مضى لأخطار أشدء أنا وأنت. . 

كلاء الهجمة الأخيرة قلبت عليك الدنيا. . 

- طول عمرها وهى مقلوبة. . 

- ولكن من النحس أن تهاجم رجلا خطير الشأن. . 

وودعه وانصرف . وبعد ساعة جاءه الطعام فالتهمه بعنف . وجلس فوق الرمال تحت 
قمر أوشك أن يكتمل . ونظر من بعيد إلى النور المنبثق من قهوة طرزان فوق الهضبة» 
وتخيل مجمع السمار والجالسين فى الحجرة . حقا إنه لا يحب الوحدة. وهو بين الناس 
يتضخم كالعملاق ويمارس المودة والرياسة والبطولة. وبغير ذلك لا يجد للحياة مذاقا . 
ولكن نور هل عادت» هل تعود» هل يرجع إليها أو يرجع إلى الوحدة القاتلة؟! وقام 





,> ٍ لل ص وَالكاتَ 


فنفض الغبار عن بنطلونه» ومشى نحو الغابة ليعود من الطريق الذى يدور حول مدفن 
الشهيد من ناحيته الجنوبية . وعند الموقع الذى انقض فيه على بياظة انشقت الأرض 
عن شبحين وثبا نحوه فجأة حتى أحاطا به من الجانبين. قال أحدهما بلهجة ريفية 
تمدلة: 

قف . 

وهتف الآخر: 

- بطاقة الشخصية! 

وسلط الأول على وجهه نور بطارية فأحنى رأسه كأنه يحمى عينيه وصاح بعنف غير 
متوقع فى الوقت نفسه : 

- من أنتما؟ . . تكلما. . 

دهش الرجلان للهجة الآمرة ولكنهما تبينا ملبسه على ضوء البطارية وإذا بالأول 
يقول: 

لا مؤاخذة ياحضرة الضابط» لم نتيين شخصيتك فى ظل الغابة! 

فصاح بعنف أشد: 

دهن أنتما؟ 

فقالا بعجلة ولهوجة: 

- من قوة الوايلى يا افندم . 

ومع أن البطارية انطفأت إلا أنه قرأفى وجه الآخر شيئا رابه. رآه يتمعن فيه. بقوة. 
كأن شكا داخله . وخشى أن يفلت الزمام منه فبقوة تصميم لا تعرف التردد وجه قبضتيه 
معا إلى بطنى الرجلين فترنحا. وقبل أن يتمالكا نفسيهما انهال عليهما لكما فى مواطن 
الضعف كالفك وأعلى البطن حتى سقطا مغشيا عليهماء ثم انطلق فى طريقه بأقصى 
سرعة. ولم يتجه نحو شارع نجم الدين حتى وقف عند منعطفه مليا ليتأكد من أن أحدا لا 
يتبعه. ورجع إلى البيت فوجده خاليا كما تركه. ووجد الوحشة والضيق والقلق فى 
انتظاره. وخلع الجاكتة وارتمى على الكنبة فى الظلام . وتساءل بصوت مسموع كتيب : 

-نورء أين أنت؟ 

محال أن تكون بخير . هل قبض البوليس عليها؟ هل اعتدى عليها بعض الأوغاد؟ 
هى ليست على أى حال بخير . هو يؤمن بذلك بقلبه وغريزته. لن يرى نور مرة أخرى . 
وخنقه اليأس خنقا. ودهمه حزن شديد الضراوة. لا لأنه سيفقد عما قريب مخبأه الآمن 
ولكن لأنه فقد قلبا وعطفا وأنسا. وتمثلت لعينيه فى الظلمة بايتسامتها ودعابتها وحبها 


11010 





الل ص وَالكلات 7 


وتعاستها فانعصر قلبه. ودلت حاله على أنها كانت أشد تغلغلا فى نفسه مما تصور. وأنها 
كانت جزءا لا يصح أن يتجزأ من حياته الممزقة المترنحة فوق الهاوية. وأغمض عينيه فى 
الظلام واعترف اعترافا صامتا بأنه يحبهاء وأنه لا يتردد فى بذل النفس ليستردها سالمة . 
ونفخ غاضبا وهو يتساءل: 

- هل تهتز شعرة فى الوجود لضياعها؟ 

كلا. حتى نظرة الرثاء غير المجدية لن تحظى بها. امرأة بلا نصير فى خضم الأمواج 
اللامبالية أو المعادية» وسناء ‏ كذلك - قد تجد نفسها يوما بلا قلب يهتم بها. وتقبض قلبه 
فى خوف وغضب فتناول مسدسه ثم سدده فى الظلام كأتما يحذر المجهول . وتأوه من 
الأعماق فى يأس . وهكذا طال به هذيان الصمت والظلام حتى صرعه النوم فى آخر 
الليل. 

وفتح عينيه فى ضوء النهار وسرعان ما تنبه إلى أنه استيقظ على يد تطرق الباب . 
نهض منزعجا. ثم سار على أطراف أصابعه إلى مدخل الشقة والطرق متواصل . وارتفع 
صوت امرأة مناديا #ياست نور. . يا ست نور» من المرأة وماذا تريد؟ ورجع إلى الحجرة 
ثم عاد بمسدسه على سبيل الحيطة . وإذا بصوت رجل يقول: «لعلها خرجت» فقالت 
المرأة: «فى مثل هذا الوقت تكون فى البيت» ولم تتأخر من قبل فى دفع الإيجار» . إذن 
فهى صاحبة البيت. وطرقت المرأة الباب طرقة غاضبة ثم قالت «اليوم الخامس من الشهر 
ولن أصبر أكثر من ذلك!». وابتعدت هى والرجل وهما يتبادلان التعليق فى لهجة 
وعيدك. 

وآمن سعيد بأن الحوادث تطارده كالبوليس . لن تصبر المرأة طويلا على الانتظار» 
وسوف تقتحم الشقة بوسيلة أو بأخرى» وخير ما يفعل هو أن يغادر الشقة فى أقرب 
فرصة ممكنة . . 

ولكن أين المفر؟ 


عادت صاحبة البيت إلى طرق الباب عند العصر ثم عند المساء»؛ ورجعت آخر مرة 
وهى تقول «لا لايا ست نوره لابد لكل شىء من آخرا . 

وغادر البيت متسللا عند منتتصف الليل . وبالرغم من أنه فقد الثقة فى كل شىء إلا أنه 
مشى مشية طبيعية جدا ومتمهلة كأنا يتريض . وخيل إليه أكثر من مرة أن المارة 





م ا لل صوَالكاتتَ 


والمتسكعين ليسوا إلا مخبرين فتوثب لدخول آخر معركة يائسة. ولم يشك فى أن 
البوليس يحتل منطقة طرزان كلها بعد معركة أمس فمضى نحو طريق الجبل» وكان الجوع 
ينهش بطنه» ووجد نفسه يفكر فى مسكن الشيخ على الجنيدى كمرفأ مؤقت حتى يتسع له 
مجال التفكير والمغامرة. وتسلل إلى فناء البيت الصامت» وعند ذاك فحسب تنبه إلى أنه 
نسى بدلته الرسمية ‏ بدلة الضابط ‏ فى حجرة الجلوس ببيت نور فغضب لذلك أيما 
غضب. ولكنه واصل سيره إلى حجرة الشيخ . ورأى الشيخ على ضوء المصباح متربعا 
فى ركن المصلى غارقا فى نجوى هامسة فذهب إلى جدار الحجرة حيث ترك كتبه وجلس 
فى إعياء» واستمر الشيخ فى تجواه فقال سعيد: 

-مساء الخير يا مولاى . . 

فرفع الشيخ يده إلى رأسه ردا على تحيته دون أن يقطع نجواهء فقال سعيد : 

-مولاى» أنا جائع . . 

فخيل إليه أنه قطع النجوى ورنا إليه من عينين غائبتين ثم أومأ بذقنه إلى خوان قريب 
فرأى سعيد فوقه تينا وخبزاء فنهض إليه دون تردد ثم التهمه بنهم حتى أتى عليه» ووقف 
ينظر إلى الشيخ بعينين تنطقان بعدم شبعه» فسأله : 

- أليس معك نقود؟ 

10 

- أذهب واشتر شيئا تأكله . 

فعاد إلى مجلسه صامتاء وجعل الشيخ يتأمله ملياء ثم سأله : 

- متى يا ترى تستقر؟ 

- ليس على سطح هذه الأرض . . 

لذلك فأنت جائع رغم نقودك. . 

دليكن.: 

- أما أنا فكنت أردد شعرا عن الأحزان ولكن بقلب مبتهج . . 

أنت شيخ سعيد. . 

-هرب الأوغاد» كيف بعد ذلك أستقر؟ ! 

-كم عددهم؟ 

-ثلاثة . . 

- طوبى للدنيا إذا اقتصر أوغادها على ثلاثة. . 


1101 





/ لل ضّوالكرات ١م‏ 


-هم كثيرون ولكن غرمائى منهم ثلاثة. . 

-إذن لم يهرب أحد. . 

- لست مسئولا عن الدنيا. . 

- أنت مسئول عن الدنيا والآخرة! 

ونفخ لنفاد صبره فقال الشيخ : 

الصبر مقدس تقدس به الأشياء . . 

فقال سعيد بغم : 

- بل المجرمون ينجون ويسقط الأبرياء. . 

فتساءل الشيخ وهو يتنهد: 

- متى تظفر بسكون القلب تحت جريان الحكم؟ 

فأجاب سعيد: 

-عندما يكون الحكم عادلا. 

-هو عادل أبدا. . 

فحرك سعيد رأسه فى غيظ مغمغما : 

- هرب الأوغاد واأسقاه. . 

فابتسم الشيخ ولم ينبس » فقال سعيد بنبرة جديدة يمهد بها لتغيير مجرى الحديث : 

- سأنام ووجهى إلى الجدار» لا أود أن يرانى أحد تمن يزورونك» إنى ألجأ إليك 
فاحفظنى. . 

فقال الشيخ برحمة : 

- التوكل ترك الإيواء إلا إلى الله . 

فسأله بإشفاق: 

هل تتخلى عنى؟ 

-معاذ الله . . 

فتساءل فى يأس : 

-هل فى وسعك بكل ما أوتيت من فضل أن تنقذنى؟ 

- أنت تنقذ نفسك إن شتت . . 

فهمس سعيد لنفسه : 


-أنا أقتل الآخرين. . 





م الل ص والكلات 


ثم سأله بصوت مرتفع : 
- هل تستطيع أن تقيم ظل شىء معوج؟ 
فقال الشيخ برقة : 
-أنا لا أهتم بالظلال! 
وساد الصمت فدبت الحياة خارج الكوة التى يسيل منها القمر. ورتل الشيخ بصوت 
هامس (إن هى إلا فتنتك» . وقال سعيد إن الشيخ سيجد دائما ما يقوله. وبيتك يا مولاى 
غير مأمون وإن تكن أنت الأمان نفسه . وعلى أن أهرب مهما كلفنى الأمر. وأما أنت يا 
نور فلتتحفظك الصدفة إن أعوزك العدل والرحمة . ولكن كيف نسيت البدلة الرسمية؟ 
لففتها مصمما على أخذها معك فكيف نسيتها فى آخر لحظة؟ حقا فقدت جميل مزاياك 
بالسهاد والوحدة والظلمة والقلق. وقد يجدون البدلة أول خيط يوصل إليك . وقد 
تشمها الكلاب فتنتشر فى جهات الأرض الأربع كى تكتمل المأساة التى يتسلى بها قراء 
الصحف . وإذا بالشيخ يقول فيما يشبه الأسى : 
- سألتك أن ترفع وجهك إلى السماء وها أنت تنذر بأنك ستدفنه فى الجدار! 
فحدجه بحزن هاتفا: 
وحديثى عن الأوغاد ألا تذكره؟ 
فقال بنبرة دسمة : 
- واذكر ربك إذا نسيت 
فغض بصره فى كرب ثم ساءل نفسه كيف نسى البدلة» وعاودته أفكار السوء. أما 
الشيخ فقال وكأنما يخاطب آخر: 
- سئل «أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله؟» 
فأجاب (إنه من قدر الله!» . 
ماذا تعنى؟ 
فقال وهو يتأوه آسفا: 
- لم يكن أبوك ليغلق عليه قولى أبدا! 
فقال سعيد بشىء من الحدة : 
- من المؤسف أننى لم أجد عندك طعاما كافياء كما هو مؤسف أننى نسيت البدلة» 
كذلك عقلى يتعذر عليه فهمك. وسأدفن وجهى فى الجدار» ولكنى واثق من أننى 
فقال باسما فى رثاء : 


1110 





/ لل ص ءَالكراتٌ مم 


- قال سيدى «إنى لا أنظر فى المرآة كل يوم مرارا مخافة أن يكون قد اسود 

وجهى»! 

-أنت؟! 

-بل سيدى نفسه! 

فتساءل ساخرا: 

- فكيف ينظر الأوغاد فى المرآة كل ساعة؟ ! 

وحنى الشيخ رأسه وهو يرتل «إن هى إلا فتنتنك». وأغمض سعيد عينيه وهو يقول 
لنفسه (إنى متعب حقا ولكن لن يهدأ لى بال حتى أجىء بالبدلة» . 


الفصل الثامسن عشر 


وأذاب الإرهاق إرادته فنام رغم تصميمه على إحضار البدلة . واستيقظ قبيل الظهيرة 
فكان عليه أن ينتظر الليل. وفى أثناء ذلك رسم خطة للهربء, ولكن كان عليه أيضا أن 
ينتتظر حينا من الدهر حتى يغمض البوليس عينه عن منطقة طرزان وهو قطب الخطة . 
وبعد متتصف الليل ذهب إلى شارع نجم الدين فرأى ضوءا فى نافذة الشقة. حملق فى 
النافذة مذهولا حتى تأكد مما يرى. ارتفعت دقات قلبه حتى أصمت أذنيه . واكتسحته 
فرحة فاقتلعته من دنيا الكابوس . نور فى الشقة . أين كانت؟ سيعرف أسباب غيابها 
ولكنها عادت . هى الآن تتساءل عن مكانه وتعانى لفحات الجحيم الذى احترق فيه . إن 
قلبه يؤكد له عودتهاء قلبه الذى لا يكذبه قط . وهموم التشرد ستتلاشى إلى حين وربما 
إلى الأبد وسيحتويها بين ذراعيه بكل قوة ويعترف لها من قلب مزق بالحب الأبدى . 
وتسلل إلى داخل البيت نشوان بالسعادة والنصرء ورقى فى السلم وهو يحلم بدرجات 
من النصر لا حد لها ولا حصر. سيهرب ويستقر طويلا ثم يعود يوما لينكل بالأوغاد. 
واقترب من باب الشقة وهو يلهث . أحبك يا نور. بكل قلبى أحبك» وأضعاف ما 
أعطيتنى من حب» سأدفن فى صدرك ضياعى وخيانة الأوغاد وجفول ابنتى . وطرق 
الباب. وفتح الباب عن وجه رجل! رجل قصير فى ملابسه الداخلية تبخر سعيد فلم يبق 
منه إلا رماد. وحملق فيه الرجل بدهشة وهو يتساءل: 

-من حضرتك؟ 

وسرعان ما حلت محل النظرة المتسائلة نظرة شك وارتياع . أيقن سعيد أن الرجل 





4م ١‏ لل صوالكرات 


سيعرفه . ودون تردد سد فاه بيسراه ولكمه بالأخرى فى بطنه . وتلقاه بين يديه فأنامه على 
العتبة كيلا يحدث صونا. وفكر فى اقتحام الشقة تنقيبا عن البدلة ولكنه لم يكن متأكدا 
من خلوها. وإذا بصوت امرأة يتساءل من الداخل : 

- من الطارق يا معلم؟ 

وتحول عن موقفه يائساء فقطع السلم وثبا حتى بلغ الطريق . وشق طريق المصانع إلى 
طريق الجبل . وهناك شك فى أشباح تتحرك فلبد عند أسفل جدار وانطرح على وجهه. 
ولم يستأنف سيره الحذر حتى خلا الطريق من أى أثر لإنسان. وتسلل مرة أخرى إلى 
مسكن الشيخ قبيل الفجرء وكان الشيخ فى ركنه يترقب الأذان. وخلع بدلته وتمدد فوق 
الحصيرة دافنا وجهه فى الجدار رغم يأسه من نوم قريب . وقال له الشيخ : 

-م فالنوم عبادة لأمئالك. . 

فلم ينبس » ونادى الشيخ بصوت خافت «الله». وظل مسهدا حتى أذان الفجرء ثم 
ظل مسهدا حتى ترامى صوت بياع اللبن. ولم يدرك أنه نام إلا عندما رقد فوق صدره 
كابوس . ولما فتح عينيه رأى ضوء المصباح الوانى منتشرا فى الحجرة كالضباب . إذن لم 
ينم إلا ساعة على الأكثر . والتفت نحو فراش الشيخ فوجده خالياء ورأى على كثب من 
كتبه المكومة شواء وتينا وقلة ماء. شكرا لك يا مولاى ولكن متى جئت بهذا الطعام؟ 
وسمع خارج الحجرة أصواتا فعجب لذلك» وزحف على أربع نحو الباب الموارب فنظر 
من زيقه فرأى لدهشته أهل الذكر يفترشون الحصرهء كما رأى عاملا يوقد الكلوب فى 
أعلى الباب الخارجى . رباه إنه المغيب لا السحر كما توهم . وإذن فقد نام طيلة النهار 
وهو لايدرى. يا له من نوم عميق حقا. وأجل التفكير فى أى شىء حتى يأكل فالتهم 
الطعام وشرب حتى روى . وارتدى البدلة ثم أسند ظهره إلى كتبه ومد ساقيه إلى الأمام» 
وسرعان ما ازدحم رأسه بالبدلة الرسمية المنسية والرجل الذى فتح له باب الشقة وسناء 
ونور ورءوف ونبوية وعليش والمخبرين وطرزان والسيارة التى سيخترق بها الحصار». 
عصفت جميعا برأسه. ليس الصبر فى صا حك ولا التردد. وبأى ثمن يجب أن تتصل 
بطرزان الليلة ولو ذهبت إليه زحفا فوق الرمال. غدا سينطح البوليس الصخر ويركب 
الرعب الأوغاد. وسمع فى الخارج يدا تصفق وإذا بأصوات الرجال تسكت» وجلال 
الصمت يسود. وردد الشيخ على الجنيدى ثلاثا «الله » فردد الآخرون النداء فى نغمة 
وسمت فى مخيلته حركة الذكر الراقصة . الله. . الله. . اللهء» وازدادت النغمة سرعة 
وارتفاعا ثم اختزالا مع زيادة فى السرعة كصوت قطار منطلق» وتواصلت دون انقطاع 
فترة غير قصيرة» ثم أخذ يداخلها الوهن رويداثم التراخى فى الإيقاع والبطء ثم ترنحت 
وتهاوت فى الصمت . وعند ذاك علا صوت رخيم مترئما: 


0110 





١‏ لل ص والكلات 6م 


واحسسسرتى؛ ضاعع الزمان. ولم أفز 
منكمءأهيلم ودتى بلقاء 
وجيريوي فين الحبيين 
يوم -لاانه يوم قلىء. ويوم تناء 
وارتفعت التأوهات فى الأركان» ثم ارتفع صوت آخر يترنم : 
وكلنقن مسطزافنا أد ابت ممسس يتبحا 
شلوقىأملمى والق دض ساء ورائى 
وانتشرت التأوهات مرة أخرى . وتتابع الغناء حتى صفقت اليد داعية إلى الذكر من 
جديد» فتردد اسم الله بغير انقطاع . واستسلم للسماع» وزحف الليل. ثم ركضت 
الذكريات كالسحب. تمايل عم مهران الأب مع الذاكرين وجلس الغلام عند النخلة 
يراقب المشهد بعيئنين مشدوهتين . وانبثقت من الظلمات أخيلة عن الخلود فى كنف 
الرحمن. ومضت آمال باهرة نافضة عنها تراب النسيان. وتحت النخلة الوحيدة بشارع 
المديرية ندت همسات ندية كأفراح الفجر. وتكلمت سناء الصغيرة فى حضنه بلغة فطرية 
ساحرة. ثم هبت أنفاس متقدة من أعماق الجحيم توالت بعدها الضربات . وامتدت أنغام 
المنشد وآهات الذاكرين. ومتى يؤمل راحة» وضاع الزمان ولم أفزء والقضاء ورائى. 
وهذا المسدس المتوثب فى جيبى له شأن. لا بد أن يتتصر على الغدر والفساد. ولأول مرة 
سيطارد اللص الكلاب . 
وفرقع صوت مزعج تحت الكوة وحاورته أصوات: 
يا خبر» الحى كله محاصر. . 
- ولا أيام الحرب! 
سعيد مهرأن . . 
انكمش فى تكهرب ويده تلتصق بمسدسه» وتحفزت فيه كل جارحة . وأجال فى المكان 
نظرة زائغة . مكان مزدحم وفيه إغراء للمخبرين. يجب ألا تسبقنى الحوادث . إنهم 
يتفحصون الآن البدلة وهناك الكلاب . وأنت هنا عار معرض للأبصار. وإن يكن طريق 
الصحراء ملغما فعلى خطوات يقع وادى الموت . وسأقاتل حتى الموت. ونهض مصمما 
مقتربا من الباب. الجميع غارقون فى الذكر والممر إلى الباب خال. ومرق من الباب 
ومضى نحو الطريق. ومال يسرة وهو يسير فى هدوء مصطنع ثم انحدر نحو طريق 
المقابر . الليل راسخ ولكن القمر لم يطلع والظلام جدار أسود يسد الطريق. وغاص وسط 
القبور فى تيه من الفناء لا يهتدى بشىء . وتخبط فى سيره لا يدرى إن كان يتقدم أم 
يتأخر. ومع أن بارقة أمل واحدة لم تومض إلا أنه طفح بحيوية خارقة . . وترامت إليه مع 





41م / لل ص وَالكابٌ 


النسيم الدافئ ضوضاء. وتمنى أن يختفى فى قبر ولكنه لم يكف عن السير. وكان يخشى 
الكلاب ولكن لم يكن فى وسعه حيلة ولا فى طاقته أن يقف . وبعد مسير دقائق وجد 
نفسه فى الصف الأخير من القبور ورأى أمامه منظراً غير غريب: إنه مدخل القرافة 
الشمالى فيما يتصل بشارع نجم الدين. أجل هذا هو شارع نجم الدين» وهذا هو البيت 
الوحيد القائم فيه» وهذه هى الشقة» وهاهى النافذة مفتوحة ينبعث منها نور. وأحد 
البصر فرأى فى النافذة امرأة» ها هو رأسها مطموس المعالم . ولكنه يذكره بنور. وخفق 
قلبه خفقة مزلزلة. هل عادت نور؟ أو أن عينيه تخدعانه كما خدعه قلبه بالأمس؟! بت 
لعبة فى أيدى الخدع وهذا نذير بالنهاية . وإن تكن هى نور فما يريد إلا أن ترعى سناء إذا 
حم القضاء. وقرر أن يناديها على ما فى ذلك من مخاطرة . وقبل أن يخرج الصوت من 
حلقه ترامى من بعد نباح كلاب . ثم تتابع فى الصمت كالطلقات المتفجرة. وتراجع فى 
فزع . وأوغل بين القبور والنباح يشتد» وألصق ظهره بقبر ثم أشهر مسدسه وهو يحملق 
فى الظلام موقنا بدنو الأجل . أخيرا جاءت الكلاب وانقطع الأمل ونما الأوغاد ولو إلى 
حين. وقالت حياته كلمتها الأخيرة بأنها عبث. ومن المستحيل تحديدمصدر النباح الذى 
ينطلق مع الهواء فى كل موقع . ولا أمل فى الهروب من الظلام بالجرى فى الظلام . نجا 
الأوغاد وحياتك عبث . واقتربت الضوضاء والنباح وقريبا تتردد أنفاس الحقد والتشفى 
على وجهك . وحرك مسدسه فى غضب والنباح يشتد ويقترب . وإذا بضوء ساطع باهر 
يغمر المنطقة فى حركة دائرة فأغمض عينيه وارتمى أسفل القبر. وهتف صوت فى ظفر: 

-سلمء لا فائدة من المقاومة. : 

وارتجت الأرض بوقع الأقدام الثقيلة المطوقة وانتشر الضوء كالشمس : 

- سلم يا سعيد. . 

اشتد التصاقه بالقبر متأهبا لإطلاق النار ودار رأسه فى كل مكان. وصاح صوت 
وقور: 

-سلم» وأعدك بأنك ستعامل بإنسانية. . 

كإنسانية رءوف ونبوية وعليش والكلاب! 

-أنت محاصر من جميع الجهات» القرافة كلها محاصرة» فكر جيدا وسلم نفسك. . 

واطمأن إلى أن تناثر القبور يحول دون رؤيته فلم يتتحرك وصمم على الموت . وتساءل 
صوت فى حزم : 

- ألا ترى أنه لا فائدة من المقاومة؟ 

وشعر باقتراب الصوت عما قبل فصاح مكرها: 

-الويل لمن يقترب. . 

111000 





الل ص وَالكلات /ا/ 


حسن» ماذا تنوى؟ اختر بين الموت وبين الوقوف أمام العدالة. 

فصرخ بازدراء: 

العدالة! 

-أنت عنيد» أمامك دقيقة واحدة . . 

ورأت عيناه المعذبتان بالخوف شبح الموت يشق الظلام . وجفلت سناء بلا أمل . 
وأحس حركة غادرة فاستشاط غضبا وأطلق النار. وانهال الرصاص حوله فخرق أزيزه 
أذنيه» وتطاير نشار القبور. وأطلق الرصاص مرة أخرى وقد ذهل عن كل شىء فانصب 
الرصاص كالمطر . وفى جنون صرخ : 

-يا كلاب! 

وواصل إطلاق النار فى جميع الجهات : 

وإذا بالضوء الصارخ ينطفىء بغتة فيسود الظلام. وإذا بالرصاص يسكت فيسود 
الصمت . وكف عن إطلاق النار بلا إرادة . وتغلغل الصمت فى الدنيا جميعا. وحلت 
بالعالم حال من الغرابة المذهلة . وتساءل عن . . ولكن سرعان ما تلاشى التساؤل 
وموضوعه على السواء وبلا أدنى أمل . وظن أنهم تراجعوا وذابوا فى الليل . وأنه لابد قد 
انتتصر . وتكائف الظلام فلم يعد يرى شيئا ولا أشباح القبور. لا شىء يريد أن يرى. 
وغاص فى الأعماق بلا نهاية . ولم يعرف لنفسه وضعا ولا موضوعا ولاغاية. وجاهد 
بكل قوة ليسيطر على شىء ماء ليبذل مقاومة أخيرة. ليظفر عبثا بذكرى مستعصية. 
وأخيرا لم يجد بدا من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة. . بلا مبالاة. . 


( تمت) 








وقف القطار ولكنه لم يجد أحدا فى انتظاره. أين السكرتير؟ أين موظفو المكتب؟ أين 
السعاة؟ وأجال بصره فى المكان والناس بلا جدوى . ماذا جرى؟ ! هل دار رأس القاهرة 
تحت ضربة القنال الآثئمة؟! وغادر موقفه عند مقدمة العربة فسار حاملا حقيبته الصغيرة 
نحو الخارج وهو يقطب استياء» ثم ساوره قلق. وتفحص الوجوه بدافع غريزى 
فوجدها تعكس انقباضا مخيفاء وتحركت فى أعماقه غريزة تتنبأ بالمخاوف . أهى مذبحة 
الأمس بالقنال أم أحزان جديدة تزحف؟ هل يسأل الناس عما وراءهم؟ ! ولم ينتظره 
أحد. ولا واحد من مكتبه شذ عن هذا السلوك العجيب! يا لها من أيام غريبة حقا! ولم 
تزل ذكريات القنال ناشبة فى رأسه بكل حدة . المشاهد الدامية . مذبحة رجال البوليس» 
البطولة العزلاء. ولم يزل صوت الشباب الفدائى يخرق أذنه وهو يصيح غاضبا: 

-أين أنتم. . أين الحكومة! . . ألستم أنتم الذين أعلنتم الجهاد؟ ! 

فقال فى حرج شديد: 

-بلى» ولهذا تجدنى أمامك فى هذا الخلاء . . 

فصرخ فى غضب أشد : 

-نريد سلاحاء لم تقترون علينا؟ ! 

اليد قصيرة» وموقف الحكومة دقيق . 

وموقفنا نحن! . . وموقف الأهالى الذين خربت بيوتهم؟ ! 

أعلم ذلك» كلنا نعلم ذلك» صبراء وسنبذل أقصى مانستطيع . . . 

-أم تقنعون بالفرجة؟ ! 

يالها من غضبة كالنار. ولكن ماذا فى القاهرة؟ . . 

لا عربة واحدة لتنقله . وفى ميدان المحطة جماهير تجرى فى كل اتجاه. الغضب يشتعل 
فى الوجوه واللعنات تنصب على الإنجليز . الجو بارد والسماء متوارية خلف سحاب 


11100 





السيّان الف 14 


متجهم والهواء ساكن لاحياة فيه. الدكاكين مغلقة كالحداد وعند الآفاق تصاعد دخان 


ماذا فى القاهرة؟ ! 

وتقدم فى حذرء وأشار إلى رجل يقترب ثم سأله : 

ماذا فى البلد؟ 

فأجابه فى ذهول : 

القيامة قامت . . 

فسأله فى إلحاح : 

تعنى مظاهرات احتجاج؟ ! 

فهتف وهو يأخذ فى الجرى : 

أعنى النار والخراب . . 

وواصل تقدمه الحذر البطىء وهو يتفحص ما حوله. وتساءل فى دهش : «أين 
البوليس؟ أين الجيش؟2. وفى شارع إبراهيم تجلت حقيقة اليوم بصورة أبشع. خلا 
الميدان للغاضبين . انفجر مكنون اللاوعى كالبركان. صراخ جنونى كالعواء. انقضاض 
على أى قائم على الجانبين. بترول يراق . حرائق تشتعل . أبواب تحطم . بضائع تنتثر. 
تيارات تندفع كالأمواج المتلاطمة. الجنون نفسه بلا رقيب . ها هى القاهرة تثور ولكنها 
تثور على نفسها . إنها تصب على ذاتها ما تود أن تصبه على عدوها. إنها تتتحر. وتساءل 
فى فزع ماذا وراء ذلك كله؟! واستفحل نشاط غريزته التى تتنبأ بالمخاوف . وأيقن أن 
مأساة حقيقية سيرفع عنها ستار الغد. ثمة خطر يتهدد صميم حياتنا. يتهددنا نحن لا 
الإنجليز. يتهدد القاهرة والمعركة القائمة فى القنال والحكومة ويتهدده هو باعتباره جزءا 
من هذه الحكومة . هذا الطوفان سيقتلع الحكومة والحزب وشخصه فى النهاية . هيهات 
أن يعتصر هذا الخوف من قلبه . هيهات أن يتناساه رغم دوامة الجنون المحدقة به . كأنها 
أقوى من الجنون والخراب والنار. وإنه ليؤمن بغريزته بهذا إيمانا قاتلا. هى نذيره فى 
أوقات الأزمات السياسية وقبيل الإقالات المتعددة التى أطاحت بحزبه عن كراسى الحكم 
المرة تلو المرة. لعلها النهاية. وستكون نهاية مميتة لم تُسبق بمثيل لها من قبل . 

ومضى يقترب من قلب المدينة فى ذهول تام . صمم على أن يطلع على كل شىء. إنه 
مسئول» ومهما يكن من ثانوية مركزه نسبيا فهو مسئول ويجب أن يرى كل شىء بعينه» 
الفموضاء فوق كل احتمال كأن كل ذرة فى الأرض تصرخ . اللهيب ينطلق من كل 
موقع . إنه يرقص فى النوافذ» يقعقع فى الأسقف. يصفر فى الجدران» يطير فى الجو 
والدخان يتربع مكان السماء. رائحة الحريق تقتحم الأنوف كعصارة جهنمية من الخشب 





4 التان واعليب 


والأقمشة وزيوت شتى . هتافات غامضة كأما تنبثق من الدخان» غلمان يخربون كل 
شىء فى نشوة وبلا مبالاة. جدران تنهار مفجرة رعدا. الغضب المكتوم» اليأس 
المضغوط. الضيق المتكتل» كل أولئك حطم القمقم وانطلق كزوبعة من الشياطين. وقال 
لنفسه إن أشياء كثيرة يجب أن تحرق ولكن ليست القاهرة. وأنتم لا تدرون ماذا تفعلون. 
إن فرقة كاملة من الإنجليز لتعجز عن إحداث عشر هذا الخراب» انتهت معركة القنال. 
خسرنا المعركة . قلبى المجرب بالمحن لا يكذب.. الحكومة بلا جثوة والنار تجرى بلا عقبة . 
هل تلتهم النيران المدينة الكبرى؟ هل يمسى ثلاثة ملايين من البشر بلا مأوى؟ هل ينعق 
الخراب والمرض والفوضى ويرجع الجيش البريطانى ليعيد الأمن إلى نصابه؟ هل ينسى 
الناس فى محنة الخراب الاستقلال والوطنية والآمال العريضة! إن القلق يدب فى جذور 
قلبه كالنمل وتسود الدنيا فى عينيه اللتين زايلهما الطموح والمجد. وعند الأركان فى 
الشوارع الرئيسية لبد رجال يحرضون : 

-احرق. . خرب . . يحيا الوطن. . 

تفحصهم باهتمام وحنق . ود لو يستطيع أن يقنعهم . ولم يمكنه التيار المتضارب من 
الوقوف قبالتهم لحظة . إنهم وجوه غريبة لا هى من حزبه ولا من الأحزاب الأخرى . إنها 
وجوه غريبة تفوح منها رائحة الغدر» وخيل إليه أن فى الجو رائحة عفنة أشد كآبة من 
الدخان . وزفر مع اليأس والذهول غضبا: 

احرق. . خرب. . يحيا الوطن. . . 

ياللأوغاد!. هل تذهب دماء القنال هدرا؟ وأرواح جنود البوليس وضباطهم؟ . إن 
كل ما هو قيم وجميل يبدو أنه سيصير هباء . كيف السبيل إلى الوزارة ليقابل المسئولين؟ . 
ليس فى الطرقات إلا حطام سيارات» ليس فى الجو إلا حمرة قانية تحتدم تحت سواد. 
ماذا يقول للفدائى الغاضب لقلة السلاح إذا اطلع على هذا المشهد الغادر الدامى؟ ما 
عسى أن يقول لو سمع نداء المؤامرة؟ 

-احرق. . خرب . . يحيا الوطن . . . 

النار والخراب والدخان شعارات اليوم الفظيعة ولكن الخيانة اللابدة فى الأركان 
أفظع . وتلاطمته أمواج الثائرين الجنونية فازدرد ريقه مرات بمعطفه الرصاصى الطويل 
ولفظته وقد اختل توازنه واصطكت بساقيه حقيبته وهو يشد على مقبضها بقوة مستميتة . 
وتلاشت من رأسه نقاط التقرير الذى كان عليه أن يرفعه إلى الوزير عن سير المعركة 
ومطالب الفدائيين. وفكر فى المستقبل على ضوء العاصمة المحترقة فلاح لعينيه 
كالدخان . وتذكر وهو يميل إلى منعطف أقل وحشية حديث عضو الشيوخ المعمم الذى 
قال معلقا على إلغاء المعاهدة : 


1110 





الها ن ولف 0١‏ 


انتهينا والأمر لله! 

وغضب وقتذاك وهو يجلس لصقه بالنادى وصاح: 

- هكذا أنتم أيها الشيوخ لا يهمكم إلا مصالحكم. . 

فقال له بتوكيد وبلهجة لم تخل من سخرية: 

هذه هى النهاية والأمر لله! 

-ليس فى كل ماضينا المجيد موقف كهذا !! 

فعبث الشيخ بشاربه» وقال بحزن: 

- بلى» كأيام سعدء ولكنها النهاية ! 

شيخ مجرب طوى عهد الحماس ولكن ها هى القاهرة تحترق» وهؤلاء الغادرون فى 
الأركان ما أكثرهم . واليد قصيرة إذا اقترنت ببصيرة فليسكر صاحبها بنقيع الأحزان حتى 
يغرق. وفى الفضاء المكتظ بشظايا الخراب تسد الحزن كأنه وحش قتيل . ونال منه 
الإعياء فقرر أن يشق الطريق إلى مسكنه . وخيل إليه أن دهرا طويلاً سيمضى كالسلحفاة 
قبل أن يلمح مشارف الدقى . 


عند جثوم الليل ذهب إلى سراى شكرى باشا عبد الحليم على مسيرة ربع ساعة من 
مسكنه بحى الدقى . واستقبله الباشا فى حجرة مكتبه فجلسا على مقعدين متقاربين . 
وبدا الباشا فى المقعد الكبير شبه ضائع بجسمه النحيل القصير ولكن وجهه الصغير 
المستدير الناعم عكس اكفهرارا مغلفا بهدوء الشيخوخة. وأعلنت بدلته الرمادية 
الإنجليزية عن أناقة عريقة واستقام طربوشه الأحمر الفاتح على رأس لم يبق فوق سطحه 
شعرة واحدة. تبودلت كلمات الترحيب فى عجلة دلت على خطورة الموقف. وشعر 
عيسى بحرج أول الأمر لما علمه من تطلع الباشا إلى الوزارة ولما تردد من شهر أو أكثر عن 
ترشيحه لها فى أول تعديل وزارى . وأفدح الخسائر ما أصاب الجانبين الشخصى والعام 
فى وقت واحد. ترى كيف يفكر هذا الشيخ الذى انتظر الوزارة طويلا؟ هذا الشيخ الذى 
هبط نشاطه فى مكتبه إلى الحد الأدنى» والذى لم يعد له من عمل حقيقى سوى نشاطه 
باللجنة المالية بمجلس الشيوخ . رثى له كما يرثى لنفسه» ورنا إليه بنظرة مترددة كنوع من 
العزاء وهو يجلس على المقعد بقامته الرشيقة وقد استرد وجهه. بعد الراحة فى بيته 





11 انان واكرلف 


رونق الشباب رغم جريان الهم فى تقاسيمه. وقال الباشا وهو يدير خاتم الزواج حول 
بنصره : 

سنؤرخ بهذا اليوم طويلاً. . 

فقال عيسى متشوقا لمعرفة أى جديد: 

شهدت جانبا منه» يا له من يوم أسود! 

وأحنى رأسه الكبير المستطيل حتى ترامت صفحة شعره المجعد أمام عينى الباشا ثم 
رفعه مقطبا ليتطلع إليه بوجهه المثلث الذى ينبسط عند الجبين ويضيق رويدا حتى يرتكز 
على ذقن مديب . وتساءل الباشا: 

إذن جئت والقاهرة تحترق؟ 

- نعم كانت الجحيم نفسه يا باشا. . 

-يا خسارة! . . وكيف وجدت الخال هناك؟ 

الشبان فى غاية من الحماس ولكنهم فى حاجة ماسة إلى السلاح» أما مذبحة 

البوليس فقد هزت القلوب هزا. 

معركة ظالمة مشئومة . . 

فقال عيسى بضيق : 

نعم إننا ندفع دفعا نحو. . 

وتلاشت الكلمة الأخيرة بين شفتيه فى إشفاق فتلاقت أعينهما فى كآبة» وسأله 


الباشا: 
ماذا يقول الناس عنا؟ 
الروح الوطنية عالية جداء أما أعداؤنا فيقولون إننا افتعلنا معركة لنشغل الناس بها 
عنا. 


فانحرف جانب فيه فى احتقار قائلا : 

سيجدون دائما ما يقولونه» أوغاد. . أوغاد. . 

وبينهما قام خوان» وفوق الخوان إبريق مفضض وطبق بسكوت فطلب الباشا إلى 
عيسى دون كلفة ‏ أن يملا قدحين» وراحا يحتسيان بلا لذة» وفى أثناء ذلك امتد بصر 
عيسى إلى صورة سعد زغلول المعلقة فى الجدار فوق المكتب الفخم إلى يمين مجلسهما. 
وقال عيسى : 

تصور سعادتك أننى لم أستطع الاتصال بوزيرى حتى الآن. . 

فربت الباشا على شاربه الفضى برقة وقال : 


11101 





السَها نالف ٠‏ 


-قل فى هذا اليوم ما شكت» أين الوزير؟ . . لا أحد يدرىء أين البوليس؟ . . لا أحد 

يدرىء أين اليش ؟ . . لا أحد يدرىء اختفى الأمن وزحف الشيطان . . 

-ترى هل ما زالت النار مشتعلة؟ ! 

مد الباشا ساقيه حتى طوقتا أرجل الخوان الأبنوسية فاشتد لمعان حذائه الأسود تحت 
سمت النجفة البللورية الرباعية الأذرع وحانت من عيسى التفاتة إلى المدفأة المركبة فى 
الجدار فأعجب بشفافية لهيبها الأحمر المتراقص وتذكر المجوس . 

ثم سرعان ما استلمح الدفء الذى يهبه بجودء وجرت عيناه برشاقة على الأثاث 
الكلاسيكى المجلل بالوقار والفخامة وأحزان الوداع فتذكر مرثية أنطونيو فوق جثة 
قيصر. أما شكرى باشا عبد الحليم فأجابه فى كسل متعمد: 

آن للنار أن تنطفئ بعد أن أدت الخدمة المطلوبة! 

فالتمعت عينا الشاب العسليتان المستديرتان» ثم قال مستدرجا محدثه إلى المزيد: 

-لعله الغضب الأهوج . . 

ابتسم الباشا عن طاقم نضيد وقال : 

كان غضبء وكان وراء الغضب حقدء أما الغضب فأهوج حقاء وأما الحقد فذو 

خطة مرسومة . 

-وكيف يقع هذا ونحن فى الحكم؟ 

ضحك الباشا ضحكة جافة مختزلة وقال: 

- هذا اليوم كالليل المتراكم السحب, انتظر حتى نعرف أين الرأس وأين القدم . 

تطاول عيسى فى توتر ثم زفر حتى أرعش أهداب غطاء الخوان المخملى» ثم تمتم 
متسائلا : 

الأحزاب؟؟ 

فانحرف إلى أسفل جانبا الفم الدقيق فى ازدراء وقال : 

-هى أضعف من أن تدبر أمرا! 

من إذن؟ 

تساءل وريبة ذات معنى تتجلى فى عينيه . فقال الباشا : 

الأمر ليس بالوضوح الذى تظنه» قد تتسلل من السراى تعليمات معينة» قد يمرح 

جواسيس الإنجليز ويعيثون فساداء ولكن يخيل إلى أن المد بدأ طبيعيا جدا ثم انتهز 

النهازون الفرص . . 

وبغتة ثارت المخاوف الراسبة فى أعماقه فزلزلت قلبه فتساءل : 





0 الهان ولف 


وماذا عن مصير المعركة؟ 

عاد الباشا إلى العبث بشاربه الفضى» ورفع عينيه إلى السقف التى تضىء أركانه 
الأربعة أنوار متوارية وراء أجنحة مذهبة ثم أعادها إلى وجه الشاب وهما تعكسان 
غموضا وكآبة دون أن ينبس » فقال عيسى مطاردا القلق الذى يعذبه: 

-الويل لمن تسول له نفسه العبث بجهادنا! 

فلم يبد الحماس فى وجه الباشا ولا التفاؤل واكتفى بأن قال: 

-هذا يوم خطير له ما بعده. . 

فقال عيسى بصوت فاتر منهزم : 

- للمرة الثانية فى هذا اليوم أتذكر قول الشيخ عبد التواب السلهوبى أثر المعاهدة: 

«انتهينا والأمر للها . . 

فابتسم الباشا قائلا : 

إننا لا ننتتهى أبداء فقد نسقط ولكئنا نعود أقوى مما كنا. . 

ورن التليفون. وكان المتحدث حرم الباشا من الدور الأعلى . وتجلى الاهتمام فى 
وجه الباشا إلى أقصى حد . وأعاد السماعة وهو يقول: 

أعلنت الأحكام العرفية. . 

ومضت فترة ذهول حتى قطعها عيسى مغمغما: 

لعلها ضرورة للقبض على المجرمين. . 

لكنه رأى الباشا غارقًا فى التفكير الحزين فاستدرك متأسفا: 

أحكام عرفية فى عهدنا! . . ياله من حدث مؤسف! 

فقال الباشا: 


وهى لم تُعلن من أجل عهدنا! 


قال عيسى : 

شيف ارو من بو كل همدي متكي لوز بر إن تبلق طانت] 

رفعت إليه أمه وجها نحيلا يشبه وجهه لدرجة كبيرة وبخاصة فى هيتته المثلثة ولكنه 
كثير الغضون» وللشيخوخة فى عينيه وفمه ولحييه معاقل» ثم قالت: 


1110 





الها والرليف 9 


- ليست المرة الأولى» لا تحزن» ستعود إلى ما كنت وأحسنء وربنا يصلح الحال. 

كانا يقعدان فى حجرة الجلوس ذات الشرفة المطلة على شارع حليم بالدقى. 

وكان زجاج الشرفة العريض مغلقا دفعا للبرد وأغصان صفصافة تصعد وتهبط خلفه 
فى حركة وانية وامتدت وراء ذلك السحب وتكاثفت وتجهمت كالسياسة. وكانت 
الوزارة قد أقيلت فأقصته الوزارة الجديدة فيمن أقصت من موظفين عن الوظائف الرئيسية 
وبخاصة من كانت لهم علاقة بمعركة القنال . وتعد هذه الأحداث عادية أو شبه عادية عند 
الأم لكثرة حدوثها. وهى لا تصدمها صدمة اليأس؛ لأنها ألفت أن يعقب المد جزر فى 
صالح ابنها المحبوب . ورغم شيخوختها وأميتها فهى تتابع الحياة السياسية وتدرك من 
أمورها ما يسمح به موقف عيسى وما يؤثر فى حياته جذبا ودفعا. هى به فخور وتؤمن 
بكل كلمة يقولها. وتعجب بما حقق من نجاح فاق الخيال» خيالها وخيال المرحوم والده 
الذى عاش ومات موظفا صغيرا مغمورا. عيسى يشق طريقه رغم شلالات السياسة 
وزوابعها يغطس أحيانا حتى يظن به الغرق ولكنه يقب محرزا درجة جديدة من التفوق . 
وهذا المسكن الجميل بالدقى آبة على نجاحه وصموده.ء وأثاثه متعة تبهر البصرء وفى 
مناسبات غير نادرة يشرفه بالزيارة باشوات ووزراء. وتتساءل المرأة وأصابعها المتحجرة 
تقدس الله على حبات المسبحة الحجازية : 

أما لهذه الحال من نهاية تستقر فيها على خير ؟! وهل هى وليدة ظروف معقدة عسيرة 
على الفهم أو هى إصابات نافذة لأعين شريرة؟! 

وقال عيسى فى فتور: 

من العجيب أننا لا نكاد نستقر فى الحكم عاما حتى يقذف بنا خارجه أربعاء ونحن 

نحن الحكام الشرعيون ولا حكام شرعيين غيرنا فى البلد. . 


لمهم الصحة والعافية. 
فابتسم ابتسامة ساخرة مريرة ولكنه لم يشأ أن يعلن عن مرارته . وعلى العكس من 
ذلك كال ليه كات لاله : 


- المهم أن أنتهز فرصة العزلة لأعنى بشئونى الخاصة . 

فاختلجت عيناها الكليلتان فى اهتمام وقالت بارتياح صاف لأول مرة: 

- نعم . تعجبنى . آن لك أن تتزوجء فتاتك فى الانتظار» وأبوها العظيم لم يضن 
بموافقته . 

فضحك متسائلا : 

- ألم يكن الأجمل أن أتزوج وأنا متمتع بالجاه والسلطان؟! 





15 السا ن وا زلف 

فابتسمت عن طاقم لاح بريقه كياسمينة منسية فى حديقة اقتلعت أشجارها وقالت: 

مركزك كبير» وهم يعلمون أنك مرشح لأعلى المناصب؛» وعلى بك سليمان يفهم 

الأمور جيداء ثم إنه قريبك . وكان يحب المرحوم والدك أكثر من أى شىء فى 

العالم . 

هذا كله حق . على بك سليمان ابن خال والده. وأسرته تمثل الغصن المورق فى 
شجرة أسرته الجرداء» غنى من سلالة غنية . ومستشار خطير فضلا عن أنه من رجال 
السرائ:. وعندما يدعم نفسه بمصاهرته سيجد فى مرفئه استقرارا إذا عبثت عواصف 
السياسة بقاربه. الخسائر التى تجيئه من الحزب أطول عمرا من مكاسبه . وسلوى فتاة 
ممتازة حقاء لا وجه للمقارنة بينها وبين ابنة عمه التى سعت أسرتها طويلا لتزويجها 
منه. وأم سلوى امرأة متازة أيضا وهى ميالة للمحافظة على ندرة ذلك فى طبقتها. ومن 
حسن حظه أنها حسنة الظن جدا بمستقبله حتى تخيلته وزيرا أقرب ما يتصور. وعندما 
فاتحهافى مطلب زواجه من كريمتها صارحته قائلة إنها لا يهمها المال ولكن يهمها 
المركزه أو ليست الدرجة الثانية امتيازا حقيقيا لشاب فى الثلاثين من عمره؟ . وهى لها 
تقدير خاص للشبان المتعلمين فى الخارج » وهو وإن لم يتعلم فى الخارج إلا أنه خدم عاما 
فى سفارة لندن. وسافر ملحقا بسكرتارية وفد المفاوضات . وطاب له أن يستحضر 
صورة سلوى بجمالها البلقانى المغرى كالكريم شانتى» واعتدها منة من الله أنها ليست 
من فتيات النوادى ولا من معتنقات فلسفة العصر . وقال لوالدته: 

تصورى أننى لم أكن رأيتها منذ الصغر! 

هذا تقصير منك . انهماكك فى العمل ليس بالعذر الكافى . فمن كان له قريب كعلى 

بك سليمان وجب عليه أن يوثق علاقته به. . 

كنت ألقاه فى الخارج . لم أكن أفكر فى الزواج. . 

وهو قد طلب يدها من والدها وليس له عن صورتها إلا فكرة غامضة غاية الغموض» 
ولكنه وجدها آية وسرعان ما أحبها من كل قلبه . وتهيأ لاختيار الألفاظ المناسبة للإفصاح 
عن عواطفه الجديدة أمام أمه. ولكن دخلت أم شلبى لتعلن عن حضور حسن ابن عمه 
لزيارته . وتجاذبت قلبه عواطف متناقضة ولكن غلب عليه النفور الخليق بمن يكابد 
بحسوالت الهومة.: 

وقد كان حسن على الدباغ منطلق الأسارير. ربعة متين البنيان. مربع الرأس عميق 
الملامح» عريض الذقنء» ويمتاز بعينين صافيتين ذكيتين وأنف حاد مدبب . قبل يد امرأة 
عمه وصافح عيسى بحرارة لم تخفف من نفوره ثم جلس إلى جانبه وهو يطلب الشاى . 
هو على وجه التقريب يماثل عيسى عمراء غير أنه فى الدرجة الخامسة على حين دفعت 


1110 





التهان وارلف 4 


السياسة عيسى إلى الدرجة الثانية» ومع أنه من حملة بكالوريوس التجارة إلا أنه لم يجد 
عملا إلا فى القرعة العسكرية . وسألته أم عيسى : 

كيف حالكم؟ 

بخير» أمى بخير وأختى بخير. . 

ازداد عيسى نفورا عند ذكر الأخت لا لشىء كريه فيها ولكن لكونها أخت هذا الغريم 
والمنافس القديم . كانا متنافسين ومتلازمين وتبادلا عواطف حادة مؤلمة. السياسة وحدها 
التى حسمت ما بينهما من أسباب التنازع فرفعت عيسى إلى مركزه المرموق على حين 
تدرج حسن ببطء فى طريقه الوعر. وفترت العلاقات بعض الشىء ورسبت العواطف 
فى الأعماق ولكن حسن لم ينقطع عن ابن عمه أبدا بل تمنى لو يزوجه من أخته. ومن 
عسجب أن حسن فكر جادا فى الذهاب إلى قريبه على بك سليمان ليطلب منه يد ابنته 
عقب عيسى بأيام . وضحك عيسى ازدراء عندما نمى إليه الخبر وقال لنفسه: «رحم الله 
امرأ عرف قدر نفسه»» ولكنه كان يضمر له إعجابا رغم نفوره منه لقوة شخصيته ووفرة 
ذكائه. وقال حسن بأريحية : 

سمعت عن نقلك إلى المحفوظاتء لا تحزن» أنت رجل مخلوق للشدائد. 

فدخلت الأم فى الحديث قائلة بحماس : 

لاداعى للحزن» هذا ما أقوله دائماء وهؤلاء الناس لاذا يتركون الكبار وينتقمون من 

الأبناء ! ! 

وتعقد عيسى بمواساة حسن فقال باعتزاز: 

نحن قوم اعتدنا السجن والضرب فما أهون عقاب اليوم . 

ومضى حسن يرشف الشاى فى سعادة وهو يبتسم ويقول بلهجة تنذر بالهجوم : 

-أنتم تسجنون وتضربون حقا ولكن الآخرين يتاجرون. . 

وأدرك عيسى من يعنيهم بقوله «الآخرين» فتحفز لمعركة. وغادرت الأم الحجرة 
لتصلى المغرب» وقال عيسى منذرا : 

-أنت تعلم بمنزلة الآخرين فى نفسى فحذار! 


فقال حسن بتحد باسم : 
من جذوره! 
فتساءل عيسى فى حدة : 


وقضيتنا الوطنية من يبقى لها؟ 





14 السيا نالف 


أتظن أن هؤلاء الشيوخ المخرفين الفاسدين هم الذين سيحلونها؟ 


- أنت لا تستطيع أن تراهم على حقيقتهم . . 

الحقيقة أننى أراهم على حقيقتهم . . 

أنت تردد باستمرار أقوال الصحف المعادية! 

فقال بثقة مثيرة للحنق : 

-أنا لا أومن إلا بالواقع» وعلى الشباب أن يعتمد على نفسه! 

فدارى عيسى حنقه قائلا : 

-دعوة هدم خطيرة» لولا الخنونة لأوقفنا الملك عند حدوده الدستورية ولحققنا 
الاستقلال. . 


أتى حسن على القدح وابتسم بغية تلطيف الجو ثم قال برقة : 
-أنت رجل مخلص وإخلاصك يحملك على الولاء لأناس لا يستحقون الولاء. 
صدقنى لقد عم الفسادء لا هم لأحد من أصحاب السلطات اليوم إلا الإثراء 
المحرم, إننا نستنشق الفساد مع الهواء» فكيف تأمل أن يخرج من المستنقع أمل 
حقيقى لنا؟ ! 
وترامى إليهما صوت الأم وهى تكبرء وخفف عيسى من حدته مراعاة للضيافة . ولم 
تكن قوة تستطيع أن تحمله على التسليم بما يقول غريمه ولو معاندة له ولكن اجتاحه حزن 
عميق . الدنيا تتغير وآلهته يتفتتون بين يديه . وحسن من جانبه غير الحديث فتكلم عن 
خسائر الحريق وتقدير التعوريضات وموقف الإنجليز والاعتقالات المستمرة» ولكن ما لبث 
أن عاد يقول : 
-دلنى على ركن واحد لم ينضح بالفساد؟ 
ما أبغض أفكاره. محنق حاد مثير للكدر . وحادثة قديمة برزت فى وعيه بلا مناسبة . 
وكان بصحبة أبيه فى زيارة لبيت على بك سليمان فوجد نفسه وحيدا فى حجرة السفرء 
ولمح قطعة شيكولاتة فى درج نصف مفتوح فدس يده فسرقها. حدث ذلك منذ حوالى 
ربع قرن فيا للذكرى . أما حسن فلا يكف عن الهجوم كعادته دائما فتبا له. وسأله بفتور: 
ماذا تريدون؟ 
دما جديدا طاهراً . 
من أين؟ 
فضحك عن أسنان لؤلؤية صارخة بالصحة والعافية وقال: 
البلد لم يمت بعد. .. 


11101 





السهان ولف 14 

فتساءل عيسى بحدة : 

دلنى على ركن يستحق الثقة غير حزينا؟ ! 

رماه بنظرة ساخرة دون أن ينبس . وعلا صوت العجوز فى الخارج بسيل من الأدعية» 
فعاد عيسى يتساءل : 

-ما العمل إذن؟ 

نؤيد الشيطان إذا تطوع لإنقاذ السفينة . 

ونظر فى غير اكتراث إلى السماء الغارقة فى الدكنة ليريح قلبه من نظرات خصمه فقال 
حسن : 

فضحك عيسى فى مرارة ثم قال : 

حريق القاهرة أثبت أن الخونة أقوى من الحكومة والشعب معا. 

ورجعت الأم وهى تقول: 

ألا يوجد حديث آخر؟ ! 

- وأنت متى تتزوج؟ 

وتذكر عيسى تقدمه الجرىء لخطبة سلوى فاشتد امتعاضه. فقير لكنه جرىء وطمع 

ولاشك فى مالها كآخر وسيلة لانتشاله من متاعبه . أما حسن فأجاب : 

الأحداث الهامة تقع فجأة وبلا سابق إنذار. . . 

وأمك متى نراها؟ 

-آه مسكنكم بعيد عن روض الفرج ولكنها ستجىء حتما. 

ثم سأل عيسى وهو يتهياً للقيام : 

فأجاب بتحد ولكن فى هدوء : 

ذإلى النادىئ ا 

فنهض حسن وهو يقول: 

أستودعك الله . .. وإلى اللقاء. . 





0 استهان واعزلف 


يوم الخطبة فى قصر على بك سليمان بهليوبوليس يوم يستحق الذكر. لم يكن ثمة 
فاصل حقيقى بين الجنسين فقد احتلا بهوين متصلين يمدخل مشترك يعد فى ذاته تحفة 
زخرفية. وأم عيسى وسلفتها أم حسن جلستا بين الملدعوات فى البهو الأحمرء وجلس 
فى البهو الأخضر بين المدعوين من الأهل والأقارب ‏ أصدقاء عيسى الحميمون سمير 
عبد الباقى وعباس صديق وإبراهيم خيرت وابن عمه حسن » على حين استقبل البهو 
الكبير المتصل بالمدخل كبار المدعوين من أصدقاء على بك سليمان وجملتهم من رجال 
السراى أو من رجال القضاءء كذلك معارف عيسى من رجال الحزب . وانكمشت أم 
عيسى وسلفتها تحت غمرة الأنوار الساطعة . فهذه الدنيا لا يتتميان إليها بسبب. ورغم 
الفستان النفيس الذى تزينت به أم عيسى» ورغم وقار الشيخوخة. رغم ضعف الحواس 
وبخاصة البصر والسمع الذى أوهن انفعالها بالجوء رغم ذلك كله فقط لاذت بالانطواء 
ولم تحاول فى مجلسها أن تمارس أى مظهر خليق بأم العريس . وعنيت سوسن هام حرم 
على بك بمؤانستها عناية خاصة لتذهب عنها الوحشة فهى تحبها من قديم أو مذ كانت 
عروسا لعلى بك سليمان» وحبها للعجوز كان ضمن الأسباب التى جعلتها توافق على 
قبول عيسى . وسوسن هام فى أواسط الحلقة الخامسة ولكن لم يبق من جمالها إلا مسحة 
بسبب مرض الكبد المزمن وسوء حالة الكلية» ولكن طولها وعرضها وبهاءها الفطرى 
أورثتها مزايا باهرة لا تبيد. وجعلت تقول لآم عيسى فى لطف بديع : 

لاتنسى أنك فى بيتك . . . 

وهجم حسن على أصدقاء عيسى فى مناقشة سياسية رغم معرفته البسيطة بهم . 
وتابعه عيسى من بعيد بعض الوقت وكان يظن أنه سيحجم عن شهود الحفل فعجب لشأنه 
واقتنع بأنه يستطيع أن يتحدى الزمن نفسه إذا أراد. ولكن عيسى لم يستقر بمكان . 

وخص مدعويه من الحزب بأخص مجاملاته . ولم يكن اجو فى البهو الكبير يخلو من 
حرج فقد واجه رجال الحزب رجال السراى» ومع أن البعض ربطت بينهم مودات قديمة 
إلا أن الأغلبية من الطرفين تجاهلت بعضها البعض» ولعب على بك سليمان دوره بكل 
لباقة ورحب بالجميع على قدم المساواة رغم أنه هو نفسه من رجال السراى . كان ممحاميا 
وسطا حتى رشحته السراى لوظيفة مستشار فى إحدى الحركات القضائية ولم يعرف بلون 
حزبى ابت ولكنه اكتسى بشتى الألوان كقوس قزح ثم انضم إلى حزب الاتحاد فى 
الوقت المناسب وسار فى الركب الملكى حتى اعتلى أسمى مركز فى القضاءء ومع أنه 


1110م 





اسان و الف ١‏ 


يقترب من الستين إلا أنه يتمتع بصحة وحيوية نادرتين. طويل القامة فى استقامة رياضية 
بديعة وعيناه السوداوان تحت حاجبيه الغزيرين الأسودين يهبانه جاذبية لا تقاوم. ودعم 
حياته فى مطلعها بمصاهرة آل همت ‏ أسرة سوسن هام فمد رقعة أرضه وأصل 
الأرستقراطية فى ذريته» وراح يضحك ويداعب مدعويه جميعا قائلا : 

- من تفرقهم السياسة فلتجمعهم الأفراح! 

وهمس شكرى باشا عبد الحليم فى أذن عيسى : 

ألا ترى أن قريبك يعترف فى دعابته بأن رجال الملك ‏ والملك بالتالى ‏ ليسوا فوق 


الأحزاب؟! 
ومال الشيخ عبد الستار السلهوبى برأسه نحوهما ليسمع الهمس فى اللحظة المناسبة 
ثم ضحك ضحكة صامتة وهمس بدوره: 


إذن فلتكن الأحزاب فوق الملك! 

ومد بصره فى حذر إلى صورة الملك المعلقة بالجدار الأوسط للبهو فابتسم عيسى 
قائلا : 

لا تخف فإن اللعنات تنصب عليه فى المقاهى جهرة . . . 

ولكن مرارة السياسة ذابت فى شربات الحفل . عيسى نفسه وهو مخلوق سياسى قبل 
كل شىء أسلم نفسه بكليته إلى لذة الوجدان. ازين كأحسن ما يكون» وتجلى وجهه ذو 
الهيئة المثلثة فى أنقى مظهرء وصفت عيناه المستديرتان. ولم تكن فرحته بمصاهرة المال 
والجاه لتذكر إلى فرحة قلبه بعروسه. وأمله الصادق فى حياة هانئة حقا وغد مفعم 
بالمسرات ومستقبل واعد بمجد حقيقى . وتناسى حريق القاهرة وإقالة الوزارة ونقله إلى 
المحفوظات والفتور المحزن الذى اجتاح الحماس الشعبى والتقاعس الذى طوق الجهات 
الرسمية نحو الأمانى الوطنية والكآبة الدكناء التى خضبت الآفاق رغم انتشاء الحياة 
بمباهج الربيع . وكان عليه ألا يستقر فى مكان أكثر ما يجب الأمر الذى وافق رأسه المشتت 
بالانفعال. ومضى إلى سوسن هام فتفقدا البوفيه معا وألقيا نظرة أخيرة على صورته 
المكتملة الزاخرة بالألوان. ثم قصد إلى البهو الأخضر فجلس بين أصدقاته الأعزاء الذين 
ود لو يبقى بينهم حتى تدعوه اللحظة الحاسمة . وقال إبراهيم خيرت وهو يسدد النظر إلى 
البهو الأحمر: 

ما أكثر اللحوم البيضاء وما أجملها! . . . 

فتساءل عباس صديق مازحا: 


هل تقصد الحاجة أم عيسى؟ 





06١‏ السهان واكزلف 


ونظر عيسى إلى أمه فى فستانها النفيس المحتشم فارتاح إلى تفوقها على أم حسن فى 
الوقار رغم وسامة الأخيرة» وشكا عباس صديق إليه حسن قائلا : 

ابن عمك أعنف من حريق القاهرة! 

فضحك حسن طويلاء وعاد عباس يقول له بنبرة الناصح : 

- تزوج أنت أيضا وسوف تقتنع بأن الحزبية ليست أسوأ الأشياء. . 

وإذا بسمير عبد الباقى يقول : 

الحالة مضطربة جدا! 

فأدرك الجميع أنه يتكلم فى السياسة» وقال عيسى : 

هذا أمر محقق. . . 

فقال سمير بتوكيد: 

لكنها مضطربة أكثر من الظاهر المعروف. . . 

فقال حسن ساخرا: 

مويكا بكرهك» ١,‏ 

- يقال إن الملك سيستأجر جنودا مرتزقة لأنه لم يعد يثق بأحد! 

فقال عباس صديق ضاحكا : 

-ليس أدل على سوء الحال من قول أحد الأحرار الدستوريين إنه يفضل عودة الوفد 

على تفسخ الوضع الراهن! 

وقال حسن بإصرار: 

- أسأل الله المزيد من الاضطراب والتفسخ . . . 

دعى عيسى إلى الداخل لإعلان الخطبة فتعلقت به الأبصار وساد الصمث. وصمت 
حسن أثقل الصمت . وانطلقت زغرودة سمعها كل من فى القصر. وطافت سلوى 
بين أمها وخطيبها بجميع الحاضرين قبل أن تتخذ مجلسها المجلل بالورود فى البهو 
الأحمر. جميلة حقا. عيون أبيها ركبت فى وجه بدرى شفاف البياض . واقتبست من 
أمها طولها الفارع البهى وعنقها الطويل النحيل ولكن انبعثت من عينيها نظرة رطيبة 
طيبة توحى بالوداعة والخلو التام تقريبا من الذكاء والحرارة. وجعلت تلتفت نحو أمها 
بصفة مستمرة كأنها تستلهمها الإرشاد والمعونة أو أنها تعانى فى أعماقها بوادر أزمة 
الانفصال عنها فى خوف وعدم ارتياح» أما فستانها فقد تحدث المدعوون عنه 
طويلا. . 

وتواصل الحفل ففنى جميع ما اكتظ به البوفيه من الشطائر والحلوى والأشربة وأخذ 


111 0 





الها نالف ١‏ 


المدعوون فى الانصراف محملين بعلب الحلوى» ثم خلت حجرة الجلوس المطلة على 
شارع البارون بفراندا ضخمة للخطيبين وسوسن هات . وانتشر الليل فى جو ربيعى 
صاف. وامتدت عمالقة الأشجار المحدقة بالبستان مترنحة سابحة فى أمواج الضوء 
الساطع المتدفق من المصابيح الكهربائية وهبت نسائم مرطبة ببرودة حنونة منعشة . 

وقال عيسى : 

- إنى أعتبر اليوم غاية سعادتى . 

أشكرك . . وأرجو أن أعرب لك عن مشاعرى عندما أجد الشجاعة الكافية . 

وتفحصتهما سوسن هام بسعادة وهى تقول : 

ستتم سعادتنا بزواجكما فى يوليو بإذن الله. . . 

وتساءل عيسى : متى يتاح له عناقها؟ ! وثمل بسعادة دسمة لحد القلق . وقال لنفسه إنه 
يترسم خطى على بك سليمان. وسوف يفوز فى النهاية بمركز كمركزه. ولم يكن ذاق 
الحب إلا مرة وهو تلميذ بالثانوية. أحب يومذاك ممرضة على محطة الترام الصباحية 
واندفع بجنون. ولكن والده شكمه وروضه. هاهو اليوم بعد مرور حياة غير قصيرة» 
وبعد أن امتحنته الدنيا بالسجن والضرب والمطاردة والرفع والخفض» ها هو يخطب بعد 
انقطاع عن رؤية خطيبته لا يقل عن عشرة أعوام» ولكنه فى الوقت نفسه عرف الحب 
وأترع برحيقه. وكان يقبض بيديه على سعادة مضمونة» وقال لها: 

أنت يا عزيزتى صورة من والدتك» ولذلك فخيالى عاجز عن تصور سعادتى . 

فضحكت سو سن هام قائلة : 

أرجو أن تذكر كلامك هذا للمستقبل فإنه يقال إننا ‏ الحموات ‏ لا نسمع الكلام 


الجميل إلا فى هذه المناسبة . 
وضحكت سلوى ضحكة رقيقة جدا فازداد عيسى سعادة وملكته فجأة رغبة فى 
التباهى فسألها : 
-ترى هل يضايقك العيش فى الخارج لو دفعتنا الظروف مستقبلا للعمل فى السلك 
السياسى؟ 
فأجابت عنها أمها قائلة : 


-سلوى متخرجة فى المدرسة الألمانية . 


فابتسم معلنا عن ارتياحه» ثم غمغم : 
ولتكن الحياة سعيدة» شهدنا فى حياتنا آلاما حقيقية فلتكن سعادتنا حقيقية أيضا! . . 





0 اسان الف 


قال عيسى لسلوى : 

فى حياتنا سر يجب أن تعرفيه. . 

وهما يجلسان فى الفراندا المفعمة بعبير الورد والقرنفل . والمغيب يقترب نصف مسدل 
الجفنين» والشمس تسحب أهدابها من هامات القصور» والربيع يتنس شبابا رائقا. 
وهما فى خلوة خلقها اختفاء سوسن ها إلى حين» يشربان الليمون من دورق بللورى 
على ترابيزة من القش الملون . وغمغمت سلوى متسائلة : 


00 
فارتفع نصفه الأعلى ابتداء من حاجبيه المستقيمين كما يفعل وهو يتأهب للحديث أو 
للخطابة ثم قال: 


نعم تظنين أننى تقدمت لخطبتك دون سابق رؤية» ولكننى فى الحق أحببتك حبا 
عظيما قبل عشرة أعوام» كنت وقتذاك فى العاشرة وكنت أنا فى العشرين» وكنا 
نقيم فى بيت والدتى بالوايلية وأنتم كنتم فى الهرم » وكان والدك ‏ المحامى وقتذاك ‏ 
على صلة وثيقة بأبى ويتبادلان الزيارة كثيراء وكنت جميلة جدا كما أنت اليوم 
فوقعت فى غرامك. ألا تذكرين تلك الأيام؟ ! 

فتكتمت ضحكة بالعض على باطن شفتها وقالت: 

-قليلاء أذكر أننى رأيت صواريخ مولد النبى مرة عندكم ولكنى لا أذكر ذلك 
الغرام . . . 

فضحك وهو يطوح برأسه إلى الوراء فى حركة خاصة مقلدا دون قصد أحد باشوات 
-ولا أحد يذكر»ء ولكن المرحوم والدى ضبطنى مرة وأنا أحدق فيك بشغف وأخرى 
وأنا أقبلك! 

لا! 

- نعم . . . قبلة بريئة تناسب طفولتك. . . 

لكنك كنت طفلة! ما عليناء قال لى والدى عند ذلك اجتهد وأنت تتزوجهاء كن 


111 00 





الستان واحرلف 0 


شابا لائقا بها وأنا أزوجك منها! فسألته عن مدى اللياقة المطلوبة فقال لى إن على بك 
سليمان قريبه وحبيبه ولكن يجب أن تحوز القبول عند سوسن هانم» وهى غنية لا 
تهمها الثروة» ولكنها تريد لكريتها شابا ناجحاء قاضيا مثلاء والحق أن كثيرين 
بهرهم صعودى السريع حتى صرت من كبار الموظفين بل ومن رجال السياسة 
فى هذه السن المبكرة ولكن أحدا لم يفطن إلى البواعث الحقيقية وراء ذلك النشاط 
الفذ. 

فبسطت بح ركة رشيقة مروحة عاجية صغيرة حتى تكشف صفحتها عن صورة بطة فى 
الماء» وقالت فى سخرية وديعة: 

هذا رغم أنك لم تزرنا طوال عشرة أعوام! . . . 

فقال جادا: 

لا تنسى أن والدك اخمتير مستشارا بعد ذلك فعمل أعواما مابين أسيوط 

والإسكندرية» ولا تنسى انغماسى فى السياسة بعد ذلك . . . 

فقالت وهى تبتسم فى دلال : 

- وكيف عرفت أن العشرة الأعوام لم تصنع منى شيئا رديئا؟ 

قلبى!» أنا أومن بشعور القلب» ولما رأيتك تضاعف إيمانى به» وعليه فخطبتنا فى 

ظاهرها تقليدية ولكنها تطوى فى أعماقها قصة حب وإن يكن حبا من جانب 

واحد. . 

وهمست وهى تنظر بعيدا: 

-على أى حال لم تعد كذلك! 

ضم ذقنها بين أصابع يده وأدار وجهها بلطف ومال برأسه حتى تلاقت شفتاه 
المشوقتان بشفتيها الرقيقتين فى نبضة متبادلة . وارتد وهو يبتسم فى سعادة حقيقية . وراح 
ينظر إلى مجامع أصص الزهور فى الفراندا بعينين غمرتهما العاطفة كما يغمر الضباب 
زجاج النافذة. والقصة بعد ذلك ليست اختلاقا على طول الخط» طالما أعجب بجمالها 
فى ذلك العهد البعيد. وهو وإن لم يكن نسيها عشرة أعوام إلا أنه يحبها الآن حبا حقيقيا 
فما الضير فى سد الفجوة بكذبة بيضاء تشع حكمة وتضفى على علاقتهما جمالا 
ساحرا! . ولكن المحبوبة لا تريد أن تنفصل عن أمها كأن القابلة نسيت أن تقطع حبلها 
السرى فى حينه . وهو يتوجس من ذلك خيفة أحيانا ويتطلع بإلحاح إلى اليوم الذى يتم له 
امتلاكها حقاء ونظرة الاسترشاد أو الاستئذان التى توليها إياها عند مقاطع الحديث تقلقه 
بعض الشىء . ولكن سعادته اكتسحت ذلك كله كما تكتسح الموجة العالية نفايات 
الساحل ثم تتركه أملس صافيا. وفقرها المدقع فى تجارب الحياة العادية أسعده. ولعله 





6 السهان واكزلف 


تملق شعوره بالاستعلاء كما لذه حنينها الدائم إلى الموسيقى واطلاعها الغنى على 
الرحللات» وقال: 

حبك كنز ثمين لا يقدر بشمن» وعندما جئت لمقابلتك أول مرة سألت الله أن أقع من 

نفسك موقعا حسنا. . . 

كنت أراك قبل ذلك فى الصحف . . 

فقال بارتياح : 

-لو توقعت ذلك فى حينه لاستعددت استعدادا أكثر عناية للتصوير. . 

-هذا لايهم ألبتة» ولكن سمعت أيضا عن اشقاوتك» فى السياسة. . فضحك 

مطوحا برأسه إلى الوراء مرة أخرى على طريقة ذلك الباشا وقال: 

-ترى ما رأيك فى ذلك؟ !. . أنا صديق عتيد لهراوات البوليس وزنزانات الأقسام 

والرفت والمطاردة . ترى ما رأيك فى ذلك؟ ! 

فعضت باطن شفتيها مرة أخرى وقالت: 

بابا يقول: . . 

وسرعان ما قاطعها: 

-لا داعى للاستشهاد يبابا فى هذا الشأن. أنا أعرف مقدما رأيه» فهو من رجال الجانب 

الآخرء وأنت لا تهتمين إلا بالموسيقى وكتب الرحلات؟! . . . عليك من الآن 

فصاعدا أن تعدى نفسك لدور زوجة الرجل السياسى بكل معنى الكلمة. . 

ورجعت سوسن هام إلى الحجرة فوقفت أمامهما وهى تقول بلهجة من يفضى بنتيجة 


ليكن الأمر كما تشاء . : 

فوقف الشاب ببدلته الشاركسكين الناصعة البياض وهو يقول : 
شكرا يا هام . . 

ثم جلسا وهو يستطرد: 


- ليكن الزواج إذا فى أغسطس ثم نسافر إلى أوروبا بعد ذلك مباشرة . . 

وتلاقت النظرات فى ارتياح . وغاب آخر شعاع من الشمس . وربت عيسى على 
ركبتيه فجأة ثم قال مخاطبا سوسن هام : 

كنت أحادث سلوى عن غرامى بها منذ عشرة أعوام! 

فرفعت المرأة حاجبيها دهشة وقالت لابنتها محذرة: 

-لا تصدقى كل شىء يا سلوى. خطيبك سياسى وأنا أدرى بهؤلاء السياسيين! 

وأغرق ثلاثتهم فى الضحك . . . 


11100 





اسان وارلفف ١١‏ 


3 


كان عيسى يتناول فطوره حين توقف الراديو عن إرساله المعتاد ليذيع بيان الجيش فى 
صباح 71 يوليو. . . 

لم يفقه معنى ما تلقته أذناه بادئ الأمر . ثم وثب من مجلسه ليحملق فى الراديو وهو 
يلعق شفتيه . وترادفت الكلمات الغريبة لتصنع جملا مذهلة سرعان ما تنفجر الدهشة 
عند استيعاب معانيها. ودار رأسه كمن يخرج بغتة من ظلمة عمياء إلى نور باهر. وراح 
يتساءل ما معنى هذا! ما معنى هذا؟ ! 

ومضى إلى حجرة الجلوس فجلس إلى جانب أمه وهو يقول : 

أنباء خطيرة جدا. . 

رفعت العجوز إليه عينيها الضعيفتين فقال: 

الجيش يتتحدى الملك! 

وهضمت المرأة الخبر بعسر شديد ثم تساءلت : 

كأيام عرابى باشا؟ ! 

آه. . كيف لم يرد هذا المعنى على ذهنه!؟ . حقا إنه فى نهاية من الاضطراب . وتمتم : 

-نعم» كأيام عرابى. . . 

فسألته بقلق : 

وهل تقوم الحرب؟ 

آه. . ماذا سيقع حقا؟! ليس فى القاهرة الآن شخصية واحدة يمكن الرجوع إليها 
لاستقاء الأنباء . وإذا كان هو لم يقم فى إجازة فما ذلك إلا لأنه أجل إجازته لحين سفره 
إلى الخارج . 

-كلا» للجيش مطالب وسوف تتحقق مطالبه» هذا كل ما فى الأمر. . 

وسافر إلى الإسكندرية. ها هو الطاغية يتلقى صفعة فولاذية. لتكن صفعة بقوة 
طغيانه. فلتكن قاضية. وليحترق باجترار آثامه. انظر إلى عواقب غيك وحماقتك . 
ولكن أين تقف هذه الحركة؟! وما الدور الذى سيلعبه الحزب؟ الأمل أحيانا يسكره. 
وأحيانا يدوخه إحساس كالذى يخالج الكلاب قبيل الزلازل. ووجد عبد الحليم باشا 
شكرى فى أثنيوس مرتديا بدلة بيضاء من الحرير الطبيعى مغروزا فى عروة جاكتتها وردة 





ل اسان الف 


حمراء قانية» وأمامه قدح من البيرة الاستوت لم يبق فيها إلا رغوة كاليود» وقال له الباشا 
وهو يضيق عينيه فى فتور : 

-دعك من مطالب الجيش» الحركة أكبر من ذلك. المطالب يمكن أن تتحقق اليوم ثم 

يشنق مقدموها غداء كلا يا أستاذ» ولكن من الصعب جدا التكهن بما وراء ذلك . . . 

أليس عند سعادتك أخبار؟ 

الحوادث أسرع من التنبؤء كان يجلس مكانك منذ ساعة مستر جودوين الصحفى 

الإنجليزى وقد أكد لى أن الملك قد انتهى . . . 

فاستكان للدهشة الطاغية دقيقة ئم تساءل: 

أليس لنا علاقة بهذا الأمر؟ 

لا يمكن الجزم بشىء من هؤلاء الضباط؟ ولا تنس أن زعماءنا فى الخارج . 

-قد يكون لسفرهم علاقة بالحركة . 

وأبى وجهه أن يتفاءل واكتفى بأن قال بصوت لا يكاد يسمع : 

-قد! 

وأكثرا من الكلام وأعاداه دون أن يضيفا إليه جديدا ولكنه انقلب غاية فى ذاته وجدا 
فيه متنفسا عن القلق . 

وفى فيللته بسيدى بشر استلقى على بك سليمان على كرسى خيزران هزاز» شاحب 
الوجهء مغضن الجحبين بعبوسة ثابتة» وفى عينيه نظرة مريضة خسرت جمالها الطبيعى 
وكبرياءها المأثور. ولما رآه مقبلا تطلع إليه باهتمام شديد وسأله بلهفة : 

ما وراءك؟ 

وجلس عيسى وهو يشعر بثقل نظرات الرجل وزوجه وكريته ثم قال بهدوء ظاهمرى 
واعتزاز خفى بما سيضيفه إلى الموقف من جديد: 

الملك انتهى . 

وانطفأ آخر قبس فى عينى الرجل» وألقى نظرة عليلة على البحر المعربد من خلال 
الشرفة» ثم تساءل: 

-وأنت. . أعنى أنتم . . هل أنتم موافقون؟ 

استمتع بلحظة اعتزاز كاذب تأرجحت فوق جرح أليم» وتمتم : 

الملك عدونا التقليدى . 

اعتدل البك فى جلسته وسأله : 

هل للحزب علاقة بما يحدث؟ 


1110م 





الها نالف 0 


ود لو يستطيع أن يجيب بالإيجاب أمام الأعين المحدقة ولكنه قال وهو يدارى 
تعاسته : 

لا أدرى عن هذا شيئا. 

لكنك تستطيع أن تدرى بلا شك . 

-ولا أحد ممن قابلتهم يدرى» وزعماؤنا الحقيقيون فى الخارج كما تعلم سعادتك . 

فنفخ الرجل بضيق شديد وقال: 

- نسينا بسرعة درس عرابى وعما قليل سيزحف الإنجليز. 

فتساءل عيسى قلقا: 

هل من أنباء عن ذلك؟ 

فلوح الرجل بيده ساخطا على حين سألته سوسن ها : 

ألا يحسن أن نذهب إلى العزبة؟ 

فأجابها بفتور: 

لا أحد يدرى ما هو الأحسن. 

وانطلقت الأحداث حتى غادر الملك البلاد» وشهد عيسى ذلك فى الإسكندرية ورأى 
بعينيه تحركات الجيش» كما رأى المظاهرات الصاخبة . وعانى طوال الوقت من عواطف 
متضاربة أطاحت به فى دوامة ما لها من قرار. شعر بفرحة كبرى عزت على التصديق 
والتأمل» وشفت صدره من آلام المقت المكبوت . ولكن هذه الفرحة لم تنطلق إلى ما لا 
نهاية» وإنما ارتطمت بسحائب دكناء كدرت بعض الشىء صفاءها. أهو رد الفعل 
الطبيعى لكل شعور عنيف!, أم هو رثاء تجود به النفس المطمئنة أمام جنة غريها الجبار؟ , 
أم أن تحقيق هدف من أهدافنا الكبرى يعنى فى الوقت ذاته زوال سبب من أسباب حماسنا 
للوجود؟. أم أنه عز عليه أن يتتحقق هذا النصر الكبير من غير أن يكون لحزبه الفضل 
الأول فيه؟ 

وهكذا وجد زوار عبد الحليم باشا شكرى فى قصره بزيزنيا. كانوا مزيجا من السرور 
والوجوم والقلق. وراح الباشا يقول: 

سبحان من له الدوام . 

وبطريقته الخطابية فى الحديث قال الشيخ عبد الستار السلهوبى عضو الشيوخ : 

-انتتهى فاروق ولكننا نريد أن نطمئن على أنفسنا . 

وتمطت موجة من الضحك العصبى الخالى من السرور الحقيقى غير أن عيسى تساءل 
وهو يجلس إلى جانب أصدقائه سمير عبد الباقى وعباس صديق وإبراهيم خيرت : 





0 اسان ولف 


ماذا عن المستقبل؟ 

فأجابه عبد الحليم باشا شكرى متجاهلا الغرض الحقيقى من السؤال : 

سيكون خيرا من الماضى بلا ريب ! 

فقال له الشيخ عبد الستار السلهوبى : 

لعل رسال عن عقبلا نه ؟ : 

فقال الباشا بوجه غير معبر كما يجدر بسياسى عتيق : 

سيكون لنا دورنا بغير جدال . 

واهتز جذع الشيخ عبد الستار كالمقرئ فى الفترات المتخللة للتلاوة ثم قال بعنف: 

هذه الحركة ليست فى صا حنا. . إنى أشم الخطر على بعد آلاف الأميال» يوم ألغيت 

المعاهدة خسرنا الملك والإنجليز» واليوم سنخسر كل شىء. 

فقال سمير عبد الباقى : 

نحن آخر من يتوقع الخطر أو هذا ما ينبغى . 

وقال إبراهيم خيرت : 

إن ما حدث اليوم هو ما كنا نفعله لو ملكنا القوة اللازمة . 

فقال الشيخ عبد الستار ساخرا : 

ولكننا لم نفعله يا سى عمر! 

وتجمع الماضى فى خيال عيسى كقبضة عنيفة مفعمة بالجلال والحزن. وحدثه قلبه بأن 
ذلك الماضى يتبلور الآن فى صورة فقاعة لن تلبث أن تنفجر. وإن وجها جديدا من 
الحياة يسفر عن صفحته رويدا رويدا حافلا بالجدة والغرابة. وأن بوسعه أن يتعرف على 
هذا الوجه لأنه سبق له أن لمحه هنا أو هناك. ولكن من أين لهذا الوجه أن يتعرف عليه هو 
داخل الفقاعة المتفجرة؟ ثم استراحت عيناه عند صور فنية معلقة على الجدار فوق المدفأة 
الباردة» وتعرض زنجية غليظة الشفتين جاحظة العينين فى غير دمامة» تحدق فى وجهه 
بنظرة حسية وقحة ناطقة بالإغراء والتحدى . . . 


0 
وشحن الجو باحتمالات شتى متناقضة ولكنها اتفقت جميعا على انتزاع الطمأنينة 


من نفسه فكابد حياته بأعصاب عارية» وبات تأجيل زواجه أمرا محتوما حتى تستقر 


1110 





النيّا نالب 11 


الأرض تحت قدميه وحتى يسترد حموه وعيه. وانتصبت علامات الاستفهام أمام عينيه 
وأعين أصحابه كالرايات السود على السواحل عند هياج البحر ومضغوا الشائعات 
كالعلقم . ثم علم أن حسن ابن عمه اختير لوظيفة مهمة وأن الباب انفتح أمامه إلى مراكز 
أهم وأخطر ما قطع بأنه من أهل الدنيا الجديدة وقد صعقه الخبر أشد مما صعقته 
الأحداث» ولبث مدة لا يدرى كيف يبلغه أمه ولكن العجوز لم تفهم الأمور على 
حقيقتها وقالت ببلاهة : 

أشاى دورق لتعونء اند ادن كل سين 

وقال لنفسه : ما أجمل أن يعيش الإنسان بعيدا عن منطقة الوعى! ثم أعلن عن نظام 
التطهير . وقرأه بانتباه جنونى ومرارة ويأس . سيدركه الدمار الذى يحيق بالأحزاب 
والزعماء ستقتلع الجذور التى تثبته بأرضه جذرا بعد جذر. وما أغرب ما يقع اليوم مالم 
يكن يتخيله أحد . ها هو صديقه إبراهيم خيرت المحامى وعضو مجلس النواب السابق 
يتحمس للثورة بقلمه فى أكثر من صحيفة كأنه ضابط من رجالها! ويهاجم الأحزاب ‏ 
وحزبه ضمنها طبعا ‏ والعهد البائد كأنما لم يكن أحد رجاله. وعباس صديق آمن مطمئن 
غير مكترث للأحداث إذا وجد ظهرا يحميه فى العهد الجديد بل واصل طموحه إلى 
الترقى بأمل أقوى مما كان. سمير عبد الباقى وحده الذى شاركه القلق والمنوف 
والمصيرء وهو شاب نحيل رقيق قمحى البشرة تشع من عينيه الخضراوين نظرة حالمة 
فوجد عنده بعض العزاء» وسأله: 

- كيف تتصور أن يكون مصيرنا؟ 

فقال وهو يبتسم ابتسامة باهتة : 

الطرد أقل ما ينتظرنا. 

فسأله بحلق جاف: 

-ما عسى أن نفعل؟ 

معاش لا قيمة له ولكننا قد نجد عملا فى شركة . 

-ترى هل يتيسر لنا ذلك» وهل نحد الشجاعة لنبدأ من أول الطريق من جديد؟ ! 

وهز الآخر رأسا لا يعد الشيب نادرة فى سواده وغمغم بلا روح : 

عسى أن تكذب الأحداث ظنوننا. 

وتراكمت الشكاوى فى لجحنة التطهير كالزبالة. وعلم عيسى أن كثيرا منها يستهدف 
القضاء عليه . ولم يستغرب ذلك بطبيعة الحال فإن أعداءه من المسئولين فى الوزارة أكثر 
من أصدقائه؛ وأضاف إليهم الحاقدين والحاسدين والذين يتطوعون للشر عند أى 
مناسبة . بل من هؤلاء وأولئك من تحداه علنا فى الوزارة بلا سبب» ومن عرض به ساخرا 





0 اسان و الف 


وجها لوجه. وحتى بعض مرءوسيه استباح لنفسه الاستهانة به حتى انقلبت الوزارة ركنا 
من الجحيم . 

ثم استدعى للمثول أمام لجنة التطهير . وكانت اللجنة تجلس وراء مائدة خحضراء 
امتدت فى عرض الحجرة بمكتب المستشار القانونى للوزارة» واحتلت السكرتارية الجناح 
الأيمن. على حين دعى هو للجلوس أمام الأعضاء فى الناحية المقابلة من المائدة» لمح 
مكان صورة الملك أخرى تحمل اسم الله» ونقل بصره بين الوجوه فعرف فى تمثل مجلس 
الدولة زميلا قديما فى لحنة الطلبة كاد يهلك معه يوما فى مظاهرة أمام بيت الأمة فبل منظره 
ريقه ولكن الأعين جعلت تنظر إليه برزانة أو تلقى على الأضابير نظرات ولم يبد على 
أحد منهم أنه زامله يوما ما بالرغم من وجود مراقب المستخدمين ومدير الإدارة العامة 
بينهم . وكان شخصه يهز كثيرين من أعضاء اللجنة فى الماضى حتى وحزبه خارج الحكم 
ولكن حلت الحيدة الباردة محل العرفان والعاطفة وسرى فى جو الحجرة الكبيرة العالية 
السقف ذات الجدران القاتمة المشبعة برائحة السجائر العطنة روح رهبة ثلجية؛ ومن خلال 
زجاج الباب المغلق انقضت حدأة على الشرفة الخارجية ثم ارتفعت بسرعة خاطفة وهى 
تطلق صونا كالنواح . 

وحدجه الرئيس بنظرة طويلة من نظارته الكحيلة المذهية وقال: 

أرجو أن تطمئن كل الأطمئنان إلى عدالتنا فهى لا تبتغى إلا وجه الحق وحده. 

فقال بهدوء باسم ليستر يأسه : 

لاا شك عندى فى ذلك . 

وأحب أن تعلم أن المهمة التى كلفنا بها غايتها المصلحة العامة لا الانتقام ولا أى 

غرض آخر. 

فقال وهو يهبط درجات جديدة فى أحضان اليأس : 

لاشك عندى فى ذلك أيضا. 

وصدرت إشارة إلى السكرتارية فتليت العرائض تباعا. بعضها موجه من موظفين 
والبعض الآخر من عمد. وانقلب صوت قارئ العرائض رتيبا كملقن الأموات» 
وأغمض عيسى عينيه ابتغاء تركيز أشد ولكن التهم جميعا انصبت على تعيين العمد 
بالحزبية والهدايا فتشتت فى التكرار تركيزه وذاب فى الظلمة التى اختارها. ومن خلال 
ضباب أحمر انغرزت فى أذنيه السهام ورغم الجهد المبذول للتركيز اعترضته الذاكرة 
بصورة قديمة جدا مخضلة كأعشاب الطفولة اليانعة وهو عائد من ملعب كرة فى الخلاء 
المحدق بالوايلية فى يوم انهل مطره كالسيل فلم يجد ما يحتمى به من انفعال السماء إلا 
أسفل عربة زبالة . وتساءل عن معنى هذا كله . وفتح عينيه فرأى الوجوه وهى تتموج» 


1110م 





الها ن ولف ١‏ 
وللحظة قصيرة خيل إليه أن فردة شارب المستشار اليسرى موصولة بفردة شارب ممثل 
مجلس الدولة اليمنى» وسكل عن رأيه . أى رأى؟! وقال بحدة قاهرة : 

كلام فارغ » أريد دليلا واحدا . 

وامتلأ قوة ولكنه سرعان ما باخ وتهاوى كورقة خضار ذابلة صفراء . قال الرئيس: 

كان الوزير يعتمد ترشيحاتك فأنت أول مسكئول . 

كان ذلك ضمن واجباتى وقد أديته بما يرضى ضميرى . 

هل من سبب غير الحزبية يمكن أن يفسر لنا عزل وتعيين العمد؟ 

فقال وهو يحاول أن يسيطر على لهاثه وتهدجه: 

لتكن الحزبية هى السبب ألم تكن من مقومات حياتنا الماضية؟ 

هل أنت مقتنع بصحة تصرفاتك؟ 

-أرى أنها كانت طبيعية جدا . 

فتساءل الرجل وهو يلعب بالباركر فى يده : 

والهدايا؟ ! 

فاندفع يقول بحدة : 

- قلت إنه كلام فارغ . أريد دليلا واحدا. 

وتليت أسماء الشهود من العمد أنفسهم فهتف : 

ما قيمة الدس الوضيع؟ 

ثم استدعى موظفون تمن عملوا معه على فترات متتابعة فأدلوا بأقوالهم وعرضت عليه 
توقيعات بخط يده لترقية موظفين بصفة استثنائية ولأداء خدمات فى الرى والزراعة 
وبعضها يوصى بمجرمين ريفيين من تربطهم صلات الرعاية أو القربى بنواب سابقين. 
وامتد الوقت حتى فقدت الأشياء ألوانها. وصاح بعصبية : 

دلونى على موظف واحد يستحق البقاء ! 

وتصدى له عضو فى اللجنة لم يعرفه من قبل فتكلم بعنف عن واجبات الموظف نحو 
الشعب ثم قال: 

الثورة صادقة العزم على تطهير الجهاز الحكومى من كافة أنواع الفساد وأؤكد لك أن 

المستقبل لن يرى مصريا واحدا مهضوم الحق» ولا مصريا واحدا يؤثر بأى لون من 

ألوان الخير أو الامتياز لانتمائه إلى فرد أو أسرة أو هيئة . 

ونصحه شىء فى أعماقه بألا يتعرض لناقشة هذا العضو فلاذ بالصمت. واستمر 
التحقيق حتى الرابعة مساء» ثم غادر اللجنة كعود جاف مقصف اخترمته دودة عاتية! 





1 اسان و زلف 


واخترق إلى الدقى طرقات غرقت ‏ كقارة أطلس ‏ بجميع أبعادها وأحيائها وجمادها 
تحت أمواج ذاته الهائجة المتلاطمة حتى لم يعد يرى أو يسمع أو يعى إلا القلق الشيطانى 
بأشواكه الحادة ومكره القاسى . وتساءلت الأم العجوز: 

لم لا تحدث فى أمرك ابن عمك وهو منهم؟! 

لدغته وصيتها فانفجرت فى عينيه نظرة جنونية من الغضب . 


واستدعاه مراقب المستخدمين ليبلغه قرار إحالته إلى المعاش مع ضم ستتين إلى مدة 
خدمته. وهو نفس المراقب الذى كتب مذكرات ترقياته الاستثنائية التى توجت بترقيته إلى 
الدرجة الثانية . . ولعله مازال يحتفظ بمشروع مذكرة لترقيته إلى الدرجة الأولى كانت قد 
أعدت لرفعها إلى مجلس الوزراء قبيل إلغاء المعاهدة بأسبوع واحد ثم لم تحظ بفرصة 
لاعتمادها فى غمار الأحداث التى أعقبت إلغاء المعاهدة» ولم يكن للرجل لون حزبى 
ولكنه لم يشك لحظة فى كراهيته له لتساويه معه فى الدرجة رغم فارق السن الشاسع 
بينهما. وتأثر المراقب بمأساة الموقف فانتهز خلو الحجرة من أى مستمع وقال له: 

لا يعلم إلا الله مدى حزنى يا أستاذ عيسى. . . 

فشكره وهو على يقين من مدى كذبه فثمانية أعوام فى معاشرة الموظفين كافية جدا 
ليجيد ترجمة مصطلحاتهم المحفوظة فى المجاملات إلى معانيها الحقيقية. وها هو ملف 
خدمته مطروحا على مكتبه» وهاهو اسمه مخطوطا على غلافه بالفارسى اعيسى 
إبراهيم الدباغ» فرآه بعين الخيال وهو يلقى فى الدفتر خخانة ليقبر هنالك إلى الأبد بكل ما 
يسجل فى أوراقه من توقعات تاريخية تشهد له بالامتياز وتبشره بأسعد مستقبل . وسأل 
عن مقدار معاشه فأجاب المراقب: 

-اثنا عشر جنيها ولكنك ستقبض مرتبك كاملا لمدة عامين . . . 

وغادر الوزارة بعينين تحملقان فى داخل رأسه . أيقن الآن أنه قضى عليه بأن يعانى 
التاريخ فى إحدى لحظات عنفه حين ينسى وهو يثب وثبة خطيرة مخلوقاته التى يحملها 
فوق ظهره فلا يبالى أيها يبقى وأيها يختل توازنه فيهوى . ومشى طويلا فى دفء الشمس 
دون هدف وفى غفلة تامة عن الشوارع التى يخبط فيها. تذكر البوديجا قهوته المختارة 
فمضى إليها. فى مثل هذا الوقت من الظهيرة ليس ثمة أمل فى أن يجد فى مجلسه أحدا 


1110م 





اسان ولف 1 


من أصدقائه فراح يحتسى الشاى وحيدا وصورته فى إحدى المرايا المصقولة تؤانسه رغم 
فيها أصدق مثال للامبالاة التى تلقت بها الدنيا كارثته فتحول عنها وعن الغارقين فى 
دخان النارجيلة إلى صورته الكئيبة . لو نطقت هذه الصورة لوجدت حما من يفهمنى . 
خبرنى ماذا فعلت» ولم لم تقرأ المستقبل إذ هو على بعد ساعات منك على حين تؤكد 
أخبار وقعت فوق سطح الأرض منذ ملايين السنين . وهذا الوجه ذو الرأس الكبير والهيئة 
المثلثة الذى مدحه أحد الشعراء فشبهه بدلتا النيل» وهذا الوجه الذى كان مرشحا 
للصفحات الأولى من الصحف. ما باله يندثر كالديناصور عملاق الأساطير البائدة؟ 
القاهرة. وإذا علوت بضعة آلاف من الأقدام فى الفضاء فلن ترى فوق سطح الأرض حيا 
ولن تسمع صوتنا إذ يذوب كل شىء فى حقارة رهيبة كونية . والماضى الضخم الذى ما 
إلا على رائحة كريهة . 

وارتفع صوت يقول فى عصبية : 

قلبى يحدثنى بأننى سأجدك هنا. . 

وأقبل سمير عبد الباقى فجلس إلى جانبه بوجه شاحب ونظرة منكسرة كأنما تطالعه 
من وراء قضبان. وفرح عيسى به فرحة جعلته يشد على يده بقوة نابضة بالاستغاثة . وعاد 
سمير يؤكد: 

قلبى يحدثنى بأننى سأجدك هنا! 

فضحك عيسى ضحكة عالية اختلج لها جفنا صاحب القهوة وراء طاولته ثم قال: 

- ولن تجدنى منذ اليوم إلا هنا! 

فرنا إليه بنظرة ميتة من عينيه الخضراوين وقال: 

وأنا كذلك اليوم» وقد غادرت الوزارة لآخر مرة. . 

وتبادلا نظرة طويلة مغرورقة باليأس» ثم اجتاح عيسى مرح غريب لكنه مريب غير 
أصيل كأنه منبعث من خمر أو مخدر وتساءل: 


ل 


لدينا هدنة عامين بمرتب كامل . 
وبعد ذلك ! 


-يمكن أن نجد عملا فى شركة . 





15 اسان و الف 


فتساءل عيسى بارتياب : 

وأى شركة تجازف بقبولنا؟ ! 

فقال سمير متنهدا : 

لابد لكل مشكلة من حل . . 

ومضى فى طريقه إلى مسكنه وهو ينظر إلى الناس بغرابة كأنما يراهم لأول مرة. وهم 
غرباء لا يمتون إليه بسبب ولا يمت إليهم بسبب» وهو منفى فى مدينته الكبيرة» مطارد 
بغير مطاردة» وعجب كيف انهارت الأرض تحت قدميه فجأة كأنها نفخة من تراب» 
وكيف تقوضت الأركان التى قاومت الدهر ربع قرن من الزمان. . وألقى نظرة على وجه 
أمه الذابل ثم دهمها بالخبر فوضعت راحتها فوق يافوخها كأنما لتوقف الألم المتصاعد 
وتأوهت متسائلة : 

-لم يفعلون بك ذلك يا بنى؟ 

من الخير أنها لا تدرى شيعا. وراح يتجول فى المسكن على مهل . يا له من مقام 
نفيس لا يمكن الاحتفاظ به بعد الآن. مرتب عامين ورصيد فى البنك من نفحات العمد. 
ولكن هل يكفيه ذلك إلا عامين آخرين؟! وجميع هذه التحف التى تزين المدخل 
والاستقبال والمكتبة هى أيضا «هدايا» . أجل إن المذنبين أضعاف المطرودين ولكنه مذنب 
وأصحابه مذنبون. أين الأيام البعيدة الطاهرة أين! . أما الختام فهدايا محرمة وفساد ثم 
الضياع المباغت وهو على عتبة المناصب العالية المؤدية إلى كرسى الوزارة! . وكيف تعيش 
فى دنيا من الناسين والمتجاهلين والشامتين وقد طويت الأمجاد كأن لم تكن ونشرت 
الأخطاء كالأعلام؟ ! 

وذهب عصرا إلى فيللا على بك سليمان تحت سماء ملبدة بالغيوم وقد عصفت بالجو 
ريح باردة أثارت غبار الأرض كالخماسين . . وفكر وهو يصعد السلم المرمرى العريض 
بأنه لولا الحصانة القضائية لقذف بعلى بك سليمان إلى جانبه فى الشارع . وكان البك 
فى الخارج وسوسن هام فى الفراش متوعكة بنزلة برد ثم جاءت سلوى فى روب من 
المخمل الأزرق سطع من طوقه وجهها كالضياء . وهو وجه على جماله شحيح التعبير فلم 
يستطع أن يقرأ فى صفحته أثر الأحداث ولكن قلبه المكروب اهتز لمرآه ونبض فيه الشوق 
كلحن قلق . وقال لنفسه إنها القيمة الوحيدة الباقية لى فى الحياة . وتساءل فى اللحظة 
التالية ترى هل هى «لى») حقا؟! . ورغبة فى حسم الوساوس قال بإيحاء مخيف: 

-سلوى. . . أحالونى إلى المعاش . . . 

اختلجت عيناها الجميلتان الخاملتان وهمست فى ذهول : 

أنت ؟! 


11100 





السها ن ولف ١1‏ 

فقال مسلما أمره للمقادير : 

- نعم أنا كما يقع للكثيرين فى هذه الأيام . 

فحدجته باستغراب قائلة : 

فوخزه قولها كطعنة فى العين» وترنح خياله منذعرا بين التحف ورصيد البنك ثم 
قال: 

امتد بصرها عفوا إلى تمثال برونزى لفارس مغربى يمتطى جوادا كأنما تستلهمه الرأى ثم 
عتمت : 

ا 

-سوف أجد عملا خيرا من وظيفتى . . 

وابتسمت كأنا لتعتذر عن فتورها المتزايد وتساءلت : 

أين ؟ 

وتساءل هو عن مدى حبها وعما تضمره له الأيام من غدر جديد ولعن فى سره صورة 
رئيس لجحنة التطهير التى اقتحمت خياله فجأة» ثم أجاب : 

- فى شركة أو ذ فى العمل الجر. 

وبرز طرف لسانها ليرطب شفتيها فى حركة طبيعية وشت بنسيانها لنفسها فأدرك مدى 
الخخيبة التى تعانيها وقال برجاء : 

دعينى أستمد القوة منك! 

فابتسم فوها وحده وغمغمت: 

أتمنى لك النجاح . . 

فطرح يده على يدها المبسوطة فوق ذراع المقعد وقال فيما يشبه الهمس : 

الحزب يهزأ بأمثال هذه المشكلات بكل بساطة . . 

قد تكون فاترة الطبع ولكنها تحبه بلا ريب ل ل 
نحوها وطوقها بذراعه. وعندما رشقته بنظرة مخملية واستسلم جذعها لذراعه 
رعاو تو رو م و حا بوجي ارو حييا ب لد وتفحية 
المتوثبتين شفتيها الرقيقتين تين مذعنا لتحريض شهوة طامحة للعزاء ولكنها أوقفته براحة 





14 اسان و الف 


مبسوطة وأدارت وجهها لتتخلص من هجمته فانفصلا وهما يلهثان. وانفصلا أكثر 
بصمت رهيب تبادلا فيه العتاب من ناحية والاعتذار من ناحية أخرى عن طريق قراءة 
الأفكار المحمومة ثم خرج صوته من المعمعة كسيرا وهو يقول: 

سلوى . . أنا أحبك . . حياتى كلها تتلخص فى شىء واحد هو أنت. . 

فربتت على يده برقة ورثاء فقال : 

- يجب أن تتكلمى . . 

فتنفست بعمق لتستعيد توازنها ثم قالت: 

علينا أن نواجه الحياة بكل ما فيها. . 

وصغى إلى عزوبة النغمة بارتياح عميق . وود أن يغيبا عن الدنيا فى مكان مجهول إلى 
الأبد. مكان لا سياسة فيه ولا وظائف ولا ثورات ولا ماضى له . وسألها بصوت مبتهج 
لأول مرة: 

هل تهبيننى الثقة والتشجيع؟ 

فقالت وهى تجفف شفتيها بمنديلها : 

- لك ما تريد وأكثر. . . 

وجاءته رغبة جديدة فى معانقتها ولكن صوت على بك سليمان تردد خارج الحجرة 
كأغا يعلن عن مقدمه . 


أقبل البك نحوهما شبه مبتسم» ومكث معهما قليلاء ثم دعا عيسى إلى الاجتماع به 
فى حجرة مكتبه» وبدا جو الحجرة فى شبه ظلام لبعدها عن الطريق ولشدة اكفهرار الجو 
فى الخارج فأضاء مصابيحها. وجعل عيسى ينظر إليه بعناية فقرأ فى أعماق عينيه 
تجهما فتساءل ترى ألهذا علاقة به أم أنه العاقبة الحتمية للأحداث؟ . وحانت منه التفاتة 
إلى فوق. فرأى صورة للبك فى التشريفة القضائية قد حلت محل الصورة التقليدية 
للملك . 

وتساءل على بك سليمان: 

كيف الأحوال؟ 

فتظاهر عيسى بالاستخفاف وهو يقول: 


1100 





اسان الب 1 
سأبدأ من جديد؟ 
وقص عليه مأساته فى كلمات من وجهة نظره فتفكر الرجل قليلا ثم قال: 
-لن تجد الأمرسهلا. . . 
أعلم ذلك ولكنى غير يائس . . . 
وللاحت فى عينى البك نظرة جادة لدرجة مثيرة ثم قال بنبرة الاعتراف : 
الحق أن الحكاية لم تكن مفاجأة لى! 
لعل رئيس اللجنة قد أبلغها سعادتك؟ 
- نعم . 
ألم يكن فى الإمكان. . . 
-كلاء الرجل صديق حقا ولكن اللجنة أقوى من رئيسها والخوف قد ركب الجميع. . 
فقال بامتعاض : 
على أى حال ما فات فات فلنفكر فى المستقبل . . 
-هذا خير ما نفعل . . 
فقال عيسى متحديا المجهول : 
عن ذلك حادثت سلوى. 
سلوى؟ ! . . هل أخبرتها حقا؟ 
هذا طبيعى جذدا. . 
بعد تردد : 
بكل شىء؟ ! 
فحدجه بنظرة مريبة وقال بشىء من الحدة : 
طبعا! 
وماذا قالت؟ 
فقال وهو يتوثب فى باطنه لجميع الاحتمالات : 
ما ينتظر منهاء فهى معى فى الخير والشر على السواء! 
نقر الرجل بإصبعه على الكساء البللورى للمكتب ثم قال : 
أحب أن أكون صريحا معك» الزواج الآن ليس من العقل فى شىء! 
هذا حق الآن! 
وهز الرجل رأسه كأنما يخفى أكثر مما صرح به» فقال عيسى ليسبر أغواره : 





0 الهان واكزلف 


ما أنا إلا ضجية سياسية! 

فرفع الرجل حاجبيه الغزيرين دوثما إفصاح فراح الآخر يقول بغيظ : 

طالما كان لى الشرف بأن أكون كذلك. . 

وإذا بالبك يقول فى ضجر: 

- ولكن السياسة لم تكن هذه المرة وحدها! 

وتلاقت العينان فى نظرة مزعجة فاجتاحت عيسى موجة عاتية من الغضب وتساءل 
بصوت متهداج : 

مزيدا من الشرح من فضلك؟ ! 

فقال الآخر فى امتعاض وحزن : 

أنت تعرف ما أعنيه يا عيسى . . . 

فسأله بحدة أسمعت أركان الحجرة الوقور: 

أبك شك من ناحيتى ؟ ! 

-لم أقل هذا. . 

إذن ما تقصد؟ 

فقال وهو يقطب استياء من حدة لهجته : 

القرائن خطيرة . . 

فهتف: 

-بل هى حقيرة لدرجة أنه لا يمكن أن يهضمها إلا عقل حقير! 

الظاهر أن أعصابك . . 

أعصابى كالحديد وأنا أعنى كل كلمة تفوهت بها . 

فاحتد الرجل قائلا : 

إذا أثرت غضبى فسيكون أمرا مؤسفا حقا! 

ولم يكن بقى له من أمل فى سلوى أكثر من واحد فى المائة فصاح بجنون : 

-لا أبالى كيف يكون الأمرء وأيا كانت خطورة القرائن التى تذكرها فإننى لم أكن 

يوما انتهازيا ولم يكن للملك السابق فضل على. . 

وهب الرجل واقفا ووجهه يقطر غضبا قانياء وأشار إلى الباب بذراع متشنجة دون أن 
ينبس بكلمة . وهكذا غادر عيسى الحجرة. 

ورغم ذلك كله قرر ألا يذعن لليأس قبل أن يستميت فى الدفاع عن ركن العزاء الذى 


11100 





الها ن ولف ١‏ 
لم يتهدم. يجب أن تكون الكلمة الأخيرة لسلوى دون غيرها. ولم يكن ينتظر الكثير من 
شخصيتها ولا من حبها ومع ذلك طلبها عصر اليوم التالى فى التليفون» وقال لها 
بتوسل : 

ستلوق: :يجيه أن أفابلك فور + 
وحاءو اكوا #الصفعة ب 


-لا مشكلة بلا حل! 

هكذا تكلم إبراهيم خيرت فى ركنهم الخاص بالبوديجا. وهو لضآلة جسمه وقصر 
قامته يقعد قريبا من حافة الكرسى ليتمكن من إيصال قدميه إلى الأرض ويعقد جبينه فى 
مقدمة رأسه الضخم ليضفى على شخصيته جدية تصد عنها الهازلين. وتكومت فوق 
كرسيين متلاصقين معاطفهم وتقاربت رءوسهم فى القهوة المزدحمة الصاخبة . وقال 
عيسى لنفسه إنه ‏ إبراهيم خيرت ‏ يتكلم عن المشاكل والحلول بطمأنينة لأن الزلازل لم 
تحدث خسائر فى أرضه» وهو محام ناجح وقلم يتألق فى الصحف ومثله عباس صديق 
المستقر فى وظيفته رغم أنه كان أشد اغتيالا منه لأموال الناس . ولكن لم يكن الحسد 
ولا الحنق ولا الغضب ليؤثر فى صداقتهم الوطيدة وزمالتهم السياسية القديمة. 
وتناول سمير عبد الباقى كبشة فول سودانى من طبق صغير ممتلئ وقال : 

كلام جميل» ولكن ها هى الأيام تمقضى دون أن نجد حلا حقيقيا! 

ونظر عيسى إلى الرذاذ المتساقط فى الخارج من زجاج النافذة وتساءل : 

-وهل نبدأ من أول الطريق على الآلة الكاتبة؟ 

وراح عباس صديق يقرقر فى النارجيلة وينفث الدخان كعضو فى أوركسترا المدخنين 
بالقهوة والدخان ينعقد حول المصابيح المدلاة كالضباب وتأمل عيسى الوجوه المتباينة 
التعابير على طول القهوة» المتراوحة بين الخمول عند الحجالمين» والتركيز المحموم لدى 
اللاعبين» وتساءل فى جزع لاذا قدر عليه أن يحارب التاريخ فى موكبه المتدفق منذ 
الأزل؟! وتطلع من زجاج النافذة إلى الطريق السابح فى المطر والضوء بنهم جنسى يفتش 
عن امرأة مهرولة بمدخل عمارة مظلم» وقال: 

الشتاء جميل ولكن القاهرة غير مستعدة له. 

فقال إبراهيم خيرت مخاطبا سمير عبد الباقى : 





0 السيا نالف 


لا تنس أن رجالنا منتشرون فى مجالس إدارات الشركاث . 
ها هو يتكلم عنهم فيقول «رجالنا» ويحمل فى نفس الوقت بقلمه على الأحزاب 
والحزبية ويطالب بمحو الماضى محوا. وما أكثر القرف الذى يدعو إلى التقزز. وهو نفسه 
عنصر هام من عناصر القرف . والاستثناء المثير للحيرة حقا هو ماضيه ‏ وماضيهم ‏ المضىء 
بالإيثار وشرف النفس! وسأله : 
خبرنى عن شعورك وأنت تقرأ مقالاتك فى الصحف؟ ! 
فقال إبراهيم خيرت فى رزانة غير عابئ بابتسام الآخرين : 
- أنا أتساءل لم أراد الله لآدم أن يهبط إلى الأرض؟ ! 
ورقع غباس صديق وجهه عن حرطو التارجيلة وهو يجلس على كرسي ربغةابدينا 
فاقع بياض الوجه جاحظ العينين براقهما لحد المرض أصلع يوحى منظره جملة بأنه أكبر 
من عمره بعشرة أعوام على الأقل» وقال: 
سوف نشقى حتى نراكما فى وظيفتين كبيرتين بشركة محترمة . . 
وراح عيسى يحاول النفاذ إلى بواطن الآدميين المتكتلين فى القهوة لغير ماسبب 
واضح . وجرى فى الماضى ملايين السنين بين الدهشة والارتياع . ثم التفت نحو زجاج 
النافذة فرأى شحاذا واقفا وراءه ليرمقهم بنظرة مستعطفة وقد انقطع المطر فقال لأصحابه : 
تصوروا أن هؤلاء الآدميين انحدروا فى الأصل من السمك! 
لكن الأسماك ما زالت تزحم المحيطات بملايين الملايين. . ؟ 
فقال بفتور: 
وهذا هو سر مأساتنا الحقيقى. . 
وطرد الشحاذ بإشارة من يده وعاد يقول: 
- يعزينى أحيانا أن أرى نفسى كالمسيح أحمل خطايا أمة من الخاطئين؟ 
فسأله عباس صديق : 
هل أنت متأكد من معلوماتك التاريخية؟ 
فقال لنفسه إنه تأكد منها ساعة أغلقت التليفون فى وجهه. وقال إبراهيم خيرت 
بتحريض : 
-الليلة مناسية جدا لشىء من البراندى:. 
وشرب سمير عبد الباقى قليلا من الماء ليرطب فاه الذى جف بطحن الفول السودانى 
وقال: 
حتى على فرض أننا أخطأنا ألم يجدوا فى ماضينا ما يشفع لنا؟ ! 


1110م 





الستهان و اكليف 0 


وأغمض عيسى عينيه ليرى الماضى . فترة حية من نبض القلب . هدير المجد يخلد فى 
الأسماع . وهراوات الجنود كالصواريخ» والحماس المهلك للأنفس . ثم الإغراء الموهن 
للهمم. وزحف الفتور كالمرض . ثم الزلزال دون نذير كلب . ونشدان العزاء عند قلب 
أجوف, ثم صرير التليفون كصوت العدم . 

وقال سمير عبد الباقى أيضا : 

كنا طليعة ثورة فأصبحنا حطام ثورة! 

فقال إبراهيم خيرت باهتمام وكأنما يبرر موقفه بصفة عامة : 

أقول إنه علينا أن نلحق بالركب . . . 

فتجلت نظرة حزينة فى عينى سمير عبد الباقى الخضراوين وقال: 

قضى علينا بأن غوت مرتين. . . 

فأيد عيسى رأيه قائلا : 

-هذا هو الواقع ولذلك فنحن نتغذى بالسمك! 

ورأوا ماسح الأحذية يدق صندوقه حيالهم فاخحتبأوا فى الصمت حتى ذهب . 
وضحك سمير عبد الباقى ضحكة عالية استدعت تساؤلهم فقال: 

أذكر أننى أوشكت يوما أن أدخل المدرسة الحربية! 

فضحكوا معا حتى قال إبراهيم خيرت : 

-ما رأيكم فى أننى أتفاءل عند اشتداد الظلمات؟ ! 

فقال عيسى لنفسه ليس المعزى كالثاكل . وغادر القهوة حوالى العاشرة مساء وهو 
يحبك المعطف حول جسمه. ونظر إلى السماء فرأى آلاف النجوم وهى تومض . 
وتنشق فى الجمو الصافى عبير الشتاء غب المطر. وعكست الأرض المغسولة لونا سنجابيا 
لامعاء غير أن هواء باردا لفح وجهه فى هبات متقطعة منعشة كالدعابات القاسية» 
وعاوده الإحساس بالغرابة فمضى يطمئن نفسه بمرتب العامين الكامل ورصيده فى البنك 
المحصل من العمد . 

وفى جروبى جلس إلى عبد الحليم باشا شكرى والشيخ عبد الستار السلهوبى الذى 
كان يهمس بآخر نكتة . وسألاه عن الأخبار بطريقة آلية» وانتظر أن يفاتحه الباشا بنتيجة 
مسعاه فى إيجاد عمل له ولكن الشيخ السلهوبى سأله متهكما : 

- ألا تزال فرحا بإلغاء المعاهدة؟ 

فأدرك أن الشيخ قد أصيب حقا بعقدة المعاهدة الملغاة التى يرجع إليها فى جميع 
الأرزاء التى نزلت بهم» وقال عبد الحليم شكرى : 

الأحداث تنقض على زملاتنا كالصواعق! 





7 السيّا نالف 


ثم تساءل فى قلق : 

-هل يجىء دورنا؟ ! 

وراح عيسى يحتسى الشاى وهو يرمق الوجوه الرائقة بحسن التغذية» وإذا بعبد 
الحليم شكرى ييل نحوه قائلا : 

كل آت قريب! 

فاشتعل باطنه بالغضب وقال لنفسه: ما من أحد منهم إلا وقد قصده قديما فى خدمة 
قضيت فما بالهم يتنكرون له؟! 

وندت عن حسناء ضحكة بارعة كلحن جنسى وهو يغادر المحل . وفى الطريق دهمته 
الآلام التى هصرته حال إغلاق التليفون فى وجهه فكاد رغم البرد ينصهر . وهو الذى 
أحبها دون أن تثبت جدارتها بحبه لحظة واحدة. كلاهما قبل صاحبه أول الأمر لمزايا 
تهمه لا علاقة لها بالحب ولكنه أحبها بعد ذلك بصدق, أما هى فما أسرع أن أغلقت 
التليفون. ولعله من حسن الحظ أنه تلقى ضربة القلب وهو فريسة لضربه السياسة فلم 
تستأثر به وحدهاء وجعل ضيقه بكل شىء يستفحل حتى لم يترك فى النفس متسعا لأى 
قيمة. كيف توهم نفسك بأنك تريد عملا كما توهم الآخرين؟! 00 
تريد . فليعلم ذلك جميع السكارى . وابغ قبل ذلك عشرات الحماقات . واستمتع بنقا 
أطول من الموت . وليكن ما يكون. 


1١١ 


وجاء حسن ابن عمه لزيارته. وقال عيسى إن الذى تقبل عليه الدنيا لا يزور أحدا 
أديرت عنه فلماذا جاء؟ وتذكر عمه فثار باطنه وتوثب للتحدى» غير أنه استقبله يترحاب 
كلفه جهدا جهيدا . ومذ جمعهما المركز شعر برغبة فى الاختفاء كمجرم ولكنه أطلق من 
ذاته المكدودة مرحا مسرحيا. . وتبدت حيوية حسن فى أوجها وجرت فى ملامحه 
مسحي اوضع . لم يعد الناقد الحاقد المغلوب على أمره وعما قليل 
سيجود بمكارم عطفه! و ثمة شعور باطنى أثار اهتمام الأم بالزيارة فكت عن غمغمة 
التسبيح لتسمع كل كلمة تقال. وسأل حسن ‏ وهو يتمطق أثر حسوة شاى عن الحال» 
فأجاب عيسى بضحكة ولم يقل شيئا فعاد الآخر يسأل مرة أخرى فقال : 

الاترئ أنى أعيشن كالاغيان؟ 

فقال بجد: 


11100 





السهان وارلف و 


-آن لك أن تعمل . . 
ورمشت الأم فى أمل وأمنت على قوله بحرارة فاغتاظ عيسى من اندفاعها وتساءل فى 
ارتياب عن سر الزيارة وأقسم ألا يقبل الزواج من بنت عمه ولو مات جوعاء ثم قال بثقة 
زائفة : 

-لو أردت العمل لوجدته. . 

فسأله الآخر برزانة أخوية: 

-ولم لم ترده؟ 

لأنى أريد راحة طويلة» زهاء عامين أو أكثر! 

-أنت تمزْح بلا شك؟ 

- بل لا أجد داعيا للعجلة. . 

ثم بامتعاض شديد : 

وبخاصة وأن الخطبة قد فسخت . . 

فنظر حسن إلى الشجرة الجامدة وراء زجاج النافذة ليتجنب عينى صاحبه ولم ينبس 

فقال بلهجة دلت على أنه يخوض الحديث مكرها: 

-نعم فى مقابلة عابرة مع على بك . . 

ثم مستدركا بلهجة انتقادية : 

موقف يدعو على الأسف الشديد! 

فقال عيسى بحدة : 

لقد أعطيته درسا لا ينسى . . ! 

استنتتجت هذا فى اللقاء العابر رغم أنه لم يشر إليه بكلمة» ولكن دعنا من ذلك فلعل 

الخير فيما اختار الله. . . 

ثم حدجه بنظرة ودية وقال: 

ثمة مكان لك فى شركة محترمة! . 

شركة جديدة للإنتاج والتوزيع السينمائى» وقد اخترت أنا نائبا للمدير» ولكننا فى 


وهتفت الأم: 





لل اسان و الب 


- فيك الخير كل اخير يا حسن . . . 

وقال عيسى لنفسه: وضحت الصورة» موظف تحت رياسته وزوج لأخته ودون ذلك 
فليأت الموت إذا شاء . وقال بوضوح : 

-إنى أهنئك وأشكرك . . . 

ثم وهو يبتسم كالآسف: 

ولكنى أعتذر. . 

فارتسمت الخيبة فى الوجه الفياض بالحيوية وتساءل: 

ألا تفكر فى الأمر؟ 

أكرر الشكر والاعتذار. . 

وردد بصره بينه وبين الأم الذاهلة وقال: 

إنها وظيفة محترمة جدا. . 

- بدليل أنك اخترتها لى ولكننى مصمم على القيام بإجازة طويلة. . 

فتريث قليلا ثم قال: 

ليست مجرد وظيفة ولكنها فى الوقت نفسه فرصة للاندماج فى الحياة الجديدة إذ أن 

الغرض من تكوين الشركة هو خدمة أغراض الدولة! 

فقال بتصميم : 

الراحة الآن أهم من أى غرض فى ال حياة. . 

من موظف صغير إلى نائب مدير شركة! . واشتد جنون رغبته فى الإضراب عن 
العمل وتوطد نزوعه نحو تدمير نفسه . ووقف حيال محاولات الآخر بكل عناد حتى 
اضطر هذا إلى أن ينصرف دون نتيجة . مخلفا فى نفس عيسى مسرة عمياء وإحساسا 
وهميا بالانتصار. 

وتأوهت الأم قائلة : 

-أنا لا أفهم شيئا. . 

فقال ساخرا: 

ولا أنا. . . 

فقالت بمرارة: 

-أنت لا تحب ابن عمك . . 

-ولا هو يحبنى! 


1110 





الهان واليفب ١‏ 


لكنه فى الوقت المناسب لم ينس أصله! 

لا لوجه الله . 

فقالت بإصرار: 

-ولوء بنت عمك خير من سلوى» هل نسيت؟ !» ليتك تفكر فى الأمر. 

فقال بغموض وبصره معلق بالسحب المتراصة فى الأفق من خلال أغصان الشجرة : 
-إنى أفكر حقا فى هجر القاهرة . . 


١ ؟‎ 


وصارع التردد أشهرا. ويوما قال لأمه: 

إنى أفكر حقا فى السفر إلى الإسكندرية. . 

وكانت الأم تزداد اعتيادا لغرابة أطواره كما تزداد ذبولا ونحولاء فقالت بهدوء: 
ولكن الصيف انتهى . . 

أريد الإقامة لا التصييف. . 

فاختلج جفناها قلقا فاستطرد قائلا : 

أعنى لفترة من الزمن. . أود أن أقيم فى مكان لا يعرفنى فيه أحد ولا أعرف فيه 
أحدا . 

فقالت فى امتعاض شديد : 

حالك لا يعجبنى» والإنسان يجب أن يواجه الصعوبات بصورة أخرى» ومازالت 
أمامك فرصة لم تضع عند ابن عمك . . 

وعندما وجدت منه إصرارا استعانت بأخواته الثلاث فسارعن إلى الدقى . وهن 
جميعا متزوجات ويحملن فى وجوههن طابع الأسرة الممثل فى هيئة الوجه المثلثة والأعين 
المستديرة وجميعهن يكنن لعيسى حبا صادقا لا لأنه كان شخصية لامعة يعتززن بها 
فحسب ولكن أيضا لأنه صاحب الفضل الأول على أزواجهن فى العلاوات والترقيات 
على عهد نفوذه. وأجمعن على المعارضة فى سفره كما أجمعن على وجوب الموافقة على 
اقتراح ابن عمه . 

ما معنى أن تقيم فى بلد كالغريب؟ 

ألا يكفى أن أجد فى ذلك راحة؟ 





78 اسان واكزلف 
ومستقبلك؟ 
فقال بحدة: 
- مستقبلى أصبح ماضيا! 
-بل أمامك فرصة لاستعادة كل ما فقدته! 
ورفع يده يدعوهن إلى الكف بحركة حاسمة» ثم قال بهدوء : 
لا جدوى من هذا الكلام المعاد المهم والجديد هو أننى قررت الانتقال من هذا 
المسكن ! 
وبهتت الأم حزنا فقال كالمعتذر : 
-لم يعد من الحكمة أن أتحمل نفقاته الباهظة . . 
ألهذا علاقة برغبتك فى السفر؟ 
فقال متجهما: 
-كلاء إنى أعتبر السفر علاجا ضروريا. . 
فقالت الأم فى توسل : 
تشمت أعداءك بك؛, يمكنك ولاشك الاحتفاظ يمسكنك الجميل وكل مظاهر 
حياتك إذا أنت وافقت على ما عرضه عليك ابن عمك . . 
فأغمض جفنه دون كلام رافضا الاستمرار فى مناقشة عقيمة فقالت الأم بمرارة : 
أنت ابنى وأنا أعرفك» أنت عنيد جداء ودائما كنت عنيداء أنت تختار الكبرياء ولو 
كلفك الكثير» ولم تكن تجد بعنادك عندنا إلا المحبة والتسامح ولكن الدنيا ليست 
أمك ولا أخواتك! 
فقال بإصرار وهو يهز منكبيه استهانة : 
- سأفترض أننى لم أسمع شيئا. . 
فقالت بمزيد من التوسل : 
يجب أن قتثل أمر ربنا ‏ الملك ملكه يفعل به ما يشاء» والمستقبل بيده وتستطيع أن 
تكون سعيدا دون أن تكون وكيل وزارة أو وزيرا. . 
حول عينيه إلى أخواته متسائلا : 
أين يحسن أن تقيم الوالدة حتى أرجع؟ 
وعدلن عن المناقشة» واقترحت كل واحدة منهن أن تقيم الأم عندهاء ولكن الأم 


قالت: 
110 





اسان واكرلف ١)‏ 

- سأرجع إلى البيت القديم بالوايلية . 

وهتفت وهيبة وهى أبرهن بأمها : 

وتذكر عيسى البيت القديم الذى شهد مولدهم جميعا. وبخاصة حوشه الواسع 

وأرضه الرملية القاحلة . ولم يدر كيف يعرب عن استيائه ولكنه سأل أمه : 

أليس الأوفق أن تقيمى عند إحدى أخواتى؟ 

فقالت بعصبية : 

كلا . أنا أيضا عنيدة» ومن خير الجميع أن أعيش فى البيت القديم . وأكدت كل أخت 
من بناتها أنها ستسعد بإقامتها عندها ولكنها لم تبالهن. وامتلاً إحساس عيسى 
بالمسكن الجميل الذى قال فيه كلمته الأخيرة . ونظر إلى الأشجار خارج الشرفة وهى 
تهتز فى رقة بالغة فى إطار من جو الخريف الأبيض الموحى بالشجن وقال لنفسه «ألا 
لعنة الله على التاريخ» . 

وإذا بوهيبة تقول: 

- البيت القديم غير صالح للسكنى لمن اعتاد الإقامة هنا! 

وخيل إلى عيسى وهو يرى خلجات جفنى أمه وشفتيها أنها ستبكى ولكنها قالت 


بصوت متهدج : 


5 


جميع ما يحيط بنا يعد براحة كالموت. ومن أضناه الألم خليق بأن يرحب بالمسكن 
وإن يكن سما. وهذه الشقة الصغيرة المفروشة دليل على أن الحضارة لا تخلو أحيانا من 
نقطة رحمة. وها هو البحر يترامى فى عظمة كونية حتى يغوص فى الأفق ولكنه يستمد 
من حلم أكتوبر حكمة ودماثة . وجدران الحجرات محلاة بصورة الأسرة اليونانية صاحبة 
الشقة وكلما نظرت إلى الخارج رأيت الوجوه اليونانية فى الشرفات والنوافذ وعلى قارعة 
الطريق» غريبافى موطن غرياء» وتلك مزية الإبراهيمية» والمقهى المرصع طواره 
بالأشجار وسوق الخضار بألوانه النضرة والحوانيت الأنيقة تحفل بالوجوه اليونانية 





رق الها نالف 


وتتردد فى جنباتها ‏ بعد زوال الموسم ‏ لغتهم الأجنبية فخيل إليك أنك هاجرت حقا 
وتنهل من الغربة حتى تسكر . وهؤلاء الأجانب الذين طالما أسأت بهم الظن أنت اليوم 
تحبهم أكثر من مواطنيك وتلتمس عندهم العزاء» إذ أن جميعكم غرباء فى بلد غريب . 
واختيار شقة فى الدور الثامن دليل آخر على الرغبة فى الإمعان فى السفر. وعن بعد ترى 
البحر من فوق قطاعات متلاحقة من الأبنية المتخفضة تمتد حتى الكورنيش . ترى البحر 
وقد سحره أكتوبر فأخلد إلى أحلام اليقظة وترى أيضا أسراب السمان تتهاوى إلى مصير 
محتوم عقب رحلة شاقة مليئة بالبطولة الخيالية. القاهرة الآن ذكرى مغلفة بالحزن. 
والوحدة تجربة مرة ولكنها ضرورية لتجنب النظر إلى الوجوه المثيرة للقلق والأرق. . 
ومعالم المجد المحرضة على الحسرة. جرب الوحدة ورفقاء الوحدة الراديو والكتاب 
والأحلام ‏ وانظر هل يمكن أن تنسى لغة الكلام؟ . وتتابع اللحظات بلا ضابط يضبطها 
فأنت لا تعرف الوقت ولا تكاد تعرف اليوم ولذلك ترفع بصرك فى دهشة نحو قرص 
الشمس الماسى الهادئ كما يبدو خلف سحب الخريف الصريحة . وها هى الحياة تغازلك 
رغم الكمد وكأنك ترى الدنيا والناس لأول مرة بعد أن أفقت من حمى العراك والمطامع . 
وقيمتها الذاتية تتكشف معلنة عن بهجة الإبداع ولم يكن مسير الشمس قبل ذلك إلا 
بشيرا بتقديم مذكرة أو نذيرا بمقابلة السفير. . وقد دفنتنا الأحداث ونحن أحياء وما هذه 
الآلام فى الحقيقة إلا أضغاث أحلام تحترق فى رأس ميت عفن» أما فى هذه الشقة 
اليونانية فثمة وحدة حققيقية وقلب نابض . وركن البوديجا لا يسلى عنه القلب ولكن ما 
أقبح عواطفه المتناقضة فأنا أحبهما عباس صديق وإبراهيم خيرت ‏ وأبغضهما فى آن» 
أحب جانبهما الذى عاش قبل الثورة وأكره وسائلهما التى عاشا بها بعد الثورة» وعندى 
الآن فرصة لتصفية هذه العقد الصفراء» والهموم كالجبال والعقل علاه الصدأ ولكن سبيل 
العزاء المحفوف بالحماقات مهد أمام مالك الحرام وأحلام يقظتك التى ينتهى فيها العذاب 
بالانتتصار. ونظرة من عل إلى هذا الخلاء الذى لا يحد تهب النفس راحة ورفعة فوق كل 
شىء. ولم يا ربى لا تلهمنا ومضة عن معنى هذه الرحلة الشاقة المخضبة بالدماء؟ ولم لا 
ينطبق هذا البحر الذى شهد الصراع منذ الأبدية؟! ولم تأكل هذه الأرض الأم أبناءها عند 
المساء؟ وكيف يكون للحجر دور فى المسرحية» وللحشرة دور» وللمحكوم عليه فى 
الجبل دور» وأنا لادورلى؟ 

ومضى ذات صباح إلى جليم تلبية لرسالة تلقاها من سمير عبد الباقى» لم يكن 
رآه منذ انتقاله إلى الإسكندرية فى منتتصف سبتمبر ولم يكن رأى كازينو الفردوس منذ 
صيف ١190١‏ : وكان الساحل خاليا والكازينو شبه خال كحاله فى الأيام الأخيرة من 
أكتوبر. على عهد النفوذ كان يذهب إلى الفردوس فى مجال من الخيلاء ترمقه الأعين 
باهتمام فيشق طريقه إلى مائدته المحجوزة بين أصدقاء وأعداء من الباشوات فى تلك 


11010 





الهان ولف ١1‏ 
الدنيا الزائلة . والحفل الذى أقيم فى الفردوس منذ عامين هل يمكن أن ينسى؟ الصوت 
الملائكى والبهجة الشاملة والهتافات المدوية» ومجيئه هو فى ركاب الزفة ليشرب ويطرب 
ويسهر ولم يكن يرى على مدى الآفاق إلا آمالا واعدة بالفوز المبين. 

وجلس بمجاسه القديم على يمين المدخل الحوانى بين مقاعد شاغرة. وعلى مائدة 
متفرقة بضعة من معمرى الباشوات الذين يستميتون فى التصييف حتى اللحظة الأخيرة» 
وثمة امرأتان وحيدتان». عجوز وأخرى فى منتصف العمرء وأحاط بالمكان سكون 
رهيب . واسترق إلى العجوز نظرة وقال لنفسه إن سلوى ستلقى نفس المصير فى يوم من 
الأيام. كالمجد والعزة وشتى الآمال. وأعجب بانبساط الماء ودماثته وزرقته الصافية كما 
أعجب بالسحب الحبالى بماء الورد الأبيض . جاء سمير عبد الباقى فى ميعاده فتعائقا 
بحرارة. وبدا سمير ناحلا أكثر تما تركه ولكنه أحسن صحة وأصفى عينا. وقال: 

جئت أنا وزوجتى لتعود أمها وسنسافر غدا. . 

فسأله عن ركن البوديجا فأجاب بأنه لا جديد» ثم قال: 

- أما أنا فبعت نصيبى فى بيت قديم وشاركت خالى وهو تاجر أثاث» أنا فى الواقع 

مدير أعماله وحساباته وشريك صغير له. . 

فهنأه عيسى» وأخبره بأنه لا رغبة له فى العمل فى الآونة الحاضرة» ونظر سمير فيما 
حوله فى دهشة ثم قال: 

-انظر إلى الإسكندرية كم هى خيالية! 

الدنيا كلها خيالية» ما هذا بيمينك؟ 

فناوله كتابا قرأ على غلافه «الرسالة القشيرية» ثم حدجه بنظرة متسائلة فقال سمير: 

- ألم تسمع عن التصوف؟ 

فضحك ضحكة مختزلة وقال: 

-لم أعرف فيك اهتماما به من قبل ! 

.هذا صحيح ولكنى سمعت أحمد باشا زهران وهو يتحدث عنه بجدية حقيقية» وقد 

أهدانى فى مناسبات مختلفة بعض الكتب عن الموضوع فوجدتنى أبحث عنها فى 

الأيام الأخيرة. . 

وقال عيسى ووجهه لم يتخلص بعد من ذبول ضحكته : 

- وهل أنت جاد فيه أو المسألة مجرد تسلية؟ ! 

فقال وهو يفرغ زجاجة الكوكاكولا فى الكوب : 

أكثر من تسلية» فيه راحة حقيقة للقلب. 





6 السَهَان ولف 


ثم بعد شربة أتت على نصف الكوب: 
-وكونك لا تبحث عنه إلا تحت ضغط ظروف معينة لا يجحد فضله فقد لا نذهب إلى 
أسوان شتاء إلا لمعا لجة مرض ولكن هذا لا يطعن فى فائدة أسوان للمريض 

والصحيح على السواء. . 

فقال عيسى ساخرا: 

- ولكن يوجد ولا شك فارق بين أن نتصوف حيال أزمة سياسية وبين أن نتصوف لوجه 

الله والدنيا مقبلة علينا. 

فابتسم سمير فى صبر وتجلت شفافية عينيه الخضراوين أصفى من السحب الناصعة 

البياض وقال : 

- نعم ثمة فارق ولكن العبرة بالنتيجة» وأحيانا تدهمنا كارثة لتهدينا سواء السبيل ! 

دولككن هب الدليا:., 

وانقطع عن الحديث فجأة كأنه عثر فى الصمت ‏ بسبب نظرة طويلة تبودلت بينه وبين 
المرأة النصف المصاحبة للعجوز» ثم رجع إلى صاحبه وقال لنفسه : لو سارت الأمور كما 
يشتهى لكانت سلوى زوجة له منذ عام على الأقل لو؟! وسأل سمير: 

-ما رأى التصوف فى حرف «لو)؟ ! 


ولم يدرك سمير مرماه فأجاب هو: 
-لو حرف لوعة يطمح بحماقة إلى توهم القدرة على تغيير التاريخ . 
فقال سمير ببساطة : 


من هذه الناحية فهو إنكار لإرادة الله المتجلية فى التاريخ من شأنه أن يضفى عليه عبثا 

ولا معقولية. . 

سلوى لم تتزحزح من قلبك . رغم احتقارك لشخصيتها. وقد يقرر العقل مواصفات 
للمرأة المثالية ولكن الحب فى صميمه سلوك لا معقول. كالموت وكالقدر وكالحظ . وما 
أشبه سلوى بالدنيا فى المعاملة» ولكنك ستظل فى حاجة إلى امرأة فهى مسكن 
طيب للآلام يفوق التصوف على الأرجح . وتذكر السؤال الذى قطعه فقال بنغمة 
اعتذار: 

هب الدنيا وعدتنا مرة أخرى بالوزارة فماذا تصنع بالتصوف؟ 

فضحك سمير حتى لمعت أسنانه النضيدة وقال: 

- غير مستعص أن أمارس الاثنين معاء هكذا فعل أحمد باشا زهران أكثر من مرة» وها 

أنا أجمع بين التصوف والتجارة» وهو لايخمد النشاط ولكنه ينقيه من الشوائب. . ! 


1110م 





السهان وارلف ا 


فقال عيسى بحزن : 
- وهو على أى حال خير من الانتحار! 
وأشرقت الشمس مقدار ثوان ثم توارات. وسأله سمير عما ينوى أن يفعل فسأله 
بدوره: 
-هل أنتهينا حقا؟ 
فهز رأسه فى حيرة قائلا : 
-هو الأرجح فليس الأمر كالانقلابات الماضية. . 
فسكت عيسى مليا كأنما يصغى إلى الصمت الشامل ثم قال: 
- ما أشبهنا بساحل الإسكندرية فى الخريف! 
- لذلك أقول لك إنه لا بد أن نعمل . . 
ومع أى عمل سنتخذه سنظل بلا عمل» لأننا بلا دورء وهذا سر إحساسنا بالنفى» 
كالزائدة الدودية. . 
لوه يسيم 
ولا أخفى عليك أن لى تصوفى الذى يشاغلنى فى الوحدة . 
فتطلع إليه باهتمام فقال الآخر ببساطة : 
-إنى أفكر فى احتراف الجرية . . 
فضحك سمير طويلا ثم قال : 
-يا له من تصوف بديع! 
- غير أنك لا تقتل فيه جسدك أنت ولكن أجساد الآخرين . 
أقترح عليك أن تنتقى نوعا من الجرائم الجنسية. . 
وضحكا معا حتى قال سمير: 
نحمد الله فلا زالت لدينا القدرة على الضحك . . 
وسنزداد ضحكا كلما رأينا التتاريخ وهو يصنع لنا دون أن نشارك فيه كأننا 
الأغوات. . 
وهبت نسمة لطيفة» وبدا الباشوات كالنيام ولغير ما سبب تذكر أول خطبة له فى بيت 
الأمة وهو طالب بالجامعة . قال بأسى : 
تاريخنا نفسه مهدد بالإبادة. . 
التاريخ واسع الصدرء وسيدافع عن نفسه بعد انقراض المتخاصمين جميعا. . 





١‏ اسان وازلف 


من توه المغزى السياسى لسؤاله وقال باسما: 
-هى كما ترى. . 
يدخل إلى المصعد : «ما أحوجنى إلى مسكن» . 


١ 


وحده مع كأسه فى الطرقة الشاحبة الضوء التى تصل بين معرض الحلوى فى الخارج 
وصالة الرقص فى الداخل بالتريانون الصغير. وعشرات من الآلات العازفة تبعث 
بالأنغام الراقصة والأجساد المتعانقة تتراقص فى حركات خفيفة رشيقة تنفض بها عن 
ذواتها متاعب ضوء الشمس . وهؤلاء الحسان ينسبن إلى بيوت لا إلى الشوارع كما كان 
الحال قبل الحرب وفى أثنائها وقد أدرك هو جانبا من ذلك التاريخ على عهدى مراهقته 
وشبابه . أما النسوة فقد أثرين فى زمان ا حرب وترفعن عن العرض الرخيص فاختفين من 
الميدان» وقال عيسى لنفسه : «الميدان خال اليوم لمن يروم عملا سهلا مريحا من منبوذى 
السياسة!». وهزته نغمة فتاق إلى الرقص الذى يجيده بدرجة لا بأس بها ولكن أين 
الحسناء؟ ونهل من الكونياك الذى يحبه باعتدال» وشعر بأنه فى مخبأ فازداد طمأنينة 
وقال إن مدخره من مال العمد سيمده بالضرورى لارتكاب الحماقات الفاتنة» وقال 
أيضا: إنه لولا إحساسنا المرضى بالمستقبل لما أزعجنا شىء! ولكنه لم ينعم بوحدته فى 
المخبأ طويلا إذا ما لبث أن اقتحمه صوت مباغت قائلا : 

-ما رأيك فى الدنيا؟ 

ارتعد لوقع المباغتة وأجال عينيه فى الطرقة المقوسة فلم ير أثرا لإنسان. الصوت 
صوت كهل مخمور يغلى فى درجة الهذيان ولكن أين هو ؟! وإذا بالصوت يقول 
ضاحكا: 

هل جربت الشرب فى الظلام؟ 

ثمة شجرة متوسطة ‏ طبيعية أو صناعية ‏ فى أصيص ضخم عند نهاية قوس الطرقة 
المفضى إلى محل الحلوى» وكان المحل فيما يلى الشجرة غارقا فى الظلمة إذ يغلق أبوابه 
حوالى الثامنة مساء. واستنتج أن الرجل كان يجلس فى الطرقة» ولسبب ما تزحزح 


1110 





السيَان و زلف م 


بمقعده إلى الظلام حيث يمارس مزاحه السخيف . وأهمله وهو يلعنه فى سره ولكن الآخر 
عاد يسأل دون أن يظهر فى منطقة الضوء الخافت : 

هل جربت الشرب فى الظلام؟ 

فتجنب محادثته لعله يسكت ولكنه قال : 

- الشرب فى الظلام يهبك قدرة على التركيز وهذا هو السبب فى أننى أفكر فى حال 

الدنياء فهل هى سائرة حقا إلى الخراب؟ 

راح يشاهد الرقص ‏ ولو بنصف انتباه ‏ ويعجب بالوجوه والصدور والبشرات 
الوردية» ولكن السكران لم يعتقه فقال: 

السؤال يهمنى حقاء فإذا كانت سائرة إلى الخراب فأنا أشرب الكونياك أما إن كان 

ثمة أمل فى النجاة فإنى أفضل الويسكى . وإن أكن فى الحالتين أهلك نفسى لأنى 

مصاب بثلاثة أمراض جليلة الشأن» ألا وهى الضغط والكبد والبواسير. 

وعلى رغمه ابتسم . النشوة حلوة على أى حال . أما ما انقض على رءوس رجالنا من 
محن فأمر محزن حتى الموت . وكأنك تتلقى على يافوخك أنقاض العالم القديم الذى 
يتقوض . والأدهى من كل شىء أنك وإن كرهت العهد الجديد بقلبك فإنك لا تستطيع أن 
ترفضه بعقلك . لا أنت ولا مدخرك من مال العمد! 

- وليس المخراب بالشىء الجديد على العالم فإن يكن مكتوبا على الجبين فمن الخير أن 

فسأله وهو لا يدرى تقريبا: 

-ولم تريده على أن يعجل؟ 

تميذاق فبتشكة بق قر ةوقال 

لأن خير البر عاجله . . . 

ورثى عيسى إلى ضحايا التاريخ من قلب متأوه. وأفرغ الثمالة ثم غادر المحل . وسار 
على مهل فى شارع سعد زغلول» أحب شوارع الإسكندرية إلى نفسه وبخاصة بعد 
الثورة» إنه شارعه الخاص على وجه ماء ويحب كثيرا أن يقطعه ولو مرة كل يوم جيئة 
وذهاباء ليناجى فيض الذكريات . واقترب الوقت من نصف الليل وشاعت فى الجو 
برودة رقيقة منعشة وبدا المجال كله ملفعا بالهجران . وألقى نظرة إلى ظهر التمثال المحدق 
فى البحر وطوح برأسه إلى الوراء على طريقة الباشا الذى حلا له قديها محاكاته . واستقل 
الترام إلى الإبراهيمية ثم ذهب إلى الكورنيش ليسلى أعصابه بالمشى الوئيد. وفاقت 
ملاحة الجو خيال رأسه الدائر بالشراب» وومضت النجوم فى الثغرات الواسعة بين 
السحابء» واستكان البحر كالنائم تحت الظلام . وعلى البعد امتد سياج من الأضواء 





م اسان و الب 


الثابتة فوق مراكب الصيد» وخلا الطريق من الأحياء فعادت تلح صورة الهجران. 
وجلس على أريكة حجرية ينعم بالصمت والحنان. إنه لا يعود إلى مسكنه الخالى حتى 
يقنعه النعاس . ومنذ قدومه إلى الإسكندرية وهو يعيش غير خاضع لإنسان أو لعادة 
ولكنه يطيع مطالب شخصه الطبيعية فى حرية مطلقة» فينام إذا حل سلطان النوم 
ويستيقظ إذا مل الرقاد» ويأكل عند الجوع ويخرج لدى الملل» هذه الحرية التى لم ينعم 
بها من قبل. وشعر بشىء يلفت رأسه إلى اليسار. كان إغراء يراسل حاسة أو أكثر من 
حواسه. رأى شبحا يتجه من بعيد نحو مجلسه. وعندما اقتربت من ضوء المصباح 
العملاق وضحت معاله» فتاة من بنات الليل . الفستان الكستور الرخيص والنظرة 
المقتحمة بلا أدنى تحفظ أو كبرياء والانفراد المريب بالليل كل أولئك يقطع بأنها من بنات 
الكورنيش . وتفحصها وهى تمر أمامه فى الممشى الضيق الفاصل بين الأريكة وسور 
الكورنيش فوضح له شبابها ووسامة لا بأس بها فى عارضها وابتذال نظراتها وجو التأهب 
لتلبية الإشارة الذى يغلفها كأنها كلب مهجور يلتمس عابرا ليتبعه. سارت حتى بلغت 
الأريكة آلتالية ثم جلست عليها مسددة الوجه ناحيته . أتعس بنات الهوى درجة ولكن ما 
أشد انطواء الإسكندرية على نفسها فى غير أيام المصيف حتى لتبدو مغلقة الأبواب فى 
وجه الغريب. وانبعث من أعماقه تأقف ولكن فى نبضة رغبة جنونية . من المحقق أن 
الأستاذ مدير مكتب الوزير المتطلع إلى الوزارة قد مات ولم يبق فى هذه اللحظة إلا ثمل 
منغرز فى الوحدة والظلام تزحف غرائزه فى الظلام كالحشرات الليلية وكأن دفعة قوية 
نحو التمرغ فى التراب تنفخ فى محركاته» ولوح لها بذراعه كأقصى ما يمكن أن يجود فى 
مغازلتهاء ولوح مرة أخرى فقامت من مجلسها وجعلت تقترب منه حتى توقفت على 
بعد ذراع فأشار لها بالجلوس فجلست وهى تضحك ضحكة خافتة جدا كخرير الموج 
الهامس أسفل الكورنيش . تفرس فى وجهها فهالته طفولتها وسألها فى دهشة : 

كم عمرك؟ 

فضحكت ولم تجب فأعاد السؤال باهتمام فقالت: 

لعلك فى الخامسة عشرة! 

قالت فى مباهاة : 

-لاء لست قاصرة على أى حال فاطمئن . . 

مائلة للبياض مستديرة الوجه ممتلئة الوجنتين ذات جسم صغير ممتلىئ مقصوصة الشعر 
كغلام» ولم تكف عن العبث بأظافرها التى بهتت صبغتها : 

من أين أنت آتية فى هذه الساعة؟ 


11100 





اسان و الف ١‏ 


فأشارت إلى الوراء بميل قائلة : 
من القهوة . 
لاحت القهوة لعينه بابا مضاء يكتنفه الظلام والصمت فقال: 


-يراها عادة من يقصدها . 

ثم وهى تضحك : 

سيجارة؟ 

وأشعلا سيجارتين» ولم يجد شيئا يقوله فهمس : 
دلا 


وسارا جنبا إلى جنب فى الطريق المتفرع عن الكورنيش وتأبطت ذراعه فعبس فى 
الظلام. وتذكر سلوى فاستفحلت عبوسته» وقال لنفسه «فليحتكموا إلى انتخابات حرة 
إن كانوا صادقين!» . 


١6ه‎ 


استيقظ حوالى الظهر فنظر إلى النائمة إلى جانبه باستغراب ثم سرعان ما أطبقت عليه 
ذكريات الليلة الماضية» وقال إنه ما دام هنالك نسيان وعادة فكل شىء ممكن . وتفحصها 
وهى شبه عارية بنظرة باردة وقلب خامد وازدراء لكل شىء . شفتاها ممتلئتان ومنفرجتان 
عن أسنان دقيقة مرسومة بعناية. وقد مال رأسها إلى كتفها الأيهن وفضح النوم حقيقة 
شعرها فبرز جفافه وخشونته وتمرده. ومن التناقض الغريب حقا أن جمع كائنها بين 
أهداب مسترسلة فاتنة وبين كعبين متشققين كضفدعتين » وتزحزح إلى الأرض ثم ذهب 
إلى الحمام ولدى عودته وجدها جالسة فى الفراش وهى تتثاءب ثم رفعت إليه عينين 
ثقيلتين جميلتين فعزم على أن يتخلص منها فى أقرب فرصة» فقال: 

عندى ميعاد ويجب أن أذهب . 

فحدجته بنظرة مترددة ثم غادرت الغرفة . وفتح باب الشرفة فتدفق هواء قوى ولكنه 
لطيف مشبع برائحة البحر ودفء الشمس الساطعة فى كبد السماء . وراح يرتدى ملابسه 
وهويرنو إلى البحر الذى دبت فيه حركة مليئة بالاندفاع وانتتشرت على مدى سطحه 
خطوط الرغاوى كأفواه ضاحكة. وطال الوقت وهى فى الحمام ‏ كما ظن ‏ فخرج إلى 
الصالة ليفتح الراديو فوجدها عاكفة على تنظيف البيت وترتيبه بهمة عالية» فقال لها: 





ا اسان ولف 


أشكرك ولكن دعى هذا للبواب لأنه آن لى أذهب . . 

فقالت ويداها لا تمسكان عن العمل : 

-ولكن. . متى ترتدين ملابسك؟ 

فجلست على مقعد كبير فى الصالة وابتسمت . 

أنت كسلانة ولكن عندى موعد! 

فسألته برقة: 

- أتقيم وحدك؟ 

- نعم . . ولكن هيا بنا! 

فراحت تقشط شعرها وتقول بحياء حقيقى لأول مرة : 

قلت لنفسى ربما كان فى حاجة إلى أنس وخدمة. . 

فقال بدهشة : 

-شكراء لست فى حاجة إلى شىء من هذاء أليس لك بيت؟ 

كلا . 

أين كنت تعيشين؟ 

فقالت بهوان: 

-عند صاحبة القهوة أحياناء وأحيانا أبيت فى القهوة! 

لا نجد عملا فى الشتاء وكان الصيف الماضى كالشتاء! 

فقال بضجر: 

- على أى حال ستجدين حلا فى الخارج . . 

فوقفت فى إذغان وقالت بصوت منخفض : 

-لم أدخر شيئا للشتاءء وأنت فى حاجة إلى خدمة! 

وأتى إلحاحها بنتيجة عكسية فازداد عناداء غير أنه سألها : 

-لم لا تهاجرين شتاء إلى القاهرة؟ 

فرمقته بنظرة دهشة كأن الفكرة ليست نما يخطر بالبال ببساطة : 

أنا من هنا. . 

-آليس لك عل ؟ 
11100 





اسان درل وق 


طبعا ولكن لا يمكن الرجوع إليهم! 

ألا تخشين أن يراك أحد منهم؟ 

-هم فى طنطاء أنا فى الأصل من طنطا. . 

فقال فى ضجر وكأتما قد ندم على الاسترسال فى الحديث : 

- من فضلك» وقتى ضيق . .. 

ومضت إلى الحجرة لترتدى ملابسها . وقال لنفسه إن ثمة أوجه شبه تجمع بينه وبين 
هذه البنت فكلاهما ملوث وطريد. أماهى فقد تولاها حال عبث لدى يأسها من 
استعطافه فنظرت إلى صورة للأسرة اليونانية بالجدار وسألته : 

-عائلة حضرتك؟ 

فابتسم على رغمه وقال: 

أرأيت أنك شيطانة؟ ! 

فضحكت أكثر من المنتظر ثم سألته جادة : 

من الإسكندرية؟ 

إذن فأنت موظف هنا ؟ ! 

تقريبا. . 

تقريبا؟ ! 

فهتف بها : 

أنت وكيلة نيابة . . هيا. . 

وطلبت أجرتها فأعطاها وكانت دون ما قدر بكثير فرق لها لأول مرة منذ استيقاظه . 
وغادرا الشقة معا ثم افترقا عند مدخل العمارة. وقصد من توه مطعما ليشبع جوعه. 

ودخل أول سينما صادفته ليمضى الفترة ما بين الثالثة والسادسة» ثم جلس فى 
التريانون الكبير يشرب القهوة ويطالع جريدة المساء» وحوالى التاسعة مضى إلى مجلسه 
المعتم بطرقة التريانون الصغير . استمع إلى الموسيقى وتسلى بمشاهدة الراقصين وشرب 
من الكونياك حتى انتدشى . وفى لحظة ما تمنى لو يرتفع صوت رجل الأمس من وراء 
الشجر ليسب الدنيا. وقال مخاطبا سمير عبد الباقى: 

أنا أيضا طالب تصوف لا أنت وحدك. . 

وابتسم فى رثاء . ثم قال مخاطبا نفسه : 

لتك حن الكسين: 





١‏ السهان واكزلب 


- أجل أنت ما زلت فى شهر العسل ويلزمك فراغ طويل عريض . 

- ولا تحزن لتفاهتك فهى تفاهة تاريخية . . 

وقبيل منتتصف الليل بقليل غادر المحل . وهو يقترب من مدخل العمارة رأى البدنت 
جالسة فى القهوة اليونانية على أقرب كرسى من مدخل العمارة فحدق فى وجهها 
المبتسم فى ترحيب بدهشة . ونهضت بخفة لتلقاه أمام المدخل فتوقف فى حيرة فقالت 
فى مرح : 

-لم تتأخر عن ميعادك! 

وسبقته إلى الداخل فتردد لحظة ثم تبعها متسائلا : 

ماذا تفعلين؟ 

فقالت وهى تتأبط ذراعه: 

كنت أنتظرك . : وقلت لنفسى سيكون من حسن حظى إذا جاء وحيذا. : ورغم 

إدراكه القاسى للموقف ارتاح لتملقهاء وفى المصعد سألها: 

دما اسمك؟ 


٠.٠ -ريرى‎ 

ضاحكا: 

- يبدو أنه اسم طنطاوى قح! 

هو كذلك فى الإسكندرية. . 

- قلبى يحدثنى بأنك ستقبلنى فى ضيافتك . . 


1١1 


وسمح لها بالإقامة فى شقته كما تمنت. وأفهمها منذ اللحظة الأولى أنه رجل حر 
وأن عليها أن تلتزم حدودها حتى لو جاء كل ليلة بامرأة. وقالت له سمعا وطاعة. ولم 
ينكر بعد ذلك أنها أكسبت الشقة أنسا ونظافة وأطلقت فى جوها البارد أنفاسا حارة. 
وأنها تبدت فى الثياب الجديدة التى ابتاعها لها مقبولة حقا. وبالغت دائما فى العناية 
بمظهرها. ولعبت دورها بلباقة» وهو دور فوق مرتبة الخادمة ودون مرتبة السيدة وتجنبت 


110 





السيان ولف ١:١‏ 


أن تنقل عليه بأية صورة من الصور. وكانت تشاركه الطعام والتدخين والشراب ولم 
تطالبه فوق ذلك بمليم . ولم يشجعها على التودد العاطفى إليه ولا على استعمال 
التعبيرات العذبة وقال لها: 

أنا رجل سيئ الظن بكل شىء» هكذا أصبحت» فاحذرى أن تذكرينى بالكذب . 

وعندما استحكم الشتاء وأمسى الجو كالغيب لا أمان له اضطر إلى قضاء الليالى 
الطوال معها فى الشقة يستمعان إلى الراديو» أو ينفرد هو بضع ساعات بالقراءة أو يريح 
النفس المكدودة بأحاديثها التافهة. وأسوأ ما يمر به معها أن تدهمه أحيانا كمركز للهوان 
الذى تدهور إليه فى الحياة وعند ذاك يتجنبها ويتوثب للاساءة إليها عند أول فرصة . وعند 
الإساءة ينقبض وجهها المستدير الممتلئ فيلحظ خفية الجهد الذى تبذله لشكم غضبها 
والتنفيس عن استعدادها العدوانى المكبوت المكتسب من حياة الأرصفة بمعركة باطنية 
تفتضح آثارها فى خديها وشفتيها ونظرتها وانقلاب سحنتها. ورغم أنها كانت أمية إلا 
أنها كانت على ثقافة فى عالمى السينما والراديو فهى تحفظ أسماء وصور النجوم 
والكواكب كما تعرف الأفلام والأغانى والبرامج ولا تشبع من أحاديثها . وسألته : 

ألا ترانى صا حة للسينما؟ 

فأجابها بأنه لا خبرة له فى هذا الميدان. وعجب للغرور البشرى الذى يفوق قوة 
الذرة. وقصت قصصا عن نجوم وكواكب لا يدرى من أين جاءتها لتثبت له أنها جديرة 
بالأضواء وأن المسألة مسألة حظ لا أكثر ولا أقل! وقال لها ضاحكا: 

كان ينبغى أن تبحثى عن شقة منتج أو مخرج لكى تشاركيه فيها! 

ولأن ليل الشتاء طويل» ولأنه يأبى أن ينام قبل الفجر. فقد علمته ألوانا من لعب 
الورق» وقامرته كثيرا وربحت منه بعض النقودء وهى النقود الوحيدة التى استقرت 
فى جيبها منه»ء وخطر له أن يسأل نفسه مرة ماذا تعرف البنت عن السياسة ‏ السياسة 
التى ازدردته بطلا ولفظته جثة ‏ فسألها عن أسماء وأحداث ولكنها هزت منكبيها ولم 
تعن بالإجابة. وعجب كيف يوجد مخلوق لا اكتراث له بدنيا السياسة وسألها 
ساخرا: 

ماذا تعرفين عن الدستور؟ 

فلم تبن عيناها عن أى فهم . فعاد يسأل: 

-ورأيك فى الاستقلال؟ 

فلم تتغير نظرتها فأوضح كلامه قائلا: 

أعنى خروج الإنجليز؟ ! 

فهتفت : 





1١‏ الهان واكزلب 


-آه. فليخرجوا إذا شئت» ولكنى سمعت الكثير عن أيامهم الحلوة. أبلتى صاحبة 
القهوة فتحت قهوتها من نقودهم . 

وقال لنفسه إن استقلالها الحقيقى هو أن تتحرر من الحاجة إلى أنا وأمثالى . 

وفتحت له قلبها فحدثته عن ماضيها بصراحة غريبة : 

-لى أم وخالة وأخوات» والرجل الوحيد الباقى لى عم فى التسعين من عمره» لذلك 
لا أتوقع الذبح . 

وكانت شيطانة منذ الصغر . وقد مات أبوها وهى فى العاشرة فعجزت أمها عن تأديبها 

وعشقت شابا وأنا دون البلوغ حتى ضربت القرية بى المثل. 

ثم وقعت الواقعة كالمتوقع . 

لاس اتن لعو ولطمت خديها حتى سقطت على الأرض كاليتة. . ثم هربت مع 
شاب إلى الإسكندرية حيث ذهب لإتهام تعليمه» وسرعان ما تخلص منها بعد أشهر 
فوجدت نفسها وحيدة» ثم بدأت هذه الحياة. وقال باسما: 

أنت بنت صغيرة ولكنك شيطانة كبيرة . 


فقالت فى مباهاة : 

وعشقنى فى الأزاريطة خواجا عجوز فاتخذنى خادمة فى الظاهر» وكانت له امرأة 
عجوز قعيدة الفراش ! 

لكنك لم تحسنى الانتفاع بالفرص كأبلتك صاحبة القهوة! 

فقالت ببساطة : 


أنا لا أطلب إلا الستر! 

فضحك ضحكة عالية وقال لنفسه لعله من المفيد أن نصادف ما يقنعنا بأننا لسنا أيأس 
مخلوقات الله. وسألها: 

وما تنتظرين من ! لمستقبا ؟ِ 

فرفعت حاجبيها لحظات ثم غمغمت: 

-رينا كبير. 


الظاهر أنك متدينة ! 
وابتسمت لنبرة السخرية فى قوله ولاذت بالصمت فقال : 
لكنك عفريتة باعترافك؟ 


فأغرقت فى الضحك وقالت: 


1100م 





السيّان و الف ١‏ 


جاء وقت النوم وهو خير من إتعاب الرأس بلا فائدة . 

وازداد إيمانا بأوجه الشبه التى تجمعه بهذه البنت . وسلم بأنها ضرورة لا غنى عنها فى 
وحدته ويخاصة عندما فظعت الملمات». فقد هوت المعاول على الزعماء وانقضت 
المحاكمات فانقبض قلبه خوفا كموزع المخدرات إذا دهمته أنباء القبض على المعلمين 
الكبار» وأنكر الدنيا فلم يعد يعرفها. ولم يعد يدهش لأيام الشتاء العاصفة حين يغلق 
البوغاز وتتطاير أمواج الغضب من البحر الصارخ فتجتاح الكورنيش» وتكفهر السحب 
كقطع الليل» ويشتد البرق كالصواريخ . وتنهل الأمطار ككائنات هاربة من غضب 
السماء» وبدت الغربة حمقاء عمياء ففاض حنينه إلى القاهرة» وإلى ركن البوديجا 
الدافي» وقالت له: 

-ترى أين أنت الآن؟ إنك لست معى» ولا أنت فى الدنيا كلها! 

فعاد الحضور إلى نظرته المتعبة من التسكع فى الغيب وابتسم فى فتور دون أن ينبس » 
فقالت: 

وهكذا أنت منذ أيام! 

فقال فى ضجر: 

-نعم» أما أنت فلا تسمعين فى الراديو إلا الأغانى . . ! 

فتساءلت فى نبرة تطفل مستحيية : 

أنت من الأعيان؟ 

فضحك ضحكة جافة وقال: 

أو عاطل من العاطلين! 

-أنت!؟ كلا. ولكنك سر من الأسرار! 

إنهم يفشون الأسرار. 

خبرنى حتى متى تبقى كما أنت؟ 

- دعينى أسألك نفس السؤال. . 

أنا حياتى ليست بيدى. . 

ولا أنا. . 

- ثم وهو يبتسم : 

وعندما يأتى الربيع سيذهب كلانا إلى سبيله . 

فقالت بحرارة غير متوقعة : 

أنا لن أذهب حتى تأمر بطردى . 





١4‏ اسان و الف 


لعنة الله على العواطف . الكاذبة والصادقة على السواء. وأحدث توددها فى نفسه 
أثرا عكسيا أوشك أن ينقلب غضبا فركز انتباهه فى أغنية تذاع» ثم أعلن المذيع عن برنامج 
اقتصادى تناقشه مجموعة من رجال الاقتصاد سمع عند تعدد أسمائهم اسم الأستاذ 
حسن الدباغ» فسرعان ما وثب إلى الراديو فأغلقه . وسألته عن سر ضيقه فقال لها 
بحدة : 

قلت إنك لا تسمعين إلا الأغانى! 

وفى الأيام الصافية من الشتاء كان يجوب الأماكن المحبوبة فى شتى الأنحاء 
بالإسكندرية . ولم يصحبها معه ولا مرة واحدة ولكنه لم يمنعها من نمارستها حريتها 
الكاملة فى الحركة . وقرأ فى عينيها رغبة فى مصاحبته ولو خطوات على الكورنيش» 
ولكنه كره مجرد التفكير فى تحقيقهاء وسألته : 

ألا ترى أنك تعاملتى كما لو كنث. ... 

فقاطعها بحزم : 

لا تفتشى عن أسباب للتكد! 

ثم رق لوجهها الذى تورد فى تأثر واضح فداعب شعرها القصير وقال بلهجة حانية : 

لا تنشى :عن أمبيات الكد. + 

ولم تعد تفصح عن مشاعرها بالكلمات ولكن بالجهد المبذول فى خدمته ورعاية 
راحته. ولاقى جهدها بامتنان مشوب بسوء الظن . وقال إنه عما قليل يولى الشتاء فيتحرر 
من هذه العلاقة التى اقتتحمت عليه شقته. حتى سلوى لم يكد يبقى من تجربتها القاسية 
إلا جرح سطحى لعله من الكبرياء لا من الحب . وأدرك أن الفراغ الذى تركته السياسة فى 
قلبه سيحتاج فى سده إلى مغامرات قد تشق على النفس . ثم أدهشه فيما تلا ذلك من أيام 
أن يرى صحة البنت وهى تسوء بشكل ملحوظ . أجل الشحوب والإعياء والفتور 
والسحنة المنفرة. كيف يأتى هذا وهى تحظى بما لم تحلم به يوما من الغذاء وراحة البال؟! 
وظن مابها بردا ولكنه خلا فى الحقيقة من أعراض البرد» ولازمها بإصرار أقلقه وشغله. 
وسألها: 

-ماذا بك؟» هل سبق أن عانيت هذه الحال من قبل؟ 

أجابت بالنفى . وتهربت من ملاحقته» وإذا بها ترقد على الفراش فى استسلام 
قهرى . ووقف يتفحصها بعينين قلقتين وضيق ثم قال : 

-إذن يجب أن أدعو طبيبا . 

فلوحت بيدها رفضا وقالت: 


كلا . مجرد ضعف من الرطوية . : 


1110 





الها ن ولف م١‏ 


واغرورقت عيناها فبدت طفلة بلا تجربة . . وساوره خوف لم يدر سببه فقال: 

لديك ما تقولينه بلا شك . 

اقم ب ل الاوك ره ودق قلبه بعنف لم يجربه 
إلا عند الابتلاء بخطير الأحداث التى هصرته . وانقلب خوفه ضيقا خالصا. الهرة الماكرة 
قد وضح هدفها. وصاح بها: 

-حية سامة» هذا جزاء إيوائى لك؟ ! 

فولولت قائلة : 

-لم أعرف إلا بعد فوات الوقت. . 

تدعين السذاجة يا شيطانة؟ ! 

- أبدا ولكنه وقع رغم الحذر. 

-كذابة» وحتى لو صدقتك فلم لم تخبرينى؟ 


الخوف! . . لم أستطع من المخوف! 


-العفاريت تخاف مثيلاتك» وماذا تنتظرين! . . متى تفعلين شيئا؟ 
قالت بلهوجة وهى تشهق : 

-لم أنس صديقة ماتت وهى تفعل ذلك . . 

-وإذن؟ 

واحتبس صوته من الغضب ثم صرخ : 

وإذن؟! افصحى عن مكرك! اسمعى . . 

ثم وهو ينذرها بسبابته : 

لاترينى وجهك. من الآنء من الآن» وإلى الأبد! 

فتوسلت إليه قائلة : 

فقال بإصرار جهنمى : 


الآن. . الآن أنا فاهمك ولكن الآن وإلى الأبد. 





١.5‏ السهان واكرلف 


١ “7ع‎ 


اشتدت وطأة الوحدة عليه فلم يعد يتحمل الرجوع إلى الشقة إلا آخر الليل. ولكن 
خوفه من البنت فاق جميع عذاباته وجعل يتساءل ترى هل تتخذ الخطوات التى تقذف به 
إلى صميم الفضيحة العلنية؟ . هل يقف قريبا موقف الذل أمام النيابة؟ . كما سيحلو 
التشهير به عند الصحف! وكم سيكون ذلك فرصة طيبة للتشهير بالآخرين وبعهد بأكمله! 
وطوقه القلق فى وحدته كالبعوض فى مستنقع . ولكن تتابعت الأيام دون أن يتحقق شىء 
من مخاوفه أو يجيئه من البنت تعب . وثمة أسباب كثيرة أقنعته بوجوب العودة إلى 
القاهرة ولكنه تشبث بالبقاء فى الإسكندرية بلا سبب معقول» وكلما اطمأن من ناحية 
البنت زاد تشبثه بعذابه» ولم تعد العواصف تزعجه بقدر ما تفتنه » والوحدة تغازله بسحر 
غامض قاتلء أما جو الأجانب ذو العبير الغريب ففجر فى نفسه أحلاما بالهجرة الأبدية 
إلى قمم الجبال المنقوشة بالمراعى الخضر حيث ينقضى العمر بعيدا عن الكدر. وأحب 
ميدان الرمل حبا جماء فهو مسرح دائم لحاملات الأناقة والشعور الذهبية الملفعات 
بمعاطف المطر . وكلما جاء ترام انطلقت أسراب الحسن تبهج الخاطر وتسكر اللب وتعزف 
بسيقانها مختلف الألحان. ورآه ضابط بوليس وهو يحملق فى حسناء ويهم بمتابعتها 
فالتقت عيناهما وابتسم الضابط فتراجع عيسى من فوره وهو يتفكر ما كان له من رهبة فى 
نفوس جميع الرتب من ضباط البوليس . واتخذ وراء الزجاج مجلسا فى ١على‏ كيفك» 
المشرف على الميدان. وتيار البشر يتلاطم بلا انقطاع فيعيش فيه ماشاء بلا ملل. 
الماضى المشحون بالطموح لم يسمح بجلسة كهذه وإن تكن جلسة منبوذ كالزبد الذى 
يخلفه الموج فوق الساحل حتى يجمعه عمال البلدية . وأين الأعزاء الكبار الذين أجبروا 
على الاختفاء ومتى تجف الدموع عليهم! واللهو فى تلك الأيام لم يؤخذ إلا خطفا وبلا 
تذوق ودون علاقة إنسانية حقيقية» وعندما أذن الزمان بإنشاء علاقة إنسانية هب 
الإعصار فاجتاح كل قائم. وها هو الجو يكفهر وتبتلع قوة مجهولة الضياء وتتكدس 
السحب فيلوح الآدميون المولون كالأطياف . يا إسكندرية الشتاء المتقلبة كامرأة! وهب 
الهواء عنيفا كأنباء السوء فحبكت الأيدى البضة المعاطف وأغلق باعة الصحف 
معارضهم وأمسى الاحتماء بزجاج «على كيفك» واحتساء الشاى الساخن نعمة النعم. 
وجعجع الرعد فشرد القلب وهطل المطر بقوة ورشاقة حتى وثق ما بين السماء والأرض 
بأسلاك مكهربة» وخلا الميدان وتكتل البشر تحت مظلات الأسمنت فبعث منظر 
تلاصقهم الدفء فارتاحت نفسه وطابت . 


11100 





السيّا ن ولف ١‏ 


وسمع نحنحة خفيفة فالتفت إلى يساره فرأى ريرى مستقرة على كرسى لا يفصلها 
عنه سوى ترابيزة واحدة! حول رأسه إلى الميدان بسرعة ولكنه لم يعد يرى إلا صورتها 
فى المعطف البرتقالى القديم فى مزيج من أفكاره المضطربة» لقد التقت العينان لحظة 
قصيرة جدا ولكنها مليئة بتعبير مأساوى باسم . أهى تتبعه عن قصد أم رماه بها التسكع 
وحده؟! وهل تنتهى الجلسة بسلام أو تنفجر فى ذروة من الفضيحة؟ وهل تخلصت من 
الشىء أو ما زالت مصرة على الاحتفاظ به؟ وقرر أن يغادر المكان ولكنه انتبه إلى الميدان 
فرأى العاصفة تتمادى فى هياجها وسلم بأنه سيظل حبيسا داخل المحل على رغمه. 
وقرر أيضا أن يغادر الإسكندرية فى أول فرصة, غدا لو أمكن ثم تظاهر باللامبالاة 
وأسند خده إلى قبضته كالمتأمل الحالم! وخطر له خاطر سيى جدا وهو أن حضورها ما هو 
إلا جزء من خطة متفق عليها مع البوليس للقبض عليه. وأنه آن له أن ينضم إلى ركب 
أبناء جيله البارزين الذين يقذف بهم تباعا خارج الأسوار. وقديسوق ذلك إلى ما هو 
أدهى إذ إنه لا شك فى أنهم مطلعون على رصيده فى البنك وأنهم قد يطلقون عليه هذا 
السؤال «من أين لك هذا؟» فى أى لحظة . وما يدرى إلا والبنت تجلس إلى ترابيزته 
وهى تقول : 

- قلت أدعو نفسى ما دام لا يريد أن يدعونى! 

حدجها بنظرة جامدة تخفى وراءها ذعره ولم ينبس فقالت: 

لا تزعل» سنجلس معا بعض الوقت كما يليق بالأصدقاء القدامى . 

وقال لنفسه هذه هى الخطوة الأولى فى المكيدة ولعل المتآمرين الآخرين يترقبون. 
وصمم على الدفاع عن نفسه حتى الموت » فقال بصوت يسمعه القريبون منهما: 

-عم تتحدثين . . أنا لا أفهم شيئا! 

فأخذت بتجاهله وانطفأت المداعبة فى عينيها وتمتمت: 

أنت تقول هذا! 

فبسط يسراه متظاهرا بالحيرة فقالت بتعجب: 

إذن فأنت لا تعرفنى! 

أنا آسف جدا . لعلك أخطأت فى الشبه! 

ولفتها الخيبة بصورة محزنة» ثم أطبقت شفتيها فى غضب أحال سحتتها نذيرا بالشر 
حتى توقع كارثة أمام الجلوس ولكنها قامت وهى تقول فى سخرية وتحد: 

يخلق من الشبه أربعين. . 

وشعر لشدة انفعاله بدوار. ولم يصدق أن المعركة ستقف عند هذا الحد. وكلما تذكر 
سحتتها المنقلبة ارتعد وأيقن أنها تخفى غمرة تحت جلد البنت المرحة. ولبث فى ذهوله لا 





١‏ الستان واكرليف 

يدرى كم لبث حتى انتبه إلى أن المطر قد كف عن الهطول وأن فرجة تتسع فى الأفق ينبثق 
منها شعاع وان مغسول . ونهض بلا تردد فارتدى معطفه ومضى دون أن يلتفت ناحيتها . 
بوفاة والدته. 


١/6 


تقرر تشييع الجنازة من القبة الفداوية عصر اليوم التالى» وقد سبق عيسى إلى هناك 
ليستقبل المشيعين فصادف وصوله قدوم حسن ابن عمه فى سيارته المرسيدس» ولم 
يدهش للسيارة بطبيعة الحال ولكن منظرها أثاره . وعجب للتحسن الواضح الذى طرأ 
على صحة ابن عمه» والاستعلاء الذى شد قامته» والسيادة المطلقة من عينيه . وتصافحا 
ووقفا ينتظران تحت ظل شجرة» وجعل حسن يتفحصه ويقول : 

ليسنك ضيحتك كما كنت أننظر! 

فقال عيسى وهو يستعرض أحزانه فى لفتة خاطفة : 

- لعل الجو لم يناسبنى . . 

فقال الشاب بلهجة تقريرية قاطعة : 

رحلة لا معنى لها ولكنك رجل عنيد! 

وقال عيسى إنه لم يعدل بعد عن حلمه القديم فى تزويجه من أخته. ثم جاء 
الأصدقاء سمير عبد الباقى وإبراهيم خيرت وعباس صديق وبعض الشيوخ والنواب 
السابقين. وجاءت أفواج من الناس لا حصر لهم لتعزية حسن فاكتظ بهم السرادق على 
سعته . وكانت لحظة حرجة حين هبط على سليمان من سيارته . وقد استقبله حسن» ولم 
ير عيسى بدا من استقباله فتصافحا وتلقى تعزيته دون أن يتبادلا نظرة واحدة . وتتابعت 
الخطوات التقليدية واحدة بعد أخرى» ولم يخرج عيسى عن رزانته إلا ساعة الدفن 
فاغرورقت عيناه رغم ما بذل من جهد صادق لضبط مشاعره. وقد أشرف على جميع 
الإجراءات بنفسه . ولم يستطع أن يقاوم الإغراء الأبدى فألقى بنظرة طويلة إلى جوف 
القبر. وشعر برغبة فى الخلو بنفسه ليقول لها أشياء هامة» ثم وثب إلى مخيلته موقف 
الوداع الأخير بينه وبين أمه فى البيت القديم وقد لثمت جبينه وقالت: 

-افعل ما تشاء» وليحرسك المولى أينما تكون, أما أنا فسأحبس دموعى حتى تذهب 

بالسلامة! 


11100 


اسان واكرلف | 


ولا يكاد يذكر تعابير وجهها لأنه لم ينعم فيه بالنظر ولكن كانت يدها باردة منتفضة . 
وانتحى جانبا عندما بدأت التلاوة الجماعية . وتبادل وأصحابه نظرات متعاطفة أكثر من 
مرة. وسأل نفسه بتأنيب «لم تحزن أكثر مما ينبغى؟2. ثم قال لنفسه أيضا بحماس مريح لم 
يخل من شماتة «هذا هو المصير الأخير . لكل مسكين ولكل جبار. أجل ولكل جبار!» . 

واقتصر العزاء فى البيت ليلا على الأهل والأصدقاء الثلاثة» أما على سليمان فلم 
يحضر» وتجنب عيسى الانتقال إلى الحريم كيلا يرى آل عمه ولكنه تساءل باهتمام هل 
حضرت سوسن هام وسلوى! . وفى الحجرة التى جمعته مع سمير وعباس وإبراهيم 
وحسن شهد صورة أقرب ما تكون إلى الفكاهة إذا لم يجرؤ أحد من أصدقائه على 
الإفصاح عن مشاعره السياسية فى حضور حسن ولما كانت السياسة جزءا لا يمكن إهماله 
فى أى اجتماع فلم يروا بدا من النفاق فنوهوا بالأعمال التاريخية المذهلة كإلغاء النظام 
الملكى والقضاء على الإقطاع والجلاء» وبخاصة الجلاء ذلك الحلم القديم» ولم يشترك 
عيسى فى الحديث إلا قليلا لغلبة الإعياء عليه ولشعوره بالفراغ والحزن». ودارى سخريته 
من الموقف بالتظاهر بالإصغاء إلى تلاوة القرآن المنبعثة من الصالة حيث تربع مقرئ من 
الدرجة الثالئة . وقال لنفسه إن حسن بات ركنا خطيرا يعمل له ألف حساب . ألا يبدو 
هذا مضحكا؟! واستسلم للشعور العجيب بأن أمة لم تمت أو أنها لا تزال حية بطريقة 
ما أو أن روحها لم تغادر البيت بعد. ثم ذكر بدهشة حلم الجلاء القديم وكيف أصغى إلى 
أنباء إعلانه بارتياح فاتر مشوب بالغيظ لا لشىء إلا لأنه لم يتتحقق على يد حزبه. وما 
تمالك أن قال: 

الحقيقة أن الحلاء ثمرة للماضى ! 

ولم يعلق أحد من الأصدقاء بكلمة على حين نشط حسن للبرهنة على فساد هذه 
الفكرة» وإذا بإبراهيم خيرت يقول: 

الحقيقة أن جميع ثوراتنا القديمة ثورات بلا نتائج حاسمة» ثم جاءت هذه الثورة 

لتحقق رسالات الثورات القدية بالإضافة إلى أهدافها الذاتية. . 

وتواصل الحديث حتى خلا البيت. وحين مضى ليوصل ابن عمه إلى الباب الخارجى 
توقف فجاة ثم ابتسم إليه فى تودد قائلا : 

كان سفرك خطأ ويجب أن تعيد النظر فى موقفك . . 

فابتسم عيسى بلا أدنى رغبة فى الحديث فعاد الآخر يقول: 

خبرنى عن أمل واحد من آمالك الماضية لا يتحقق اليوم. . فيجب أن تلحق 
بالقطار. . 

وهز رأسه هزة غامضة» ثم تصافحا وحسن يقول: 





7 التهان اكليف 


فشكره عيسى بنبرة امتنان واضحة . والحق أنه تأثر كثيرا لحسن مجاملته ولكنه أبى أن 
يفكر فى زحزحة الجدار الذى يصده عنه . وكثيرا ما يسلم بمنطق خصمه ويعترف بهزيمته 
الخفية أمامه. ولكن كلما ازداد عقله اقتناعا غاص قلبه فى الامتعاض الآسن. 
سألها: 

كيف كان حالها؟ 

فقالت وهى تجفف عينيها : 

إذن فجأة؟ 

- نعم » وبين يدى من حسن الحظ . : 

هل كانت تطول وحدتها بالبيت؟ 

-أبداء كل يوم كانت تزورها ست من أخواتك . 

نعم يا سيدى حضرت . 

وبعد تردد قصير سألها : 

-وسلوى؟ 

-لم تحضر يا سيدى . 

ورمشت بعينيها ثم استطردت : 

كتبوا كتابها على سى حسن ابن عمك . 

انتفضت عيناه المتعبتان فى نظرة يقظة دهشة ثم تساءل : 

- نعم يا سيدى . . 

- متى؟ 

- فى الشهر الماضى . : 

مد ساقيه بلا مبالاة. وألقى برأسه على مسند المقعد فرأى السقف القديم الباهت القائم 
على أعمدة أفقية» ثم استقرت عيناه على برص كبير فى أعلى الجدار تراءى فى وضعه 
الحامد كالمصلوب . 

111 0 





اسان واكزلف 0١‏ 


١ 


فى جو يونيو المشبع بالدفء يحلو المجلس على طوار البوديجا وبخاصة عندما يحمل 
المساء نسمة لطيفة . وقد يسود الصمت عند مرور حسناء ولكنهم لا يشبعون بحال من 
حديث السياسة . وبالرغم من المركز الذى يشغله عباس صديق فى الحكومة والمكانة التى 
يحتلها إبراهيم خيرت كمحام وكاتب من كتاب الثورة فإن موقفهما لم يختلف فى شىء 
عن موقف عيسى أو حتى سمير عبد الباقى الجانح إلى الهدوء» وقد خص إبراهيم خيرت 
شعورهم العام بكلمة من كلماته إذ قال: 

تكون فى فمك وتقسم لغيرك. . 

وطبعهم الاستسلام بطابعه ولكن الأمل فى معجزة ليست فى الحسبان لم يمت» ومن 
أتفه الأحداث يتلقون أحيانا ما يبعث فى موات نفوسهم نفضة حياة غامضة . ومن عجب 
أن إبراهيم خيرت وعباس صديق يثبتان بصورة مستمرة أنهما أشد تذمرا من عيسى نفسه 
وقد قال لهما ضاحكا: 

أنت كاتب كبير وأنت موظف كبير فماذا تريدان؟ 

فقال عباس بصوته الرنان المنسجم تماما مع جحوظ عينيه وبريقهما: 

الحالة الخاصة مستكنة ولا شك ولكنها لا تتغير من النظرة العامة. . 


وقال إبراهيم خيرت: 
الحقيقة أنه لا قيمة لإنسان اليوم مهما علا شأنه» نحن بلد الفقاقيع. . 


-كنت وأنا فى الدرجة السادسة لا غير فى حكم وزارة بأكملها . 

وقال سمير عبد الباقى باستسلام مريح : 

-لم يعد يهمنى شىء ألبتة! 

يمكن أن يعتبر موقفك أشد تطرفا منا جميعا! 

فسارع إلى إصلاح رأيه قائلا : 

أعنى لم تعد تعذبنى الحسرة على ما فات» وأحيانًا أدعو لهم بالتوفيق» ولا تهمنى 
غربتى لأننى اخترتها. . 

فداعبه عيسى قائلا : 





1١65‏ السهان ولف 


قل إنها فرضت عليك . . 

ولكننى اخترتها فى نفس الوقتء ولتكن مشيئة الله. . 
وربت إبراهيم على كتف عيسى قائلا : 

وأنت لم لا تتكلم؟ ألا جديد عندك؟ 


- علقت منذ أيام إعلانا على باب بيت المرحومة الوالدة «للبيع» . 
و 3 . قَء ! 
-بيت قديم لكنه صقع ! 
فقال عيسى بسرور: 
سيمكننى نصيبى منه من أن أعيش حياة الأعيان التى أحياها أطول مدة تمكنة . . 
ِ بضبيبى هنة من أل اكيس حي 8 - 
هل تجدها حياة موفقة؟ 
- لعل فيها الشفاء من انقسام الشخصية الذى أعانيه . . 
فتساءل عباس صديق : 


مرض جديد؟ ! 

فقال عيسى بعد تأمل : 

الحقيقة أن عقلى يقتنع أحيانا بالثورة ولكن قلبى دائما مع الماضى» والمسألة هل يمكن 

التوفيق بين عقلى وقلبى؟ ! 

فقال إبراهيم خيرت : 

- المسألة ليست مسألة مبادئ يقتنع بها العقل ولكن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تتقرر 
يقة خفية كما فى الحب. ويمكن أن يقول إن أظفر الحكام بقلوب المحكومين هو 

أعظمهم احتراما لإنسانيتهم » وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! 

فقال عيسى بحزن : 

ولذلك فحتى لو حظيت بعشرات الأعمال فسوف أظل بلا عمل . . 

فقال عباس صديق : 

أهو العقل أم القلب الذى يتكلم؟ ! 

فقال سمير عبد الباقى باسما : 

للقلب «عندنا» معنى مختلف كل الاختلاف . 

تساءل عيسى : 

لم نضحك والحياة مأساة بكل معنى الكلمة؟ 


11100 





السّان ولف ١0‏ 

فقال إبراهيم خيرت: 

نحن نعتبر الموت ذروة المأساة» ومع ذلك فموت الأحياء أفظع ألف مرة من موت 

الأموات . 

فضحك عباس صديق ضحكة كالفرقعة وقال: 

- ما أنسب أن يسوقنا الحديث عن الموت إلى حديث الذرة مثلا! 

فقال عيسى ولم يكن قد خرج تماما من حزنه المفاجى : 

التهديد بالذرة من شأنه أن يخفف من متاعب الحياة» أعنى حياتنا . . 

فتساءل عباس صديق فى سخرية : 

والحضارة؟ ألا تخشى على الحضارة؟ 

من حسن الحظ أننا لم ندخل الحضارة بعد فما خوفنا من البلل؟ 

فقال إبراهيم خيرت: 

ليكن عهد كعهد الطوفان ليطهر العالم . . 

فسأله عباس صديق : 

هل سمعت عن ذلك من مصدر مسئول؟ 

فقال سمير عبد الباقى : 

فنعترف بأنه لولا الموت لما كان للحياة قيمة . . 

ما أكثر الكلام عن الموت. . 

وتذكر عيسى موت أمه وزواج سلوى من حسن والقسوة التى عامل بها ريرى. وقال 
لنفسه إن السمر مع هؤلاء الأصدقاء تسلية شاقة أما حديث حسن فإنه يزيد انقسام 
شخصيته حدة. ومال سمير نحوه قائلا : 

مشكلتك تعتبر يسيرة بالقياس إلى مشكلة العالم» أنت يلزمك عمل وزوجة. . 

فقال عيسى دون مناسبة ظاهرة : 

-لذلك فأنا أحب أفلام الرعب. . 

فقال عباس صديق : 

عيب هذه الأفلام أنها خيالية. . 

فقال عيسى : 

- بل عيبها أنها واقعية أكثر مما يجب . . 

وانطلقت صفارة الأمان خطأ واستمر انطلاقها نصف دقيقة. وقال عيسى إنه سيجد 





١6‏ اسان الف 


نفسه فى النهاية باحثا عن عمل وعن امرأة» ولكن ذلك لن يقع حتى يسلم بالهزية 
ويخرج نهائيا من التاريخ . 


9. 


حياة آخر الليل حادة اللذة ولكنها لا تدوم فضلا عن فداحة ثمنها. وللأريزونا جمال 
خاص عند منتصف الليل» فالرقص يدور مع حسناوات من أمم شتى» والشراب ممزوج 
بندى الفجر» ثم إنك تستطيع أن تقتنع بالكذب» وفى الحديقة الخلفية لا يوجد إلا العشق 
والعشاق وضوء القمر أو ضوء النجوم, والنقود لا قيمة لها ألبتة والعواطف تهرق بلا 
حسابء وقال إنه لا جديد فى الصورة» غير أنه يمارس أكاذيبه فى الحياة اليومية فى جو 
شديد الجفاف أما هنا فهى تمزج مع الأغانى فى جو من الطرب» وسلوى قد عرفت 
التفاهة ولكنها لم تعرف الطرب . 

وخطر له أن يسأل صديقته الإيطالية فى الحديقة : 

أنت طوفت بلادا كثيرة فما رأيك فى الناس؟ 

وكانت متعة الحواس الخمس فأجابت: 

- أنا ألقاهم عادة عندما يكون السرور مطلبهم فهم طيبون جدا. 

- ولكن ذلك كله كذب؟ ! 

- فى الأقل فهم يرغبون فى بصدق؟ 

مجرد انفعال عابر . 

وهكذا كل شىء! 

فضحك. وتردد قليلاء ثم قال: 

ولكن حتى هذا الانفعال العابر لا تجدينه فى نفسك؟ 

فقالت فى دعابة : 

إذن فأنت لا تصدق أننى أحبك؟ 

فسألها باهتمام : 

كيف لم يتأت لمثلك أن تنعم بالاستقرار؟ 

فغنت أغنية إيطالية . ومرت به لحظة تأثر بجمالها فحزن لامتهانه ولكنه قال إن قيما 
ثمينة غير الجمال تلقى نفس المصير كالحرية والآدمية وحتى الدين يتاجر به أناس بلا 


11100 





السَيان اكليف ه6١‏ 


حياء» وإنها فى الحقيقة مأساة واحدة» وهو نفسه وقع فى نفس العبث فى ماضيه فهضم 
ألوانا من الفساد وشارك فيه . ولا يزال رصيده فى البنك شاهدا على ذلك» فلم لا يسود 
النقاء؟ وما الذى حال دون ذلك طوال القرون؟ وهل يوجد فى مكان ما من الأرض 
إنسان يعيش بلا خوف ولا رذائل؟ 

وجعل يتسلى بتعقب الفتيات فى شوارع القاهرة» وبخاصة الصغيرات منهن كأن قوة 
تذفعة إلى منابع السذاجة» ولكنها لم تكن إلا زحلاتعابئة غامضة ويلا نتائج + بوكليا 
اشتدت العواصف السياسية وأطاحت بمعنى أو برجل من ماضيه ترنح من هول 
الصدمة حتى تمنى يوما لو كان للمصريين كما لغيرهم ‏ جالية فى أمريكا الجنوبية ليهاجر 
إليها. وقال ساخطا إن المصريين زواحف لا طيور. وراوده حلم بتغيير جذرى فى حياته . 
ولكنه لم يكن يفعل سوى العبث . وقد شكا إلى صديقه سمير عبد الباقى فقال له : 

- أين شراعك؟ . . أنت زورق بلا شراع! 

وعند الرابعة من مساء يوم جاء سمسار الوايلية وهو يقول: 

بعضهم يرغب فى مشاهدة البيت . 

ودخلت سيدتان» عجوز فى السبعين وابنتها من الشبه بينهما استنتج م ذلك فى 
الأربعين أو دون ذلك بقليل» انعو عير إن عو وهر با 
أسئلتهماء وكانت العجوز نحيلة بيضاء البشرة رمادية العينين ذات جفون ثقال ونظرة تدل 
على الخبرة والثقة بالنفس» أما ابنتها فمتوسطة الطول ممتلئة الجسم والوجه ولهاعينا 
بقرة وهدوءها. وقد لا حظ دهشتهما من التناقض الواضح بين قدم البيت وفخامة 
الأناث وعصريته فضايقه ذلك وأهاج إحساسه الراسخ بالمطاردة . وبعد أن ألقيا نظرة 
على الحوش الكبير دعاهما إلى الجلوس فى حجرة الاستقبال وقدم لهما القهوة. وشهد 
المجلس السمسار يجلبابه الأبيض ورأسه العارى وهو يتفحص الجميع بعينيه الضيقتين 
ويقول: 

البيت عبارة عن مساحة كبيرة تصلح لإقامة عمارة على ناصيتين» ميدان الكومى 

وشارع الجلال بحرية غربية» موقع نادر المثال» والحى فيما حوله يتجدد بسرعة كما 

رأيتما فخمس عمارات جديدة تشيد فى وقت واحد وهو ما يزيد من قيمته . . 

فقالت الابنة التى وضح لعيسى سواد عينيها وفخامة ملبسها: 

ولكن البيت قديم جدا ولا يصلح للسكنى 

فقال عيسى : 

- طبيعى أن الذى يشترى بيتا كهذا البيت لا يشتريه للسكنى ولكن للبناء كما قال الحاج 

حسنين» والأرض صقعء والبيع بأجر المثل ويمكن حضرتك أن تسألى عنه بنفسك! 





١5‏ اسان واكزلف 


فقال الحاج حسنين : 

هذا عن الحاضر أما المستقبل فالحى كله مضمون وما من حى فى الدنيا مثله فى 
موقعه أو ازدحامه بالسكان أو مواصلاته الكثيرة. . . 

وسألت الابئة عيسى عن المساحة بصوت حلقى ملىء كوجهها ولكنه مثير فى الوقت 
نفسهء وقد كون عنها فكرة أولية بأنها امرأة جديرة بالاحترام لفخامة مظهرهاء وقد 
تشتهى أيضا لفترة ما. وأجاب: 

ألف متر مربع ولعل الحاج أبلغكما بالثمن المطلوب . . 

فتساءلت العجوز: 

عشرة آلاف جنيه؟ ! . أين تجد القادر على دفع هذا المبلغ؟ 

فأشار عيسى إليهما ضحكا وهو يقول: 

هنا أجده. . 

وقال الحاج حسنين بتوكيد : 

فرصة لا تجود الدنيا بمثلها مرتين والله شهيد. . 

ورفض عيسى أن يخفض من الثمن قرشا واحدا. واستمرت المساومة طويلا ولكنها 
كانت تصطدم بإصراره» وفى أثناء ذلك تبادل عيسى والابئة نظرات غير تجارية على سبيل 
الاستطلاع فغلب على ظنه أنها غير متزوجة. وقال لنفسه إنها غنية ومقبولة : أجل 
ليست من الطراز الذى يحبه ولا السن التى تناسبه ولكنها غنية وهادئة وعلى خلق فيما 
بدا له. ولم تكن إلا خواطر عابرة من وحى المجلس ولكن يل إليه أن العجوز تتابع 
خواطره. 

وانتهت الجلسة بلا تراجع من ناحيته ولا قبول من ناحيتها . . 


55١ 


ونصحه السمسار بأن يتساهل بعض الشىء ولكنه رفض بعناد لحاجته الماسة إلى تأمين 
مستقبله . ولسوف يضمن إذا قبض نصيبه من ثمن البيت ‏ مستوى من المعيشة كمستواه 
الحالى لعشرة أعوام على الأقل وقد تتفتح له أبواب عمل مناسب فى أثناء هذه الفترة 
الطويلة. ولم تعارض موقفه أخت من أخواته الثلاث وتركن له مطلق الحرية فى القبول 
أو الرفض ومضت أيام حتى أدركه الجزع ولكن السمسار جاءه ليزف إليه بشرى قبول 
السيدة للثمن المطلوب» ومن ثرثرة السمسار عرف أن عنايات هائم أرملة مأمور بوليس 


11100 





اسان واكزليف /ا6 ١‏ 


ولكن الثروة ورثتها عن أبيهاء وأن ابنتها قدرية هى وحيدتها مطلقة منذ خمس سنوات 
ولم تنجب أطفالا. وقد مضى إلى زيارة السيدة فى مسكنها بعمارة تمتلكها بميدان 
السكاكينى ودل أثاث المسكن الكلاسيكى الفاخر على عراقة حقيقية فى الجحاه وتم الاتفاق 
على الإجراءات فى جلسة ودية وقال عيسى بلباقة وهو يشير إلى صورة المرحوم : 

- أنا أعرف المرحوم» سمعت عنه أول عهدى بالعمل» ما أقنعنى بشهامته ووطنيته . 

وأحدث كلامه أثرا طيبا جدا فى نفس المرأتين. . ودعته عنايات هام للبقاء بعض 
الوقت. وما لبث أن جاءت خادم بالشاى والحلوى الفاخرة» وأعربت العجوز عن 
سعادتها إذ مكنتها المصادفات من استضافة شخص من المعجبين بالمرحوم ولكن عيسى لم 
يأنس منها أريحية تبرر هذا الكرم وحدس أن الدعوة موجهة لحساب الابنة التى جلست 
فى هدوء تملا فراغ المقعد بجدارة وترمقه بين حين وآخر بنظرة ناعسة . وقالت عنايات : 

وأيام الخدمة بالأقاليم لا تنسى» أيام مليئة بالخير» ونال المرحوم تقدير سعد زغلول 
فنقله إلى الداخلية عام 1977 ولكنه تعرض لأسو أنواع المعاملات فى عهود 
الانقلاب. . 

ثم أثنت على صدق فراسته واستشهدت على ذلك قائلة : 

عندما تقدم زوج قدرية لخطبتها أعرب المرحوم عن عدم ارتياحه له» ولكنى تشبثت 
به فكنت المسئولة عن سوء حظ ابنتى! 

تلقى عيسى الكرة بارتياح ثم تساءل: 

-ترى كيف كان ذلك؟ 

كان من أسرة ولكنه ذو خلق منحرف» ابنتى طيبة وست بيت وكرية الأخلاق فلم 

تقبل بطبيعة الحال أن يجعل من بيتها خمارة وملعبا للقمار! 

فتأسف عيسى قائلا : 

يا للحظ السيى» ولكن ربنا يعوض صبرها خيرا . 

ومضى وقت غير قصير فى ثرثرة هادفة» وجعل عيسى يتساءل عن مدى قدرته على 
استساغة امرأة كقدرية يمكن أن يعتبرها نوعا من التأمين مدى الحياة وسوف يجدها بلا 
ريب حظا طيبا إذا قدرت على ضوء ما عاناه من تقلب الدهر . وعندما غادر البيت اطمأن 
إلى أنه قد استأثر باهتمام المرأتين لدرجة لا بأس بهاء وقال لنفسه فى غير قليل من 
الأسى: قدرية فى حاجة إلى رجل وأنا فى حاجة إلى امرأة . ورسم خطة للتحرى عن 
قدرية كالعادة. 

وقررت التحريات أنها تزوجت ثلاث مرات لا مرة واحدة» الأولى لم تستغرق إلا 
شهرا إذ كتب كتابها على قريب لوالدها وقبل أن تتم الدخلة وضح لهم طمعه فى مالها 





0 الها نو اكليف 


ونفعيته المفضوحة فحمله أبوها على تطليقها. والثانية استهلكت أربعة أعوام أو خمسة. 
ولم تقبل الأم أن تهبها من مالها شيئا رغم مطالبة الزوج بذلك وإلحاحه عليه لاقتناعها بأنه 
يستطيع أن ينهض بمسئولياته دون مساعدة منها وأن مطالبه غير معقولة وناطقة بسوء نية 
فانتهى النزاع بالطلاق . والثالثة استمرت أعواما ستة وبشرت بالدوام وبخاصة بعد أن 
غيرت الأم سياستها وأغدقت على ابنتها من مالها ما كفاها وأكثر ولكن الزوج كان يرغب 
فى إنجاب أطفال» ولم تسعفه قدرية فى ذلك ولا وعدت به قياسا على حياتها الزوجية 
السابقة فتزوج الرجل سراء ثم انكشف سره فاعترى ال حياة تنغيص لم يستطع تحمله إلى ما 
لا نهاية فكان الطلاق الثالث. 

هذه هى قصة قدرية» غير أن عيسى لم يعرضها بتفاصيلها فى ركن البوديجا ولكنه 
قال: 

امرأة لا بأس بها ترغب فى الزواج منى! 

فتحولت إليه الأعين كأنها بوصلات تنجذب إلى قطب» فقال بارتياح ممزوج يزهو: 

- من أسرة عريقة وغنية . . ! 

فقال عباس صديق بصوته الرنان كأنا يعلن الخبر على الملا : 

الصفة الأخيرة هى المطلوبة! 

وقال إبراهيم خيرت باسما ليدارى انفعالا بالجسد: 

مبارك» من الخير أن نربم بيتنا الآيل للسقوط بفعل أعاصير السياسة واغتاظ عيسى من 
هذه الملاحظة فردها قائلا : 

وبخاصة وأننى لا قلم لى أستغله فى التقرب من الأعداء! 

وضحكوا جميعا. وانهالت عليه الأسئلة من كل لون» وجعل يجيب بحذر حتى 
تراكمت أكاذيبه . ولم يفض بذات نفسه إلا لسمير عبد الباقى وهما يسيران منفردين 
بشارع سليمان باشاء صارحه بالحقيقة بلا رتوش فسأله سمير: 

-ألايهمك إنجاب الذرية؟ 

فأجاب بامتعاض : 

- يهمنى أن أجد رفيقا فى وحدتى . وهذه امرأة لا بأس بها مستعدة لأن تقبلنى بعيبى 

فلم لا أقبلها بعيبها؟» وأين هى الفتاة الكريمة التى ترضى بى بحالتى الراهنة؟! 

وزار عنايات هائم ليطلب يد قدرية فوجد منها استعدادا طيبا لقبوله» وقال: 

سأصدقك القول فإن الكذب هو عدو الزواج» لى رصيد فى البنك لا بأس به ومنه 

نصيبى من البيت الذى آل إليك؛ ولى أيضا معاش صغيرء وليس لى عمل فى 


11100 





السان ولف ١8‏ 


الوقت الحاضر ولكن من الممكن أن أجد عملا محترما فى المستقبل» وقد أخرجت 

من الحكومة لا لسبب يمس الشرف ولكن للتعصب السياسى الأعمى» ولم يكن من 

الممكن أن يبقى العهد الحاضر على شخص مثلى يعده فى غاية الخطورة! 

فقالت العجوز: 

جميل . . جميل» نحن لا تهمنا الثروة» ولا نفضل العمل إلا لأن الفراغ غير 

مستحبء, ولا أشك فى شرفك فقد قاسى المرحوم زوجى كما تقاسى, وقلبى 

يحدثنى بأنك ستكون خير زوج لابنتى . 

ولم تفاتحه عن زيجات ابنتها المتعاقبة ولا عن عقمهاء فارتاح لذلك إذ أنه رأى أن 
اطلاعه على عيوب العروس مقدما لن يترك له فرصة فى المستقبل لتمثيل دور الزوج 
المخلص الذى خاب أمله وهو دور مهم جدا لتعزيز مكانته وسيطرته. . ! 


5” 


وسافر إلى رأس البر لقضاء شهر العسل فى عشة عنايات هانم» ونمت العلاقات بين 
الأطراف الثلاثة على وجه يبشر بالخير . وقد أراد أن يكون منذ البدء «رجلا» بمعنى الكلمة 
فلم يلن فى موقف يندم عليه مستقبلا. ولذلك رفض أن يقيم فى مسكن الأم كما 
اقترحت وأصر على السكن مع زوجه بعيدا فى الدقى» حي الذكريات التى لا تنسى . 
وصارح الأم بشجاعة غريبة ‏ على حد وصفها لها بأنهما ‏ هو وزوجه ‏ يجب أن يتمتعا 
بمالها فى حياتها ليدعوا لها بقلب خالص بطول العمر! . كان يقف وراء مطالبه حتى تنفذ 
بحذافيرها وهو يقول لنفسه إن الذى أضاع حزبه الجبار لم يكن سوى التساهل فى أواخر 
عمره الحافل بالعناد والإصرار! 

وكان يرى رأس البر لأول مرة فى حياته فأعجب بطابعها الخاص الجامع لمحاسن 
المدينة والريف والساحل» وفتنة ملتقى النيل والبحر» والهدوء الشامل كحلم سعيدء 
والوجوه النضرة . والهواء اللذيذ الجاف الذى يستبيح عصمة البيوت من جدرانها 
المضيافة» ولم يجد أحدا من أصدقائه فى المصيف فوهب وقته كله لأسرته. وصادف 
الزواج توفيقا بديعا وشعر بأنه سيطر على زوجه بقوة واقتدار» ولأول مرة آلمته البطالة إذ 
وجد الحياة فى البيت تدور على محور غير محوره» وأن شخصيته وحب زوجه له 
ومجاراة حماته لرغبته» كل أولئك لم يدفع عنه ذلك الإحساس المؤلم . وقديما كان 
يمارس حياة الأعيان أمام الناس بماله اليوم تتعلق الأبصار بزوجه وأموالها ولن يصدق 





ا اسان و الف 


أحد أنه سيواصل إلى الأبد حياته المرفهة بنصيبه فى البيت المباع أو بمعاشه . وجعل يدارى 
أفكاره بالتظاهر بالبساطة والثقة والضحكات العالية» ولكنه أيقن أن حياته لن تدوم على 
هذا المنوال» وأن عليه أن يستثير همته النائمة ليبدأ عملا حرا جديرا به. 

وأكملت المعاشرة معرفته بزوجته فقد تكشفت له عن أستاذة فى المائدة والملبس سواء 
من ناحية الذوق أو الصنعة» فأتخمته بألوان الطعام التى تقدمها وبخاصة الحلوى التى 
تنفنن فى تأليفها. وهى أكولة لحد الإفراط وتغرى من يؤاكلها بالإفراط كذلك. وهى 
مسلية جدا لإتقانها الألعاب البريئة كالنرد والكونكان ومولعة بالسينما والمسرح الفكاهى 
وإن يكن تعليمها الابتدائى قد محى من ذاكرتها تقريبا ولم يبق لها منه إلا قدرة ضعيفة 
على القراءة أو كتابة رسالة ركيكة. وهى امرأة بكل معنى الكلمة» متأججة العواطف فلم 
تدع له مجالا للشكوى من هذه الناحية» غير أنه توجس خوفا من توثبها إلى ازدراده كلما 
أمكن ذلك» ورغبتها غير الواعية فى أن تجعل منه زوجا وأبا وابنا فى آن. ولعل لذلك 
صلة بتطلعها الدافق الحزين إلى الأطفال» وإعرابها عن مشاعرها المكبوتة بالسهوم 
والنظرة القلقة وا حركات العصبية الطارئة التى لا تنسجم مع كيانها الملىء الرزين. وقال 
عيسى لنفسه: إن التعاسة تبدو قاسما مشتركا أعظم بين الناس جميعا فما أحقر المظاهرء 
وتساءل عن السر الخفى المسئول عن هذا العبث . وقال أيضا: إنه من حسن الحظ أننا 
الغزير الشعر؟ وهل تزعجها مثلا الأسباب الحقيقية التى أوجبت فصله من وظيفته؟ 
بمرارة ودهمته لحظة سوداوية فشعر بتفاهته إلى غير حد. ولذلك ذكر كيف كانت تزلزل 
الوزارة وهو يغادر صباحا السيارة الشيفروليه الحكومية» وذكر أيضا يوم أراد أن يرشح 
نفسه فى دائرة الوايلى فنصحه عبد الحليم باشا شكرى بتأجيل ذلك إلى انتخابات قادمة 
لاعتقاده بأنه سيرشح عما قريب وكيلا لوزارته. 

وفاجأه الراديو يوما بقرار تأميم شركة قناة السويس . ارتفعت حرارة اهتمامه الخامد 
لدرجة الغليان. لهث فى لهفة كأيام زمان. وما لبث أن أغرقه مد الحماس الذى اجتاح 
الجميع . وافتقد بألم شديد الأصدقاء الغائبين لحاجته إلى تبادل الرأى معهم . واعترف 
بذهول أنه عمل كبير حقا لدرجة أنه لا يصدق. بذلك أقر عقله. أما قلبه فغاص فى 
صدره كالمريض وأكله الحسد. إنه ينذعر كلما قامت قمة فى الحاضر تضاهى القمم 
التاريخية التى يعيش على ذكراها وشعر بألم التمزق فى منطقة الجذب والشد الفاصلة بين 
شطرى شخصيته المنقسمة . وتساءل عن العواقب... وحاول أن يسأل نفسه عن موققه بين 
هذه العواقب وسرعان ما هرب من معركته الداخلية بإشراك زوجه وأمها فى الحدث 
ولكنه لم يجد له صدى فى نفسهما فهرع إلى الفريجدير ليتناول بضع كاسات مريحة. 


1110 





السَيان و الف ١‏ 


وعاد إلى القاهرة فى منتصف سبتمبر متخم الحواس قد زاد وزنه زيادة ملحوظة . 
وكان يمر أمام بيته القديم وهو فى طريقه إلى مسكنه الجديد بالدقى فتنثال عليه الذكريات 
الحزينة . وراح يتبادل الزيارات مع أصحابه وقد كان لكل منهم زوجة شابة متعلمة ولكن 
قدرية احتلت بينهم مكانا مرموقا لجاهها ومالها. 

ولما سأله سمير عبد الباقى : 

-وكيف وجدت الزواج؟ 

أجاب بعد تأمل دبلوماسى : 

-عال» ولكن. 

ولكن؟ 

ولكن أشك فى أن إنسانا يهضمه بلا عمل وبلا أطفال . 

وهجم اليهود على سيناء بذلك لطمته الصحف ذات صباح وزلزله الخبر. وجالس 
الراديو يتابع الأنباء بانتباه منصهر . انفعل بالنبأ لحد الهذيان. ودار رأسه بالأفكار حتى 
أصابه الدوار. أجل تأرجح مصير الثورة فى الميزان ولكن انفجر شعوره الوطنى فطغى 
على كل شىء. غضب الغضبة الجديرة بالوطنى القديم الذى كاد يدركه الموت . الوطنى 
القديم الذى تعذب بالرغم من تلوثه من أجل مصر. تشبثت قدماه بحافة الهاوية التى تهدد 
وطنه بالضياع . وأبعد عن ذكره الثورة ومصيرها ليحتفظ بمشاعره فى أوج انفعالها. ومحا 
بقوة إرادته المشاعر المتناقضة التى تدب تحت تيار وعيه المتدفق . وحانت منه التفاتة إلى 
زوجه فهاله عدم اكتراثها وانكبابها على روتين حياتها اليومية . ولم تخرج عن ذلك إلا 
حين تساءلت بازدراء: 

حرب وغارات مرة أخرى ؟ 

ورأى الأمر دعابة فأحب أن يعابثها ليروح عن نفسهء قال: 

أنت مهتمة جدا بإعداد الطعام» خبرينى عن حال الدنيا لو فعل كل إنسان مثلك؟ 

فقالت ببساطة : 

كانت تبطل الحروب؟ 

فضحك رغم همه وغمه وقال مدفوعا بالرغبة فى الدعابة : 

أنت يا قدرية لا تهتمين بالشئون العامة» أعنى الناس والوطن . . 

حسبى اهتمامى بك وببيتك . 

ألا تحيين مصر؟ 





ا الها ن ولف 


ألا تودين أن ينتتصر جيشنا؟ 

طبعا ليعود الأمان إلينا. . 

ولكن ألا تحبين أن تشغلى عقلك به؟ 

عندى ما يكفينى من المشاغل . . 

خبرينى عن مشاعرك لو كان مقصد اليهود أن يستولوا على أملاك الست الوالدة؟ 

فضحكت قائلة : 

يا خبر أسودء وهل قتلنا لهم قتيلا؟ 

ووجد فى ذلك كله مزاحا يخفف من حدة مشاعره المتوترة» ورغم تجهم اليوم ذهبا 
لزيارة عنايات هام فى السكاكينى فتناولا عندها الغداء ثم غادر البيت قبيل المغرب . 
ووقفافى الميدان يتصيدان تاكسى عندما انطلقت زمارة الإنذار. وشدت بيدها على 
ذراعه وهمست بصوت متهدج : 

لنرجع . . 

عادا إلى العمارة» وهما يرقيان السلم انطلق مدفع مضاد فارتعدت كما دق قلبه 
بعنف . واجتمعوا فى حجرة مغلقة الشيش » وراحت عنايات هانم تقول محتجة : 

ضاع العمر من حرب لحرب لحرب» صفارات إنذار وقنابل مدافع وقنابل طيارات» 

ألا يحسن أن نبحث لنا عن مأوى غير هذه الأرض؟ ! 

ولبثوا فى الظلام بحلوق جافة . ودوت أربعة مدافع متباعدة» وعادت الأم تقول : 

-سيدخل هذا الجيل الجنة بغير حساب! 

وساءل عيسى نفسه فى حيرة حقيقية كيف تجرأ اليهود على مهاجمة مصر بعد أن 
صنعت لنفسها جيشا قويا بكل معنى الكلمة؟ ! 


7 


وهرع إلى البوديجا مساء اليوم التالى تمتلى الرأس بأخبار الصحف المطمئنة 
والمشجعة. وتقاربت رءوسهم حول مائدة على الطوار فى جو بديع حقا. تالاصقت 
أنفسهم بفعل قوة حارة عميقة يؤرقها الشعور بالخطر والأمل. وجعل إبراهيم خيرت 
يشب بقامته القصيرة وهو يتساءل فى انفعال : 

أتحسبون أن إسرائيل تقدم على هذه الخطوة وحدها؟ 


1110 





السَهَا نالف دل 


وتبادلوا نظرات غريبة نطقت فيها بواطنهم كأنما تذهلهم سكرة» فعاد إبراهيم خيرت 
يقول: 
-وراء إسرائيل تلبد فرنسا وإنجلترا وأمريكا ! 
وتساءل عيسى فى جزع كيف يحدد موقفه وسط هذه العواصف من الأفكار 
والعواطف؟! 
وقال سمير عبد الباقى : 
- يبدو أن جيشنا سيقضى عليها قبل أن يعلن حلفاؤها عن أنفسهم . . 
ندت ضحكات ساخرة وكان المساء يهبط بالهدوء والخفاء وأخفض إبراهيم خيرت من 
صوته وهو يقول: 
الآن وضح الأمر فهى النهاية! 
وتشربت قلوبهم المعنى المقصود بفرحة عصبية لم تخل عند البعض من شعور بالإثم . 
ورفع عباس صديق فاه عن النارجيلة وقال وعيناه الجاحظتان تلمعان بشدة : 
-هم أيضا وراءهم من يسندهم ! 
فقال إبراهيم خيرت بازدراء : 
لا يوجد مجئون يفكر جادا فى إشعال حرب عالمية من أجل نقطة لا تكاد ترى فوق 
خريطة العالم. 
وجد عيسى فى مشاعرهم تعبيرا سافرا عن جانب من نفسه فقرر أن ينطق الجانب 
الآخرء فقال: 
أتودون حقا أن يهزمنا اليهود؟ 
فقال إبراهيم خيرت : 
سوف تكون هزيمة سطحية تخلصنا من جيش الاحتلال الجديد ثم تجبر إسرائيل على 
التراجع وربما الاكتفاء بالاستيلاء على سينا وعقد صلح مع العرب» ثم تتدخل 
إنجلترا وفرنسا لتسوية المسائل المعلقة بالشرق الأوسط وإعادة الحالة فى مصر إلى 
فتساءل عيسى : 
- ألا يعنى هذا الرجوع إلى النفوذ الغربى؟ ! 
هو على أى حال خير مما نحن فيه. . 
وقال عيسى وكأنمها يخاطب نفسه: 





5 الشهان وازلف 


-أى مصيدة وقعنا فيها ! إنه التخبط والتمزق والعذاب. إما أن نخون الوطن أو نخون 
أنفسناء ولكن الهزيمة فى هذه المعركة تعنى بالنسبة لى شيئا هو أفظع من الموت . . 
فقال عباس صديق : 

أنت رومانتيكى جدا. . 


وقال إبراهيم خيرت: 
-علام تحزن؟ لم يبق ما نحزن عليه . وفى نظر الميت تعد أى حياة خيرا من الموت . . 
فقال عيسى : 


- أحيانا أقول لنفسى إن الموت أهون من الرجوع إلى الوراء» وأحيانا أقول لنفسى لكن 

نبقى بلا دور فى بلد له دور خير من أن يكون لنا دور فى بلد لا دور له. . 

فقال إبراهيم خيرت باسما: 

-إنك باعترافك منقسم الشخصية» ونحن لا يهمنا رأى القسم المتكلم وحسبنا رأى 

القسم الصامت: 

وضحكوا عاليا والليل يجثم. ثم التفت إبراهيم خيرت إلى سمير عبد الباقى 
بنظرة تحئه على الخروج من صمته فقال: 

أود أن يعيش كل مواطن متمتعا بالكرامة البشرية . 

فقال إبراهيم خيرت : 

إذن فأنت من رأينا؟ 

فقال باختصار: 

- كلمتى تحمل معنى أعمق ! 

إذن فأنت تعارض رأينا؟ 

فعاديقول: 

كلمتى تحمل معنى أعمق ! 

وغاص عيسى فى نفسه القلقة . يجب أن ينصره شطره المتكلم على شطره الصامت» 
وأن يحتقر المهاجمين بلا حياء إعرابا عن احتقاره لشطره الصامت . ماذا أدى بنا إلى هذه 
الحال المحزنة حقا؟ وألا من سبيل إلى نسيان الهزائم الشخصية؟ إن المرض متفش فى 
الوطن. ودوت صفارة الإنذار كأنها جدار انقض عليهم بغتة . واختفى النور من الدنيا . 
وشملت الطريق حركة فرار فى الظلام. واقترح سمير أن يدخلوا القهوة ولكن الفكرة لم 
تلق تشجيعا من أحد. وتذكر عيسى زوجته فى وحدتها بالدقى مع أم شلبى فأشفق 
عليها. وإذا بأصوات انفجارات بعيدة تتابعت بغزارة فبعثت الرعب فى نفوسهم . وفى 


1110 





اسان واكزلف ١‏ 


الحظة قصيرة أسرعوا إلى ركنهم الشتوى داخل المقهى . ثم توالى الضرب البعيد فى نظام 
مخيف. واختلطت التخمينات عن الأماكن التى ينهال عليهاء شبرا؟ مصر الجديدة؟ 
حلوان؟ 

من أين لليهود بهذه القوة؟ 

وأين طياراتنا؟ ! 

ولم يتوقف الضرب مما قطع بقيام غارة حقيقية لعل البلاد لم تشهد مثلها طيلة أيام 
الحرب العالمية فاضطربت الأعصاب أيما اضطراب . وجاء رجل من الخارج مهر ولا وهو 
يقول بصوت سمعته القهوة المظلمة : 

طيارات بريطانية التى تقذف بالقنابل ! 

فهتفت عشرات الحناجر : 

قير تقول ! 

فأكد الخبر قائلا : 

سمعت هذا من محطة الشرق الأدنى . 

وانفجرت التعليقات فى شبه هلوسة . ثم سكت الضرب. ومضت دقائق توقع فى 

صمت ورهبة. ثم انطلقت صفارة الأمان واستردوا أنفسهم من قبضة التوتر وتبادلوا 

فى الضوء العائد نظرات ذابلة كأنها ترى بعد نعاس طويل وفاضلوا بين البقاء 

والذهاب ولكن صفارة الإنذار لم تمهلهم طويلا فعادت تعوى من جديد . وما لبثت 

الانفجارات أن تتابعت حتى همس إبراهيم خيرت : 

الظاهر أن النهاية أقرب مما نتتصور. 

فهمس سمير عبد الباقى : 

-ادع الله ألا تكون ضمن النهاية؟ 

وبعد ساعة من العذاب انطلقت صفارة الأمان فسرعان ماغادروا القهوة. واستقلوا 
سيارة إبراهيم خيرت . وما كادت السيارة تصل إلى جسر أبى العلاء حتى دوت صفارة 
الإنذار الثالثة فتوقفت السيارة قرب الطوار. ولم يكن هنالك مخابى فقد فضلوا البقاء فى 
السيارة. وقال إبراهيم خيرت وهو يضحك ضحكة عصبية : 

يجب أن نعيش إذ إن أسعار حياتنا آخذة فى الصعود ! 

وبعد حوالى الساعة انطلقت صفارة الأمان فأسرعت الفورد بهم عبر الجسر» ثم 
عبرت جسر الزمالك مائلة إلى شارع النيل» وعند أوله دوت صفارة الإنذار الرابعة 
فوقفت السيارة لصق أرض فضاء . وتوالى الضرب بشدة» وقال عيسى ليطمئن نفسه: 





53 اسان و الف 


لعلهم يضربون الأهداف! 

فقال سمير فى إشفاق : 

وربما جاء دور الضرب الأعمى ! 

فقال عباس صديق بصوت كأما قد أصيب بشظية : 
إن ضرب المدنيين مسئولية خطيرة قبل العالم ! 


فقال إبراهيم خيرت : 

جميل جدا أن نطمئن أنفسنا ! 

ودوت صفارة الأمان بعد نصف ساعة فانطلقت السيارة بأقصى سرعة لعلها توصلهم 
قبل أن تدركهم الصفارة التالية. . 


3 


سماء القاهرة معبر للطيارات ليل نهار. وأعجب شىء أن الحياة اليومية واصلت 
مألوفها فى البيت والديوان والدكان والسوق بالرغم من أن أزيز الطيارات لا ينقطع, ولا 
تسكت الانفجارات . ورددت الخواطر أن القنابل لا تسقط جزافا ولكن همسات كثيرة 
جرت بأنباء الضحايا. ولم يغير الناس من سلوكهم المألوف ولكن الموت أطل عليهم من 
نافذة قريبة وتطايرت نذره إلى آذانهم فاقتحم الأفكار والقلوب. وانقلبت القاهرة إلى 
معسكر واخترقت شوارعها قوافل من العربات المصفحة واللوريات فغرقت الحياة العادية 
فى بحر من الظنون والهواجس . 

وانتقلت عنايات هام لتعيش مع ابنتها فى الدقى حتى تستقر الأمور. وفى الليل بدت 
الدنيا كما كانت تبدو قبل التاريخ» فانكمشوا فى البيت حول الراديو» يستمدون الرى 
لجفاف حلوقهم من أصوات المذيعين والأناشيد الوطنية . 

وباتت الانفجارات والمدافع المضادة كنداء الباعة حتى زاغ بصر الأم العجوز وبهت 
لون عينيهاء وقبضت راحتها على المسبحة كأنها مانعة صواعق . ولم تكن قدرية دون أمها 
تهافتاء ولم تنفعها بدانتهاء أما عيناها الناعستان فقد تولى عنهما جلال الخمول. 
ومناقشات هيئة الأم ومجلس الأمن تنفذ من الراديو كالهواء للمختنق. وأساطير 
بورسعيد تتلى والقلوب تتوجع . وفى حال من أحوال الذعر تساءلت قدرية : 

-هل نحن كفء للونجليز والفرنسيين؟ 

فأجاب عيسى بوجوم: 


11100 





السيان و رلب ١‏ 


بورسعيد تقوم والعالم ثائر! 

.هم يتكلمون ونحن نضرب! 

-نعم» وما العمل؟ 

فهتفت بنرفزة : 

لكن لا بد أنه يوجد حل» أى حل» وإلا تحطمت أعصابى. . 

وأعصابه أيضا على أبواب التلف . الحزن والظلام والسجن. وألهمه الظلام 
بالاندفاع نحو أمل النصر . أشياء كثيرة ذابت فى الظلمة فنسى الماضى والمستقبل وتركز 
فى نشدان النصر . ولعل تعذر مغادرة البيت ليلا أتاح له فرصة أكبر لتأمل الموقف 
وللتشبع بالخطرء والحنين للنصرء وإسكات شطره الخفى» فتحرك فى أعماقه نبع 
للحماس أوشك أن يدفعه إلى التضحية . وعند تسكعه نهارا قرأ فى مئات الوجوه 
مشاعر كالتى تشده إلى الحياة رغم الغبار والفناء وشائعات الأنانية. أمسى كالغريق لا 
يفكر إلا فى النجاة. وخيل إليه أن الحاجز القائم بينه وبين الشورة يذوب بسرعة لم 
تخطر ببال من قبل . 

وزاره إبراهيم خيرت عصر يوم فى طريقه إلى مكتبه فى المدينة . بدا شديد الثقة 
بنفسه. جاداء وقال: 

- إن هى إلا ساعات ثم تنتهى المأساة! 

فحدجه بنظرة ذاهلة من عينيه المستديرتين فقال الآخر مقطبا بدافع من إحساس 


بالسيادة : 
بعض رجالنا يقابلون المسئولين فى هذه اللحظة ليقنعوهم بالتسليم لإنقاذ ما يمكن 
إنقاذه! 
خيل إليه أنه يرى موكب المندوب السامى كما كان يراه فى الماضى » وتساءل : 
ماذا سيبقى ليمكن إنقاذه؟ 
- لا تغال فى التشاؤم . . 
ثم استدرك حانقا: 


أتعس الناس الذين يستوى لديهم الموت والحياة. . 
فقال عيسى فى غم : 

كأشباح الكابوس . . 

فقال إبراهيم خيرت بحدة: 

نحن فى حال تهون معها الهريمة. . 





١4‏ اسان واكزلف 


سنتعب كثيرا إذا حاولنا إحصاء متاعب البشرء وإنى لأتساءل هل الحياة صالحة حقا 
للبقيرا 
فهز إبراهيم خيرت منكبيه فى استهانة فعاد الآخر يقول: 
-ربما كان التعلق بالحياة رغم آلامها نوعا من الحماقة» ولكن ما دمنا أحياء 
فيجب أن نحارب كافة السخافات بلا توان. . 
فسأله إبراهيم خيرت : 
خبرنى هل تغيرت حقا؟ 
فلم يجب بحرف. ودلت تقلصات وجهه على منتهى القرف . 
ولكن بارتفاع الأزمة إلى ذروتها اندفعت إلى دوامتها عوامل جديدة . العالم أصدر 
قراره» وتوالت الإنذارات» وأجبر العدو على ازدراد كبريائه والإذغان لواقع لا قبل له 
به وانفجرت فرحة أقوى من أى قنبلة . 
ورجعت إلى ركن البوديجا الحياة فاجتمع الصحاب . ابتسامة باهتة ونظرة خامدة 
عمياء لا ترى مستقبلا. وقال إبراهيم خيرت متهكما: 
-ثمة أمل فى أن يزيد وزننا كالمحكوم عليهم بالإعدام! 
ولوح عباس صديق بخرطوم النارجيلة قائلا : 
هذا حظ أندر مليون مرة من ربح الصفر فى الروليت. . 
وحتى سمير عبد الباقى لم تخل عينه الخضراء من خيبة فى أعماقها. الأعجب من 
ذلك أن عيسى نفسه ‏ بعد أن ابتل ريقه بالنصر ‏ فسرعان ما تهاوى فى فتور عميق كتل 
من رماد. انقلب فكره إلى ذاته» وغاص مرة أخرى فى الظلمات . . 


هه > 


لكل إنسان عمل وهو بلا عمل . ولكل زوج ذرية وهوبلا ذرية. . ولكل مواطن 
مستقر وهو منفى فى وطنه . وماذا بعد الدورات الهروبية المعادة؟, تسكع فى الصباح ما 
بين قهوة وقهوة» ومجلس البوديجا مساء المركز فى الاجترار» وزيارات تملة فى محيط 
الأسرة. . . ماذا بعد الدورات الهروبية المعادة؟ ! ويعانى آلاما قاسية» ووحشة ومللاء 
ويتساءل فى جزع إلام تمتد هذه الحياة الكتيبة؟ ! 

ها هو جالس يتشمس وراء زجاج النافذة فى جو قارص البرودة بلا عمل وبلا أمل . 
وهاهى قدرية عاكفة على قطعة من الكانفاه. لم تعد تبدد له وحشة» وبشعر مشعث 


011001 





التان ولف 8 


4و 


وقسمات منتفخة أعلدت عن إهمال مألوف» وقد ازدادت شحما ولحماء ونطق وجهها 
الطبيعى بتنكره الحاسم لرواء الشباب . 

واسترد نظرات الأسى من وجهها ليتصفح الجرائد ويقرأ العناوين. إذا لم يعد يهتم 
بالاطلاع على الأخبار» ثم استسلم لحديث النفس . وما أكثر ما حدث نفسه فى الأعوام 
الأخيرة. ليست قدرية بالزوجة المطلوبة» وستظل حسرته على سلوى حية فى القلب 
رغم موت حبهاء ولولا الخمر ما طاق الاستسلام إلى ذراعى قدرية» ولولا اليأس ما 
احتمل التعريضات التى تطوقه بسبب ثروتهاء وهو نفسه يتألم كثيرا كلما تذكر أنها تنفق 
مالها على بيتها وأنه لا ينفق مليما من معاشه إلا على نفسه. وحتى رصيده لم تنتفع به 
حياته الزوجية شيئاء فماذا تعنى هذه البلطجة؟ ! 

ويوما أثبتت له أنها تفكر فيما وراء المائدة والكانفاه» قالت: 

-عيسى» أنت تشرد كثيرا وتلوح فى وجهك الكآبة أحياناء وأنا أتألم لذلك جدا. 

فأبدى أسفه لتألمها وقال: 

-أنا بخير فلا تهتمى لذلك . 

ولكن هناك أسبابا تسىء إلى الرجل؟ 

مثال ذلك؟ 

أن يكون بلا عمل وهو قادر عليه . 

فابتسم وهو متضايق جدا وقال: 

لعله يضايقك أن تجدى زوجك عاطلا! 

فقالت بتوكيد: 

أنا لا يهمنى إلا أثر ذلك عليك أنت . 

وماذا تقترحين أن أعمل؟ 

-أنت أدرى يا عزيزى. . 

فقال ببساطة : 

لا توجد وظيفة خالية. 

وضحكا بلا روح ألبتة ولكنها عادت تقول برجاء: 

فكر فى ذلك جدياء أرجوك. . 

وقال لنفسه إنها على حق» وان رأسها البليد لا يخلو أحيانا من فكرة صائبة» وهو 
نفسه يؤمن بضرورة العمل ولكن ما بال همته خائرة؟ . . هل أصاب إرادته مرض؟ . . لم 
لا يفتح مكتبا أو حتى يشارك فى مكتب؟ ! 





182 اسان واكرلف 


كان يفكر فى العمل ولكنه يعيش بلا عمل وبلا إقدام جدى على الخطوة المطلوية . 
وكان على درجة من الطمأنينة برصيده ثم زاد من طمأنينته زواجه الدسم. وفضلا عن 
ذلك فإن معاشه يتكفل بنثريات حياته اليومية فأذعن للكسل والكبرياء» وتعزز نفوره 
الأبدى من أن يبدأ من أول الخط . وجرى وراء التسلية بأى سبيل سواء فى البيت أو 
الخارج فى رأس البر أو الإسكندرية ولم ينتبه باهتمام إلى مرور الأيام . 

وقال له سمير عبد الباقى : 

- وزنك يزيد باستمرار فائتبه لنفسك . 

حقا إنه يكثر من الطعام والحلوى منه بصفة خاصة ولا تخلو وجبة له من كأس أو 
كأسين» وقال: 

أعلم ذلك» وسيقول الناس إن زوجتى تعلفنى بسخاء . 

فقال سمير بحياء : 

-لم أفكر إلافى صحتك. . 

-نعم» ولكنى أقرأ أحيانا فى أعين كثيرين 

فقال سمير مقطبا: 

-أنت وحدك المسكول عن ذلك يكسلك» وإنى أتساءل فى دهشه أين عيسى زمان 

الذىرقاح يتادر الررارة مارم اتساب لجل بن كل يرم لكرييا” فضلا عن نشاطه 
المأثور فى الحزب والنادى؟ 

وأعلن المعلن يوما عن غزو الفضاء وافتتاح عصر جديد. استيقظ من سباته ودب 
الاهتمام فى روحه الخامدة . وعاد يقرأ الجريدة بشغف ويستمع إلى الراديو بيقظة . ووجد 
ركن البوديجا حديثا غير حديث الحسرات السياسية ومضغ الشائعات : 

وعلق عباس صديق على ذلك قائلا : 

-ما أجمل أن تطالعنا الصحف كل صباح بإثارة كهذه! 

وقال إبرأاهيم خيرت بحقد: 

-هذا بشير بأفول نحم الساسة فلينزلوا عن مكانتهم للعلماء وليذهبوا فى داهية. 

وقال سمير عبد الباقى : 

-آن لنا أن ننظر برجاء من جديد إلى السماء! 

ورفع عيسى رأسه إلى سقف الحجرة كأنه يتطلع إلى السماء» وتخيل الكواكب 
والنجوم برغبة طفل فى الهرب الخيالى الساحرء ثم تمتم : 

-ما أجمل أن نهجر الأرض إلى الأبد. 


ل نت 





اسان واكزلف ١‏ 


ثم شاكيا : 
الأرض أمست مملة لدرجة المرض! 
وتساءل ألا يمكن أن يؤكد انتسابه إلى الإنسان ويتناسى انتسابه الجبرى إلى هذا 


الوطن؟ ! 


"51 


وجمعهم الصيف على غير عادة فى رأس البر حتى عباس صديق مدمن الإسكندرية . 
وأعد إبراهيم خيرت فى عشته غرفة للقمار والشراب كانوا يرجعون إليها بعد الرياضة 
المألوفة على شاطى النيل . ثم انضم إليهم الشيخ عبد التواب السلهوبى الذى تصادف 
وجوده بالمصيف . وانزلقت رجل عيسى إلى البوكر بسهولة جداء وبسبب القمار وما 
يدفع إليه من سهر حتى الفجر نشب أول خلاف جدى بينه وبين قدرية . ووجدها عند 
الخلاف عنيدة كالبغل ولكنه لم يبالها وأصر على سلوكه باستهتار. وعندما اتخذ مجلسه 
على المائدة سأله إبراهيم خيرت وهو يملا له كأسه من الكونياك : 


كيف حال الشئون الداخلية؟ 

فأجاب باقتضاب : 

قطران! 

فقال عباس صديق : 

زوجاتنا أكثر تسامحا من قدرية ها فالرقابة يجب أن تتوقف بعض الشىء فى منفى 
جميل كرأس البر. . 


ونظر عيسى فى ورقه فبهره منظر زوج الآس فدخل الدور بقلب قوى.ء ثم واتاه الحظ 
بزوج ثمانية فربح ستين قرشا حتى قال الشيخ عبد التواب السلهوبى باسما: 

واظب على الربح تتحسن شئونك الداخلية! 

ولكن عباس صديق تداركه قائلا : 

حرمه لا يهمها المال. . 

ومع أن الملاحظة بدرت تلقائية إلا أن عيسى تألم لها كثيرا وبخاصة وأنه كان بصفة 
عامة سيئ الحظ على المائدة حتى اضطر إلى سحب مائة جنيه من فرع البنك لتعويض 
خسارته . 


وسأل إبراهيم الشيخ السلهوبى عن عبد الحليم باشا شكرى فأجاب : 





6 اسان واكزلف 


سافر إلى الخارج فى الوقت المناسب وبالعذر المناسب» ولن يعود طبعا. 

فقال سمير عبد الباقى : 

الخارج ليس أفضل من الداخل وما أشبه صفحة السياسة الخارجية بصفحة الوفيات! 

فقال عباس صديق : 

-إذن فالعالم مهدد بالفناء حقا. . 

فقال عيسى وهو يوزع الورق: 

-هو مهدد بالفناء سواء بالحرب أو بالسلم! 

فقال الشيخ السلهوبى ضاحكا: 

أنت لا تتفلسف إلا عندما تتدهور روحك إلى الحضيض فلعل طوفان حظك أن 

فلما خسر عيسى الدور رغم حوزه ثلاث عشرات قال للشيخ متغيظا : 

كلمة منك تنحس بلدا. . 

فقال السلهوبى ضاحكا: 

كلام فارغ » ها أنا ألاحق العهد الحاضر بكلماتى المباركة منذ مولده فماذا حصل له؟ ! 

وانهمك فى اللعب بمجامع روحه. واستمتع بالحرارة والحماس والأمل والاندماج فى 
حيوية فاترة. ونسى كل شىء حتى التاريخ نفسه ونحسه. وعايش اللذة فى جنونهاء 
وتجمع على المائدة مبلغ لا يقل عن سبعة جنيهات . وتعلق أمله بفردة آس . وسحب ورقة 
فإذا الآس يضحك بين يديه بوجهه الأحمر. فول آس . ولكن إبراهيم خيرت رمى بكاريه 
كالصاعقة . وسرت تقلصات عدة فى جهازه العصبى . كيوم أعلن حل الأحزاب. 
وتساءل ماذا تصنع زوجه فى هذه اللحظة؟ هل يدور الكلام بينها وبين أمها؟ لعل العجوز 
تقول لها رضينا بالهم والهم لا يرضى بنا. وستقول أيضا عاطل ومرفوت لسوء السمعة 
ولايحمد ربنا. الويل لها إذا تحدتهء امرأة مزواجة وعاقر. بحكم الطبيعة هى عاقر 
وبحكم السن. أنسيت أنك تكبريننى بعشرة أعوام على الأقل! 

وانتبه من غيبوبته إلى حديث يستطرد فيه السلهوبى قائلا : 

لذلك فنحن فى عصر مبادئ كا حال أيام الصراع بين الديانات الكبرى! 

فتساءل سمير عبد الباقى : 

والأم الصغيرة أى أمل لها فى الحياة إن لم تختلف الأم الكبرى؟ 

فقال الشيخ بيقين: 

الذرة هى الطوفانء» فإما توجه حقيقى لله ذى الجلال وإما الهلاك المبين! 


11100 





اسان الف ١/١‏ 


وحاول عيسى أن يتذكر متى ارتطم بهذه الفكرة» فكرة الطوفان من قبل؟ ثم أهمل 
التذكر حين وجد بين يديه كاريه عشرات! . توثب لتعويض خسارة الليل الطويل. وفتح 
بخمسة وعشرين قرشا ليجرهم إلى الاشتراك فى الدور. ولكنهم انسحبوا تباعا لعقم 
الورق بين أيديهم . ودار رأسه . ثم كشف عن الكاريه السعيد. 

وصاح إبراهيم خيرت: 

حظك فى الربح أسوأ منه فى الخسارة! 

وقال الشيخ السلهوبى 

أنت سعيد فى الحب بلا شك . . 

وأوشك أن يثور. وقال لنفسه إن القمار يتحول فى النهاية إلى حمى ميتة . وبدأ يعمل 
حسابا للأزمة التى تتربص له فى البيت . وكف الجميع عن اللعب والفجر يقترب. : 

وتساءل عباس صديق وهو ينهض قائما: 

ما طعم رأس البر بلا قمار؟ 

وخرج ععيسى إلى الطريق كشمعة لم يبق منها إلا عقب فتيلة . وسار عباس صديق 
وسمير عبد الباقى فى طريق ومضى هو بصحبة الشيخ عبد التواب فى طريق أخحر . 
وهب هواء مث مشبع بالطل فى صمت خاشع . . وترددت أنفاس النوم السعيد فى ظلمة لا 
مره نما الا سر الهو يول عر الشبير لاطا :رمن سيل رج الاق مار 
البحر. 

وتأوه الشيخ عبد التواب متثائبا وهو يهتف «الله) ثم غمغم : 

-ما أجمل هذه الساعة! 

فضحك عيسى قائلا : 

وخاصة للرابحين! 

فضحك الشيخ قائلا : 

لقد خرجت من السهرة لا على ولا لى» عباس صديق هو نار الله الموقدة . . 

ثم بعد هنيهة صمت : 

أنت مقامر خطير يا عيسى! 

فقال بنبرة ذات معنى : 

لقد خسرنا رغم الكاريه الذى كان فى يدنا. . 

ل اك 

-هذا هو حال الدنياء هل نستحق ما حاق بناء فلنسلم بأن لنا أخطاءنا ولكن من يخلو 





1 اسان و الف 


من الأخطاء؟ وكيف نسينا هذا الشعب المارق؟ كيف نسى الذين عاملوه معاملة 
الآم الرءوم لابنها الوحيد؟ 
وفاض الحزن بعيسى» وسلست إرادة كبريائه فاستجابت نفسه لرغبة طارئة فى 
الاعتراف فقال: 
كنا حزب المثل الأعلى. حزب التضحية والفداء. حزب النزاهة المطلقة» حزب «كلا 
ثم كلا» أمام كافة المغريات والتهديدات» كنا كذلك حتى قبيل 21975 فكيف 
أدركت روحنا الطاهرة الشيخوخة؟». كيف تدهورنا رويدا رويدا حتى فقدنا جميل 
مزايانا؟ وها نحن نقلب أيدينا فى الظلام يملؤنا الشجن والشعور بالإثم» 
فواحسرتاه. . ! 
فقال الشيخ بإصرار: 
كنا خير الجميع حتى آخر لحظة . 
فقال بقسوة موجهة فى الحقيقة إلى ذاته : 
.هذا حكم نسبى لا ترتضيه طبائع الأشياء» ولا تقتنع به الأم المتوثبة للحياة» 
فواحسرتاه! 
وودعه عند منعطف» وجعل ينظر إليه وهو يسير متمهلا والهواء ينفخ فى جبته 
الفضفاضة. وقال لنفسه بحزن: بدأ حياته بالاعتقال فى طنطاء قبض عليه الجنود 
الأستراليون وهو يهتف: «يحيا الوطن. . يحيا سعد» ثم انتهى عام ١157‏ بالاتجار فى 
الوظائف الخالية» كما انتهيت أنا بالرصيد رقم 1177" ببنك مصر . . 
وأجال بصره فى الكونء الهلال الصاعد فى أبهى رواء والنجوم المتألقة واللانهائية 
المسيطرة على كل شىء» ثم تساءل بصوت مسموع «خبرنى يا سيدى ما معنى هذا 
كله؟ . خبرنى فقد احتار دليلى !) . 
وضغط على جرس الباب فرن بقوة فى صمت الليل» وانتظر مليا ثم أعاد الكرة. 
وانتظر ثم أعاد. وضغط على الجرس بإصرار مستمر ودون توقف ولا مجيب. 
وقال بخنق إنها قررت ألا تفتح له الباب! 
وضرب الأرض بقدمه ثم ولى الباب ظهره وذهب. 


11100 





السيّان الف و 


5 7/ 


بات ليلته عند إبراهيم خيرت» ثم استأجر فى اليوم التالى حجرة بفندق جراند 
أوتيل على النيل . وعقب أسبوع اضطر إلى سحب مائة جنيه أخرى لتغطية خسائره 
المتتابعة ولمواجهة تكاليف الحياة اليومية . وذهبت زوجة إبراهيم خيرت بإيعاز من زوجها 
لزيارة قدرية للاعتذار لها عن الدور غير المقصود الذى لعبه إبراهيم فى نزاعها مع 
زوجهاء ثم حاولت الإصلاح ولكنها لم تلق استجابة . . وتمادى عيسى فى القمار بلا 
أدنى تقدير للعواقب . وقاطع سمير السهرة تقززا من حال التدهور التى آل إليها صاحبه. 
وقال له سمير يوما: 

يجب أن تعيد النظر فى موقفك كله . . 

كانا يجلسان فى كازينو سبرانو أمام البحر عند الظهيرة» وهو الوقت الذى يستيقظ فيه 
عادة. وكان عيسى يتابع بعينه المستديرتين جموع السابحات. وأهمل التعليق على 
صاحبه مستسلما للذة المتابعة ولما كرر الآخر قوله قال عيسى بنبرة اشتياق : 

-كم أود أن أمارس تجربة لم تنح لى فى وقتها وهى أن أغازل فتاة جميلة وأتعرف بها 

ثم أخطبها وفى أثناء ذلك نتبادل الهدايا والمكالمات التليفونية والمواعيد. . 

فسأله سمير: 

أتريد حقا أن تتزوج مرة أخرى؟ 

فنظر إلى سحابة تسير ببطء راسمة صورة جمل ثم تساءل : 

-انظر إلى هذه السحابة وخبرنى أمن الجائز أن تكون حياتنا قد خلقت كما خلقت هذه 

الصورة؟ 

فابتسم سمير قائلا : 

حتى هذه الصورة الزائلة حتمية ونتيجة لمئات من عوامل الجو والطبيعة. ولكن 

خبرنى أتريد أن تتزوج؟ 

فضحك عيسى وأكمل الاسباتس وهو يقول: 

خاطرة حلم ليس إلا. ما بال المتصوفين يصدقون كل شىء؟ 

فقال سمير بضجر : 

إذن لتتحدث عن موقفك . 





7 اسان الب 


فقال بنبرة الروح نفسها: 
تصور أننى قابلت وأنا قادم من الفندق سامى باشا عبد الرحمن الحر الدستورى 
القديم» أنا شخصيا شعرت نحوه بعطف ما لانتسابه معى إلى الجيل الزائل» 
وتصافحنا ووقفنا نتكلم» ومن عجب أن قال لى فى ختام حديثه «لولا سعد 
زغلول ما وصلنا إلى هذه الحال!) . 
وضحك سمير بقوة لفتت إليهما عشرات الأعين حولهما. وإذا بعيسى يقول بنبرة 
جديدة : 
أكبر خازوق شربته هو مؤخر الصداق» العجوز الداهية بعيدة النظر! 
فقال سمير بأسف : 
قدرية هام ست معقولة جدايا عيسى» أنت فى حالة قمار جنونية . فنفخ عيسى 
- الملل أجارك الله! 
فربت سمير على يده قائلا : 
العمل . . العمل» نصيحتى الأولى والأخيرة لك. . 
وفى أول السهرة الليلية وعيسى منهمك فى اللعب جاءه سمير يدعوه للقيام معه لأمر 
هام عاجل . . وأراد عيسى أن يتجاهل الدعوة ويستمر فى اللعب ولكن سمير انتزعه من 
المائدة رغم احتجاجه الصاخحب» والاحتجاج الصامت المحدق به. 
وفى عشة سمير وجد نفسه أمام إحسان زوجة سمير وقدرية زوجته التى جلست على 
مقعد كبير خافضة الرأس . ورحبت به إحسان وأجلسته إلى جانبها على كنبة طويلة شبه 
مستديرة كثيرة الزخارف وهى تقول : 
نحن نشكر لك تفضلك بالحضور . 
ثم وهى تشير إلى قدرية ضاحكة : 
-أقدم لك قدرية هانم» صديقة عزيزة وحرم رجل عظيم من المفقودين فى الحرب! 
تجهم وجه عيسى» واحمر وجه قدرية وابتلت رموش عينيهاء ولما لاحظ سمير ذلك 
قال: 
-علامة طيبة تبشر بالخير» ما قولك؟ 
ولم تكف الآلسنة عن الكلام لحظة واحدة وقالت إحسان: 
لكل مشكلة حل بلا جدال. . 
وخاطب سمير قدرية وهو يبتسم : 


1110 





السيّا ن اكليف ١/1‏ 

الأمور تعالج برفق» زوجك رجل عنيد» وقد تعرض فيما مضى لألوان من الإرهاب 

والتعذيب ولكنه لم يتحول عن رأى . : 

وتساءلت قدرية: 

هل ترضيكم هذه الحال؟ . . تكلموا. . 

وقدمت صينية فضية بقوالب الكاساتا وفطائر بلدية من السوق فكانت هدنة استمتعوا 
فيها بأكلة ظريفة. . 

وقال سمير: 

الحق أن جميع البشر فى حاجة إلى جرعات من التصوفء وبغير ذلك لا تصفو 

الحياة. . 

فقال عيسى : 

نحن فى حاجة إلى أن نعود للحياة مرارا حتى نتقنها . . 

فقالت قدرية وكانت تخاطبه لأول مرة: 

أرجو ألا تؤجل حسن معاملتك لى إلى حياة أخرى . . 

فقال سمير وهو يمسح بطرف منديل مبلل بالماء نقطة من الفراولة الذائبة سقطت على 
ثنية بنطلونه عند الركبة : 

لنتكلم عن المستقبل ‏ أرجوكم . 

فقالت قدرية: 

أنا مؤمنة بأنه لن ينقذه شىء من متاعبه سوى العمل» وفى سبيل ذلك أنا مستعدة 

لأى تضحية! 

فقال سمير: 

أوافقك كل الموافقة» ولكن حتى ينفذ هذه الفكرة الوجيهة يجب أن يبتعد عن 

رأس البرء حسبكما منها شهر أغسطس فاذهبا إلى الإسكندرية لإتمام التصييف 

هناك» هذا ضرورى جدا وعاجل. . 

فقالت قدرية: 

- ستسافر غدا إذا وافق على ذلك . . 

وقال سمير وهو يوصلهما إلى باب العشة الخارجى : 

-.وسوف تهد فى الإسكندرية متسعا للتفكير. ولدى عودتك إلى القاهرة فى أكتوبر 

تبدأ العمل فورا. . 


سارا جنبا إلى جنب فى طريق شبه خال ونصف القمر مرشوق فوق الأفق كابتسامة 








14 الشا نو الف 


كونية فى سماء صافية . وخطر له خاطر وهو أن هذا الجمال المنتشر فى نظامه البديع ما هو 
إلاقوة مجهولة ساخرة تجبر الإنسان على الشعور بحدة تعاسته وفوضاها. 
وغمغمت قدرية: 


اكتشفت أن عندى ضغط دم» وأنت السبب! 


حمًا؟ ! 
نعم » كشف على دكتور وكتب لى دواء ورجيما وسترى ذلك بنفسك ! 
وربت على ظهرها قائلا برقة بالغة : 


مطاش سيدا باذ الله . 
وشعر بأنه لا يتقدم خطوة فى طريق السعادة. . 
زواج بلا حب» حياة بلا أمل» ومهما وفق إلى عمل فسيظل بلا عمل . 


51 


سافرا إلى الإسكندرية وحدهماء وبقيت الأم فى رأس البر. وأقاما أياما فى فندق 
اللوفر حتى عثر عيسى على شقة فى سيدى جابر بالدور السابع من عمارة مطلة على 
البحر» وكان المصيف على وشك الوداع» حف به صخب الشباب» واستقبلت السماء 
أسراب السحائب البيضاء» وتهيأ الجو للهدوء والتأمل . وقدرية بدت سعيدة حقا رغم 
توعكهاء وواظبت على العلاج والرجيم على ولعها المأثور بالطعام وقالت إذا كان ذلك 
سيخفف من وزنها فبها ونعمت. وتحمس عيسى للمشى وتجنب الدهنيات ما أمكن 
ليسترد رشاقته» واتفق الرأى بينهما على أن يشرع فى العمل حال عودته إلى القاهرة. 
وقد استقر الرأى على فتح مكتب وإن لم يبد ارتياحه لذلك . قال: 
- شد ما أتمنى حياة أخرى . . 
فحملقت بعينيها البقريتين فى وجهه متسائلة فبادر يقول : 
- لا تقلقى» هذا مجرد حلم» أود أن أعيش فى الريف بعيدا عن القاهرة فلا أراها فى 
المناسبات» وأن أقضى نهارى فى عملى بالحقل وليلى فى شرفة مطلقة على الفضاء 
والصنفة:.: 
ولكن لا علاقة لنا بالريف. . 


11100 





هو 


النّان وَاكرل 1 


إنه مجرد حلم . . 

ومرت الأيام فى ضجرء ولم يجن من الشواطئ شبه الخالية إلا الوحشة وبخاصة وأن 
قدرية آثرت البقاء فى البيت أكثر الوقت بسبب صحتها . وكان يمشى حتى تكل قدماه 
ويجلس إذا جلس فى فردوس جليم تعلقا بالذكريات . 

وقال لنفسه إن عصره قد انتهى وأنه لن يندمج فى الحياة مرة أخرى بنفس الحال التى 
كان عليها من قبل» وأنه يرتبط بامرأة ليسرقها لا ليحبها. وتساءل متى يندثر العالم؟ . 
وتساءل أيضا ألا توجد أفكار من نوع آخر تفتح للصدر الحياة. . 

ووجد أمامه رجلا من قراء الكف فى زى هندى » يحدق فى وجهه بعينين براقتين وهو 
بمجلسه التقليدى بالفردوس . وسط للرجل كفه فسحب هذا مقعدا وجلس أمامه 
وعكف فى ال حال على قراءة خطوط راحته». وراح ينتظر صوت الغيب فى استسلام 

عمرك طويل وستنجو من مرض خطير. . 

ثم بعد تأمل : 

- وستتزوج مرتين وتنجب ذرية. . 

فانتبه باهتمام فاستطرد الرجل قائلا : 

-وفى حياتك تقلبات كثيرة ولكن لا خوف عليك بفضل إرادتك الحديدية» ولكنك 

ستتعرض لخطر الغرق فى البحر ! 

البحر؟ ! 

هكذا يقول الكف» وأنت رجل طموح بلا هوادة وستجد دائما رزقك موفورا ولكن 

عصبيتك تفسد عليك صفو حياتك فى كثير من الأحايين. . 

وما المخرج؟ 

فالتفت إليه الرجل متسائلا فاستسخف عيسى نفسه ولوح له بيده شاكرا. . 

وعند المساء مضم 2 يتمشي على الكورنيش حتى بلغ كامب شيزار. وعند سلسلة من 
المقاهى والدكاكين ملتصقة بطول الطوار فى مهرجان من الأنوار وقعت عيناه على وجه 
ريرى! توقف عن السير على الكورنيش وهو يحد بصره بانتباه الخائف فتوكد لديه أنها 
ريرى دون غيرها. جلست على كرسى المديرة أو المالكة وراء صندوق الماركات بمحل 
صغير لبيع الدندرمة وشطائر الفول والطعمية» وأسند ظهره إلى سور الكورنيش فى 
موضع بعيد عن الضوء وراح يمعن النظر فى وجهها بدهشة وهو لا يخلو من ضيق لذكرى 





ا اسان زلف 


سلوكه معها الذى دهمه بقسوة ونبوة عن الذوق. ريرى. . ريرى دون غيرها. . ولكنها 
لم تعد البنت الصغيرة» كلا إنها امرأة بكل معنى الكلمة» وذات شخصية يستشعرها 
النادل الذى يتحرك باستمرار بالطليات بينها وبين الزبائن» امرأة جادة ومديرة حقا. 
ومن عجب أن قشى بهذه الناحية طوال عشرين يوما متتابعة دون أن يلتفت إلى هذا 
المحل الصغير الذى قرأ اسمه الآن بوضوح «خذ واشكر». وفى المرات القلائل التى 
صيف فيها فى الإسكندرية كان يتذكرها ويخاف فكرة مقابلتها سواء وحده أو مع زوجه 
وأصدقائه ولكنه لم ير لها أثرا حتى ظنها قد رحلت عن البلدة أو عن الدنيا جميعا. 
وكيف تأتى لها أن تجلس هذا المجلس. وهل خمسة أعوام تكفى بلا حرب عالمية ‏ لبلوغ 
هذه الدرجة؟ لا شك أن أبلتها فى الإبراهيمية تحسدها على هذا التقدم السريع الذى لا 
تحلم به قريناتها!ء وقف فى شبه الظلام لا يحول عنها عينيه» ويستحضر فى ذهنه 
علاقتهما القديمة التى طويت فى زوايا النسيان إلى الأبد» ويتعجب من زيف العلاقات 
البشرية. وقال إننا جرب الموت ‏ ونحن لا ندرى -مرات ومرات فى أثناء حياتنا قبل أن 
يدركنا الموت النهاتى . وما أشبه ريرى فى مجلسها بالمحل بالنادى السعدى حين يمر 
أمامه أحيانا أو ببيت الأمة» جميعها حيوات قضى عليها بالموت المبكر ولا يجنى منها إلا 
الحسرات. 

ودخلت المحل امرأة فى هيئة الخدم ممسكة بيمناها بنتا صغيرة ثم اتجهت إلى ريرى 
تحادثها باهتمام على حين وثبت الصغيرة إلى حجر ريرى وراحت تعبث بعقد يطوق 
عنقها بألفة واطمتئنان. وعند ذاك خطر له خاطر دق له قلبه حتى غطى على هدير 
البحر وراء ظهره. وتصلب جسده وتركز فى الصغيرة حتى فقد الوعى بما حوله. 
ولكن لا. . لا. . لم تدور أفكاره فى هذا المدار؟! . أى وهم سخيف ومخيف معا ! 
ووجه الصغيرة متوجه إلى أمها فلم يره. وقال لنفسه قد تمر اللحظة بسلام وسيضحك 
من نفسه طويلا فيما بعد ولكن قد تزلزل الأرض وتخرب كل قائم . إذن فليهرب. لن 
يعود إلى كامب شيزار. لن يعود إلى الإسكندرية . ولكنه لم يتزحزح عن موقفه ذرة 
واحدة. كيف دهمته هذه الأفكار السخيفة؟ ! 

وتخلصت ريرى من البنت فقبلتها وأنزلتها إلى الأرض فتناولت الخادم يدها ومضت 
بها خارج المحل مائلة إلى شارع جانبى يصعد إلى الداخل . وبدل أن يهرب عبر الطريق 
نحو الشارع الجانبى وهو يوسع خطاه حتى كاد أن يلحق بالخادم والصغيرة. وارتفع 
صوت البنت بكلمات غير مفهومه أو لم يفهم منها سوى كلمة «شيكولاطة» فى نبرة 
كزقزقة العصافير ووقفا أمام دكان لبيع الحلوى واللعب عند منعطف الطريق المقاطع 
فاتخذ مكانه إلى جانبها تحت ضوء ساطع وطلب علبة سجائر وراح يلتهم وجه البنت 
بغرابة ونهم . ألا يستوى هذا الوجه على هيئة مثلث؟ . والعينان المستديرتان؟ . إن ملامح 


1110 





اسان وازلف 41 


من أمه وأخواته الشلاث يختلطن فى صفحته. ويغبن ثم يظهرن. أهو وهم؟ أهو 
الخوف؟ . أهى الحقيقة؟ . إنه يكاد يسقط إعياء! . خفق بسرعة باعثا موجات من الدهشة 
والتقزز والرهبة والحزن» والحنان والرغبة فى الموت . . 

وذهبت بها الخادم إلى عمارة قائمة أمام الدكان فى جانب الطريق الآخر فظل يتبعهما 
عينيه حتى اختفتا. ونظر إلى السماء وهو يتنفس بصعوبة ثم تمتم «الرحمة. . 
الرحمة. .). 


اح 


وجلس فى قهوة النسر وهى المجاورة لمحل ريرى متجنبا مجال عينيها. وأسف كثيرا 
لأنه لم يحدث الخادم ولا الصغيرة ولم يخرج لحظة عن الشلل الذى دهمه. ثم أليست 
الطفلة لطيفة ونشيطة وخفيفة وسنها متوافق جدا مع ذلك التاريخ المحزن؟ وما عسى أن 
يفعل الآن؟ لا يجوز أن يؤجل الجواب» ماضيه يزداد مقتا وما أبغض فكرة الرجوع إلى 
قدرية. وقد عدل بصفة حاسمة عن التفكير فى الهرب . ولقد اعتاد أن يهرب مرات فى 
اليوم الواحد ولكنه لن يهرب أمام هذه الحقيقة الجديدة التى اجتاحت مستنقع حياته 
الراكدة فتفجر عن ينابيع حارة . لعلها دعوة أخيرة يائسة إلى حياة ذات معنى . معنى فى 
حياة أعياه أن يجد لها معنى . لن يهرب. وليس فى مقدوره أن يهرب وسيواجه الحقيقة 
بوجه متحدء وبأى ثمن» أجل بأى ثمن» وسيرحب بذلك أها ترحيب. ولن يعجز 
قدرية أن تجد لها رجلا آخر ليعيش فى كنفهاء حق أنها تستحق العطف ولكن حياته 
الكاذبة معها لا تستحق عطفا. عبث أن يواصل حياة كاذبة يجتر فيها أوهاما 
ماضية ولا مستقبل لها. إن قلبه لا يخفق بحب شىء وهاهى فرصة سانحة لكى 
يخفق حتى الموت» والبنت ابنته» وسيعرف اليقين بعد دقائق» ولن يقضى عليها 
باليتم الذى قضى التاريخ به عليه . وسوف تنفجر بها فى حياته قنبلة من التعليقات 
والأقاويل والظنون» ويمسى مضغة فى الأفواه» لكنه سيصمد للمحنة» ويتألم. 
ويكفرء ثم يحياء وأخيرا سيجد للحياة معنى . وإذا تيسر له أن ينضم إلى أسرته 
الحقيقية فسيبقى فى الإسكندرية ويستثمر ماله فى المحل الصغير ويبدأ حياة جديدة . 
افترس الخجل والكبرياء والعناد وواجه الحياة بشجاعة . 

انتظر حتى فات الليل منتصفه. وخلا الكورنيش أو كاد»ء وولى الجالسون» وآنس فى 
محل ريرى حركة شاملة تنذر بالنهاية فغادر مجلسه إلى الشارع الجانبى الصاعد إلى 





11 اسان و الب 


الداخل ووقف عند المنعطف المواجه للعمارة. وظهر شبح فى أول الطريق الصاعدةء 
ها هى ريرى قادمة. وتقدم خطوة إلى ما تحت المصباح لتتجلى معالمه. واقتربت منه 
ولكنها لم تلق إلى الواقف بالا. لم تعد تعبأ بالمتسكعين وهذا حسن جدا. وعندما 
شرعت فى المرور به قال بصوت رقيق متهدج : 


-ريرى! 

التفتت نحوه متوقفة عن السير وهى تتساءل : 

د 

اقترب منها خطوة وهى تتفحصه دون أن يبين فى وجهها أى انفعال حتى قال فى قلق : 
أنا عيسى . 


تبدو حقا قوية ومحتشمة وجذابة. ولااشك أنها تذكرته فهكذا تقول الدهشة 
والتقطيب واختلاج الشفتين والتقزز. وهمت بالسير فاعترض سبيلها فهتفت بغضب : 

من أنت؟ . . وماذا تريد؟ 

- أثا عيسى كما تعلمين ! 

فقالت بحدة وهى تعانى شتى الانفعاللات : 

أنا لا أعرفك . . 

فقال بحرارة: 

-بل تعرفينئى . . لا داعى للإنكار؟ 

ثم مستدركا بنفس الحرارة : 

-لا أمل عندى فى قبول أى عذر ولكن لدينا ما نتتحدث عنه . . 

أنا لا أعرفك ودعنى أمر. . 

فقال يائسا: 

- يجب أن نتحدث» هذا أمر لا بد منه» وأنا أتعس مما تتصورين! 

اذهب . . اختف . . هذا خير ما تفعل . . 

ولكنى أكاد أجن» من الطفلة يا ريرى؟! 

أى طفلة؟ ! 

الطفلة التى جلست على حجرك منذ ساعات ثم دخلت هذه العمارة مع خادمتهاء 

رأيتك مصادفةء ثم رأيتها. وتبعتها حتى دخلت العمارة. أؤكد لك أننى أتعس مما 


سصورين 


20ل طودطاتطه 73 20.76 و1816 إبدجتا 





الهان ولف 0 


فقالت بإصرار: 

-لا أدرى شيئا عما تتحدث عنه . اذهب» فهذا خير ما تفعل . 

إنى أكاد أجن » يجب أن تتكلمى» هى ابنتى يا ريرى . يجب أن تتكلمى . . 

فصاحت به فى الشارع الصامت : 

ابعد عن وجهى» أنت أعمى ومجنون» ويجب أن تختفى . . 

-ولكن قلبى حدثنى بكل شىء. . 

إنه كذاب مثلك» هذا كل ما فى الأمر. . 

-لا بد أن تتكلمىء الجنون يعصف برأسى. أنا أعلم مدى نذالتى ولكن يجب أن 
تتكلمى» قولى إن البنت هى ابنتى . . 

-ليس عندى ما أقوله لك سوى أن تذهب وأن تختفى . . 

-أنا أعلم أننى أستحق عذاب الجحيم». ولكن لدى فرصة لصنع شىء طيب فلا 
فصاحت به كالزوبعة: 

اذهب ولا ترنى وجهك. . 

-ريرى» أصغى إلى» ألا ترين أننى سأطالبك بالكلام ولو مت موتا. . 


.ع 


رجع إلى مسكنه قبيل الفجر بعد أن هام على وجهه طويلا فى الكورنيش ولا ثانى له. 
لم يسمع هدير البحر ولم ير نجما واحدا. ووجد قدرية ساهرة فى انتظاره على غاية من 
القلق والاستياء . أوشك أن يعترف لها بكل شىء» ولو كان آنس من ريرى بادرة تشجيع 
واحدة لاعترف, لكنه لم ير بدا من أن يقول لها إن مقاومة عادته السيئة تدفعه إلى 
التسكع على الكورنيش حتى الفجر. وقال لنفسه وهو يستلقى على الفراش : 
اللعنة. . اللعنة. . يجب أن تقتلع هذه الحياة الكاذبة من جذورهاء إما حياة جديدة أو 
لا مناص من الردة إلى القمار والكونياك وأحاديث العجائز بركن البوديجا. 

وفى مساء اليوم التالى صحبها كارها إلى سينما ريو ثم تناولا العشاء فى تافرنا ثم 
أوصلها إلى البيت ثم مضى وهو يقول : 

- نامى يا عزيزتى واشبعى نوما ودعينى أعالج نفسى. . 





00 اسان الف 


وحام طويلا حول محل ريرى وأمام العمارة لعله يرى الطفلة ولكنه لم يوفق فجلس 
فى قهوة النسر. ورغم فشل الأمس داعبه أمل غامض كنشوة اليأس فاعتقد أن كافة 
مشاكل العالم ستحل الليلة بلا عناء. ونظر إلى السماء المتوارية وراء ظلمات السحب 
وقال إن الخريف فى الإسكندرية روح من أرواح الجنة وهو مغسل لجميع الأحزان. وإن 
جميع الآحزان ما هى إلا أوهام وإن الموت هو حارس السعادة الأبدى وقال لنفسه 
بصوت مهموس : 

ما أجمل أن يسكر بلا خمر. . 

وإذا بماسح أحذية يقف أمامه وهو يرمقه بنظرة استجداء . وقرأ فى نظرته أكثر من 
معنى فأشار إليه أن يجلس ثم سلم إليه قدميه . وأراد أن يتأكد من ظنه على سبيل التسلية 
فسأله: 

هل توجد شقة خالية؟ 

فابتسم قائلا : 

فى هذا الوقت الشقق أكثر من الهم على القلب. . 

أقصد غرفة خالية؟ 

- فى بنسيون؟ 

أفضل أن تكون فى عائلة . . 

- العائلات أيضا أكثر من الهم على القلب . . ! 

وضحك عيسى فى ارتياح » وإذا بخاطر يخطر فأشار نحو محل ريرى متسائلا : 

ماذا عن صاحبة «خذ واشكر)؟! 

فتغيرت سحنة الرجل وقال بلهجة جادة : 

دلاء . لا... هذه ست ممعنى الكلمة. 

فحدجه بنظرة كأنما تقول له «اطلع!» فقال الرجل : 

- لا تضع وقتك . . أنا لا شأن لى بها. . 

-أنت لم تفهمنى فنظرة واحدة إليها تقنع بما تقول». ولها طفلة لطيفة جدا. . 

-نعم » نعمات» بنت حلال! 

فابتسم عيسى متظاهرا بعدم الاكتراث ثم تساءل: 

ولكن أحدا لا يرى أباها أليست الست متزوجة؟ 

طبعا. . وزوجها هو صاحب المحل . 

-وماله لا يدير محله بنفسه؟ 


11101 





السيّا نالف ا 


قال الرجل بعد تردد: 

-فى السجن ولا مؤاخذة ! 

لأى سبب؟ 

-مخدرات. . مظلوم والله. . 

-ربنا يفرج عنه ولكن أنت متأكد أنه والد الطفلة؟ 

فلمعت فى عينيه نظرة حذر وقال: 

ناظيعا:! 

فقال عيسى بجرأة وثبات : 

ثم وهو يضحك : 

أنت تعرف الحقيقة وتنكرها أو أننى أعرف أكثر منك . . 

ماذا تعرف؟ 

أحب أن أسمع منك وإلا فكيف سنتعامل معا ما دمت تبدأ بالكذب على! 

فقال باستسلام وهو يشبع الحذاء بالورنيش: 

- يقال إنه كتبها باسمه فى شهادة الميلاد الرجل الطيب! 

-ولكن لم؟ 

عجوز وطيب ولا ولد له وأحب الست وتزوجها على سنة الله ورسوله! 

فقال عيسى وهو يزدرد ريقه بصعوبة : 

-رجل طيب حقا ولا يستحق السجن . . 

ولذلك فهى تعمل مكانه وتنتظره بصبر وإخلاص . 

- يستحق ذلك وأكثر. . 

وأعطاه عشرة قروش. وأمله خيرا فيما سيأتى من أيام . . 

وانتظر عقب منتصف الليل تحت المصباح. ولما لمحته وهى أتية قطبت فى غضب 
وابتعدت عن موقفه ولكنه قال لها بتوسل : 

- أنا منتظر ومعذب ولا بد أن نتكلم. . 

وسارت دون أن تحييه فاعترض طريقها قائلا : 

عه ابن قولى لى ذلك علي الأقل». 

قالت بحدة : 





45 اسان الف 


سأنادى البوليس . 

-هى ابنتى عرفت الحقيقة كلها . . 

سأنادى البوليس» ألا تسمع؟ 

- بل نادى الرحمة والصفح . 

فهددته بسبابتها قائلة : 

-أنت تستحق الحرق لا الصفح. . 

- لنبحث عن طريقة لننسى الماضى كله . 

نسيته كله فاختف معه. . 

اسمعى يا ريرى» أنت تنتظرين عبثاء ستنالين حريتك ثم. . 
فقاطعته صارخة : 

-يا لك من وغد كما كنت دائماء لا تتصور الخير أبدا . 
تقبض وجهه من الألم ثم أن قائلا : 

- الواقع أننى فى غاية من العذاب . . 

فقالت بحدة قاسية : 

لا شأن لى بعذابك . . 

البنت ابنتى ولا علاقة لها بالرجل الذى فى السجن . . 
قلبت عينيها فى وجهه بدهشة ثم سرعان ما استردت قوتها وهى تقول: 
هى ابنته» تبناها بأخلاقه فملكها إلى الأبدء وأنا مثلها. . 
اشتد تقبض وجهه فقالت منذرة : 

أحذر أن تلقانى بعد الآن: إنى أحذرك. . 

بواريرى العساتيزباتب الويفية... 

أنت الذى أغلقته فاذهب. . 

قال بنبرة باكية : 

ابنتى . . 

فصرخت وهى تندفع فى سبيلها : 

- لست أباء أنت جبان ولا يمكن أن تكون أبا. . 


11100 





السهان ولف ١1‏ 


5 


وقف متواريا وراء ضلع كابين بساحل كامب شيزار يسترق النظر إلى أسرته الطبيعية» 
كانت ريرى تجلس تحت مظلة شابكة ذراعيها على صدرها وعلى بعد أمتار منها عكفت 
نعمات الصغيرة على الرمال تحفر حفرة بدأب واهتمام. والصباح كان صحوا والشمس 
تغمر القلة المتفرقة على الساحل» شمس ناعمة ملاطفة أضاءت جوا منعشا. توارى عن 
عينيها حتى لا تظن بمقدمه الظنون» وذابت روحه فى نظرته المركزة على الطفلة يود أن 
يقبلها قبلة حارة ثم يذهب إلى الأبد. جسمها صغير لكنه متناسق . ويرسم هيئة امرأة 
بصورة مصغرة. وساقاها الملونتان بالشمس وفخذها وشعرها المرسل المبتل الأهداب 
وضلعاها البارزان العاريان ولبس البحر النصف برتقالى وانهماكها الشديدء وكل أولئك 
بديع جميل وهى سعيدة حقا. هى ثمرة الملل من ناحيته والخوف من ناحية أمها ولكن 
الحياة قد خلقت من هاتين الصفتين المرذولتين مخلوقة جذابة مفعمة بالصحة والهناء . 
هكذا اقتضت إرادة القوة الخفية وهكذا انهارت العراقيل أمام الوثبة الأبدية الغامضة. هذه 
الصغيرة شاهد على سخف كثير من المخاوف» شاهد الطبيعة عندما تضرب لنا المثل على 
إمكان التغلب على المفاسد . الآن ألا تستطيع أن تقلد الطبيعة ولو مرة؟ ألا تستطيع أن 
تخلق من أحزانك وخسائرك وهزائمك نصرا ولو بسيطا؟ وما هو بالنادر ولا بالجديد 
فهذا البحر الذى احتفظ بصورته ملايين السنين قد شهد أمثلة على ذلك لا حصر لهاء 
كذلك هذه السماء الزرقاء الصافية . 

وأخيرا خرج من مكمنه نحو الطفلة غير مبال بقومة ريرى المتحفزة» وهوى نحوها 
فطبع على خدها ‏ رغم انزعاجها للمباغتة ‏ قبلة حارة طويلة ثم ذهب مغمغا «الودا » ولم 
يلتفت وراءه مرة واحدة. 

وعندما جاء وقت الغداء لم يجد رغبة فى الرجوع إلى البيت فتناول غداءه فى «على 
كيفك». وذهب إلى سينما الساعة الثالثة» ثم دخل سينما أخرى الساعة السادسة. ثم 
عاد إلى «على كيفك» ليتناول العشاء ويشرب الكونياك . وطال المجلس فانتشى رأسه 
بنفئات الخمر وهو يتسلى بالنظر والأحلام . وقبيل منتصف الليل رأى شخصا قادما نحو 
المطعم جذب انتباهه فيما يشبه الصدمة الكهربائية . 

فارع الطول مفتول العضل داكن السمرة» يرتدى بنطلونا رماديا وقميصا أبيض 
يكشف عن ساعديه» وبين أصبعى يسراه وردة حمراء . اقترب خطوات قوية رشيقة تلمع 
فى عيئيه نظرة جريكة نافذة. التقت عيناهما وهو يدخل المحل فحدجه القادم بنظرة قوية 





144 اسان ولف 


أدرك منها أنه تذكره ثم حول عنه وجهه المستطيل المتناسق وهو يكاد يبتسم ثم مضى نحو 
ركن عصير الفاكهة» هو هو دون غيره.» أيام الحرب الكالحة» ليلة قبض على الشاب 
فشهد هو التحقيق معه ‏ بصفته الرسمية والحزبية ‏ حتى مطلع الفجر. وكان الشاب جريئا 
وعنيفا ولم ينته التتحقيق معه إلى إدانة ولكنه أرسل إلى المعتقل ولبث فيه حتى إقالة 
الوزارة. ترى ماذا يفعل الآن؟ وهل يحظى فى العهد الجديد بمنزلة سامية؟ أم لا يزال 
ثائرا؟ ولم يبتسم؟ ومن المؤكد أنه تذكره فهل يتوقع من ناحيته مفاجأة سيئة؟ وقرر أن 
يطرده عن خاطره ولكنه التفت نحو ركن الفاكهة بدافع لم يستطع مقاومته فرآه واقفا 
متجها إلى داخل المحل قابضا على كوب من عصير المانجو» ويرنو إليه بنظرة استطلاع 
وتأمل وفى عينيه شبه ابتسامة ساخرة . وأعاد رأسه إلى الخارج وهو من الضيق فى غاية» 
وكان الماضى من خلال هذه النظرة يطارده . ومالبث أن قام ثم غادر المحل ماضيا إلى 
الكورنيش رأسا. ولم يخطر له أن يعود إلى البيت» بل وخيل إليه أنه لم يعد له بيت على 
الإطلاق» ومال بعد مشية غير قصيرة إلى الميدان ثم جلس على أريكة تحت تمثال سعد 
زغلول. أغلب الأرائك خالية» والهواء البارد فى غير قسوة يتجول فى الرحبة الفسيحة 
لاعبا بالنخيل» والنجوم تومض فى القبة الهائلة» والليل راسخ كالأبدية» ولم يكن قد 
نما بعد من ذكريات الشاب الناشبة فى مخيلته ولكنه صمم على أن يرسم للمستقبل 
خطة . ولم يكد يستغرق فى أحلامه حتى شعر بشخص يجلس إلى جانبه فالتفت نحوه 
فى غيظ مكبوت فرأى الشاب المقتحم. واضطرب فى خوف. وقال إنه لا شك قد تبعه 
خطوة فخطوة وأنه يضمر له شرا! . وتوثب للدفاع ولكنه خجل فى ذات الوقت من فكرة 
الانسحاب. وجاءه صوت حلقى يقول فى لطف : 

مساء الخير يا أستاذ عيسى » أو صباح الخير فقد انتصف الليل منذ دقائق! 

رمقه بنظرة باردة على ضوء غير قريب وقال: 

صباح الخير» من حضرتك؟ ! 

-لاشك أنك تذكرنى! 

فقال عيسى مصطنعا الدهشة : 

آسف جداء من حضرتك؟ ! 

فضحك ضحكة كأنها تقول «أنت عارف وأنا عارف» ثم قال: 

- الخصم هو آخر من تنسى ! 

لا أفهم شيئا! 

- بل تذكر التحقيق الذى استمر حتى الصبح» واعتقالى بعد ذلك» حتى أنتم كنتم 

تعتقلون الأحرار ويا لللأسف! . . 


11100 





03 


اسان ولف يل 


فقال عيسى بنيرة متقهقرة: 

-لا أدرى عما تتحدث بالضبط ولكنى أذكر أيام الحرب بلا شك كما أذكر ظروفها 
القاسية التى اضطرتنا كثيرا إلى ما نكره. . 

هذا هو الاعتذار التقليدى» ما عليناء ما فات فات . 


ولم يعلق عيسى بكلمة ونظر إلى الأمام معلنا رغبته فى الانفصال لعل الآخر يذهب 


وتغيرت الدنياء لا تظننى شامتاء أبدا والله» بل إننى فى كثير من الأحيان لا أخلو 
من عطف . . 

فقاطعه قائلا بشىء من الحدة : 

لست فى حاجة إلى عطفك . . 

- لا تغضب» ولا تسئ فهم تطفلى عليك» إننى أرغب مخلصا فى تبادل الرأى . . 
عن أى شىء؟ 

الدنيا من حولنا؟ 

وشعر عيسى بأنه ما زال ثملا ولكنه قال : 

- لم يعد يهمنى شىء. . 

فقال الشاب بدهشة : 

أما أنا ففى الطرف الآخرء كل شىء يهمنى وأفكر فى كل شىء . . 

فلتطب لك الدنيا كما تشاء. . 

- أليس هذا بخير من الجلوس فى الظلام تحت تمثال سعد زغلول؟! 

-هكذا هى تطيب لى فلا تشغل بالك بأمرى. . 

-أنت لم تقرر بعد أن تفتح قلبك لى. . 

-ولم ذلك!» ألا ترى أن الدنيا كلها مملة؟ 

ليس عندى وقت للملل! 

ماذا تفعل إذن؟ 

- أعابث المتاعب التى ألفتها وانظر إلى الأمام بوجه مبتسم» بوجه مبتسم رغم كل 
شىء» حتى ظن بى البله. . 

-وما الذى يدعوك إلى الابتسام؟ 

فقال الشاب بلهجة أكثر جدية : 





١‏ انان ولف 


أحلام عجيبة» ما رأيك فى أن نختار مكانا أنسب للحديث؟ 


آسف» الحق أنى شربت كأسين وأرغب فى الراحة . . 
فقال الآخر بأسف : 


- أنت تود أن تجلس فى الظلام تحت تمثئال سعد زغلول . 

ولم يجب عيسى بكلمة فقام الآخر وهو يقول: 

أنت لا ترغب فى حديثى فلا يجوز أن أزعجك أكثر من ذلك . . 

وتحول عنه ماضيا نحو المدينة . 

وتابعه بعينيه وهو يبتعد . ياله من شاب غريب! . ترى ماذا يفعل اليوم؟ وهل رحمته 
المتاعب؟ ولماذا ينظر إلى الأمام بوجه مبتسم؟ 

وظل يتابعه بعينيه حتى بلغ آخر الميدان. لم يكن سيئ النية كما توهم. ولم يقصده 
بسوءء فلم لم يشجعه على الحديث؟ ألم يكن من الممكن أن يستعين به على مغالبة الملل 
فى هذه الساعة من الليل؟ أولم يكن من المحتمل أن يجرهما الحديث إلى شىء مشترك 
تطيب به السهرة؟ 

ورآه وهو يختفى متجها نحو شارع صفية زغلول . وقال لنفسه أستطيع أن ألحق به 
على شرط ألا أضيع ثانية فى التردد. 

وانتفض قائما فى نشوة حماس مفاجئة» ومضى فى طريق الشاب بخطى واسعة» 
تاركا وراء ظهره مجلسه الغارق فى الوحدة والظلام. . 


(وقت)») 


110 








جوار الله ا الجبار ا تم 1" 


الجامع فى الدرب خا ا ل ل كلمة فى الليل ات م م 11 
موعد ا حادثة ال ل ا 
قاتل مخ مه ا وي نه ا حنظل والعسكرى ا 
ضد مجهول 0 لسك مندوب فوق العادة لون 
زيئة لحنت امار و ساك مي 1105-7 صورة قديمة 0 


دبا الله 


دبت الحياة فى إدارة السكرتارية بدخول عم إبراهيم يم الفراش . فتح النوافذ واحدة بعد 
أخرى» ومضى يكنس أرض الحجرة الواسعة بلب شارد ودون اكتراث . واهتز رأسه 
بانتظام وبطء. وتحرك شدقاه كأنما يلوك شيئًا. فقلقت تبعًا لذلك منابت الشعر الأبيض 
فى ذقنه وعارضيه. أما صلعته فلم تكن بها شعرة واحدة . وعاد إلى المكاتب ينفض عنها 
الغبار ويرتب الملفات والأدوات» ثم ألقى على الحجرة ‏ الإدارة ‏ نظرة شاملة » ثم نقل 
بصره بين المكاتب وكأما يرى شخوص أصحابهاء » فلاح الارتياح فى وجهه حيئًا 
والامتعاض حيئًا ومرة ابتسمء ثم ذهب وهو يقول لنفسه: «الآن نذهب لإحضار 
الفطور» . 

وكان السيد أحمد كاتب المحفوظات أول من حضرء جاء بكاهل ينوء بخمسين عام 
ووجه نقش على صفحته امتعاض ثابت كأنه سجل لقرف الزمن . وتبعه السيد مصطفى 
الكات ب غلى الآلة الكاتبة الذى يضحك كثيرا لكنه ضحك مثوتر يذارى به هموفه 
اليومية. ثم جاء سمير أو الرجل الغامض كما يدعى فى الإدارة» والجندى الذى ينم تطلق 
أساريره على أنه لم يخرج من نعمة الطفولة . ودخل يتبختر السيد مصطفىء أنيقًا ذهبى 


0 شيااتر 

الخاتم والساعة ودبوس الكرافتة» ولحق به حمام رقيقا نحيفا منطويا على نفسه . وأخيرا 
حضر سيادة مدير الإدارة» الأستاذ كامل» محوطاً بهالة من وقارء وفى يده مسبحة. 
وضجت الإدارة بالأصوات وخشخشة الأوراق. ولكن أحدا لم يشرع فى عمل» حتى 
المدير انهمك فى مككلمة تليفونية» وانطلقت صفحات الجرائد فى الجو كالأعلام. وقال 


لطفى وهو يتابع الأخبار بعينيه : 
- ستكون السنة نهاية العالم . 
وعلا صوت المدير وهو يقول متهللاً فى التليفون: 
- وهل يخفى القمر؟ 
-لماذا نشقى بالزواج والأبناء» ها هو شاب يقتل أباه تحت بصر أمه! 


ما فاتدة كتابة روشتة إذا كان الدواء غير موجود بالسوق! 

ولبث الجندى يرمى ببصره من مجلسه إلى عيادة دكتور فى العمارة المواجهة يرصد 
ظهور ممرضة ألمانية شقراء فى النافذة ثم عاد لطفى يقول مؤكدا : 

صدقونى» نهاية العالم أقرب ما تتصورون. . 

ووضع المدير يده على السماعة وقال لحمام آمرا : 

جهز الملف 17١ /7-1١‏ عام. 

ثم عاد إلى المحادثة الشائقة فلم يُرفع حمام رأسه عن الجريدة وهمس بين أسنانه «داهية 
فى أمك!». وإذا بعم إبراهيم يعود بصينية ممتلئة. وراح يوزع سندوتشات الفول 
والطعمية والجبن والحلاوة الطحينية. وطحنت الأفواه الطعام وتجاوب التمطق فى 
الأركان ولم تتحول الأعين عن أعمدة الصحف . ووقف عم إبراهيم عند مدخل الإدارة 
يرقب الآكلين بنظرة غريبة من عينيه الذابلتين حتى هتف به أحمد بصوت يعترضه 
الطعام . 

كشف الماهيات يا عم إبرأهيم . 

فذهب الرجل . وبعد ساعة من الوقت دخل الحجرة بائع الكرفتات والروائح العطرية 
الذى يزور الإدارة عادة فى أول الشهر . ومر بالمكاتب عارضا بضاعته فأقبل الموظفون 
يتفحصونها وأخذ بعضهم ما يحتاجه منهاء وغادر الرجل الحجرة على أن يعود إليها بعد 
قبض الماهيات» وبعد ساعة أخرى جاء بياع السمن ليجمع الأقسام المستحقة» ولكن 
مصطفى قال له بلهجة ذات معنى وهو يضحك : 

انتظر حتى يرجع عم إبرأهيم . 

000011101 





١ شياالتد‎ 


فوقف الرجل عند الباب وشفتاه تتحركان بتلاوة مستمرة. وكانت الآلة الكاتبة تنقر 
بنشاط» على حين انتقل سمير إلى المدير ليعرض أوراقًا هامة. ودخلت الشمس لأول 
مرة من النافذة المطلة على الميدان. وما زال الجندى يختلس النظرات إلى نافذة العيادة. 
ونادى المدير عم إبراهيم لأمر فذكره مصطفى بأنه لم يرجع بعد من الخزينة» وعند ذاك 
تساءل أحمد رافعا رأسه عن الملفات : 

الرجل تأخر! » لماذا تأخر الرجل؟ 

وذهب بياع السمن ليمر بالإدارات الأخر ثم يعود. وهب أحمد إلى خارج الحجرة 
ونظر يمنة ويسرة فى الطرقة ثم عاد وهو يقول: 

لا أثر له» ماذا أخره» الرجل المخرف! 

ولما مرت ساعة ثالثة فقد أحمد صبره فقام وهو يعلن بصوت مسموع أنه ذاهب إلى 
الخزينة للبحث عن الرجل . ثم عاد بوجه طافح بالغيظ وهو يقول: 

أخذ الكشف منذ ساعة كاملة» فأين ذهب المجنون؟ 

فسأله لطفى : 

-هل قبض مرتبه؟ 

فأجاب محتدا : 

-نعم» قالوا لى ذلك عند شباك صرف الخدم السايرة . 

لعله ذهب يتسوق! 

- قبل أن يسلمنا الماهيات؟ ! 

لا تستبعد ذلك» إنه يأتى كل يوم بجديد. 

وارتسم الاستياء على وجوه وقطب المدير ‏ وهو درجة رابعة قديم ‏ وساد صمت 
قصير ما لبث أن قطعه مصطفى بضحكة من ضحكاته ثم قال : 


-تصوروا أنه سرق فى الطريق! 
فندت ضحكات فاترة» فاترة جداء كأنها تأوهات متنكرة» غير أن لطفى قال: 
- أو وقع له حادث! 


ولما آنس فى الوجوه استياء استدرك قائلا: 

ما يدوس عم إبراهيم اليوم فَإِنما يدوس إدارة كاملة . 

فقال أحمد بحدة: 

إلا من وراءه خزينة خاصة! 

وارتاح الجميع إلى قوله تشفيًا غير أن المدير نقر على مكتبه بقلمه الباركر المهدى إليه 





١‏ شيااتد 


فى مناسبة سعيدة» داعي الإدارة إلى ضبط النفس» وكان فى الحقيقة يدارى قلقه المتزايدء 
ولكن الجندى تساءل رغم ذلك : 

ماذا يحدث للتقود فى هذه الأحوال؟ 

كحال السرقة؟ 

ولم يضحك أحد فعاد الجندى يتساءل : 

فى حال الحوادث؟ 

قد تسرق فى الزحمة» وقد يتحفظ عليها فى قسم البوليس حتى تتضح الحقائق» 

ومت يا حمار! 

ولكن بدا أن تملكة الضحك قد جدبت اما . بدت الوجوه كالحة ومضى الوقت أثقل 
من المرض . وتساءل صوت «على وجه من أصبحنا اليوم؟». وذهب أحمد يبحث عن 
عم إبراهيم فى المراقبة كلها ثم عاد بوجه ناطق بخيبة مسعاه. وفكر المدير فى المشكلة 
الغريبة التى لم تدر لأحد فى بال. إنه يأبى أن يصدق . سيظهر الرجل المجنون فجأة عند 
الباب. ستنهال عليه الشتائم وسينتحل كافة الأعذار. وإلاافما العمل؟ . لطفى وراءه 
زوجة غنية» وسمير وغد معروف ولكن ثمة مساكين مثل أحمد قد يقضى عليهم 
الحادث! . وعاد بياع السمن» وقبل أن يفتح فاه صاح به المدير : 

انتظر. القيامة لم تقم» ونحن فى إدارة حكومية لا فى سوق . 

فتراجع الرجل مذهولاً» وزار الإدارة موظفون من المراقبة يستطلعون الأحوال» وهم 
بعضهم بالمداعبة ولكنهم وجدوا جوا مكفهرا فتلاشت الدعابات فى حلوقهم» وتجسد 
القلق وكف الجميع عن العمل . وتأوه أحمد قائلاً: 

قلبى يحدثنى بأن المسألة جد! ضعنا يا جماعة . 

ثم هب واقمًا وهو يقول: «سأسأل عنه بواب الوزارة». واختفى مهرولاً. ثم عاد وهو 
يصيح بصوت ثائر: 

البواب يوكد أنه رآه يغادر الوزارة حوالى التاسعة صباحا! 

ثم بصوت مختنق : 

أفظع من كارثة» لا يمكن أن يبيع حياته بمائة وخمسين جنيها أو مائتين» حادث؟!» 

من يدرى» هذا الشهر لن نعرف له نهاية يا رب السماوات! 

وشعر لطفى بأن بعض الأنظار تتجه نحوه من حين لحين فقال منقبض القلب : 

إنها أفظع من كارثة» لعلكم تتساءلون ماذا يهمنى أنا!ء والحق أن زوجتى الغنية لا 

تنفق مليمًا واحد من مالها . 

وانصبت عليه فى السر عشرات اللعنات» ولم يعره أحد التفانًا. وتأوه أحمد قائلاً: 


01101 





١ وشياالتم‎ 


أتصدقون بالله؟ . والله الذى لا إله إلا هو إنى من اليوم الثانى فى الشهر أذهب 
وأجىء وليس فى جيبى مليم واحدء لا قهوة ولاشاى ولا سيجارة ولا استعمال 
لأى نوع من المواصلاتء أولاد فى الثانوى وأولاد فى الجامعة ودين كبير بسبب 
الأدوية» وماذا يمكن أن أفعل يا إله الكون؟ ! 

ولا جاوزت الساعة الواحدة وقف مدير الإدارة بوجه كثيب» وابتعد عن مكتبه وهو 


يقول : 
- لابد من إبلاغ المراقب العام . 
واستمع المراقب العام إلى القصة فى امتعاض ظاهر » ثم تساءل: 
- ألا يجوز أن يرجع رغم الظنون! 
الحق أنى يائس تمامًا من ذلك» الساعة تدور فى الثانية . 
فقال المراقب العام بلهجة منتقدة : 


أنت تعلم أن تصرفكم خاطئ ومخالف للتعليمات . 


جميع الإدارات تفعل ذلك . 

-ولو!ء الخطأ لا يبرر الخنطأ. اكتب لى مذكرة لأرفعها لوكيل الوزارة . 
ولكن المدير لم يتحول عن موقفه وقال: 

الجميع فى أشد الحاجة إلى مرتباتهم» هذه حالة لم تسبق بمثيل . 
-وماذا تريدنى أن أفعل؟ 

نحن لم نتسلم المرتبات ولم نوقع فى الكشف . 


- لا يمكن إنكار الواقعة» ولا التهرب من المسئولية . 

وتكائف الصمت وبدا المدير كرجل ضائع » وضاق المراقب به فتشاغل بالنظر فى 
أوراق على مكتبه . حتى تحول المدير عن موقفه ومضى نحو الباب فى خطوات ثقيلة 
جدا. وقبيل خروجه جاءه صوت المراقب وهو يقول فى جفاء : 

أبلغوا البوليس . . 

قات إكازةالستهزتارية إل تقطة البولتينى: رشقو طريقين إلى ره العسائط بين 
نسوة جالسات القرفصاء. تتقدمهم شرذمة من رجال متعاركين مخضبين بالدماء يسوقهم 
عسكرىء على حين تعالى من وراء باب مغلق صراخ أليم واستغاثات. وأفضى السيد 
كامل المدير إلى الضابط بالحكاية من أولها إلى آخرها. وقال عن عم إبراهيم : إنه فراش 
فى الخامسة والخمسين» دخل خدمة الوزارة وهو فى العاشرة عاملا بالمطبعة» ثم نقل 





5 وشياالتم 


فراشًا لتطاوله على رئيسه؛ وأجره الأصلى ستة جنيهات . وقال عنه موظفو السكرتارية 
إنه كان طيبًا وإن يكن به شذوذ محتمل كأن يشرد أحيانًا حتى وهو يحدثك أو يتدخل فيما 
لا يعنيه أو يتطوع بذكر ملاحظات عامة فى السياسة دون مناسبة» وعن مسكنه قيل إنه 
يقيم بالبيت رقم ١١١‏ بدرب الحلة» ولم يسبق له أن سرق أو أتى ما يستوجب الشك فى 
ذمته. وقال الضابط بعد تحرير المحضر : إن النقطة ستتأكد أولاً أنه ليس ضحية لحادث من 
الحوادث ثم يتخذ البحث مجراه. ولم يجد الموظفون بدا من الانصراف فغادروا النقطة 
كالمساطيل من الذهول . واختلطت أصواتهم وهم يتبادلون التشكى والتساؤل عما يمكن 
عمله إزاء مسئولياتهم الخطيرة التى تنتظرهم فى البيوت. وشملتهم رغبة واحدة فى أن 
يبقوا معًا حتى يجدوا لمشكلتهم حلاً. غير أنهم اضطروا فى النهاية إلى التفرق فمضى كل 
إلى حال سبيله . عاد مدير الإدارة إلى بيته ولا أمل له إلا فى البوكر أو الكونكان. وقصد 
مصطفى الكاتب على الآلة الكاتبة محل رهونات بباب الشعرية اعتاد فى الأزمات أن 
يقترض منه بربح فاحش . أما لطفى فكانت زوجته تتكفل بنفقات البيت ولكن كان عليه 
أن يبتدع حيلة ليأخذ منها مصروفه الشهرى . الجندى ‏ وهو شاب أعزب ويعيش فى كنف 
أبيه ‏ قرر أن يقول لوالده: «تقبلنى هذا الشهر وكأننى ما زلت طالبا». حمام كان عليه أن 
يقنع زوجته المشتركة فى جمعية توفير من الجيران بالمطالبة بنصيبها المخصص للكساء 
لإنفاقه فى البيت مهما كلفه ذلك من سباب وعراك وبكاء. سمير بدا أمره هينًا نوعاء فما 
إن خلا إلى نفسه حتى قال: «لولا الرشوة لوجدت نفسى فى مأزق لا مخرج منه!». بقى 
أحمد كاتب المحفوظات الذى ظن الزملاء أن النهار لن يطلع عليه. مضى يتخبط فى 
الطريق بلا أدنى وعى لما حوله من أناس ومركبيات. ودخل مسكنه متأوها أزرق الوجه 
فارتمى على أول مقعد وأغمض العينين. وأقبلت عليه الولية برائحة المطبخ متسائلة فى 
انزعاج : 

عفالك؟ 

لا مرتب لنا هذا الشهر! 

فقالت بدهشة : 

-لم كفى الله الشر؟ !» عم إبراهيم جاء بمرتبك فى أول النهار! 

وثب الرجل قائمًا كغريق وجد آخر الأمر متنفسا على حين ذهبت الولية وجاءت 
بلفة من الأوراق المالية وجد فيها مرتبه كاملاً! . استخفه الطرب لحد الجنون فبسط يديه 
وهتف من الأعماق: «الله يكرمك يا عم إبراهيم . . الله يجبر بخاطرك ياعم 
إبراهيم" . 

وكبس البوليس بيت عم إبراهيم بدرب الحلة . وكان المسكن عبارة عن حجرة أرضية 


1110م 





١ 1/ وشياالتر‎ 


بحوش بيت قديم تهدم سوره أو كاد. ولم يكن بالحجرة إلا مرتبة متهرئة وحصيرة وكانون 
وحلة وطبق صاج وامرأة عجوز عوراء تبين أنها زوجته» ولما سئلت عن زوجها أجابت 
بأنه فى الوزارة» ثم أكدت أنها لا تعرف شيئًا عن اختفائه» ولم يكن له من ثياب إلا 
جلباب ففتشوه فعثروا على قطعة حشيش صغيرة . وعادت القوة بالمرأة إلى قسم 
البوليس» وقالت المرأة إنها لا تدرى شيئًا عن هربه أو عن السرقة المنهم بها. وبكت طويلاً 
وانتهرت طويلاً. وقالت عن حياتهما المشتركة إنه كان فى مطلع الحياة زوجا طيبًا وإنهما 
أنجبا أبناء. من هؤلاء الأبناء عامل يعمل فى منطقة القنال منقطع الصلة بهم منذ سنوات . 
وآخر قتل فى حادثة ترام وهو فى العاشرة . وبنت تزوجت من عامل بناء ذهب بها إلى 
أقصى الصعيد فاختفت من حياتهم كأخيها بالقنال. واعترفت بأن عم إبراهيم تغير تغيراً 
خطيراً فى حياته فى الأشهر الأخيرة» وبعد أن بلغ أعقل العمرء إذ ترامت إليها أنباء عن 
تعلقه ببائعة ناصيب عند قهوة فؤاد» وأن تلك الأنباء سببت أكثر من عراك بينهما على 
مرأى من حارة الحلة كلها . 

انقض المخبرون على قهوة فؤاد ثم رجعوا إلى القسم بمجموعة غريبة من جامعى 
الأعقاب بين الطفولة والمراهقة» كما جاءوا ببعض ماسحى الأحذية. وتذكروا جميعًا عم 
إبراهيم عند سماع أوصافه. قالوا إنه كان يجلس فى الأشهر الأخيرة فى آخر كرسى فى 
الممر المتفرع عن الطريق العام. يحتسى القهوة ويرنو إلى الإنجليزية! بائعة ناصيب فى 
السابعة عشرة ذات خصلات ذهبية وعينين زرقاوين» كانت فى الأصل جامعة أعقاب 
كذلكء واعترفوا جميعا على وجه التقريب بأنهم كانوا على علاقات خاصة بهاء وأن 
ذلك كان كذلك حتى مع بعض رواد القهوة من ذوى النفوس الحلوة المتواضعة! . وكان 
عم إبراهيم شديد الاهتمام بها. رآها مرة وهو عابر سبيل . ولما أدرك أنها من معالم قهوة 
فؤاد اتخذ مجلسه فى نهاية الممر لمشاهدتها كل مساء» وكان يدعوها ليبتاع ورقة ناصيب 
فى الظاهرء وليبقيها أطول مدة ممكنة معه فى حقيقة الأمر. وفطنت الفتاة من أول الأمر 
إلى ولعه بها فأفشت سره إليهم» فراحوا يتجسسون عليه يوما بعد يوم متخذين إياه مزحة 
ودعابة وهو غافل عنهم بهيامه. ويوما أخبرتهم بأن الرجل يرغب فى الزواج منها! . وأنه 
يعدها بحياة سعيدة خالية من هموم العناء والتشرد. وضحكوا طويلاً. اعتدوها نكتة لأن 
فكرة الزواج لاتطرق لهم بالا من ناحية» ولأن الرجل أبعد ما يكون عن صورة العريس 
كما يتخيلونها من ناحية أخرى . وقال أحدهم ساخرا : 

-إنه يبدو كأحدنا! 


بل هو رجل غنى . . 





04 شيا التد 


وضحكوا كرة أخرى . لكن الفتاة انقطعت عن المجىء إلى القهوة واختفت من مظانها 
جميعا! 

وعلى العموم اطمآن البوليس إلى أنه قبض على طرف الخيط . لكنه لم يكن يعلم أن 
الطرف الآخر فى أبى قير . أجل كان عم إبراهيم فى أبى قير. كان يجلس جلسة مريحة 
على الشاطئ يراوح النظر بين البحر وبين ياسمينة التى تطايرت خصلاتها الذهبية فى 
مهب النسائم . وبدا حليق الذقن مستور الصلعة تحت طاقية بيضاء كالحليب وعكست 
بشرته رواء. وارتدث ياسميئنة فستانًا أنيقا وتجلت نضارتها كالماء المقطر. جلسة عائتلية 
سعيدة مريجة راضية وإن لم يخل هواء إبريل من لسعة برد. والمكان شبه خال, لا أحد 
من المصيفين جاء» وأصحاب البيوت من اليونانيين بعيدون عن الشاطىئ. والحب يرفرف 
راقصًا حول الجلسة الجميلة . وتجلت فى عينى عم إبراهيم نظرة تشوف ودهشة كأنه 
يستقبل العالم لأول مرة فى طفولة بريئة» فما رأى بحرا من قبل » بل إنه لم يجاوز أعتاب 
القاهرة طيلة حياته» لذلك بهره البحر المصطخب . والساحل المترامى» والسماء الملفعة 
بالسحب البيضاء فى صفاء الورد. ومضى يصغى إلى الهدير المتقطع وهو يبتسم ابتسامة 
فرحة سعيدة لا تفارق شفتيه . بدا أنه انطلق من أغلال الهموم وأنه يحلق فى حلم» وأنه 
يستمتع بأنغام الحب الشجية التى ترددها أعماقه النشوى» أما الفتاة فتمددت أمامه فى 
استرخاء واكتنفها صمت راكد حتى ثقلت جفونها بما يشى بالملل. وكان السيد لطفى 
الموظف بالسكرتارية هو الذى عرفه دون قصد بأبى قير. كان يصيف كل عام فى ذلك 
المصيف ويحكى عن جماله وهدوئه وأسماكه للزملاء قبل السفر وعقب العودة» فامتلاً 
خيال عم إبراهيم بالمصيف, ثم عرف أخيرا سبيله إليه . وجاءه مزودا بما يحتاجه شهر 
العسل من ثياب وأدوات زينة وهدايا ولوازم المزاج والكيف . وكان يومه كله ينقضى بين 
الحجرة المفروشة التى اكتراها وبين الساحل» لا شاغل له إلا الحب والمشاهدة والتدخين 
والأكل والشرب والأحاديث. وأنفق فى أسبوع ما لم ينفقه من قبل فى عام. ولم تكن 
المحبوبة تكف عن الطلب, وما أسرع ما كان يلبى طلباتهاء وكانت غريبة الأطوار فحتى 
الخمر والمخدرات طالبت بها. وكانت صريحة إلى حد الإيذاء فسألته مرة : 

-من أين لك بالنقود؟ 

فقال ضاحكا: 

-أنا من الأعيان. . 

فقالت بارتياب وقد ضرجت الخمر وجنتيها : 

أنا فاهمة. . ! 

الله يسامحك . . 


1110م 





شياالتد ك1 


وضحكت ضحكة بلهاء وهى تقول: 

- ليس فيك إلا أربع أسنان» واحدة فوق وثلاث تحت . . 

وضحك متسامحً . ربما حام حوله كدرء ولكنه كان مصمما على السعادة» السعادة 
التى يدرك أكثر من غيره كم هى زائلة . لم يكن يطمع فى أكثر من الاحتفاظ بما نال من 
سعادة إلى حين» وألا يقع القبض عليه قبل أن تنهار دعائم سعادته انهيارها الطبيعى 
بإنفاق آخر مليم بما يملك . لذلك أصر على السعادة رغم ما يبدو من محبوبته من 
مشاكسة. وتاقت نفسها إلى رؤية الإسكندرية لكنه رفض بإصرار فعادت تقول بمكر 
موروث عن الأرصفة : 

قلت لك فاهمة! 

فكان جوابه أن ابتاع لها حلية لطيفة» ووضع بين يديها فاكهة وشرابًا وسجائر 
محرمة» وقبل خدها المتورد وابتسم لها فى حنان قائلاً : 

-انظرى إلى البحر والسماء» واسعدى بما بين يديك » وليكن ريقك شهدا . 5 

أراد لها أن تسعد كما يسعد. وكان من قبل يسير مرق الرأس لا يرى من الدنيا إلا 
التراب والطين» أو لا يرى إلا شواغله وهمومه؛ أماهنا فرأى مالم يكن يراه. رأى 
النجوم الساهرة والقمر الساطع والآفاق اللا متناهية . رأى ذلك كله بقوة الحب الخالقة 
حتى عجب كيف يوجد بعد ذلك التكد. . 

وفى أوائل يونية ظهرت على الساحل أول أسرة جاءت مبكرة للتصييف فانقبض قلب 
عم إبراهيم وشعر بدنو الشقاء كالأجل. ستولى السعادة قريبًا وإلى الأبد. وزاده ذلك 
إصرارا على السعادة المتاحة فأشعل سجائره تباعًا. ويوما كان عند البقال فلمح فى آخر 
الطريق السيد لطفى الموظف بالسكرتارية بصحبة سمسار من سماسرة المساكن . سقط 
قلبه خوفًا فمضى مسرعا إلى عطفة جانبية» ثم تسلل منها إلى حجرته . جاء لطفى ليؤجر 
الشاطئ بالطول والعرض ولا يبقى له هو مكان. إن يد الخيبة تطرق بابه ولن يجد له 
مكانًا . سينقضى الحلم مثل هذه السحابة المسرعة» وستغادره محبوبته كزفيره. محبوبته 
التى يحبها رغم تململها من وحدتها ولسانها المفلفل. أجل يحبهاء ويشكر لها ما وهبته 
من سعادة ونفخت فيه من روح الشباب . فليسامحها الله وليسعدها الله. ووجد نفسه 
فى حجرته منفردًا فراح يعد ما تبقى من النقود ثم لفها حول صدره. وسمع حركة عند 
الباب فالتفت نحوها فرآها قادمة. تساءل ترى هل رأته؟ . وق رأ فى عينيها نظرة ماكرة . 
لذلك طار النوم من عينيه عندما استلقى إلى جانبها على الفراش . ومضى الليل فى أرق 





0 وشياالتر 


وفكر. وسمع صونًا حنونًا فى أعماقه يقول له: «أوهبها النقود وسرحها». فقال له: «لم 
تزل لى أيام» . فقال له: «أوهبها النقود وسرحها». فالطفلة الجميلة المشردة من أبوها. 
من أمها؟ . 

قالت له مرة بكل بساطة : 

لا أحدلى فى الدنيا. . 

كذلك هو! . وأحس بشىء يلمسه كثعبان فى الظلام . تركز إحساسه فى يدها 
المتلصصة. تسعى إلى سرقته . ألذلك بالغت فى إنهاكه الماكرة حتى يغرق فى النوم! . 
ياللتعاسة! . وقبض على يدها. ندت عنها شهقة فى الظلام ثم ساد الصمت . وتساءل 
بحزن: 

المه؟ 

ثم معاتبًا : 

-متى رفضت لك طلبًا؟ 

وهوت على يده فعضتها بوحشية حتى تأوه ودفعها بقوة. كانت أول حركة قاسية تبدر 
منه نحوها. ووثب إلى مفتاح الكهرباء فأضاء الحجرة. نظر أول ما نظر إلى معصمه 
الملطخ بالدم . وقال: 

مشر قوق هذا الغ كلها 

رمقته بنظرة مستخزية لحظة ثم ولته ظهرها. وتساءل: 

- كيف تستعين إلى سرقة مالك؟ 

فقطبت تقطيبة نمت عن حنق وضيق لكنها لم تنبس فعاد يقول: 

لا مطمع لى فى أكثر تما نلت. . 

وضحك ضححة مريرة وقال: 

-ليجزك الله عنى خير الجزاء . . 

وفى الصباح أعطاها أكثر ما تبقى لديه من مال وحزم متاعها ووصلها إلى المحطة. . 

ومن ثم أقفرت أبو قير. وتغير الحال رويد وتقاطر المصيفون . وانتقل إلى الإسكندرية 
ليهيم على وجهه دون مبالاة. ومرة وجد نفسه أمام جامع أبى العباس فدخل . صلى 
ركعتين تحية للمسجد ثم جلس موليًا وجهه نحو الجدار. كان يعانى حزنًا جليلاً ويأسًا 
رائعًا. وناجى ربه همسا : ١لا‏ يمكن أن يرضيك ما حصل لى ولاما يحصل فى كل 
مكان» صغيرة وجميلة وشريرة أيرضيك هذا! . وأبنائى أين هم . . أيرضيك هذا؟! 
وأشعر وأنا بين الملايين بوحدة قاتلة. . أيرضيك هذا؟» وأجهش فى البكاء. ولما أخذ 


1110 





وشا التد ١‏ 


يبتعد عن الجامع فاجأه صوت ينادى «عم إبراهيم» فالتفت مندهشا بلا إرادة فرأى جبارا 
يتقدم منه فى ظفر وتشف فأدرك من منظره أنه مخبر فتوقف مستسلما . قبض الرجل على 
منكبيه وهو يقول : 

أتعبتنا فى البحث عنك . . الله يتعبك . . 

ولما وجده ‏ وهو يسوقه أمامه ‏ مستسلما محمر العينين قال : 

تقدر تقول لى ماذا دفعك إلى تلك الفعلة وأنت فى هذا العمر؟ ! 

-الله.. 

ندت عنه كالتنهدة. . 


جوار الله 


دق جرس الباب الخارجى ففتحت الخادم الشراعة فرأت رجلا يرتدى جلبابًاء عارى 
الرأس» غريب الوجه»ء كانت بلا ريب تراه لأول مرة» فطالعته بنظرة متسائلة» وإذا به 
يسأل: 

- بيت سى عبدالعظيم شلبى الموظف بالمساحة؟ 

وجاء عبدالعظيم على صوت الرجل» متمهل المشية فى جلبابه الفضفاض مغطى 
الرأس بطاقية اتقاء للبرد» فنظر إلى القادم باستطلاع كما فعلت الخادم من قبل ثم سأله 
عمايريد» فقال الرجل : 

-لا مؤاخذة. أرسلنى الحاج مصطفى الدرديرى السمسار بالدرب الأحمر لأخبرك 

بأن الست عمتكم مريضة جد ويلزم الحضور. . 

فانفعل عبدالعظيم باهتمام شديد وتساءل: 

-ماذا حصل لها؟ 

- لا أعرف يا سيدى» وأنا قلت الحضرتك ما كلفنى به الحاج . 

ودعاه إلى الدخول من قبيل المجاملة فشكر وذهب . وتحول عبدالعظيم إلى الداخحل 
فوجد أخته تفيدة واقفة تنصت فقال لها: 

استعدى للذهاب إلى بيت نظيرة» الظاهر أنها ستودع . . 

وعبدالعظيم يقيم فى هذا البيت بشارع شبين الكوم بحداتق القبة هو وزوجته وأولاده 
الخمسة وأخته الكبرى تفيدة وهى عانس فى الخنمسين» وكان والده فى الأصل من الدرب 





١‏ شيا ابد 


الأحمر ولكنه انتقل إلى حدائق القبة منذ أربعين عامًا وعبدالعظيم طفل فى الخامسة . 
وانقطعت الأسباب رويدا بين الدرب الأحمر وحدائق القبة فيما عدا زيارات الست نظيرة 
لهم من حين لآخرء وهى فى الحقيقة عمة أبيه لا عمته هو وفى الثمانين من عمرهاء 
عانس مثل تفيدة؛ تعيش وحيدة؛ وتملك بينا مكوثًا من أربعة أدوار» غرفت بغرابة 
الأطوار وحدة الطبع. واكتظ رأس عبدالعظيم بذكريات قديمة عما كان يدور فى بيته 
حول ثروة عمة أبيه» وانصهر ذلك كله لحد الاحتراق فى خياله بنهم رجل لم يمارس طيلة 
حياته أى نوع من أنواع الامتلاك . رجل طال به الأمد فى الدرجة الخامسة» وتقوس ظهره 
تحت أعباء الواجبات» ولم يورثه أبوه إلا عبئًا ثقيلاآ هو وأخته تفيدة. ودأبت الست نظيرة 
على زيارتهم حتى تجرأ يوما على أن يطلب منها قرضًا صغيرا فانقطعت عن زيارتهم . 
عجوز وبخيلة! تمتلك بينًا من أربعة أدوار إيراده الشهرى لا يقل عن عشرة جنيهات . 
لكنها وحيدة رغم أنها تعيش فى بيئة أهلها القديمة . ومقيمة فى حجرة وحيدة فوق سطح 
بيتها بين الدجاج والغسيل . ولا علاقة طيبة بأحد تؤنس وحشتها إذ ضربت حول نفسها 
سياجا من سوء الظن والتوجس . وتساءل الرجل وهو يرتدى ملابسه: ترى هل جاء 


الفرج أخيرا؟ ! 
وقالت تفيدة وهما يسيران جنبا إلى جنب فى شارع شبين الكوم : 
ستترك ثروة من غير شك . . 


سيعرف كل شىء عما قليل . . 
- والبيت أيضاء ترى هل يسهل علينا تحصيل الإيجار؟» إن أهل الأحياء البلدية قوم 
متعبون! 

فابتسم عبدالعظيم لعلمه بأنه من صميم هؤلاء القوم المتعبين» وقال: 

أراك تتحدثين عنها كما لو كانت قد ماتت. . 

فامتعضت تفيدة وتورد وجهها النحيل الشاحب العاطل من الجمال وغمغمت فيما 
يشبه الحياء : 

الأعمار بيد الله وحده. . 

ولما أخذا يشقان سبيلهما فى الدرب الأحمر طالعهما الحى القديم بوجه يغشاه البلى 
والذبول. بدا مكتظًا بالناس والحيوان والمركبات. وذكرت تفيدة صباها بقوة مؤثرة» 
ورجع عبدالعظيم إلى ملعب الطفولة فنطق كل شىء من حيوان وجماد بلغة القلب. 
وبدا البيبت طويلاً على غير المألوف فى الحى كله» وبرزت المشربيات كالأحلام» وتناثئرت 
أمام المدخل أكوام من الأتربة والحجارة على حين تمددت بجوار الجدار جثة قط على حال 
تعافها النفس . ورقيا فى السلم. وهو سلم عالى الدرجات» حتى لهث عبد العظيم» 
وعندما بلغ الدور الثالث قالت تفيدة : 


11100 





شااشر ا 
-هنا ولدناء أنت وأنا» وعلى هذه البسطة كانت تغنى الفلاحات «البحر زاد) فى 
موسم الفيضان. 
ووجد عبدالعظيم ذكرى أخرى فى الدرابزين الذى كان يتزحلق عليه فأوشك أن 

يحكيها لكن رغبته فى ذلك فترت فجأة فلم يخرج عن صمته . ووقفا عند عتبة السطح 
حتى يستردا أنفاسهما المبهورة. يا له من سطح غطى تماما بالأتربة وروث الدجاج وقطع 
الأحجار المتناثرة» وامتدت فى فراغه فوق ارتفاع القامة حبال الغسيل . وفى الناحية المطلة 
على الطريق قامت الحجرة الوحيدة» متسلخة الطلاء» باهتة الباب فطرقه ثم دفعه ودخل 
تتبعه أخته . هاله منظر النسوة المتلاصقات من شدة الزحمة» منهن الجالسات على كنبة 
ومقعدين قديمين» والباقيات افترشن الأرضء أما السرير ذو العمد السوداء والناموسية 
المربوطة من الوسط كالبالون فقد بدا بالراقدة عليه وحيد منعزلاً رغم الزحام. ولم يظهر 
من نظيرة إلا ثلثا وجهها الشاحب على حين أخفى الغطاء جسمها حتى الذقن» والمنديل 
البنى رأسها وجبينها حتى الحاجبين . والتقت الأبصار عند القادمين. حدجتهما باستطلاع 
واهتمام» وندت على رغم الحرص همسات . وسرعان ما أخلى المقعدان. واتجه 
عبدالعظيم وأخته نحو المقعدين وهو يرفع يده تحية ويتلقى فى نفس الوقت عشرات 
التخيات» وشعر بشىء من الاستعلاء لايد على أى ال شِينًا إذا قيس با شعرت به 
أخته . كان على علم تام بتأثير بذلته فى النسوة» وكذلك معطف أخته الذى دفع آخر 
قسط من ثمنه منذ أشهر قلائل . ولم يخفف من غلوائهما انتسابهما آخر الأمر إلى هذا 
الحى . غير أن ذلك كله لم يدم إلا ثوان» إذ ما كادا يستقران على المقعدين حتى تركز 
منهما البصر فى الراقدة فوق الفراش المنعزل. هذه هى العمة نظيرة . طالما عملت لهذا 
اليوم ألف حساب . وكان كلما خاطبها أحد فى شأن من شئون المال قالت بحدة: 
«سأموت قريبًا وترثوننى» وثمة انحراف فى جانب الفم يثير الجزع . واستطالة فى الذقن 
المديب مع هبوط ملحوظ فى اتجاه الفم الفارغ . أما العارض الذابل فما أشبهه بعارض 
أبيهما عند احتضاره . وعند ذاك تردد عن قلبيهما نفس كالرثاء مفعم بالشجن» مالت 
تفيدة نحو أقرب امرأة إليها وسألتها عما أصاب العمة فأجاب أكثر من صوت فى اختلاط 
وتسارق 7 السكينة كما كرينيا 01 #ولكو ريا قناذ وساي كر تج رجفا مر جتان 
كما ترين»» وهزت تفيدة رأسها كأنما ظفرت بالجواب المطلوب» يا لهؤلاء النسوة. ما 
أكثرهن . كأنهن يجلسن فى مسلك التنفس . ساكنات البيت أو من الجيران ولعل فيهن 
قريبات لهما. فى هذا الحى أقارب لهما يسمعان عنهم ولا يعرفانهم ما عدا الحاج 
مصطفى الذى يزورهما فى بعض ال مواسم وهو قريب لأمهما لا أبيهما. متى وكيف يمكن 
أن تخلو الحجرة من هذه القناطير من اللحم الآدمى ذى الرائحة المقلقة للأعصاب. 
وأجال عبدالعظيم عينيه فى الحجرة التى لا يذكر متى رآها آخر مرة ولا كم كان عمره 





ع شاات 


وقتها. الحق أنها حجرة واسعة. فستقية اللون» يتدلى من سقفها مصباح كبير آن له أن 
ينطفى» وتطل بنافذة على الطريق وبأخرى على السطحء وقد أغلقتا بإحكام اتقاء للبرد 
القارص» وغطيت ببساط باهت منجرد انحسرت أطرافه عن حصيرة مفروشة تحته» وثمة 
صوان قديم عكست مرآته الوجوه الكالحة» وصندوق مزركش الغطاء استكان تحت 
السرير» وترابيزة حملت بموقد كحولى وكنجة قهوة. لكن أين ختم العمة؟. . وأين 
نقودها؟. . أين نقودها بصفة خاصة؟ . . وإلا فمن أين له بنفقات الدفن والمأتم؟ . . 
وتطلع قليلا إلى صورة البسملة فى إطار فضى معلقة بالجدار المواجه للفراش» ثم عاد 
يتساءل ترى أين توجد نقودها؟. . وشعر بأن الحجرة رغم برودة الشتاء تفور بروائح 
المطبخ والعرق وصنان الأطفال. وانزعج انزعاجًا خاصا لتطلع الأنظار إليه؛ تكاد تمقضغه 
مضعًاء ولم تكن تخلو من إكبار ولكنه كان يعلم من ناحية أخحرى بأنه لا يملك حتى آخر 
الشهر سوى النقود اللازمة للسجائر والمواصلات . 


وتساءل : 
- ألم يكشف عليها طبيب؟ 
وقبل أن يتحرك لسان للإجابة فتح الباب وامتلاً فراغه بشخص جديد . كان ربعة» 


يرتدى معطفًا غليظًا فوق جلباب مقلم» ملفوف العنق بكوفية مغطى الرأس بطربوش 
طويل» وسرعان ما ارتطمت الأصوات وهى تحييه قائلة : 
أهلاً بالحاج مصطفى . 
رد الباب ودخل دون أن يرد تحية لكن ما إن وقع بصره على عبدالعظيم وتفيدة حتى 
تهلل وجهه وأقبل عليهما مصافحًا بحرارة وهو يقول: 
أهلاً وسهلاً» قضى ربنا ألا يرى بعضنا البعض إلا كل حين ومين. . 
ولما فرغ من المجاملات المعهودة تراجع إلى حافة الفراش وجلس عليها بتؤدة وحرص 
خشية أن يصيب الراقدة بأى اهتزاز. وآنس من وجه الأخ تطلعا إلى معرفة كل شىء عن 
العمة نظيرة فأنشأ يقول : 
كان الله فى عونهاء لآخر لحظة حافظت على نشاطها اليومى المعهود.ء وحتى هذا 
السلم المرتفع المخيف لم يكن ليحول بينها وبين الخروج كل يوم إلى السوق» وكم 
رجوتها أن تستعين على وحدتها بخادمة ولكنها. . على أى حال أنت تعرف كل 
شىء عن هذا ال موضوع. واليوم خرجت للتسوق كالعادة. قابلتها عند عم حسين 
البقال وتبادلنا الدعابات» ثم عادت تسير على مهل» ولما صعدت إلى الدور الرابع 
وقفت تحادث ست حميدة (وأشار إلى امرأة مكومة فى الركن) ثم مضت تصعد 
الدرجات الباقية» ولما بلغت باب السطح ند عنها أنين موجع. فهرعت إليها ست 


لهل طودطاتط/3: 06:. ةنوم عجان 


مه 





شياالتمء م 


لم أكن وحدى! كانت معى أم نرجس»ء وكانت ست خيرية فوق السطح تطعم 
الدجاج! 


ابتسم الحاج مصطفى ابتسامة غامضة وقال: 

هرعن إليهاء لكنها أبت أن تستسلم» أبت أن يسندها أحد» حاولت بجهد أن 

تتمرحلتهاوحدهاء وجعلت تقول: «لاشىء. . لاشىء). . وما لبثت أن 

سقطت بين أيديهن ! » وحملنها إلى حجرتها وأغنها على الفراش» ثم أرسلن فى 

استدعائى من القهوة» جئت مسرعاء ولما اطلعت على الحال عدت إلى الخارج ثم 

رجعت بصحبة طبيب حيناء رجل طيب عجوز لا كأطباء هذه الأيام»؛ وكشف عليها 

باهتمام كبير» استعمل السماعة وأجهزة أخرى. ثم مال على قائلاً: «النقطة». . 

ووعد بالحضور مرة أخرىء ولم يأخذ نظير هذا كله سوى خمسين قرشا! 

جعلت تفيدة تفكر فى مقاطعة ست حميدة وما ذكر الحاج من أتعاب الطبيب . أما 
عبدالعظيم فاستغرقه التفكير فى الحال التى سقطت بها العمة نظيرة. ما أشبهها بموت 
أبيه» وموت جده من قبل» ولعل حينه إذا ما حان أن يجىء على نفس الحال . يا لها من 
ميتة سريعة لا يدرى أحد عنها شيئًا . وثبت عينيه على الوجه الشاحب ذى الفم المنحرف 
وتساءل: ترى هل تتألم الآن؟» هل تود الاستغاثة فلا تستطيع» أو أنها غائبة عن الوجود 
كله؟ . . وهى امرأة فى الثمانين» كذلك مضى جده فى نفس السن» أما أبوه فمات فى 
الستين دون زيادة» وعلى ذلك فلا قاعدة هنالك يركن إليهاء والأمر لا يعدو أن يكون 
طيشا وعبثًا. وتمتمت تفيدة: 

يمكن ربنا يأخذ بيدها. . 

فرفع الحاج مصطفى حاجبيه الكثيفين بشكل غير عادى وقال: 

-ربنا قادر على كل شىء . . 

لكن نظرة عينيه أكدت ما ينقض قوله من أساسه . ولاذوا بالصمت مليا . 

وكاد الصمت يستقر بالحجرة كلها لولا كلمات ندت من امرأة أو أخرى بقصد المجاملة 
والمداهنة» وجميعها توجه نحو الراقدة» مثل «الله يأخذ بيدها» و«كانت طيبة وأميرة» 
و«وجودها بيننا خير وبركة»» فابتسم باطن عبد العظيم لسابق علمه بما بين عمته وبينهن 
من مشاحنات ونقار دائم» وكان الحاج مصطفى أعلم بذلك غير أنه كان أجرأ من قريبه 
فتساءل فجأة بصوت مرتفع : 

اليوم الثالث من الشهر فهل حصلت ست نظيرة إيجار الشقق؟ 

وقلب عينيه فى الوجوه الواجمة حتى ارتفع صوت قائلا : 





أنا أعطيتها الأجرة والله شهيد! 
وإذا بسيل من التوكيدات ينهمر . كل واحدة أكدت أنها دفعت الإيجار مستشهدة 
بزميلة أخرى أو بمناسبة لم يشهدها أحد» فقال عبد العظيم : 


طبعًا ممكن الإيصالات! 
فقالت امرأة: 


ومعلوم أيضا أنها لم تكن لتسكت عن متأخرة فى الدفع! 

فقال الحاج مصطفى منذرا : 

سأدعو على الكاذبة . 

فقال أكثر من صوت : 

- ادع » وبيننا وبينك ربنا. . 

وكان الشك قويًا ولكن لم يكن لدى أحد حيلة فرفع الحاج مصطفى يديه ناظرا إلى 
فوق وقال: 

أنت أعلم بكل شىء» حسبنا الله ونعم الوكيل . 

ثم نظر إليهن قائلا : 

والآن تفضلن مشكورات حتى ندبر أمورنا . 

ومضت الجالسات يقمن ويغادرن الحجرة» واحدة فى أثر أخرى» ختى ليبق إلا 
امرأتان على الكنبة» واحدة عجوز والأخرى شابة فى العشرين» فابتسم الحاج مصطفى 
وقال مخاطبًا عبد العظيم : 

أراهن على أنك لا تعرف هاتين السيدتين! » على أى حال هما قريبتاك» الست بنت 

أخت نظيرة» وهذه ابنتها . 

تبودلت نظرات باسمة فى فتور. وتوترت أعصاب عبد العظيم وتفيدة بقلق وعدم 
ارتياح» واندفعت تفيدة قائلة : 

-نريد أن نطمئن على أشياء عمتى ! 

فقال الحاج مصطفى : 

- لا أحد يدرى عنها شيئّاء ولكن يحسن بنا أن نفتش المكان . 

وقام ‏ والأعين تلاحقه ‏ إلى الصوان ففتحه ولكنه لم يجد به سوى بعض الفساتين 
البسيطة والثياب الداخلية . وعاد إلى السرير فأخرج الصندوق من تحنه وفتحه فوجد به 


لانت 





أوانى نحاسية وموقد غاز وأطباق وعلبة سمن وزجاجة زيت وكيس ملح»ء وسرعان ما 
أغلقه وأعاده إلى موضعه . . ونظر إلى تفيدة قائلا: 

يحسن بك يا ست تفيدة أن تفتشى صدرها . 

فجفلت تفيدة وهى تبادل أخاها نظرات الحرج ولكن الحاج مصطفى قال : 

ديا جماعة إنها مصابة بنقطة» يعنى الشلل» ألا تعرفان ما يعنيه هذا وبخاصة فى مثل 

سنها؟ ! 

فقالت تفيدة بإشفاق : 

الأعمار بيد الله» وريما أفاقت وعلمت با فعلنا. 

فقال الحاج مصطفى بعفوية عجيبة : 

أقطع ذراعى إن طلع عليها الصبح! 

ثم بلهجة المعتذر: 

يبح أن تتدير أمرنا: 

وقامت تفيدة فى شىء من التردد فمضت إلى الفراش» ثم أدخلت يدا مرتعشة إلى 
صدر عمتها وأخرجت ما وجدته» أحجبة وعلبة سجائر ولفافة غليظة» ثم أعادت الغطاء 
كما كان وعادت إلى مقعدها . وتناول الحاج مصطفى اللفافة وراح يفكها تحت الأعين 
المحملقة. وتمحض البحث عن كيس صغير وورقة مطوية» بسطها الحاج بعناية وإذا 
بالعجوز تصيح : 

دفتر توفير. . دفتر توفير وحياة ربنا فى سماه . 

فحدجتها تفيدة بغضب. ومضى ال حاج مصطفى يفر صفحات الدفتر حتى قال : 

إمانة ومسو يقن البريد.: 

فرددت العجوز: 

-ماكة وخمسون جنيها! . . ربنا كريم . . ربنا كريم ! . . 

فحدجتها الأعين بنظرات ساخطة حتى أطبقت شفتيهاء غير أن شعور عبدالعظيم 
بالارتياح كان أضعاف شعوره بالحنق على العجوز. وتحول الحاج مصطفى إلى الكيس 
الصغير فأفرغ ما فيه على الفراش فإذا فيه مبلغ سبعة قروش! . تبادلوا نظرات حائرة»؛ 
وهتفت تفيدة : 

سبعة قروش! . أين إذن إيجار البيت؟ ! 

فقالت العجوز: 


جئنا متأخرين للأسف. . 





04 شياالتم 


وقال عبد العظيم : 

- إما أن الإيجار لم يدفع وإما أنه سرق. . 

فهز الحاج مصطفى رأسه متأسفًا وهو يقول: 

آه من النسوان!. حسبنا الله لا حيلة لناء ومافات فات! 

فقالت تفيدة : 

ومن يدرى فلعلها كانت تملك أشياء أخر. 

لعلهاء كلام لا طائل تحته؛ حسبكم العمارة ونقود البريد. . 

فقال عبدالعظيم بقلق وبلهجة شفت عن مخاوفه : 

لكننا نحتاج إلى نفقات عاجلة. . 

فقال الحاج مصطفى بصراحته المعهودة : 

- نعم فللمأتم تكاليفه» لكن ربنا موجودء وأنا تحت أمركم! 

فاطمأن عبدالعظيم وأعرب عن شكره بابتسامة وغمغمة. وهمت العجوز أن تتكلم 
لكن الباب فتح ودخل رجل قصير نحيل ذو نظارة سميكة» وسن جاوزت الستين فقام 
الحاج مصطفى وهو يقول : 

أهلاً بالدكتور! 

واتجه الطبيب إلى الفراش فوضع عليه حقيبته» وراح يفحص الراقدة» وأزاح جفنها 
محملقا إلى عينيهاء وجس النبض.ء ثم أخرج من حقيبته السماعة وألصقها بالصدر فوق 
القلب. ثم استمع إلى دقاته» ثم أعادها إلى الحقيبة وأغلقهاء وبسط فوقها ورقة وكتب 
على عجل بعض الكلمات وهو يقول : 

هذه الحقن لازمة. . 

وألقى نظرة على الموجودين قائلا : 

السلم متعب! 

وابتسم ابتسامة لا معنى لها ثم حمل الحقيبة ومضى والحاج مصطفى فى أثره حتى 
غيبهما الباب . وما لبث الحاج أن رجع وهو يقول بلهجة ذات معنى : 

- قال لى نشترى الحقن حقنة فحقنة لا دفعة واحدة! 

ونظر فى عينى عبدالعظيم فأدرك هذا أنهم قد لا يحتاجون إلى ا حقنة الثانية! . . 

ومد بصره إلى الراقدة كأتما يلقى عليها نظرة الوداع . ومهما يكن من أمر فلا ينبغى 
لهذه الجلسة أن تطول فى هذا الجو البارد . يا لها من حجرة قامت فى خلاء يصفعها هواء 
الشتاء البارد فى كل جانب . وها هو الأصيل يغشى كل شىء» وزفيف الريح يشتد فى 


11100 








الخارج» والبرودة تسرى فى الأطراف . ومازال هذا الوجه الشاحب يذكره باحتضار أبيه 
فيثير أشجانه . وقرب هذه العجوز منه يؤلمه كأنه حجر مغروس فى جنبه . ومضى الوقت 
فى صمت ثقيل حتى فتح الباب وترامى صوت ينادى على الحاج مصطفى فهتف به هذا : 

ادخل يا عليش! 

فدخل قزم يحمل لفة ضخمة أكبر من حجمه فتناولها الحاج ثم وضعها على الفراش 
عند قدمى الراقدة» وذهب القزم ورد الباب وراءه دون أن ينبس أو يلتفت إلى أحد. 

وتلاقت الأبصار عند اللفة فقال الحاج مصطفى بصوت انخفض قليلاً عن درجته 
المألوفة : 

لا مؤاخذة. . هذا هو الكفن ولوازمه. . 

وعكست الأعين جفولاً كأنهم ينظرون إلى ثعبان فهز الحاج رأسه وقال: 

وحدوا الله» ما نحن إلا أموات أبناء أموات» وأنا أعلم من أول الأمر أن كل شىء 

سينتهى فى ساعات» وغرضى الكرامة والستر! 

لم يعقب أحد بكلمة فواصل الرجل حديثه بلهجة من يلقى بتعليمات نهائية : 

-رتبت كل شىء بروية» والأعمال بالنيات» فإذا قضى الله قضاءه سأحضر المغسلة» 

ثم نكفنها وندفنها ولو آخر النهارء أليس إكرام الميت دفنه؟ وأنت يا عبدالعظيم 

أفندى لا تحب وجع الدماغ ولا الكلام الفارغ , بعد ذلك نجىء بمقرئ فيقرأ سورتين 

هنا فى حجرتهاء ثم فيما بعد نتتحاسبء والدار أمان. . وهذا أكرم للمرحومة. . ! 

وانتبه من توه إلى أنها لم تصر بعد «مرحومة» فارتبك لحظة واحدة ثم صحح نفسه 
قائلا : 

لا مؤاخذة أعنى ست نظيرة» أستغفر الله العظيم . . 

ازداد عبدالعظيم اطمئنانا بهذا الكلام» فهو رجل لا خبرة له تذكر فى هذه الشئون 
فضلا عن كسله المكتسب من الروتين الحكومى الذى غرق فيه زهرة عمره» وتذكر فى 
ارتياح أن بعض النقود المتوفرة فى البريد تفى بالنفقات جميعا حتى مع إدخال المبالغات 
من ناحية الحاج مصطفى فى الحساب!» وهو رجل الحاج -لن يضيره تأجيل الحساب 
حتى تتم إجراءات إثبات الوراثة المعقدة. . واستقر الصمت مليًا فالتمسوا فيه شيئًا من 
الاستجمام. . واتجهت الأنظار صوب الراقدة» كأنما تسألها عن متى يشرعون فى العمل 
بعد أن تم الاتفاق على كل شىء . واشتد الإحساس بالبرد فلذلك تقرفصت العجوز 
ابتغاء الدفء» والتصقت بها ابنتهاء وإذا بالعجوز تخرق الصمت قائلة كأنها تخاطب 
ابنتها : 

-والله لك قسمة يا درية فى ميراث كبير على آخر الزمن . . 





00 وشا الت 


واشتعل انتباه عبدالعظيم وأخته بعنف . وعكست عيناهما حنقا كالوهج على حين هز 
الحاج رأسه فيما يشبه الأسف . وتساءلت تفيدة بحدة: 

من أين عرفت هذا؟ 

فقالت العجوز بعناد: 

.هى خالة أمى وكل شىء فى الورق! 

ولم تقنع العجوز بالكلام فقامت إلى النافذة المطلة على الطريق ففتحتها غير مبالية 
بالهواء البارد الذى اندفع إلى الداخل كالسياط» ثم نادت بصوت مرتفع : 

-يا شيخ عويس . . يا شيخ عويس . . 

وفتحت نافذة البيت المواجه لهم عن وجه كهل متلفع بعباءة مغطى الرأس بطاقية 
صوفية . نظر إليها وهو يتساءل: 

مالك يا ست نفيسة ! 

فقالت وهى تحبك الملاءة حول جسدها النحيل خوقًا من البرد: 

ربنا يكرمك» لا تؤاخذنى» لكنى فى حاجة إلى رأيك». إذا ماتت واحدة بلا ذرية ألا 

ترثها بنت بنت أختها؟ 

فدهش الرجل وقال: 

وهل هذه المسائل جما يحل من النوافذ» تعالى إلى المكتب» أو شرفى البيت. . 

وحياتك وحياة أولادك إلا ما أخبرتنى. . 

فتساءل الرجل : 

هل الست نظيرة لا سمح الله. .؟! 

وأشار بيده إشارة تعرب عن الانتهاء . لكنها قالت: 

- كلا يا سيدنا الشيخ» ولكنى أحب أن أعرف رأيك . . 

فتراجع الرجل إلى الداخل مقطبًا وهو يقول : 

يا ست نفيسة لكل شىء وقته. . 

ونهض الحاج مصطفى فأزاحها عن النافذة ثم أغلقها وهو يقول : 

-عودى إلى الكنبة ووحدى الله. . 

وتمتم عبدالعظيم وهو يكظم غيظه : 

البرد سيقتلنا والمريضة فى حالة خطيرة . . 

وقالت تفيدة فى صوت متهدج : 


11100 





وشا الت 1 


-لم يعد فى الدنيا ذوق. . 

فرجعت المرأة إلى مجلسها وهى تقول بجفاء وتحد: 

حيلك ياست ها إنها لا تعرف لها أهلاً غيرناء أما أنتم فلم تحضروا إلا عند الوفاة! 

وأشار الحاج إلى تفيدة متوسلاً أن تسكت وخاطب نفيسة قائلاً: 

-يا ست نفيسة ما معنى هذا كله!» هه» إن كان لك حق فما من قوة تمنعه عنك» أليس 

فى البلد محاكم وقوانين؟» وعبدالعظيم أفندى رجل موظف محترم» وكذلك 
الست أخته فلا لزوم للكلام الفارغ . . 

وهمت العجوز بالكلام ولكنه نهرها بحزم فأطبقت شفتيها وسكت كل شىء فلم يعد 
يسمع إلا عويل الريح فى الخارج ولغط بعض المارة فى الطريق» وأنفاس الحاج مصطفى 
المحشرجة . 

وشعر عبدالعظيم بهواء بارد يتسرب إلى قدميه قادمًا من عقب الباب فاتكمشت 
أصابعه فى الحذاءء وأخذ جو الحجرة بمرور الوقت يشحب ثم يغمق رويد موذنًا 
بالمغيب» وركبهم اليأس. حتى الحاج مصطفى أشعل المصباح وهو يقول: «مازال فى 
العمر بقية» وحتى إذا وافى الأجل اليوم فلابد من الانتظار إلى الغد». وتساءل 
عبدالعظيم : «هل قضى عليهم بالبقاء فى هذه الحجرة الكئيبة» وعلى مقربة من هذه 
العجوز الوقحة طيلة ليل الشتاء البارد؟»» ولم يعد مصطفى إلى مجلسه ولكنه زرر 
معطفه استعدادا للذهاب ثم قال: 

- لا لزوم لى الآن» أنا ذاهب إلى بيتى فاستدعونى إذا حصل شىء . 

ومضى تارك عبدالعظيم لمزيد من الكآبة والضيق . نظر إلى العمة بوجوم وكانت راقدة 
فى غير ما اكتراث لشىء فى الوجود. أى شىء فى الوجود. واشتد هبوب الريح حتى 
انقلبت زئيراً وتجسدت الكآبة كالجدران القاتمة. وشعر عبدالعظيم بحنان عارم إلى 
مجلسه فى البيت على كثب من الراديو بين زوجه وأولاده. إلى صخب الأولاد 
وشقاوتهم وتعلقهم العجيب به. وحملت الريح فيما حملت صونًا يغنى فى الراديو: 

ياامهالقمرعالباب 

فحاول أن ينسى فيه ألمه. ومر الوقت أثقل من الخوف . وجثم الليل وأفصحت طقطقة 
الكنبة والمقعدين على تململ الجالسين . وما لبث أن مال رأس العجوز إلى مسند الكنبة 
وراحت تشخر شخيراً ضاعف من البلوى» وتمتم عبدالعظيم : 

كيف يمكن أن يمضى هذا الليل الطويل؟ 

فقالت تفيدة بعطف : 

-ارجع إلى البيت. . 





0" وشساالتم 


باتعالن معى ... 

-هبها ماتت . . أثناء غيابناء فماذا يقول الناس؟ ! 

فأبى أن يذهب وحده. وبدا أن المريضة هى الوحيدة التى ترقد فى سلام» ومضى 
الليل بعدد ذرات رمال الدنياء واضطر الأخ وأخته إلى الانتقال إلى الكنبة التماسا لمجلس 
أطرى وتمهيد لنعاس متقطع متعب على مرمى أنفاس الموت المترددة . ولم يجد الرجل ما 
يتسلى به سوى التفكير فى الميراث المنتظر» فى نصيبه من مال البريد» ومن إيراد البيت 
الشهرى الذى لا يقل عن عشرة جنيهات. ألا يضمن على الأقل مقدار علاوتين 
شهريتين؟» لعله يتمكن من شراء معطف فما يجوز أن يلقى الشتاء كل عام بلا معطف فى 
مثل هذه السن» ولعله يستطيع أن يرفه عن أسرته بشىء من الفاكهة الممتازة من حين 
لآخرء أو بنوع من الطيور ولو مرة فى الشهرء لا شك أن الحياة ستكون أجمل مما كانت 
حتى الآن. وغلبه النوم وهو يناجى أحلامه . واستيقظ هو وأخته فى الصباح الباكر 
بجسدين متوعكين فى أكثر من موضع . واقتربت تفيدة من فراش العمة وانحنت فوقها 
متفحصة ثم عادت إلى أخيها وهى تقول : 

- ينبغى أن نذهب إلى البيت ولو لبضع ساعات. . 

فقالت ست نفيسة التى ظناها نائمة : 

تذهبان وترجعان بالسلامة . . 

فتلقت مجاملة العجوز كأنها بودرة عفريت رشت فى قفاهاء وذهبا معًا واجمين. 
وفى الطريق قال عبدالعظيم لأخته : 

-لى صديق محام سيحل لى ألغاز الميراث فى أقرب وقت. . 

.وعاد قبيل الظهر بقليل» وأرهفا السمع وهما يقتربان من البيت ولكنهما لم يسمعا 
شيئًا نما كانا يتوقعان . كل شىء هادئ فى البيت . والد جاج يتمشى فوق السطح فى غبطة 
ظاهرة ويميل برأسه إلى الوراء لينظر إلى القادمين. ووجدا فى الحجرة العجوز وابنتها 
والحاج مصطفى والفراش المنعزل الصامت حاملاً العمة المصابة وكفنها المكوم عند 
القدمين. سلما ثم اتخذا مجلسيهما على المقعدين كالأمس وهما يكابدان إحساسا بالخيبة 
وخوقًا من أن يتكرر عذاب الليلة الماضية . وخيل إليهما أن الحاج مصطفى هم بالكلام 
ولكنه عدل عنه . ماذا كان يريد أن يقول؟ لعله يشعر بما يشعر به أى سمسار انكشف 
حراح ا راك رجاه ريك الي على يردا لفحو لايم من اللتعاار ترق متم 
خشبى على كثب من كفن كفن . وكم من مشلول عاش دهرا طويلا! وربما وجيت عليهم 
خدمة المريض زمئّاء لايدري مداه أ حد. وقال الحاج مصطفى بلهجة ذات معنى : 


11100 





"١ _ شيااتر‎ 


نحن نشترى الحقن حقنة بعد حقنة ! 
ألا خيبة الله! . أنت وطبيبك نفسه! ولم يعلق عبدالعظيم لا بكلمة ولا بنظرة. وراح 
الحاج يقص القصص عن الشلل والمشلولين . جدكما مثلاً مات بمجرد إصابته . أبوكما لم 
يلبث إلا ساعات. وصاحب العمارة فى أول الطريق سقط فى القهوة ولفظ أنفاسه قبل 
أن يجد من ينقله إلى البيت . وعشرات غيرهم أى نعم عشرات . وما لبث أن قام قائلاً: 
استدعونى إذا جد جديد. . 
وغادر الحجرة». وعقب ذهابه مباشرة أقبلت مجموعة من الجارات فاستحسن 
عبدالعظيم أن يذهب أيضا . مضى إلى قهوة بالأزهرء ثم تناول غداءه عند العاجاتى وعاد 
إلى الحجرة فوجد الحال كما تركه . ولبث دقائق ثم مضى مرة أخرى إلى القهوة فبقى بها 
حتى المساء فعاد إلى الحجرة بأمل جديد ولكنه وجد الحال كما تركه. وقالت له تفيدة 
بحزم : 
-لن تستطيع المبيت هنا ليلة أخرى» ارجع إلى البيت وسأبقى أنا. . 
غمغم بشىء لم يتبينه أحد ثم ذهب . رجع إلى أسرتهء واطمأن فى مجلسه أمام 
الراديو بين الأولادء وتأرجح قلبه بين الطرب وبين عواطف الأبوة الأصيلة العميقة التى 
يلهمها كل ولد بطريقته الخاصة . وعمقت تجربة الليلة الماضية من مسرته بالمجلس كأغا هو 
عائد إليه من مرض أو سجن . وسألته زوجته : 
أليس من الواجب أن أذهب معك غدًا؟ 
فقال بجد: 
لاداعى لذهابك مطلقًا! 
ومضى مع الصباح إلى الدرب الأحمر»ء وكان كل شىء كما توقع» يجرى على 
مألوفه» وضحك الحاج مصطفى ضحكة فاترة وقال وهو يشير إلى العمة: 
كعادتها دائماء ربنا يلطف بهاء كانت رغم كل شىء ظريفة! 
ثم قص عليهم كيف أنها رغبت أخيرا فى إجراء بعض الإصلاحات فى دورة المياه 
فكلفته بالقيام باللازم» وكيف واظبت على مراجعة حسابه قبل الإذن بالشروع فى العمل 
الذى لم يتم» وكيف لم تخف سوء ظنها بكل رقم» ثم كيف قالت بكل بساطة: (يا 
مصطفىء أنت كلك ضلال كال مرحومة أمك». وضحك الرجل ضحكة عالية لكنه اضطر 
إلى قطعها على صوت تفيدة وهى تهتف : 
-انظروا. . 
اتبهت الأنظار نحو العمة فرأوا الغطاء وكأنه يتحرك؛» يقب قليلاً فوق يدها اليسرى . 
اقترب الحاج مصطفى من الفراش وأزاح الغطاء قليلاً فيدت يسراها وهى تتحرك . 





1 وشياالتم 


ارتفعت قليلاً» وانبسطت راحتها ثم انقبضت,» ثم استكنت فوق الصدرء حملق الرجل 
فى الراقدة بذهول. ثم أعاد الغطاء إلى سابق وضعه وعاد إلى مجلسه . وتوتر الصمت 
كالشلل . ترى أى قوة خفية تعبث بهم وتعذبهم؟!. ألم تكن الحياة محتملة رغم كافة 
متاعبها؟ . . ماذا رمى بهما إلى هذه التجربة؟ . . وقالت تفيدة بحدة: 

ضعوا الكفن تحت السرير. 

فرفع الحاج حاجبيه الكثيفين فى حيرة ولم ينبس ولم يتحرك» فعادت تفيدة تقول: 

-رأسى سيتكسر من قلة النوم . 

فنظر عبد العظيم نحو الحاج وقال : 

لنذهب الآن ثم نعود عصرا . 

وشجعهما الحاج بهزة من رأسه فغادر الحجرة على الفور» وقالت تفيدة وهما يقطعان 
الغورية: 

-هذا حرام من أوله إلى آخره. والله يعاقبنا. 

قال عبد العظيم بعصبية : 

ماذا فعلنا؟ . . البغل وحده الذى أكد أول يوم أنها ستدفن قبل هبوط الليل . 

الحق أنى كرهت كل شىء» كرهت نفسى يا أخى . 

لا اعتراض على مشيئة الله . 

ثم بلهجة متطورة إلى الهدوء وكانا يقتربان من شارع الأزهر: 

اذهبى إلى البيت وسأذهب إلى المصلحة . 

وقمافى المحطة ينتظران الترام. وحانت من عبد العظيم نظرة نحو مدخل الغورية 
فرأى الحاج مصطفى يهرول نحوهما. وقف أمامهما وهو يلهث ثم قال: 

الحمد لله على أن أدركتك قبل أن تركب . 

ثم مواصلاً كلامه بعد لحظات استراحة : 

- البقية فى حياتك . . 

ألحمت الدهشة لسانيهماء وتدفق إلى نفسهما خليط من المشاعر» الخنوف والحزن 
والارتياح والخجل . ورجعوا جميعاء وتفيدة تتساءل: 

ظئنت أنها. . رباه. . كيف حدث هذ!ا؟ 

فقال الحاج مصطفى وكان لا يزال يلهث : 

كما يحدث عادة» لاغريب فى الأمرء سعلت قليلاً» وبدا أنها تحاول أن تتكلم» ثم 

شهقت شهقة خفيفة» وخرج السر الإلهى . 


00000111 001 





وشا الل 1" 

وترامى إليهم من ناحية البيت صوات جماعى! . . وقع فى نفوسهم موقعًا غريبًا 
ولكنه أحدث تأثيرا غير منتظر فيجاش صدر عبد العظيم بالانفعال وأجهشت تفيدة فى 
البكاء. وعندما اقتربت من السطح ولولت صائحة: (يا عينى يا عمتى. . يا عينى يا 
عمتى!). 

وجرى كل شىء كما رتب الحاج مصطفى من قبل فخرجت الجنازة قبل الظهر» وسار 
فيها جمع غفير من أهل الحى سواء للمجاملة أم ابتغاء الثواب . وتراءى الشيخ عويس 
المحامى وهو يسير بين المشيعين فشق الحاج مصطفى سبيله إليه ولزمه حتى صلى على 
الفقيدة فى الجامع . ولما استأنفت الجنازة سيرها إلى باب النصر بالبقية القليلة من المشيعين 
عاد الحاج إلى جانب عبد العظيم شلبى ولكزه بكوعه قائلاً فى همس : 

-لن يشارككما أحد. 

فسأله عبد العظيم بلهفة : 

-أقال ذلك؟ 

تقريبًاء المسألة تحتاج إلى مراجعة طبعًا ولكن اطمئن! 

فدارى عبد العظيم فرحته بقناع من الجد وتمتم : 

نحن راضون بما قسم الله به . 

وانتهت الجنازة إلى المدفن القديم» فأنزل النعش على كثب من القبر وجلس المشيعون 
فى الحوش غير المسقوف على كراسى من الخيزران. ومضى عبد العظيم إلى القبر المفتوح 
ووقف عند رأسه مذعنًا لرغبة غامضة أقوى من الخوف الذى لم يصده.ء كان القبر ذا 
منامتين» واحدة للرجال والآخرى للنساء فأرسل طرفه الحائر نحو منامة الرجال. رآهم 
صما متراميًا إلى الداخل» على رأسهم أبوه الذى استدل عليه بموضعه وبلون كفنه 
الكمونى المقلم» تلاه أخوه» ثم جده. وثقل قلبه جداء وضغط الانقباض على أضلعه 
ضغطًا غير محتمل . لكن عينيه تحجرتا فلم تذرفا دمعة واحدة. وامتلأت خياشيمه 
برائحة ترابية نافذة كأما تصدر عن الفناء نفسه. ومرت لحظة مات فيها كل شىء فلم يعد 
لأمر قيمة ولا معنى . وشعر بيد توضع على كتفه فالتفت فرأى الحاج وهو يشير إليه أن 
يتخلى عن مكانه للدافنين» وسرعان ما تراجع . وبدأ العمل فحمل الجثمان ليودع مقره 
الأخير . وانبعثت آيات من صوت كتيب كأما تنبعث من خزانة للأحزان. وبدأ التلقين فى 
رتابة مخوفة مضجرة» ألقته حناجر أشباح شائهة» فحلت به جملة ألغاز الأبد. وقال عبد 
العظيم لنفسه: يا لها من أسئلة ولكن كيف يتاح الجواب لمنفرد بظلمة القبر! . . وتتابعت 
الأصوات فى رتابتها تنفث كاآبة كالغبار» وفى الحوش تردد صوت السقاء البائس وهو 
يجول بين الجالسين بإبريقه دون أمل . وطار فكر عبد العظيم فجأة إلى ابنه البكرى فعاهد 





5 وشيااتر 


الله على أن يجرى له جراحة لاست ئصال اللوزتين كما نصح بذلك طبيب الوحدة 
المدرسية» فهذا خير على أى حال من أن يتهدده روماتيزم القلب فيما بعد وعاهد ربه 
أيضا على الإقلاع ما أمكن عن المواد الدهنية كما أشار عليه الطبيب منذ عام بغض النظر 
عن الشروة المنتظرة . وتلاحقت الأصوات فى سرعة موحية بنهاية الحفل فحن قلبه إلى 
البيت والأولاد بقوة وجد فيها العزاء عما ساوره من قلق . وتابع الحاج مصطفى وهو 
يساوم الترابى وينفح السقاء بشىء من الجودء وكذلك المقرئين» وارتفع صوته الجهير وهو 
يزجر الطامعين بغلظة . وآمن بأن ذلك الرجل سيخرج من المولد بغنيمة طيبة ولكنه كان 
مقتنعًا كذلك بأنه لولا خدماته لغرق فى الارتباك والخسران حتى أذنيه» ومضى المشيعون 
ينصرفون حتى لم يبق إلا الحاج مصطفى وعبد العظيم» وكانت الشمس تسطع فى سماء 
خلت تقريبًا من السحب فبثت فى الجو دفثًا مليحًا فدعا الحاج مصطفى صاحبه إلى 
الجلوس على دكة عند طرف المدفن ليستريحا قليلاً. وتردد عبد العظيم فى قبول الدعوة 
مقلبًا عينيه فى الخلاء المكتظ بالقبور إلى ما لا نهاية أمام الدكة وفيما حولها ولكن الحاج 
تعلق بذراعه وقال متوسلا: 
-لم أجلس منذ الصباح ولا ثانية» دقائق معدودات ثم نذهب . 
وجلس الحاج فجلس عبد العظيم وهو كاره» بدا كأنه يعجب من كثرة القبور حوله 
فأراد الآخر أن ينتزعه من كآبة المنظر فقال: 
-غلبنى التعب المتراكم» وأمامنا مشوار ليس بالقصير». وأنت رجل ظريف تستحب 
معاشرته» بالله خبرنى ماذا نويت أن تفعل . 
فتساءل عبد العظيم بدوره: 
فبت؟ 
فلوح الآخر كأنما يشير إلى القبور وقال: 
-فى كل شىءء أعنى الأمور الجديدة التى تتطلب أسرع الحلول» طبعًا عليك أن تشرع 
فور فى إجراءات إثبات الوراثة. وقبل ذلك علينا أن نستشير المحامى بصفة رسمية» 
بعد ذلك تصبح أنت والست أختك المالكين ‏ وحدكما إن شاء الله للبيت ونقود 
البريد. 
فهز عبد العظيم رأسه بالإيجاب ولكنه حسب للمجهود ألف حساب . 
وقرب الآخر فمه من أذنه كأئما يخشى أن يسمعه من فى القبور وقال: 
الحق أن المتاعب ستبدأ بعد ذلك . 
المتاعب قبل ذلك . 
أتظن هذا؟!» ماذا تعرف عن مهمة أصحاب البيوت؟ 


111 00 





وشا التد 01 


فقال عبد العظيم بقلق : 

-لا أدرى» هل ثمة شىء خلاف تحصيل الإيجار فى أول الشهر؟ 

وكيف يحصل الإيجار فى أول الشهر؟ 

فابتسم عبد العظيم فى حيرة دون أن ينبس » فقال الحاج : 

واحد يدفع وعشرة يتهربون» هذا يجب أن تمهله أسبوعاء وذلك وقعت له مصيبة 
ويطلب التأجيل إلى الشهر القادم» وثالث لن تجده فى مسكنه أبداء ورابع وخامس» 
أنت لا تعرف أهل حينا ولا سكان هذا البيت بصفة خاصة. الله يرحم عمتك» كانت 
مجاهدة عظيمة؛ ولكن أنتء الموظف المحترم» المؤدب المهذب». ماذا تستطيع أن 
تفعل؟ 

فقال عبد العظيم وهو يشعر بأن جدارا يرتفع أمامه ليخفى عن عينيه أحلامه العسلية : 


- فى البلد قانون . 

إذن فلتلزم نقطة البوليس ولتسكن فى مكتب محام . 
- الدنيا ما تزال بخير. 

فقال الآخر بتوكيد: 


-البيت كالعروس الجديدة» مرة ترجع إليك لأن زوجها ضربهاء ومرة لآن حماتها 
شتمتهاء ومرة لأن المصروف غير كاف» صدقنى أن هذا هو حال البيت» الحنفيات 
خربت» دورة المياه انسدت» السلم تشقق» وهذا هو وجع الدماغ الأصلى . 

تجهم وجه عبد العظيم وشعر بضيق شديد» ورمق صاحبه بنظرة استياء ثم سأله : 

ماذا تقصد؟ 

فقال الحاج بصراحة مذهلة : 

دبعة! 

فقطب عبد العظيم مستنكرا ولكن الآخر قال: 

- أنا رجل صريح» لا أخفى عنك أن البيع مفيد لى» كل بيع أو شراء فى حيّنا مفيد 
لى» ولكن هذه الصفقة مفيدة أكثر لك أنت» هذا هو المهم» أنا لا أكذب عليك 
فأقول إنى أراعى مصلحتك. الحق إنى أجرى وراء مصلحتى» ولكنها فى هذه الحال 
مصلحتك أيضاء ستأخذ ألفًا أو ألفًا وخمسمائة» إن شاء الله ألفين» وستستغلهما 
استغلالاً أحسن وبعيدا عن وجع الدماغ . 

فكر عبد العظيم فى الأمر باهتمام جدى, لكنه تمتم متظاهرا بالجزع : 

يا لها من خسارة! 





14 وشياالتر 


أبدا وحياتك! » سيكون المبلغ بين يديك, بما فيه نصيب أختك» لن تجد معارضة من 
ناحيتها أبداء فيمكن أن تستغله باسمك وباسمهاء وهى وحيدة» لا أحد لها فى 
الدنيا سواك» وسيؤول كل المال إليك وإلى أولادك من بعدك! 
فقال عبد العظيم : 
سيكون حقها كله تحت تصرفها . 
طبعًا. . طبعاء أنت لا تفهمنى يا سى عبد العظيم! 
وأخفى عبد العظيم عينيه عن صاحبه وعن القبور بالنظر إلى الأرض . مبلغ كبير بلا 
شك . وطالما أكرم تفيدة فهى لن تعارضه ولن تحاسبه . وأولاده ماهم إلا أولادها. وثمة 
وجوه كثيرة للاستغلال بلا شك. الحق أن الفكرة طيبة. وغمغم فى حذر: 
سأفكر فى الأمر. . 
فقال الحاج مصطفى بارتياح : 
فكر على مهلك» وإذا قررت البيع فأحضر بنفسك أى سمسار كما تشاء حتى تقبل 
عن رضى الشمن المعروض ولك على بعد ذلك أن أجد لها شاريًا بنفس الشمن» 
والأقربون أولى بالمعروف! 
الفكرة وجيهة». وسوف يشاور أصدقاءه. والبيع على أى حال خير من مناكفة 
المستأجرين» ورعاية بيت قديم من عهد نوح» وقال: 
اتفقنا يا حاج من ناحية المبدأ . . 
فلوح الحاج مصطفى بذراعه كأنما يقول «اتفقنا» فانطلقت ذراعه فى الهواء كشاهد 
من آلاف الشواهد القائمة حوله فوق القبور»ء ورأى عبد العظيم ذلك المنظر فانقبض 
صدره. . وقام وهو يقول برجاء. 
آن لنا أن نذهب . 


الجامع فى الدرب 


حان موعد درس العصر ولكن لم يوجد بالجامع إلا مستمع واحد. ولم يكن هذا 
بالأمر الجديد على الشيخ عبد ربه الإمام» فمنذ التحاقه بخدمة الجامع وهو لا يجد 
مستمعًا لدرسه إلاعم حسنين بياع عصير القصب» ولذلك دأب المؤذن والخادم على 
الانضمام إلى الرجل احترامًا للدرس ومجاملة للإمام. وحق للشيخ عبد ربه أن يستاء 
لذلك, لكنه كان اعتاده مع الزمن. ولعله كان يتوقع ما هو أفظع يوم تقرر نقله إلى هذا 


1110 





ويا التد 1 


الجامع الرابض على باب الفساد» يومذاك غضبء وسعى إلى إلغاء النقل أو تعديله. 
ولكنه اضطر إلى تنفيذه على رغمه» ولاقى بسبب ذلك ما لاقى من تهكم المخصوم. 
درب الفساد الشهيرء ودرب آخر بمثابة مباءة للقوادين والبرمجية وموزعى المخدرات» 
ويبدو أنه لا يوجد رجل صالح أو حتى رجل عادى فى الحى كله إلا عم حسنين بياع 
العصير. ولبث دهرا يفزع كلما امتد بصره إلى داخل هذا الدرب أو ذاك» وكأنما كان 
يخشى إذا تنفس أن تتسرب إلى صدره جراثيم الدعارة والجريمة . على ذلك كله واظب 
على إلقاء درسه مواظبة عم حسنين على الحضورء حتى قال للرجل يومًا بلهجة 


اله 


- بهذا الاجتهاد ستصير عما قريب إمامًا يرجع إليه! 

فابتسم العجوز فى حياء وقال: 

-علم الله لا حدود له. . 

وكان درس اليوم عن نقاء السريرة بصفته عماد الإخلاص وأس المعاملة الشريفة بين 
المرء ونفسه وبينه وبين الناس إلى أنه خير ما يستقبل به الإنسان يومه؛ وأصغى عم حسنين 
بانتباه كعادته » وكان قليل السؤال إلا أن يكون ذلك عن معنى آية أو استيضاح لشأن من 
شئون الفرائض . وفى ذلك الوقت من اليوم ‏ العصريستهل الدرب حياته» كان الدرب 
يرى بكامله من نافذة الجامع القبلية» ضيقًا متعرجا فى بعض أجزائه طويلاً تقوم على 
جانبيه أبواب البيوت البالية والمقاهى» ولمنظره وقع غريب مثير للغرائز. فى العصر تدب 
فى الدرب حركة استعداد كأنه يتمطى مستيقظًا من سبات. الأرض ترش بالجرادل . 
الأبواب تفتح وتطرق طرقات غريبة» المقاعد تننظم فى القهوات . نسوة فى النوافذ يتزين 
ويتبادلن الأحاديث . ضحكات متهتكة تلعلع فى الجو. والبخور يحترق فى الدهاليز. 
ولم يخل الأمر من امرأة تبكى فتحثها المعلمة على التعزى كيلا يضيع الرزق كما ضاع 
الفقيد» وأخرى تضحك ضحكة هستيرية لأنها لم تنس بعد مصرع زميلتها وهى قاعدة 
إلى جانبها. وقال صوت غليظ مستنكرا : 

حتى الخنواجات!» حتى الخواجات يا هوه!» خواجا يضحك على فردوس! » يبتز 

منها مائة جنيه ويهجرها! . 

وثمة أصوات تتمرن على أداء أغنيات مبتذلة فاحشة» وفى نهاية الدرب بدأت معركة 
بالكلام وانتهت بالكراسى» ثم خرجت لبلبة لتجلس أمام باب أول بيت» وأشعل أول 
فانوس» وشعر كل بأن الدرب عما قليل سيستقبل ا حياة . . 

وذات يوم دعى الشيخ عبد ربه بإشارة تليفونية إلى مقابلة المراقب العام للشئون 





ا" وشا التد 


الدينية. وقيل له إنها دعوة عامة للأئمة؛ ولم يكن ذلك بالأمر غير المألوف وخاصة 
للظروف التى سبقت الدعوة. ومع ذلك تساءل الرجل عما وراء الدعوة بشىء من 
القلق. كيف لا والمراقب شخصية خطيرة» تستمد خطورتها من قرابة لموظف كبير ملعون 
الاسم على كل لسان» موظف يجىء بالوزراء ويذهب بهم» ويعبث بكافة المقدسات 
الشعبية . سيكونون بين يديه خير مثلين للضياع وستذروهم رياح الغضب لأقل هفوة. 
وبسمل الشيخ» وتأهب للاجتماع بخير ما لديه؛ فارتدى جبة سوداء وقفطانًا شبه جديد 
وقلوظ العمامة ثم ذهب متوكلاً على الله. وجد الطرقة أمام مكتب المراقب شديدة 
الزحام كأنها على حد تعبيره يوم الحشر . وجعل الأئمة يتبادلون الخواطر ويتساءلون عما 
وراء الاجتماع من أمور. ففتح الباب الكبير وأذن لهم بالدخول فدخلوا تباعا إلى الحجرة 
الواسعة حتى اكتظت بهم . واستقبلهم المراقب بوجه وقور يشع رهبة» استمع كالكاره 
إلى مقطوعات المديح التى انهالت عليه وهو يدارى ابتسامة غامضة؛ ثم ساد الصمت 
واشتد التطلع على حين أخذ هو يقلب عينيه فى الوجوه. وحياهم تحية مقتضبة . وأعلن 
ثقته فى أنهم سيكونون عند حسن الظن بهم . وأشار إلى الصورة المعلقة فوق رأسه وقال: 

واجبنا نحوه ونحو أسرته العلية هو ما دعا إلى هذا الاجتماع . . 

انقبضت صدور كثيرة دون أن يزايل البشر وجوه أصحابها. وقال المراقب : 

- إن العلاقة الوطيدة التى تربطكم به فوق الكلام» إنها مودة تاريخية متبادلة. . 

أشرقت الوجوه بالتأييد لتدارى توعك القلوب؛. وواصل الرجل الحديث قائلاً: 

وحيال الأزمة التى تجتاح البلاد يطالبكم الإخلاص بالعمل . . 


اشتد اضطراب القلوب فى مسرحها الخنفى : 
بصروا الشعب بالحقائق! » اهتكوا أستار الدجالين ومثيرى الشغب» كى يستقر الأمر 
لصاحب الأمر. . 


وصال المراقب وجال مستنفد] هذه المعانى» ثم تساءل وهو يتفحص الوجوه إن كان 
ثمة ملاحظات يراد أن تقال! . غشى المكان الصمت حتى انبرى إمام جرىء فأكد أن 
المراقب أفصح عن مكنون القلوب وأنه لولا المخوف من حرق التعليمات لسارعوا من 
أنفسهم إلى ما دعاهم إليه من واجب! وانجاب القلق عن الشيخ عبدربه مذ بدأ المراقب 
حديثه . أدرك لتوه أنهم لم يدعوا لأى نوع من المحاسبة أو التحقيق» بل إن السلطة تسعى 
إليهم هذه المرة باسطة يدهاء ومن يدرى فلعله يعقب ذلك إجراء جدى لتحسين حالهم 
فيما يتعلق بالمرتبات والمعاشات. غير أنه سرعان ما ارتد إلى القلق كما ترتد الموجة 
المنبسطة على الساحل الرملى الصافى إلى الزبد. أدرك بوضوح ما يراد بهم وما سوف 
يجد نفسه مضطراً إلى قوله فى خطبة الجمعة ما يأباه ضميره ويمقته الناس . ولم يشك فى 


1110 





وشيا الت 7١‏ 


أن الكثير يشاركونه مشاعره ويعانون أزمته» ولكن السبيل فيما يبدو مسدود فى وجوه 
الجميع . وعاد إلى الجامع وهو يعمل فكره فى همومه الجديدة . 

وكان شلضم البرمجى المعروف بالحى مجتمعًا بأعوانه فى خمارة «أهلاً وسهلاً» على 
مبعدة أمتار من الجامع . بدا غاضبًا كالنار وكلما شرب قدحا من النبيذ الأسود ازدادت 
النار اشتعالا. وقال بصوت كالخوار: 

- البنت نبوية المجنونة تحب الولد الرقيع حسانء لا شك عندى فى ذلك . . فقال له 

صاحب يبغى تهدثته : 

-لعله زبون» مجرد زبون لا أكثر ولا أقل. . 

فدق شلضم الترابيزة بقبضة من حديد تناثر لها التترمس والفول السودانى وقال 
بوحشية : 
الآ السياسة ولا عط : أعرف ذلك كما أعرف أن طعنة خنجرى قاتلة. وهو لا 

يدفع مليمًا واحدا بينما يتلقى الهدايا أشكالاً وأنواعا! 

فأعلنت الوجوه التقزز والازدراء» وأفصحت الأعين المخمورة عن التأهب والامتثال 
فقال: 

الرقيع يجىء عادة حينما ترقص الأفعى., انتظروا مجيئه» ثم اشتبكوا فى معركة. 

وعلى الباقى. . 

وجرعوا الأقداح وأعينهم تعكس شر النوايا. . 


وعقب صلاة العشاء زار الشيخ عبد ربه إمامان من زملاء الدراسة يدعى أحدهما 
خالد والآخر مبارك. جلسا إلى جانبه متجهمين» وأخبراه بأن بعض الأئمة قد فصلوا من 
وظائفهم لامتناعهم عن الاشتراك فى الحملة المدبرة» وقال خالد متذمراً : 

-لم تخلق دور العبادة للمهاترات السياسية وتأييد الطغاة! 

فشعر عبد ربه بأن حديث صاحبه ينكأ جرحه وتساءل : 

أتريد أن تنضور جوعا؟ 

فساد صمت ثقيل» وأبى الشيخ أن يعلن هزيته فتظاهر بأنه سيعمل عن اقتناع ليحافظ 
على كرامته أمامهما فقال: 

ما يظنه البعض مهاترات قد يكون هو الحق بعينه. . 





للف وشا اندر 


ودهش خالد لانقلاب الشيخ فزهد فى المناقشة» أما مبارك فقال باندفاع مأثور 
عنه : 

سنقتل مبدأ إسلاميًا هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. . 

فغضب عبد ربه عليه كما يغضب ضميره الذى يعذبه وقال: 

- بل سنحيى مبدأ إسلاميًا هو الدعوة إلى طاعة الله ورسوله وأولى الأمر. . 

فتساءل ميارك فى استنكار شديد : 

أهؤلاء من تعدهم أولى الأمر؟! 

فتحداه عبد ربه متسائلا : 

خبرنى هل تمتنع عن إلقاء الخطبة؟ 

قام مبارك متسخطً ثم غادر المكان وما لبث أن غادره خالد. ولعنهما الشيخ كما يلعن 
نفسه الثائرة . . 


ا د 


وقبيل منتصف الليل امتلأ حوش البيت السابع إلى اليمين بالسكارى. جلسوا على 
مقاعد خشبية متحلقين دائرة من الأرض الرملية سلط عليها ضوء كلوب. وانسابت فى 
جنباتها نبوية وهى ترقص فى قميص نوم وردى. وتلعب فى يمناها نبونًا مكتسيًا بخيط 
حلزونى مرصع بالورد. وصفقت الأكف على الواحدة» وتصاعدت من الأفواه المخمورة 
تأوهات بهيمية . واندس البرمجية فى الأركان يتربصون على حين لبد شلضم فى بثر 
السلم مركز العينين على مدخل البيت» وإذا بحسان يدخل مصفف الشعر متألق الثغر» 
فالتهمته نظرات شلضم النارية. وقف حسان ينظر إلى نبوية حتي انتبهت إليه فحيته 
بابتسامة عريضة وحركة لعوب من بطنها الراقص وغمزة عين . 

عند ذاك تسلطن حسان فمضى إلى مقعد خال وجلسء وغلى الدم فى عروق شلضم 
حتى تقلصت أطرافه ثم أطلق صفيرا خفيفاء» وفى ا حال اشتبك اثنان من أعوانه فى معركة 
مفتعلة . وتداخل الآخرون فاشتدت المعركة وترامت حتى قام السكارى مذهولين وأخذوا 
يتدافعون نحو الباب. وطار مقعد نحو الفانوس فهشمه فانقض الظلام على المكان 
كالكابوس» واختلط الصراخ بوقع الأقدام وارتفع الصوت وفى غمار الزوبعة الدائرة فى 
الظلمة شق الضجيج صراخ امرأة وما لبثت أن أعقبها على الأثر تأوهات رجل من 
الأعماق. وسرعان ما خلا الحوش الراكد تحت مثار الغبار إلا من جثتين مطروحتين فى 
الظلمة الصامتة. 

وكان اليوم التالى هو الجمعة. ولما حان وقت الصلاة ازدحم الجامع بالمصلين على غير 


1110 





وشيياالتم ف 


المألوف كل يوم» إذ إن صلاة الجمعة تجذب إليه أناسًا من الأطراف البعيدة كالخازندار 
والعتبة» وتلى القرآن ثم وقف الشيخ عبد ربه لإلقاء الخطبة . وبدا أن المصلين فوجئوا 
بالخطبة السياسية مفاجأة لم تخطر على بال. تلقت آذانهم متململة الجمل المسجوعة عن 
الطاعة وواجب الولاء بارتياب وحنق. وما أن حملت الخطبة على الذين يغررون 
بالشعب ويدعونه إلى التمرد خدمة لمصالحهم الشخصية حتى سرت فى المسجد همهمة» 
وأصوات احتجاج وسخط.ء واعترض البعض بأصوات مرتفعة» وسب آخرون الإمام!» 
عند ذاك انقض المخبرون المندسون بين المصلين على غلاة المعارضين وساقوهم إلى الخارج 

وغادر المسجد كثيرون. ولكن الإمام دعا الباقين إلى الصلاة» وكانت صلاة حزينة 
تعلوها الكأبة. . 


لاد 
2 2 


فى أثناء ذلك كانت حجرة بالبيت الثانى على اليسار من الدرب تضم سمارة وزبونًا 
جديداء جلست سمارة على حافة السرير نصف عارية» وتناولت خيارة من قدح مملوء 
إلى نصفه بالماء وراحت تأكلها. وعلى كرسى أمام الفراش جلس الزبون خالعًا جاكتته 
وهو يجرع الكونياك من الزجاجة. جالت عيناه فى الحجرة العارية بنظرة غائبة حتى 
استقرت على سمارة فأدنى الزجاجة من فيها فتناولت شربة ثم أعادهاء وقرعت التلاوة 
الآتية من الجامع أذنيه» فارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة لا تكاد ترى» ونظر إلى 
الأرض» وتمتم فى امتعاض . 

-لماذا يبنون جامعا فى هذا المكان. . هل ضاقت بهم الدنيا؟ 

فقالت سمارة دون أن تتوقف عن قضم الخيارة : 

هذا المكان من الدنيا مثل بقية الأماكن. . 

فجرع مقدار كأسين» وأحد بصره وهو يتفحص وجهها وقال: 

ألا تخافين الله؟ 

-ربنا يتوب علينا . . 

فضحك ضحكة مسترخية» وتناول خيارة فدسها فى فيه . وفى تلك اللحظة كان عبد 
ربه يلقى خطبته فمضى يتابعه برأس متأرجحء ثم ابتسم ساخراً وهو يقول: 

المنافق! . . اسمعى ما يقول المنافق! 

وجالت عيناه فى الحجرة حتى استقرتا على صورة لسعد زغلول قد بهتت من القدم. 
فتساءل وهو يشير إليها : 





ع وشا انتم 


هل تعرفين هذا؟ 

-ومن لا يعرفه؟ 

فأفرغ بقية الزجاجة فى جوفه وقال بلسان ثقيل : 
سمارة وطنية وشيخ منافق! 


فقالت متنهدة : 

-يا بخته!ء بكلمتين يربح الذهب. ونحن لا نستحق قرش إلا بعرق جسمنا كله. . 
فقال جمعًا فى السخرية : 

-ثمة رجال محترمون لا يختلفون عنك فى شىء ولكن من يجد الشجاعة ليقول 
ذلك؟ 

- وقاتل نبوية معروف للجميع ولكن من يجد الشجاعة ليشهد بذلك؟ 

فهزرأسه أسفا وقال؛ 


-نبوية! . . المسكينة! . . من قاتلها؟ 

شلضم الله يجحمه. . 

-يا ساتر يارب» الشاهد عليه شهيد. من حسن الحظ أننا لسنا المذنبين وحدنا فى هذا 

البلد. . 

فقالت بضجر حاد : 

لكنك تضيع الوقت فى الكلام . . ! 

وصمم الشيخ عبد ربه على استغلال ما وقع له فى الجامع لصالحه فحرر شكوى إلى 
الوزارة ضمنها ما وجه من اعتداء عليه بسبب خطبته «الوطنية»» وسعى إلى نشر الحادث 
فى بعض الصحف بصورة مبالغ فيها وبخاصة تدخل رجال البوليس للدفاع عنه والقتبض 
على المعتدين . وبات عظيم الأمل فى أن تنظر الوزارة إلى تحسين حالته بعين الاهتمام . 
غير أنه عندما حان وقت درس العصر لم يجد مستمعا على الإطلاق . ورمى بصره من 
الباب إلى دكان العصير فرأى الرجل منهمكًا فى عمله فظن أنه نسى الدرس» فاقترب من 
الباب ونادى بصوت باسم : 

الدرس يا عم حسنين . 

والتفت الرجل على الصوت بلا إرادة لكنه سرعان ما أبعد رأسه فى تصميم وبحركة 
نبذ حاسمة» وخجل عبد ربه» وندم على ما بدر منه من نداء» وتراجع وهو يلعنه ألف 


11100 





وشا التر 1 


وحين الفجر صعد المؤذن إلى أعلا المئذنة فى ليل ساج رطيب» وبدر ساطعء وسكون 
مؤثر. وأذن هاتقًا «الله أكبر» . وفى لحظات الاستعداد لمواصلة الأذان انطلقت صفارة 
الإنذار فى عوائها المتقطع الرهيب فدق قلبه دقة عنيفة لوقع المفاجأة. واستعاذ بالله وهو 
يتمالك أعصابه واستعد من جديد لمواصلة الأذان حاكًا تتوقف الصفارة عن العواء. إذ إن 
الإنذار بغارة بات عادة ليلية تمر بسلام منذ أعلنت إيطاليا الحرب على الحلفاء. وهتف من 
الأعماق «لا إله إلا الله» . وغناها بصوت لا بأس به . وإذا بانفجار يدوى مرعدً ارتجت له 
الأرض فغاص صوته فى أعماقه. وتجمد فى موقعه وأطرافه ترتعش وعيناه تحملقان فى 
الأفق البعيد حيث لاح لهيب أحمر . وتراجع إلى الباب مقتلعًا قدميه من الأرض ومضى 
يهبط السلم بركبتين مخلخلتين . وبلغ أرض الجامع فى ظلام دامس فاتجه نحو الإمام 
والخادم مستد لا عليهما بتهامسهماء ثم قال بصوت متهدج : 

-غارة جديدة يا جماعة . . كيف العمل؟ 

فقال الإمام بنبرة مبحوحة : 

المخبأ بعيد» ولعله اكتظ بكل من هب ودب» والجامع متين البنيان وهو خير ملجأ. . 

وجلسوا فى ركن وسرعان ما انطلقت أفواههم بالتلاوة. وترامت من الخارج أصوات 
شتى. . وقع أقدام مسرعة. نداءات» تعليقات مضطربة» صرير أبواب وهى تفتح أو 
تغلق. ومرة أخرى انصبت على الأرض قذائف متلاحقة فزلزلت الأعصاب وخرست 
القلوب» وصاح نخادم المسجد: 

الأولاد فى البيت» بيت قديم يا سيدنا! 

فقال الإمام بصوت متحشرج . 

-رينا موجود. . لا تتحرك من مكانك . . 

واندفعت مجموعة من الناس إلى داخل الجامع وبعضهم يقول: 

- هذا آمن مكان . . 

فقال صوت غليظ : 

إنه ضرب حقيقى لا كالليالى الماضية . . 

فانقبض قلب الإمام لدى سماعه الصوت. هذا الوحش الآدمى» أليس وجوده بنذير 
شر؟. . وجاءت جماعة جديدة أكثف من الأولى» وندت عنها أصوات نسائية غير غريبة 
عن الشيخ . وهتف صوت قائلاً: 

طارت الخمر من رأسى . . 

وأفلت من الإمام زمامه فهب واقمًا وهو يصيح بعصبية: 





7 شيااتم 


اذهبوا إلى المخبأ.» احترموا بيوت الله» اذهبوا جميعًا. . 

فصاح به رجل : 

اسكت يا سيدنا. . 

وارتفعت ضحكة ساخرة غير أن انفجاراً شديد دوى حتى صك الآذان فضح الجامع 
بالصراخ » وامتلاً الإمام رعبًا فصاح بجنون كأنما يخاطب القنابل نفسها : 

-اذهوك . لاتدتسوا بيوت الله: . 

فهتفت امرأة: 

-يا عيب الشوم! 

فصرخ الإمام: 

- اذهبوا عليكم لعنة الله. . 

فاحتدت المرأة قائلة : 

- إنه بيت الله لا بيت أبيك! 

وصاح الصوت الغليظ : 

اسكت يا سيدنا وإلا كتمت أنفاسك . . 

وانتشرت التعليقات الحادة والسخريات اللاذعة حتى همس المؤذن فى أذن الإمام : 

أستحلفك بالله أن تسكت . . 

فقال عبد ربه بتعثر من يجد مشقة فى النطق : 

أترضى أن يكون الجامع مأوى لهؤلاء؟! 

فقال المؤذن بتوسل: 

- ليس لديهم غيره» أنسيت أنه حى قديم قد يتهاوى باللكمات لا بالقنابل. . 

فضرب الإمام راحته بقبضته وقال: 

-هيهات أن يرتاح قلبى لاجتماع كل هؤلاء الأشرار فى مكان واحدء إن الله لا 

يجمعهم فى مكان واحد إلا لأمر. . 

وانفجرت قنبلة فخيل إلى حواسهم الملتهبة أنها انفجرت فى ميدان الخازندار» والتمع 
لها بريق خاطف فى فراغ الجامع كشف عن أشباح مرتعدة لحظة قبل أن تبتلعها الظلمة 
العمياء مرة أخرى» فأطلقت الحناجر عواء مزعجاء وصوتت النساء» والشيخ عبد ربه 
نفسه صرخ وهو لا يدرى. وتطايرت أعصابه فاندفع يهرول نحو باب الجامع» وجرى 
خادم المسجد خلفه يحاول منعه لكنه دفعه بقوة متشنجة وهو يصيح : 

اتبعانى قبل أن تهلكا. . 

11100 





وشياالتمد 0 


مرق من الباب وهو يقول مرتعدا : 

وحقيى مهدرر لآ يخوفن ظلاما قافنا واستمرت الغارة بعد ذلك عشر دقائق 
تساقطت فى أثنائها أربع قنابل . وشمل الصمت المدينة مقدار ربع ساعة أخرى ثم 
انطلقت صفارة الأمان. . 

ومضت الظلمة ترق أمام البكرة الوانية» ثم تبدت طلائع الصباح فى مثل حلاوة 
النجاة. 

لكن الشيخ عبد ربه لم يعثر على جثته إلا عند الشروق . . 


موعد 


أسعد ما فى هذا اليوم هو هذا الوقت من الليل . انتهت متاعب الواجبات» استقر كل 
شىء فى موضعه على أحسن حالء حتى المطبخ بات أنيقًا نظيفًا كأنه معروض للبيع. 
الخادم آوت إلى غرفتها لتنام» لم يبق إلا جلسة مريحة طويلة يبهجها الحب العائلى حول 
الراديو المردد لشتى المسرات . ولولو الصغيرة لا تنام» لا تود أن تنام» ولا أن تكف 
عن اللعب والشقاوة» ولكن هذا السيد» هذا الزوج السعيدء ماباله!» لولو العزيزة لا 
تدع لها فرصة للتفكير . إنها ترمى بنفسها عليها بلا نذير» فترتطم الرأس بالرأس» أو 
تنشب الأظافر الصغيرة بالجلد أو الرقبة» وكافة المساحيق لا تنجح فى إخفاء آثار هذه 
الأظافر الصغيرة» بنت لم تجاوز الثالثة ولكنها عفريتة بكل معنى الكلمة» وكانت هى 
جديرة بأن تكون أسعد الناس بها لولا ما يبدو على الأب من تغير حقيقى» وها هى 
تختلس النظرات إليه رغم موقفها الدفاعى الدائم من لولو. وها هو غارق فى المقعد 
الكبير مطروح الرأس إلى الوراء ينظر إلى السقف تارة» وتارة إلى الراديو من فوق 
الزجاجة الذهبية السائل القائمة على ترابيزة أمامه . معهم لكنه ليس معهم . فى بعض 
رحلاته التجارية كان أقرب إليهم ما هو الآن. ماذا غيره؟ . . ماذا طرأ عليه؟! . . وقلبها 
يحس بال مخاوف وهى بعيدة ولذلك فهو لم يذق الراحة منذ. . منذ كم من الوقت؟! . يا 
إلهى شد ما يبدو الوقت قصيرا أحيانًا إذا قيس بالأرقام على حين تتمزق الأعصاب من 
طوله مَرْفًا. وما هذه العادة الوحشية الحديدة! إنه يجلس هذه الجلسة لا ليحادثها ولا 
ليلاعب لولو ولكن ليشرب الخمر. ويمعن فى الشراب ليلة بعد أخرى» ويفرط فى 
التدخين فدائمًا تتلوى حول رأسه سحاباته الشاحبة» ألا ما أفظع هذا كله . ويضاعف من 





1 وشيااتر 


الحسرة أنه مثال تغبط عليه فى حسن المعاشرة والنجاح فى الحياة. كهربائى محترم 
وصاحب دكان لبيع الأدوات الكهربائية وإصلاحهاء ولم يكن يضايقها أن يذهب إلى 
القهوة الخديوية كل مساء ليلعب الطاولة ساعة أو ساعتين ثم يعود إلى بيته حاملاً ما لذ 
وطاب من حلوى أو فاكهة» يعود إليهاء وإلى لولوء فيحيى جلسة عائلية دافئة بالمحبة 
والمسرة» هكذا مضت حياتها الزوجية القصيرة السعيدة» إلى ما رصعت به لياليها من 
سهرات لطيفة فى بيوت الأسرة أو فى السينما وما يستتبع ذلك عادة من تعليقات أو 
مناقشات تزيد الحياة بهجة وحيوية . وأما الخلافات التى كانت تتسرب بعض الأحيان إلى 
حياتهما فلم تبلغ درجة خطيرة قط ولم يحدث أن تركت أثر حتى الصباح . ترى هل 
ينطوى ذلك كله فى ذمة التاريخ؟ . . هل . . يا لهذه الطفلة الصغيرة التى لا تتعب من 
الشقاوة أبدا . . إنها تحمل على أبيها لكنها سرعان ما تصد عنه لفتور استجابته واستسلامه 
دون دفاع مثير» حتى الكأس التى أراقتها عند تعلقها بالترابيزة لم تغضبه. 

يا عزيزى» لماذا تشرب هكذا؟ 

ليته ينفعل أو حتى يغضب فى سبيل أن يبوح بمكنونه : 

لااضرر فى ذلك . . 

لكنه ضار بلا شك! 

-لا تصدقى مايقال. . 

ولم يمهلها لتتكلم فقال باسما : 

مللت التسكع فى الخارج» وأنا سعيد هكذا بين زوجتى وابنتى! 

- لكدك تبقى معنا لتشرت! 

-بل أستكمل هنائى بشىء من الشراب ليبعث الراحة فى القلب . . 

يحاول أن يبدو طبيعيًا ولكنها تراه بقلبها لا بعينيهاء وقلبها كرماد فى مهب الريح . 

-وماذا يتعب قلبك؟ 

لعلها متاعب العمل وأنا لا أسمح لها بأن تفسد جلستنا الطيبة. . 

هكذا الأسئلة والأجوبة كل مرة» ويبقى لها العذاب الصامت الذى يجد عيمًا فى 
البحث عن مبرر لوجوده. وتلوح فى عينيه نظرة غريبة يرمق بها لولو. نظرة تذوب حنانًا 
ورقة. نظرة تقبل وتعانق وتسفح الدمع . فكيف لا ترتعد رعبًا! 

ألا يحسن بك أن تنام فى الوقت الذى اعتدت أن تنام فيه؟ 

-لماذا ننام؟ 

ضحكت ضحكة فاترة وحدجته بنظرة ارتياب : 


1110 





وشا الت 1 


-أنت ولاشك تسخر منى . . 

معاذ الله. . 

الحق إنك تعذبنى . . 

- لا سامحنى الله إن فعلت . . 

وربتت خده برقة : 

كل شىء على ما يرام؟ 

تعم. 3 

لاشىء يضايقك . . ؟ 

ثم قال برجاء : 

- لا تقلقى نفسك بلا سبب» أؤكد لك أنه لا يوجد فى حياتنا ما يدعو إلى القلق. ها 

أنا أجلس سعيدا فى أسرتى الصغيرة» أشرب أحيانّاء وأحيانًا أقرأء ماذا يقلق فى 

ذلك؟! 

لم تكن القراءة هواية له» كان يلقى نظرة عجلى على الجريدة» وتقرأهى صفحة ثم 
تتركها فتتلقاها لولو ثم لا تتركها إلا كومة من مزق» لكنه يقرأ الآن كتبًّا. وأى كتب؟ . 
على حافة العالم» الحاسة السادسة» عالم الأرواح . 

أتحلم بأن تكون شيخ طريقة؟! 

هل عندك فكرة عن هذه الأشياء؟ 

حسبى ما وجدته فى الدين . : 

هذا صحيح . م 

فلماذا تقرأهذا كله؟ 

حب استطلاع وتسلية . 2 

حاولت كثيرا أن تقنع نفسها بأن كل شىء طبيعى وأن أوهامها هى غير الطبيعية» لكنها 
كانت كمن يتجاهل إنذارات دمار خفى . 

خبرنى كيف حال صحتك؟ 

-عال! 

والعمل؟! . لا تخف عنى شيثًا فأنا شريكة حياتك . . 

- ليس فى الإمكان خير ما كان! 





0 شياالتم 


كيف أعرف سرك؟ 

وربت على خدها وقبلها. كما كان يفعل فى افليالى السعيدة الخالية . ما أشد الفرق 
بين ا حالين . إنه يمثل ولا يستطيع أن يخفى أنه يمثل . 

لا جديد طرأ عليك؟ 

عدا شىء من الإرهاق! 

-ما رأيك فى السفر ولو أسبوع! 

فكرة وجيهة ولكن لا داعى للعجلة كما تتوهمين. . 

وحانت منها التفاتة إلى المرآة فلمحته وهو يهم بالكلام بحال تدل على أنه استسلم 
للاعتراف. استصرخته فى الأعماق أن يفعل. دعت ربها أن يأمره بالكلام. لكنه 
استرخى دفعة واحدة بسرعة تثير الحنق . وراح يقرأ . 

عدت كما كنت أعزب . 

.أنا؟ 2 » 

أكآن لاشريك للق عش وحدك » ساحون سو المويك! 

ألا يتعب الإنسان أحيانًا؟ 

-ماذا عن رجل يشرب الخمر ويقرأ كتب الأرواح؟ 

الخمر أيضا مشروب روحى» هكذا يسمونها! 

-نضب معينى من الضحك . . 

سوف تضحكين من نفسك عندما تتأكدين من ضلال أوهامك . . 

قلبى لا يكذبنى قط . 

وقال لنفسه ما أصدق قلبهاء إنها تنطق عن قلب صادق واأسفاه» قلب ملؤه خوف 
حقيقى» قلب يكابد إرهاصات أحزانه ووحدته الآتية . وهو يتعذب أيضا عذابًا مضاعفا 
لنفسه ولها. وقلبه ينصهر ويتطاير شررا وسيتلاشى فى الفراغ . وأفكاره تحوم بجنون 
حول انحلال المادة وتشعشع | لضوء وانتشار الرماد وتبدد الهواء. لعله كان من الأرحم 
أن يجد مهريًا بعيدا عن بيته» أن يشرب فى حانة من الحانات» بعيدا عن الجلسة السعيدة 
التى يتشكل فيها جسده فى ثلاثة أجساد حارة محبوبة . ولكن حنينه القاسى وأشواقه 
الملتهبة ويأسه العميق منعته من الهرب وشدته إلى مثواه الحنون» بل يود أحيانًا لو يغلق 
دكانه ليجلس طوال وقته مع زوجته وطفلته» عصمت ولولوء وأن يقبلهما حتى يكل 
فوه» أن يضمهما إلى صدره حتى يخذله ساعداه» أن يغرقهما بدموعه» وأن يستحم 
بدموعهما. وكان بوده أن يمثل دوره بمهارة يخدع بها امرأته ولكن كان ذلك فوق طاقته» 


1101 





وشا التر ا 


فهو يقرأ ويشرب ويختلس إليها النظرء يتحمل نظراتها المعذبة بصبرء حابس دمعه» شاد 
على إرادته» ويصر على ذلك وهو يشعر بأن كل شىء يخصه هباء . الأبوة هباء» الحب 
جا الزويية أباء» ريرق كل ممت وهر والااتى :في النمرياد والقتا . وهوفى الحقيقة 
لاشىء يبكى لا شيئًاء البكاء نفسه لا حقيقى كالقراءة» كالخمر» ؛ كهذه الأنغام الصادرة 
عن ال اذبو تنو لديا كلها الم لاليجدبها الكو لعي لتنا ككل بق رولك أ قافد: 
ترجى من ذلك إلا أن تزيد من تعقيد الأمور واختلاطها وقسوتها ووحشتها؟ . ولم يحول 
جلسة المساء إلى مأتم والغناء إلى حداد؟ لن يؤخر ذلك ولن يقدمء ولكنه سيهدم الأسرة 
هدمًا. أجل إن وحدته تزداد عمقًا ويأسّاء لكنه لم يذعن للجبن والأنانية» فعلى الأقل 
عصمت لم تفقد الأمل» وها هى لولو تلعب وتغنى وتخربش . إنها الوحيدة التى تبدو 
جديرة بالحياة . تحياها ببساطة وبلا معنى ولا تفكير. وهى الوحيدة أيضا التى لا تعرف 
الموت ولا اليأس ويبدو كل شىء لعينيها العسليتين خالدا سعيدًا خاضعًا. حتى المنخصات 
البسيطة التى تطرأ على بحبوحتها لا تبقى إلا الحظات» قد تتوارى وراء باب صارخة باكية 
ثم سرعان ما تظهر باسمة الثغر ولما تجف دموعها وفى عينيها نذر مشروعات جديدة 
للشقاوة والغفرتة :. وقصحت لآ تذرى شيكا عن لياليه فهئى تجالسه حت يجين مواعد 
النوم» ولما تظن أنه استسلم للنوم تطوى جفونها على أحزانهاء لكنه فى الحقيقة لا يغمض 
له جفن» ويظل محملقًا فى الظلام وخلايا رأسه تحترق بالأفكار المحمومة . وهيهات أن 
يدري أحد شيئًا عن أحاديث الظلام» ؛ عن رعب الظلام .. تطمس معالم كل شىء إلا 
الموت وحده يرى بلا ضوء . وهو كالظلام لا شىء يؤخره عن ميعاده. وإذا جال بالخاطر 
فقد كل شىء معناه وقيمته وحقيقته» ويتساءل وهو يكاد يحس تردد أنفاس زوجته ما 
العمل؟ . ماذا يطلب من الحياة فى الأيام الباقية؟ . ويجىء الجواب: كل شىء» ويجىء 
الجواب: لاا شىء» وهنا يستوى كل شىء ولا شىء . ولكن النفس تأبى التسليم وتخشى 
الفراغ فتتعلق بالأحلام. يرى أنه لم يعد زوجا ولا أبًا. إنه طليق يجوب الآفاق. فوق 
طيارة تحلق فى الفضاء» فى سفينة تمخر عباب المحيطات». على مركبات لا حصر لها ولا 
عدد. ينطلق من غابة إلى بحيرة؛ ومن جبل إلى سهل»؛ يخوض الرياض والرمال 
والمدن» يجوب مناطق حارة ينصهر بها الحديد» وبقاعا متجمدة تتجمد فيها النيران» 
ويرى من الناس أشكالاً وألوانا. إن ذلك كله لا يطرد شبح الموت ولا يؤخره ولكنه 
يحول الأيام الباقية إلى رحلة شائقة ومشاهد عجيبة وتسلية ساحرة. أو يرى نفسه جاري 
وراء نوازعه» يتقلب بين أنواع الشهوات العاتية» وينعم بكل طيب» وينتشى بكل 
مذهلء ويمتع غرائزه بالمغامرات والإثارة والعربدة بل وبالانفعالات الرهيبة والعدوان 
العنيف. لكنها تظل أحلامًا لأن الموت نفسه لم يستطع أن ينسيه أنه زوج وأنه أب وأنه 
بالتالى إنسان. لذلك تتبدد الأحلام ويبقى له السهادء بل ويواصل عمله فى الدكان» 





7 شياالتد 


ويئوب مشتاقًا إلى جلسته العائلية المحبوبة» ولكن لم يجد مفرا من الشراب» ومن 
مطالعة كتب الأرواح» سعيًا وراء طمأنينة ولو تكن وهمية؛ وسلام ولوعلى غير 
أساس . حتى إيمانه الراسخ انهزم أمام الموت . ليس للشعر كثافة الموت وثقله. وهو يكاد 
يراه ويلمسه. وفظاعة التجربة حملته على دفن السر فى أعماقه» على الانفراد به وحدهء 
وعلى كتمانه عن امرأته تعيسة الحظ فلتبق فى قلق هو على أى حال أهون من اليأس» 
ولتمرح لولو فى جو خال من الحقيقة الرهيبة. 

وذهب إلى قهوة ماتاتيا على غير عادة. كان اليوم عطلة الأحدء والوقت عصراًء 
والفصل خريفّاء فاتخذ مجلسًا عند رأس المنعطف تحت البواكى . وقلب عينيه فى تطلع 
المنتظر حتى رأى رجلاً ريفيًا معممًا يقبل نحوه فى عباءة سوداء . كان يشبهه إلى حد كبير 
فتعانقا ثم جلسا حول المائدة والقادم يقول: 

كيف حالك يا جمعة؟ وما الحكاية؟» لم بالله ضربت لى موعدا فى القهوة؟ ! 

فقال جمعة وهو يبتسم فى ارتباك : 

أتعبتك يا أخى » أنا آسف جدا . . 

-ليس المجىء من القناطر بالأمر الشاق ولكن ماذا تعنى مقابلتنا فى القهوة؟ 

وفكر جمعة قليلاً فيما ينبغى أن يقول. وكان الآخر يتفحصه بعناية فلم يمهله حتى 
يتكلم وقال: 

خلاف عائلى! » يقطعنى ربنا إن لم يكن الأمر كذلك. ماذا عن امرأتك؟ 

فقال جمعة بصوت شاحب: 

عصمت بخير» لا خلاف بيننا على الإطلاق! 

-غريبة!» ولماذا لم تدعنى إلى بيتك؟ 

أريد أن أنفرد بك . 

بعيدا عن بيتك ! 

بعيدًا عن كل شىء! 

وعاد يتفحصه مليا ثم قال بقلق : 

جمعة . . أنت لست على ما يرام! 

فصمت جمعة . فعاد الأخ يقول بجزع : 

خبر أخاك عما بك . . 

رفع إليه عينيه الذابلتين» وقال: 

أخىء أنا فى مسيس الحاجة إليك» سأعترف لك بكل شىء» ويجب أن تصدقنى» 

الحق أنى سأموت فى خلال أشهر قلائل ! 


1110 





شيااتد لق 


تجمدت قسمات الشيخ وعكست عيناه جميع صيغ الدهشة» ثم غمغم: 

ماذا قلت! مريض؟ » كيف عرفت هذا؟» هل ذهبت إلى طبيب؟ 

قال جمعة بهدوء نسبى بعد أن أزاح الاعتراف عن صدره هما ثقيلاً : 

شرعت فى التأمين على حياتى . . 

-وبعدل؟ 

-رفض الطلب» ذهبت إلى عدد وفير من الأطباء» إنى على يقين الآن من خطورة 
الحال. . 

فندت عن الأخ ضحكة هازئة وقال: 

لا أحد يمكن أن يكون على يقين من ذلك إلا الله . 

فقال جمعة بفتور: 

طبعًا . . طبعاء إنه فوق كل شىء» ولكنى على يقين من حالى . . 

كلام فارغ» أستطيع أن أحكى لك ألف حكاية تثبت أن كلام الأطباء ماهو إلا 
هراء. 

فقال متنهدً : 

وأستطيع أن أحكى لك ألما آخر تؤكد العكس . 

واستقر صمت ثقيل . وجاء ماسح أحذية يدق صندوقه ولكن سرعان ما صرف» وهبت 

نسمة رطيبة تحت البواكى على حين بدت العتبة كأنها تدور إلى الأبد مع المركبات والناس» 
ثم قال الأخ بصوت عميق: 

_ ا ا ل لت 
تطمئن حقًا على نفسك فسافر معى إلى القناطر لتزور شيخًا عجيبًا يقصده الأطباء 
أنفسهم فى الشدائد! 

فقال جمعة فى بلاهة : 

-تعم. 

أراك تشك فيما قلت! 

فاعتدل جمعة فى جلسته وقال: 

فلنؤجل هذا إلى حين» إغا دعوتك لأمور هامة وعاجلة. . 

لكنى لا أحب لك أن تعايش أفكارك المدمرة . . 

لندع هذا الحديث جانبّاء الآن خحذنى على قد عقلى وأصغ إلى. . فتمتم الأخ 
بمرارة: 





7 شياالتد 


هه 


-تعم..! 

فقال جمعة بإشفاق ووجوم: 

-عصمت ولولو. . 

-عارف» عارف أنك ستتحدث عنهما . . 

وهم بالاعتراض ولكن جمعة أشار إليه بالسكوت وقال: 

-لى شريك فى الدكان وهو رجل طيب مثلك ولكن العمل سيتطلب منك رعاية» 
ولأبد لى من الاطمغنان على مستقبل أسرتق» آنا أسف أن لحملك مسكوليات 
جديدة فى الحياة ولكن لا حيلة لى» ثم إن لى نقودا فى البنك فلن أتركهما . 


تتركهما! 
خذنى على قد عقلى من فضلك» لن يحتاجا إلى نقود ولكنهما سيكوئان دائما فى 
حاجة إلى رعايئك... 


ندت عن الأخ ضحكة أعرب بها عن استهانته أوعن تظاهره بذلك» وشرع فى الكلام 
ولكن أوقفه عنه خروج سنجة الترام من السلك الكهربى محدثة أزيز حادا وتوهجًا 
خاطمًا فأخذ لحظة ثم قال: 
-ها أنا أجاريك فى أوهامك ما دمت تريد أن آخذك على قد عقلك» أتحسب أننى فى 
حاجة إلى هذه الوصية!. يا لك من طفل» أنت أعلم الناس بمكانتك عندى» 
إلى البلد ولو لأسبوع . . 
بكل سرورء فى بحر أسبوع على الأكثر ستجدنى عندك إن شاء الله» والآن هيا بنا 
ولكن الأخ كان يعانى من الحديث اضطرابًا باطنيًا فانصدت نفسه عن كل شىء» وأبى 
إلا أن يعود من فوره إلى المحطة. وأصر على ذلك, وأراد أن يوصله ولكن الآخر قرر أن 
ينتهز فرصة وجوده فى القاهرة ليقوم ببعض زيارات هامة قبل السفر فتوادعا أمام القهوة. 
ومضى الشيخ إلى الناحية الأخرى من العتبة» واتجه جمعة رأسا إلى محطة الأوتوبيس. 
واستقل سيارة فدارت به دورتها ولكنها اضطرت إلى التوقف عند الأزبكية أمام زحام 
اعترض الطريق . . ونظر جمعة فرأى جمعا حاشد ‏ وآخدذا فى التزايد أكثر فأكثر ‏ حول 
سيارة متوقفة. أدرك لتوه أن حادثة وقعت. وأجال عينيه فى الجمع المحتشد لكنه جفل 
من إمعان النظر فحول رأسه بعيد. وما لبث الأوتوبيس أن تفادى من الزحام فشق سبيله 
إلى ميدان الأوبرا. 


1100 





شياالتم ا 


وكان فى الجمع المحتشد حول الحادثة مساح أحذيةء وكان ينظر إلى الجثة الممددة أمام 
السيارة بتفحص ودهشة. ثم قال بصوت مرتفع لمن حوله : 

- أنا رأيت هذا الشيخ منذ نصف ساعة فقط». كان يجلس فى قهوة ماتاتيا مع واحد 

أفندى . 


قلتل 


ما المخرج من هذه الوكسة؟! 

منذ خروجه من السجن وهو يعيش متسولاً» قرش من هنا وقرش من هناك؛ بلا 
عمل» وبلا أمل. وهو ليس بأول سجن, ولا آخر سجن فيما يبدو» ولكن الدنيا مصممة 
هذه المرة على مقاطعته» رفضه كل دكان عرض نفسه عليه» وأعرض عنه كل رجل 
مأمول» حتى تجار المخدرات أبوا أن يمنحوه ثقتهم. وتمضى الأيام يومًا بعد يوم وهو 
يتدهور ويجن . ويجلس فى القهوة إذا هده إعياء» طمعًا فى معرفة قدية» ولكنه ينسى 
حيث جلس. لا يكلمه أحدء ولايقرب منه نادل» وتلاحقه نظرات المعلم الممتعضة». 
حتى يرق له قلب الصبى فيجيئه خلسة بشىء من نفايات المعسل المحروق» وغرق فى 
الأحلام كما لم يغرق من قبل . أطعمة الخلفاء وحسان الحريم وبحور الشراب وجبال 
السطل» واسترجع أخيلة القصص التى كانت ترويها الرباب فى قهوة خان جعفر من ربع 
قرن أو يزيد. . وهوم برأس متلبد الشعر» وليس على الجسد المتورم بالأقذار إلا جلباب 
متهرئ كالخيش تعشش فيه حشرات شتى» وكان يسكن فى جحر بدرب دعبس بالحسينية 
حجرة فى حوش ربع قديم» حيث ترقد أمه الضريرة نصف مشلولة» وهى عجوز تعيش 
على صدقات الفقراء من الجيران» هناك يأوى آخر الليل» وتمضى الأيام وهو لا يلتفت 
إليها أما هى فلا تشعر له بوجود ولعلها لم تعد تذكره على الإطلاق» ولكنه لا يكف عن 
مغازلة الأحلام» الأميرة والبحر وجبل وبحبوحة عيش لايحسن تصورها ولوفى 
الخيال» وتساءل كثيراً عن المخرج من وكسته» أين يذهب وماذا يفعل . وهو ذو الماضى 
الحافل بالأعمال . اشتغل شيالاً» وموزع مخدرات» ولصاء أما العراك فبسببه دخل 
السجن أول مرة» واستوفى الأربعين من عمره دون أن يهن له عضل » وكان بوسعه أن 
يقتلع بينَا من أساسه. ولكنه لا يأكل لقمة إلا حسنة لوجه الله» وهذه ثالث مرة ينطلق 
فيها بعد سجن ولكنه لم يجد الدنيا من قبل مغلقة الأبواب كما يجدها هذه المرة حتى 
لتحدثه هواتف نفسه اليائسة أحيانًا بأن يعود إلى السجن ليستقر فيه بقية العمر. وقبيل 
خحروجه من السجن أول مرة مات ابنه فى مستشفى الحميات» وحينما كان فى السجن 





3 شيااشم 


آخر مرة اختفت زوجته» لايدرى أين ذهبت ولا مع من هربت» وقليل من النساء من 
يسعهن الإخلاص لزوج هوايته السجن» ترى ما هى المعجزة التى يمكن أن تجعل منه 
هارون «الرشيدى)؟ إن رأسه يدور من نشوة الأحلام الكاذية . والدنيا فيما يظهر لم تعد 
بحاجة إلى العضلات القوية. ولكن هل ضاع حقا وانتهى؟ ! 

وكان يسير فى الزحام شبه نائم عندما ناداه صوت قوى قائلاً : 

- ولد يا بيومى. ٠.‏ 

انتبه بعنف نحو الصوت كأنما يستجيب للسعة سوطء ثم وثب نحو صاحبه باستماتة 
وهو يبتسم ابتسامة عريضة توددا وتذللاً» ها هو إنسان يناديه أخيراً. وهوى على يده 
ليلثمها وهو يقول: 

أهلاً وسهلاً بالحسيب . . أهلاً بالمعلم على ركن سيد حينا كله . . 

فسحب المعلم على يده بخشونة وقال وهو يحبك جبته : 

-دعك من التواشيخ يا بن الذين» لعلك تتحسر الآن على السجن وأيامه الحلوة . 

فقال بيومى فى ملق : 

-لولا وجود أمثالك فى الدنيا لتحسرت فعلاً. . 

-ها أنت تعود إلى التواشيح! 

وأشار إليه أن يتبعه. ثم مضى إلى كارتة فاستقلها والآخر فى أثره وهو لا يصدق. 
مقبل على شىء كبير فلا يمكن أن يحل فى هذا المقام لغير ما سبب . وكانت الكارتة تنطلق 
فى سرعة هادئة مستعرضة جناح الجبل المتجهمء مثيرة وراءها ذيلاً من الغبار. وكان 
المعلم على ركن يلقى ناظريه إلى الأفق» مقطبًاء مشدود عضلات الوجه» ثم تساءل بلا 
اكتراث : 

استطال وجه بيومى من الدهشة وتمتم : 

-أقتل! 

فقال الآخر ببرود: 

- نعم يا بن القديمة. . 

يتكلم بكل استهانة وأقل ما يعنيه تفاهة الثمن . 

القتل شىء لم أجربه . 

فشد اللجام وهو يقول ببرود: 


111 00 





شيااتء لق 


اذهب مع السلامة. . 

لم يتحرك ولكنه تساءل بوجه متجهم . 

لحسابك يا سيد الناس؟ 

فأرخى اللجام وهو يدارى ايتسامة قاسية ثم قال: 

لحسابى أو لحساب المعلم الكبير» ماذا يهمك؟ 

المعلم الكبير! . الدهل محمود! . صاحب وكالة الخيش وكبير تجار الكيف! . إنه يبالغ 
هذه المرة فى إبعاد الشبهة عن نفسه وعن رجاله وقد أحسن الماكر الاختيار! 

أنا خادم المعلم الكبير وخادمك . . 

دعنا من الثرثرة» هل تقتله؟ 

فضحك بيومى ضحكة كالزفرة وقال: 

-فى الجنة ونعيمها! 

الله يجحمه ويجحمك . . 

واعتبر بيومى الدعوة نوعا من المودة فضحك. أما المعلم على فتساءل بخبث : 

لعلك لم تر النقود منذ خرجت من السجن؟ 

-ولا قبل ذلك. . 

هبون ! 

كلمة واحدة. . 

ولكنه قتل ! 

ديا بن القديمة أنا لا أساوم. . 

وهو يحاول ضبط انفعاله : 

سأحتاج إلى نقود كثيرة . لا تنس أمى العجوز. . 

-أمك! 

وقهقه عاليًا وهو يستخرج من جيبه ورقة من ذات الخدمسة الجنيهات ومد بها يده 
قائلا : 

-عربون.. 

فهتف بيومى وهو يلتهمها بعينيه : 

-لاء وشرفك يا سيد الناس . . 





7 وشياالتد 


فحدجه المعلم بنظرة قاسية فتخاذل قائلاً : 

ليكن العربون عشرة جنيهات . . 

أتشك فينا يا ابن المجنونة . . ؟ 

- أبدا يا معلم» ولكنها قد تكون كل نصيبى من الدنيا. . 

متى تقتله؟ 

فكر بيومى مليًا بسرعة ويقظة ثم قال: 

أمهلنى أسبوعا . . السبت القادم. . 

خبرك أسود. . 

-يا سيد الناس أنا مضطر إلى هجر الحسينية كيلا أثير شبهة حولى» ويجب أن أتدبر 

الأمر وأرسم الخطة» ولابد أن أعيش هذا الأسبوع عيشة هنية فقد يكون آخر أسبوع 

لى فى اللحياة . . 

وأخرج المعلم ورقة أخرى من ذات الخمسة» ومد بالورقتين يده وهو يتساءل: 

أتعلم ماذا ينتتظرك لو ماطلت أو تأخرت؟ 

فقال بيومى ضاحكًا وهو يطوى الورقتين: 

لا أراك الله! 

فشد اللجام حتى توقفت الكارتة وهو يقول: 

- مع السلامة. . لا تقترب ناحيتى أو ناحية أحد منا لأى سبب. . 

وثب إلى الأرض على حين مضت الكارتة بصاحبهاء وقف ينظر إليها متوقعًا أن 
يلتفت الرجل وراءه فيلوح له تحية ولكنه لم يلتفت» وضغط بيده على الورقتين وكل شىء 
يدور. رغم الفتونة والمجدعة لم تقبض يده على جنيه بالكامل إلا فيما ندر. لكنه أيضا لم 
يقتل. ضرب وسرق ولكنه لم يقتل . لم يقتل وإن تكن ضربته قاتلة. وهو يحب الحياة 
وإن بدت أحيانًا أمقت من الموت ولا يحب المشنقة . ولكن أى جدوى من التفكير وهو 
سيقتل إن لم يقتل . فليكن حذرا أشد الحذرء وليرسم خطوة بأناة» ومهما تكن 
احتمالات الغد فإنه يدخر له أيضًا أربعين جنيهًا. مبلغ لم يجر له فى حسبان. وقد 
يساعده المعلم الدهل فى الاتجار به فتتحقق الأحلام. وأعلن فى القهوة أنه سيهاجر من 
الحسينية سعيًا وراء الرزق» فقال له كل من سمعه: «مع ألف سلامة» فى أصوات عالية 
وشت بارتياحهم للتخلص منهء فذهب وهو يقول لنفسه : لذلك فأنتم تستحقون القتل. 
وقصد حمام السوق» دخله هبابًا وخرج منه إنسانًا. وابتاع جلبايًا ولاسة وثيابًا داخلية 
ومركوبًا لأنه لم يجد حذاء جاهزاً يتسع لقدميه الغليظتين» وجلس فى محل سيدهم 


11100 





شيااتد عق 


الحاتى يأكل بنهم حتى أذهل النادل» وطلب كل شىء فال لنفسه ليت ذلك يدوم بلا 
قتل. ولم يكن يعرف الحاج عبدالصمد الحبانى أى نوع من المعرفة» غاية ما فى الأمر أنه 
لمحه مرات فى حياته بلا تركيز ولا اهتمام . عليه الآن أن يعرف كل شىء عنه وبخاصة 
الضرورى لإنجاز مهمته. اهتدى إلى بيته الكبير القديم بدرب الجماميز فدرس موقعه 
والطرق المؤدية إليه. وحام مرات حول وكالته بالمبيضة . وتفحص الرجل عن كثب حتى 
انطبعت صورته فى ذهنه وبخاصة وجهه الممتلئ المتألق بالحيوية وأناقته السابغة على جبته 
وقفطانه. والتقت عيناهما مرة فسرعان ما غض الطرف وزاغ عنه كالمطارد. وتساءل ترى 
ما الأسباب التى تحمل المعلم على التخلص منه؟ . أليس من حقه أن يعرف لماذا استتحق 
هذا الرجل أن يقتله؟ . لو كان سأل عن ذلك لسمع كلامًا هو الصفع أو الركل . يا لهم من 
عصابة كأنها القضاء والقدر! وإنه لا يكاد يحل فى مكان حتى يلمح أحد رجالهم ذاهبًا أو 
قاعدا أو قادمًا. وفى المساء سكرء وفى سيرك الحملاوى سهرء وعند عيوشة الفنجرية 
بات ليلته» وقال لنفسه مرة أخرى ليت الحياة تمضى هكذا بلا قتل» وأن يتزوج من 
جديد» ويخلف البنات والبنين» ويواصل الاتجار والربح ويأخذ حذره فلا يرى لمخبر 
وجهًا. ترى ماذا ينتظره غدًا؟ . ولكن ماذا كان ينتظره مذ انطلق يلعب شبه عار فى أزقة 
الحسينية ومنذ انضم إلى عصابة زلمة» ومنذ اشترك فى معارك الدراسة والجحبل والوايلية» 
ومذ عمل برمجيًا فى الدروب الساهرة» ومذ غامر بتوزيع المخدرات فى المقاهى» ماذا 
كان ينتظره! ؟ 

وجاء يوم السبت الموعود. واستيقظ مبكرا ليستقبل أخطر يوم فى حياته. ملأ أحد 
جيبه قطعًا من اللحم البارد ووضع فى الآخر زجاجة» ودس فى صدره سكينا حادة 
النصل . أما المعلم الدهل ورجاله فسيلتزمون الدكاكين ويخالطون الناس نفيا للشبهات» 
وهو أدرى بهذه الحيل الساخرة. هؤلاء الأوغاد المجرمون يجب أن يتلقى منهم أربعين 
جنيهًا لا طعنة انتقام غادرة ‏ واستكان وراء شجرة على مبعدة أمتار من بيت الحاج 
عبدالصمد الحبانى» وجعل يختلس النظرات من الباب المغلق حتى فتح وخرج منه 
غلامان وبئت يتأبطون الحقائب المدرسية . 

كان بين الثلاثة شبه ملحوظ ولكن الذى لفت نظره بصفة خاصة هو الشبه الحاد بين 
الغلام الأكبر وبين المعلم عبدالصمد نفسه . وتذكر ابنه المتوفى الذى لم يشهد وفاته وتذكر 
حزنه الشديد عليه وأحزان الحياة جملة . وما لبث أن بدا المعلم عبدالصمد وهو يتقدم 
من الداخل إلى نقطة وسط الحوشء» ثم وقف مستندا إلى عصاه وهو يفتل شماربه. 
واستدار إلى الوراء وراح يخاطب شخصًا لايراه هو من موقفه ثم لوح له بيده» ثم اتجه 
نحو الباب متمهلاً ووجهه الممتلى يتأنق بما يشبه الابتسام . وتساءل عما يجعله يبدو 
مبتهجا بل وطيبًا؟ . ولكن من أدراه أنه ليس كالآخرين! . كلهم مناكيد لا يبتسمون 





1 اام 


ابتسامة حلوة إلا لذويهم. مأمور السجن مثلاً» يا إلهى هل يمكن أن ينسى هذا الرجل!؟ 
مع ذلك دعى مرة إلى حجرته فوجده بمازح ابنه الذى جاء لزيارته ويغرقان فى الضحك 
معًا كأنما هو آدمى كالآدميين! . تتبع الرجل عن بعد وهو يشعر بقلق ودمعه لو ينتتهى كل 
شىء فى غمضة عين . والرجل يسير فى اطمئنان عجيب فلا يمكن أن يخطر له يبال أنه لن 
يرى أسرته وأولاده مرة أخرى» وأن هذا اليوم هو آخر عهده بالحياة» وأن الرجل المسكين 
الذى يتبعه وهو غافل عن وجوده. . هذا الرجل هو الذى سيقضى عليه هو الوحيد 
الذى يستطيع أن يتنبأ بمصيره القريب» الذى ارتضى أن ينفذ فيه القضاء نظير خمسين 
جنيهًا لاغير» فكم يملك الرجل الذى يسير أمامه من مضاعفات هذا المبلغ الذى بيع به؟ 

وتخلص من أفكاره منتبهًا إلى الطريق فتساءل أين يمضى الرجل؟ . ليس هذا هو 
السبيل إلى المبيضة» لعله يقصد إلى درب سعادة» لم لم يذهب إلى وكالته؟» إنه ذاهب 
إلى هذا البيت الذى يقيمون سرادقًا أمامه» جاء الرجل ليشيع جنازة» هذا واضح فيا له 
من صباح ! 

وفعلاً قصد الحاج عبدالصمد بيت الميت فعزى أهله بحرارة» ثم توارى وراء الباب» 
واستمر بيومى فى سيره نحو نهاية الطريق وعيناه تفتشان عن مكان يستقر فيه إلى حين» 
وامتدت يده إلى اللحم البارد المكوم فى جيبه كالتين المجفف فتناول قطعة وراح يمضغهاء 
ونازعته نفسه إلى جرعة كونياك» ولكنه قاوم ذلك وأجله إلى الساعات الحاسمة» 
وترامى إليه الصوات فى موجات متقطعة» وبدرجات متفاوتة بين الشدة والاعتدال» 
لكنه اشتد جدا حوالى الحادية عشرة» منذرا باختفاء إنسان نهائيًا من الدنيا. وخرج 
النعش محمولاً على الأعناق» ومشى الحاج عبدالصمد وراءه فى الصف وهو يجفف 
عينيه بمنديل كبير» وتوقف بيومى عن التفكير مأخودًا بشدة الصراخ واكفهرار الوجوه 
ورهبة المنظر. 

وتخفف من مشاعره فى الطريق» ونظر إلى صاحبه وهو مازال يجفف عينيه» ثم 
تساءل مرة أخرى لم يريدون قتله؟! لو مات الآن لكفاه قتله» لكن تضيع الأربعون» بل 
وربما طولب بالعربون! ولم يشأ أن يتبع النعش حتى المدفن فوقف عند أول الطريق . 

ووردت على ذهنه فكرة غريبة وهى أن يعمل ترابيًا. هى مهنة رابحة فيما يظن» ولن 
يسأل ‏ فيما يظن أيضا إن تقدم لها عن ماضيه» ولن يجد صعوبة فى زيادة دخله بتجارة 
الكيف وما أروجه بين القبور؟ . ومضى يحلم من جديد مستعيئًا بذلك على قتل الوقت 
حتى رأى الحاج عبد الصمد راجعًاء ثم تبعه حتى رآه يدخل الوكالة بالمبيضة فمال إلى 
قهوة عند رأس الطريق وجلس . احتسى الشاى ودخن أكثر من جوزة وأكل عددًا من قطع 
اللحم» وهو يراقب مدخل الوكالة دون انقطاع تقريبّاء ورأى شخصا يغادرها فلم يصدق 


1110م 





4١ وشياالتم‎ 


عينيه» المعلم الدهل محمود نفسه! . الرجل الرهيب الذى لحسابه سيقتل عبد الصمد. بل 
رأى الحاج عبد الصمد وهو يودعه خارج الوكالة» رآهما يتبادلان الضحكات» وتواصل 
ذلك حتى استقر المعلم الرهيب فى عربته وانطلقت به . إذن لم تنقطع بينهما المودة! . يا له 
من وغد ذلك الجحبار الرهيب . هو جبار بلا ريب لكنه لاريب كذلك فى أنه يفكر فيه هو 
المسكين ‏ طيلة وقته» ينتظر على قلق نتيجة عمله» يتمنى له النجاح والتوفيق. يجرى 
اسمه على لسانه مرات» ويطوف بذهنه عشرات المرات» ألا ما أخطر شأنك يا بيومى هذه 
الأيام واليوم أخطرها جميعًا وهو آخرها أيضًا. أما الغد؟!. . وشدت قبضة على قلبه. 
غدا سيكون شيئًا من آلاف الأشياء» من ملايينهاء أو لا شىء؟ . وإذا فشل سيجد نفسه 
هدف نقمة وانتقام» وستضيق به الأرض . والمسألة فى حقيقتها العارية أنه سيقتل رجلا لا 
يعرفه ولم تتصل بينه وبينه الأسباب على أى وجه كان لحساب أناس يمقتهم لحد المرض . 

لبث فى القهوة حتى الرابعة مساء» وهنالك صدرت عن الوكالة حركة تنذر بالختام . 
دخلت إليها عربات اليد» وتتابع خروج العمال» وأغلقت النوافذ» ثم خرج الحاج عبد 
الصمد يتبعه أربعة من الموظفين. تأهب بيومى للقيام ولكنه رأى الجماعة مقبلة نحو 
القهوة» ثم جلسوا على بعد أذرع من مجلسه والحاج يقول: 

فكرة» أستريح هنا قليلاً قبل أن أذهب إلى المأتم . 

وجاءت المشروبات وراحوا يحتسون القهوة والشاى» ثم تنهد الحاج عبد الصمد 
وقال: 

- الله يرحمك يا سى عبده» من يتصور أنك دفنت اليوم! 

فقال أحد رجاله وهو يتحلب ريقه : 

كان بالأمس يجلس بيئنا فى مثل هذه الساعة . 

-وكان ذلك كل يوم . 

واسترق بيومى إليه نظرة فرآه حزيئا مكتئبًا من الذكرى كآبة واضحة» غير أن صحته 
بدت قادرة على جرف الأحزان جميعاء وله وجه ملىء وعنق مكتظ وكرش ضخمة فلن 
يجد صعوبة فى إصابته» سينتهى كل شىء آخر الليل» عند عودته من المأتم» وفى الموضع 
الذى اختاره بعناية بعد معاينة مسكنه والطريق المفضية إليه . 

وتساءل أحد رجاله : 

أسافر غدا إلى الصعيد؟ 

فقال الحاج : 

- نعم إنها صفقة تزن ثقلها ذهبّاء ولم نكن نحلم بها. 

ولحد كام أدفع؟ 





ع وشساالتد 


كما اتفقنا بصفة عامة» ولك أن تزيد حتى المائة» إنها صفقة مضمونة . 

وابتسم ابتسامة متألقة وكأنما نسى الحزن» وإذا برجل يقوم وهو يقول فى اعتذار: 

آن لى أن أذهب حتى لا تفوتنى المغرب . 

فقال له: 

-مع السلامة» حرماء ولاتنس موعدنا غدا. 

الساعة الخامسة! 

الساعة الخامسة» وإن تأخرت لا تقلق» سألحق بك حتما . 

واضطرب بيومى كلما تكلم الحاج عن يقين» أو ضرب موعداء أو عكست عيناه 
الطمأنينة والثقة» لماذا يقتل هذا الرجل؟ . إنه لا يعرفه» لم تكد تستقر صورته فى ذهنه. 
لا يكرهه. ولا يحنق عليه ولا يأتيه أى ضرر من ناحيته» فلماذا يقتله؟ . لكنه إذا لم 
يقتله قتل» وإذا قتله ابتسمت له الدنياء أو هكذا وعد. يحسن به ألا يستسلم للأفكار 
المثبطة للهمة . وليطمئن إلى أنه سينجو من الاتهام تمامًا. أى سبب يدعوهم إلى الاشتباه 
فى أمره؟ . أى سبب هناك يدعوه إلى قتل هذا الرجل؟ . الحق أن اختياره لقتله هو فى ذاته 
عمل بارع يدل على عراقة المجرمين فى الإجرام . 

وقال الحاج عبد الصمد : 

- فى رمضان القادم وعليكم خير سيرتفع حظنا بإذن الله إلى مداه الأعلى . 

رمضان القادم؟. . شد ما يؤثر صوت الرجل فى أعصابه. إنه يخشى أن يظل يسمعه 
حتى بعد الموت . 

ووقف الحاج وهو يقول: 

-آن لى أن أذهب إلى المأتم» سلام عليكم ورحمة الله . 

وتبعه عن بعد حتى دخل السرادق بدرب سعادة» فذهب بعيد عن أضواء المصابيح. 
ثم قبع فى ركن مظلم» كان على ثقة من أن صاحبه لن يغادر السرادق إلا فى آخر زمرة 
تغادره فمضى يأكل قطع اللحم ويحتسى الكونياك. وهو إذا شرب توهجت أعصابه 
وتوثب قلبه وفارت جرائيم العدوان فى دمه . وترامت إليه التلاوة من مقرئ حسن 
الصوت فأمعن فى الأكل والشرب وغرق فى دوامة من الهذيان الباطنى» وجاء شرطى 
يتبختر فانقبض صدره. إنه يستطيع أن يعرفه بأكثر من حاسة, بالعين والأذن وبالأنف 
أيضًا. ذلك أنه ينفث رائحة جلدية خاصة تذكره بنقطة البوليس» والصفعء واللعنات» 
وزنزانة السجنء. والجردل» والبرشء والغرفة المظلمة. مر به» ثم عاد» وتريث قبالته 
لحظة ملقيًا بثقله على ساق واحدة» ثم تأبط بندقيته وذهب, وتتابع الوقت حتى لم يبق 
فى السرادق إلا أحاد. عند ذاك نهض وكل شىء يبدو أحمر فى عينيه» ومضى فى سبيل 


111000 





وشياالتد 1 


درب الجماميز وهو يتحسس السكين فى صدرته . البيت وما حوله خال نائم» لا دكاكين 
ولامارة. وثمة حارة بين شارع السمهرى والدرب» غير قصيرة» ضيقة» مظلمة» 
خالية» فعند أولها لبد» وفى مخباً يرى بوضوح شارع السمهرى والقادمين منه على حين 
تخفيه الظلمة عن الأعين» وقف يتربص ويده قابضة على السكين والوقت يمر كحز 
الآلم. 

وعندما دقت ساعة قدية الواحدة لاح الحاج من بعيد» ولكن كان بصحبته آخر . 
فترت دقات قلبه» وقال لنفسه إنه إذا لم يجهز عليه الآن فلن يعود إلى المحاولة مرة أخرى 
وسيطارده الموت إلى الأبد. قدم الرجلان حتى توسطا شارع السمهرى وما زالا يتقدمان 
حتى غص بالقنوط» أو شك أن يتقهقر من مكمنه مغلوبًا على أمره ولكن الرجلين توقفا 
عن السير» ثم تصافحاء ومال الآخر على عطفة جانبية» وتقدم وحده عبد الصمد. شد 
على أعصابه مرة أخرى وهو يسدد نحوه النظر. وتحفز بكل قوة وجارحة. وكان الحاج 
يسير متمهلاً. يد قابضة على العصا والأخرى تعبث بسلسلة الساعة» والهدوء يكسو 
وجهه وما يشبه التعب أو الضجر . وخيل إليه أن ابتسامة خفيفة انسابت لحظة بين شفتيه» 
وما زال يتقدم حتى دخل الحارة المظلمة فاختفت معالمه واستحال شبحًا يسير فى الظلام » 
ولم يعد يفصل بينهما إلا خطوة. استل السكين من صدرته» واشتدت عليها قبضته» 
واستجمع كل قواه» ثم انقض عليه بسرعة خاطفة» وطعنه طعنة قاسية» لا مهادنة فيها 
ولا أمل» ندت عن الرجل صرخة خافتة وترنح جسده الضخم مرة ثم سقط . 

واندفع بيومى هاربًا وهو يتتفضء» ناسيًا السكين فى صدر الرجل» ملوث العنق 
والجلباب ‏ وهو لا يدرى ‏ بالدم . 


ضدمجهول 


لم يكن بالشقة شىء غير مألوف يلفت النظر أو يمكن أن يفيد منه المحقق. كانت 
مكونة من حجرتين ومدخل» وبصفة عامة كانت غاية فى البساطة . أما ما استحق الدهشة 
حمًا فهو بقاء حجرة النوم فى حالة طبيعية واحتفاظها بنظامها العادى رغم أن جرية قتل 
فظيعة ارتكبت بها. حتى الفراش ظل عاديّاء أو لم يتغير إلا بالقدر الذى يطرأ عليه عقب 
النوم. غير أن الراقد عليه» لم يكن نائمّاء كان قتيلاً لما يجف دمه» وهو قد مات مخنوقًا 
كما يدل على ذلك أثر الحبل حول عنقه وجحوظ عينيه» وتجمد الدم حول أنفه وفيه» ولا 
أثر وراء ذلك لعراك أو لمقاومة» سواء فى الفراش أو فى الحجرة أو فى بقية الشقة» كل 
شىء طبيعى ومألوف وعادى. وقف ضابط المباحث ذاهلاً» يقلب عينيه المدربتين فى 





ع وشا التر 


الأنحاى يلاحظ ويتفحصء ولا يخرج بطائل . إنه يقف أمام جرية بلا شك, وا جريمة 
لا توجد إلا بمجرم, والمجرم لا يستدل عليه إلا بأثر. وها هى النوافذ مغلقة جميعا 
بإحكام. فالقاتل جاء من الباب» ومن الباب خرج . ومن ناحية أخرى فالرجل مات 
مخنوفًا بحبل فكيف تكن القاتل من لف الحبل حول عنقه؟ . لعله تمكن من ذلك 
وضحيته نائم» فهذا هو التفسير المقبول لعدم وجود أى أثر للمقاومة . وثمة تفسير آخرء 
أن يكون غدر به من وراء حتى أجهز عليه» ثم أنامه فى فراشه وسجاه وأعاد كل شىء إلى 
أصله وذهب غير تارك أى أثر! . أى رجل!» أية أعصاب! . يعمل بأناة وروية وهدوء 
وإحكام كما يقع فى الخيال. يسيطر على نفسه وعلى القتيل وعلى الجرية وعلى المكان 
كله ثم يذهب فى سلام! . أى قاتل هذا! . ورتب خطوات التحقيق فى ذهنه» الباعث 
على الجرية» التحقيق مع البواب» والخادمة العجوزء وافترض افتراضات شتى» وقاوم 
ما استطاع انفعالاته الشديدة» ثم عاد إلى التفكير فى المجرم الغريب» الذى تسلل إلى 
الشقة» وأزهق روحاء ومضى بلا أثرء كأنه نسمة هواء لطيفة أو شعاع من الشمس . 
وفتش الصوان والمكتب والثياب» فوجد حافظة نقود وبها عشرة جنيهات» كما وجد 
الساعة وخاتمًا ذهبيّاء يبدو أن السرقة لم تكن الباعث على الجريمة» فما الباعث إذن؟! 

واستدعى البواب لاستجوابه؛ وهو نوبى طاعن فى السن» يعمل فى العمارة الصغيرة 
بشارع البراد بالعباسية منذ عشرات السنين» وقد أدلى بأقوال لها أهميتهاء فقال عن 
القتيل إنه مدرس بالمعاش » يدعى حسن وهبى» فوق السبعين» يعيش وحده مذ توفيت 
زوجته» وله بنت متزوجة فى أسيوط وابن طبيب يعمل فى بور سعيد» وهو أصلاً من 
دمياط. وتقوم على خدمته أم أمينة فتجيئه حوالى العاشرة صباحا وتغادره حوالى 
الخامسة مساء . 

وأنت ألا تؤدى له بعض الخندمات أحيانًا؟ 

فقال العجوز بسرعة وتوكيد: 

-ولا مرة فى السنة» أنا لا أراه إلا أمام الباب عند ذهابه وإيابه. 

- خبرنى عن يوم أمس؟ 

رأيته وهو يغادر البيت فى الثامنة . 

ألم يكلفك بتنظيف الشقة؟ 

فقال الرجل بشىء من العصبية : 

قلت ولا مرة فى السنة» ولا مرة فى حياته» أم أمينة تجىء فى العاشرة فتطهو طعامه 

وتنظف الشقة وتغسل الثياب . 

هل تترك نوافذ شقته ‏ أو بعضها ‏ مفتوحة؟ 


1110 





وشاالتم م 


لا أدرى. 

- ألا يمكن أن يدخل أحد من النافذة؟ 

-شقته فى الدور الثالث كما ترى» فالأمر غير مكن» ثم إن العمارة محاطة بالعمارات 

من ثلاث جهات. والجهة الرابعة تطل على شارع البراد نفسه! 

استمر فى حديثك . 

-غادر البيت فى الثامنة ثم رجع فى التاسعة» وهذه هى عادته كل يوم منذ أكثر من 

عشر سنوات» ويبقى بعد ذلك فى شقته حتى صباح اليوم التالى . 

ألا يزوره أحد؟ 

لا أذكر أنى رأيت أحدا يزوره عدا ابنه أو ابنته . 

متى زاراه لآخر مرة؟ 

-فى العيد الكبير . 

- ألا يزوره اللبان أو بائع الجرائد؟ 

الجرائد يعود بها بعد مشوار الصباح» أما الزبادى فتتسلمه أم أمينة عصرا . 

هل تسلمته أمين؟ 

- نعم » رأيت الغلام وهو يصعد إلى الشقة ورأيته ذاهبًا . 

متى غادرت أم أمينة الشقة أمس؟ 

حوالى المغرب . 

ومتى جاءت اليوم؟ 

حوالى العاشرة» ودقت الجرس فلم يفتح الباب. 

هل خرج اليوم كعادته؟ 

-متأكد؟ 

-لم أره خارجاء وكنت بمجلسى عند الباب حتى جاءت أم أمينة . . ثم عادت إلى بعد 

ربع ساعة لتخبرنى بأنه لا يجيب فصعدت معهاء ودققت الجرس وطرقت الباب ولما 

لم يجب ذهبنا إلى القسم . 

وقال الضابط لنفسه إن هذا البواب لا يستطيع أن يخنق دجاجة,» ولا أم أمينة» 
ولكنهما قد يسهلان إدخال شخص ما وإخراجه» لكن لم قتل الأستاذ حسن وهبى؟ . 
هل ثمة سرقة خافية؟ . . هل تركت الحافظة سليمة للتضليل؟! . وهل وجود مفتاح الشقة 
بدرج المكتب لعبة أخرى؟ 





5" وشا انتم 


وقالت أم أمينة إنها خدمت فى بيت المدرس منذ ربع قرن» خمسة عشر عام على حياة 
زوجه» وعشرة أعوام بعد وفاتهاء ولكن المرحوم قرر أن تبيت فى منزلها منذ ترمله» 
وهى أرملة» وأم لست من النساءء كلهن متزوجات من عمال وأصحاب حرف» وأدلت 
بعناوينهن جميعا . 

كان أمس بصحة جيدة» قرأ الجرائد» وتلا جزءا من القرآن بصوت مسموع. وعندما 

تركت الشقة كان يستمع إلى الراديو . 

ماذا تعرفين عن أهله؟ 

من دمياط لكنه منقطع الصلة بهم تقريبّاء ولايزوره أحد إلا ابنه وابنته فى المواسم 

والإجازات. 

هل تعر فين له أعداء؟ 

-أبدا. . 

ألا يزوره أحد فى بيته؟ 

أيدا وفى أحوال نادرة كان يجلس صباح الجمعة فى القهوة مع بعض زملائه أو مع 

تلاميذه القدامى . 

وتساءل الضابط هل يمكن أن تقع جرية بلا باعث ودون أثر؟ . واستكمل الإجراءات 
الواجبة ففتش بمساعدة معاونيه مسكن البواب» وبيوت أم أمينة وبناتها الست» ثم 
استدعى أصحاب المرحوم القلائل» ولكن لم يدل أحد منهم بشىء ذى بال» وبدا مصرع 
الرجل لغز محيرا للألباب. وشاع الخبر فى الشارع, ثم نشر فى الجرائد فعلمت به 
العباسية كلها وأسفت له كثيرون. وأكد الطبيب ابن القعيل أن والذه لايملك شيئًا ثميئا 
على الإطلاق» وأن حسابه فى البنك لا يتجاوز المائة الجنيه وفرها لحاجة طارئة ثم لخرجته 
آخر الأمرء وأكد أيضا أنه ليس له أعداء» وأن قتله قد يكون نتيجة طمع فى ثروة وهمية 
خمن المجرمون وجودها فى مسكنه . وجرى تحقيق دقيق مع البواب وأم أمينة» لكنه لم 
يؤد إلى شىء فأفرج عنهما بلا ضمان. ووجد ضابط المباحث نفسه في حيرة ضبابية 
وعانى إحساسا بالهزيمة لم يمر به من قبل . كان ذا تاريخ مشرف فى مكافحة الجرائم شهد 
به الريف والبنادر. وفى الجملة كان من الضباط ذوى السمعة العالية» وهذه أول جريمة 
ينهزم أمامها هزيمة مطلقة بلا بارقة أمل ولا عزاء. وبث عيونه فى أوساط المشبوهين فى 
الجبل وأطراف الوايلية وعرب المحمدى لكنهم لم يرجعوا بفائدة. وقرر الطبيب الشرعى 
أن الأستاذ حسن وهبى مات خنقاء وتفحص جميع ما يخصه من أشياء بأمل العثور على 
بصمة أو شعرة أو أى أثر ما يتركه المجرمون. ولكن مجهوداته ضاعت هباء» ووقف 
الجميع أمام فراغ صامت . 

1110 





وشا التد / 7 


ومن شدة الهزيمة شعر الضابط محسن عبد البارى بالنجل وتنغص عليه صفوه» وكان 
يقيم بشارع يشبك غير بعيد من القسم» فلما لاحظت زوجته كربه قالت له برقة : 

لا يجوز أن تحرق دمك بلا سبب . 

فلاذ بالصمت ومضى يسلى همه بالقراءة. وكان مغرما بقراءة الشعر الصوفى كأشعار 
سعدى وابن الفارض وابن العربى » وهى هواية نادرة بين ضباط المباحث» ولذلك 
أخفاها حتى عن خاصة الأصدقاء . وظل الحادث حديث العباسية» لغموضه المحير» 
ولأن المرحوم كان مدرسًا لكثيرين من شباب العباسية وكهولها. ولكن بمرور أسبوع أو 
نحوه غاص الخبر فى بحر النسيان المخيف» وحتى محسن عبد البارى قيده ضد مجهول». 
وقال لنفسه وهو يزدرد هزيمته المرة (مجهول! . . هذا هو حقًا المجهول!). 

وبعد شهر دعى الضابط إلى سراى قدية بشارع العباسية العمومى بسبب جريمة 
مشابهة! كأن الجريمة الأولى وقعت من جديد فلم يكد محسن يصدق عينيه . وكان 
القتيل لواء قديًا من رجال الجيش» وكان يعيش مع أسرته المكونة من زوجة فى الستين 
وأخت أرملة فى الستين أيضًاء وابنه الأصغر وهو طالب جامعى فى العشرين من 
عمره» وكان يقيم فى السراى أيضًا البواب والبستانى وسائق السيارة وطاهية 
وخادمتان. 

وجد اللواء صباحا فى فراشه كالنائم» شأنه كل يوم» إلا أن الوقت تأخر به عن 
المألوف مما دفع بزوجته إلى تفقد حاله. لكنه لم يكن نائمّاء بل مخنوقّاء وأثر الحبل 
محفور حول عنقه» وفى عينيه جحوظ فظيع » وحول الفم والأنف دم لزج. أما الحجرة 
فلم يختل بها نظام» ولا الفراش نفسه» ولم يسمع صوت فى الليل ليوقظ النائمين فى 
الطابق معه من أهله» وجملة القول أن الضابط وجد نفسه مرة أخرى أمام اللغز القاتل 
الذى سحقه منذ شهر فى مسكن المدرس حسن وهبى أمام المجهول بصمته وغموضه 
وغرابته وقسوته وسخريته واستحالته . 


-والخدم» أكانت علاقته بهم طيبة؟ 
جذا. 

أتشكون فى أحد؟ 

تأمتنة ب 





8" وشياالتم 


ومضى الضابط فى الإجراءات بلا أمل» عاين السراى معاينة دقيقة» واستجوب 
الأهل والخدم» وكان يتوجس خيفة من مجهولء ويشعر بأن مؤامرة تدبر فى الظلام 
للقضاء على ضحايا كثيرين» وعلى سمعته وكافة القيم فى حياته؛ وشعر أيضًا بأن ثمة 
لغزًا يوشك أن يخنقه بثقل غموضه. وأنه إذا منى بالفشل مرة أخرى فلن يصلح للحياة 
ولن تصلح الحياة لأحد. ولخطورة شأن القتيل جاء نفر من كبار رجال المباحث للإشراف 
على التحقيق بأنفسهم وقال أحدهم باستغراب : 

توجد جرية بلا شك» ولكن كأنها ترتكب بلا مجرم. . ! 

- بل المجرم موجودء ولعله أقرب إلينا ئما نتصور. 

- كيف ارتكب جريمته؟ 

يطوق العنق بحبل دقيق ثم يشد عليه حتى يزهق الروح» ولكن كيف يصل إلى مكان 

جريته» وكيف يذهب دون أن يترك أثر)؟ 

-وما الباعث على القتل؟ 

بواعث القتل متعددة تعدد البواعث على الحياة! 

-هل يمكن أن يقتل أحدا بلا سبب؟ 

إذا كان مجنونًا فإنه يقتل بلا سبب» أو بلا سبب مما نقتنع به. 

ما العلاقة بين المدرس واللواء؟ 

كلاهما قابل للموت! 

ونشر الخبر فى الصفحات الأولى من الجرائد فى عناوين مثيرة فاهتز له الرأى العام» 
وبصفة خاصة أهل العباسية» وكان اللواء معروفًا منذ عهد الانتخابات حيث رشح نفسه 
مرارا فاتتخب مرة عضواً بمجلس الشيوخ . وجند محسن جميع المخبرين للبحث 
والتحرى» وأصدر إليهم تنبيهاته المشددة» وانكب على العمل برغبة محمومة فى الظفر . 
وعاد إلى بيته آخر الليل خائر القوى والنفس. وصمم على كتم همومه عن زوجته التى 
بدأت فى ذلك الوقت تعانى متاعب الحبل . وكان أخشى ما يخشاه أن ينقل من قسم 
الوايلى موصوما بالهزيمة ليحل محله آخر كما كان يحل هو محل آخرين فى الريف على 
عهد التوفيق والنصر. وعبمًا حاول أن يسرى عن نفسه بمطالعة الشعر إذ ثبت ذهنه على 
الخرية التى أمست ومزا على هزه . 

من يكون هذا القاتل الرهيب؟ . لاهو لص ولا هو منتقم ولا هو مجنون. المجنون قد 
يقتل ولكنه لا ينفذ جريمته بهذا الإعجاز الساحق . إنه يقف أمام لغز قوى قهار لا نجاة من 
عبثه» فكيف يتحمل مسئولية حماية الأرواح حياله؟! 

ومل الناس ‏ وبخاصة أهل العباسية الخنوض فى الموضوع. وفتر اهتمامهم به 


011001 





وشياالتد 1 


6 


وهدأت النفوس بعض الشىء» واستحال جزع الضابط حزنًا رزيئًا منطو فى أعماق 
التفمن: 

وإذا بالجريمة الثالثة تقع! 

وجاء وقوعها بعد مصرع اللواء بأربعين يومّاء وكان مسرحها بينًا متوسطً بين 
الجناين» وضحيتها شابة فى الثلاثين» زوجة لمقاول صغير وأما لثلاثة أطففال. وكالعادة 
وجد كل شىء على مألوف حاله» عدا أثر الحبل الملتهب حول العنق والدم حول الفم 
والأنف وجحوظ العينين» ولا أثر بعد ذلك لشىء. وأدى محسن واجبه الروتينى بروح 
خامد يائس وقد آمن بأن عذابه لن ينتهى أبداء وبأنه نصب هدق لقوة لا ترحم . وقالت أم 
القتيل وكانت تقيم معها: 

-دخلت فى الصباح لأتفقد حالها فوجدتها. 

وخنلقتها العبرات» فسكتت حتى انحسرت عنها موجة البكاء وقالت: 

-كانت المسكينة مريضة بالتيفود منذ عشرة أعوام . 


10 
نعم ع وكانت حالتها خطيرة» لكنها. . لكنها لم تمت بالتيفود! 
- ألم تشعرى بحركة فى الليل؟ 


أبداء كان الأطفال نائمين فى هذه الحجرة» ونمت أنا على هذه الكنبة على مقربة من 
حجرتها لأسمعها إذا نادت» وكنت آخر من نام فى البيت وأول من استيقظ » 

فدخلت الحجرة فوجدتهايا كبدى كما ترى. 

وجاء الزوج عند الظهر عائدا من الإسكندرية على حال شديدة من الحزن. ومضى 
وقت قبل أن يجد نفسه فى حال تسمح له بالإجابة على أسئلة الضابط . ولم يكن لديه 
قول يمكن أن يفيد التحقيق» كان بالإسكندرية لبعض الأعمال؛ أمضى نهار الأمس فى 
القهوة التجارية مع أناس سماهم» وبات ليلته عند أحدهم بالقبارى حيث تلقى البرقية 
المشئومة» وصاح الرجل وهو يتأوه: 

يا حضرة الضابط» هذه حال لا تطاق» ليست الأولى» قتل المدرس واللواء قبل 

ذلك» أين البوليس؟» الناس لا يقتلون بلا قاتل» وكان عليكم أن تقبضوا عليه . 

لم يتحمل محسن الطعنات فانفجر هاتف : 

-لسنا سحرة! . . ألا تفهم؟! 

وسرعان ما ندم على ما بدر منه» وعاد إلى القسم وهو يقول لنفسه: «الحق أنى أول 





00" وشا التد 


ضحية للمجرم!»2. وود لو يستطيع أن يعلن عجزه. هذا المجرم كالهواء. وحتى الهواء 
يترك فى البيوت أثره. أو أنه مثل حرارة الجو» ولكنها أيغمًا تترك أثرهاء وحتما تقيد 
الجرائم ضد مجهول؟!. وطوق العباسية الفزع . وزادته الصحافة اشتعالاً. ولم يعد 
للمقاهى من حديث غيره» جرائم الخنق ومرتكبها الرهيب المجهول. إنه خطر داهم 
وليس أحد بمأمن منه» وتبددت الثقة برجال الأمن. وانحصرت الشبهة فى المنحرفين 
والمجانين باعتبارها موضة هذه الأيام . وتبين من البحث أن أحد من نزلاء مصحة 
الأمراض العقلية لم يهرب» ووردت على القسم رسائل من مجهولين ففتشت يسببها 
بيوت كثيرة ولكن لم يعثر فيها على أحد ذى خطورة» وكان أكثر المصابين من الطاعنين 
فألقى القبض عليه وسيق إلى التحقيق ولكن ثبت أنه فى ليلة مقتل اللواء كان مقبوضًا 
عليه فى الأزبكية لتحرشه بفتاة فى الطريق» فأطلق سراحه» ضاع كل مجهود هباء» وقال 

- المتهم الوحيد فى هذه القضية أنا! 

هكذا كان أمام نفسهء وأمام أهل العباسية» وأمام قراء الصحف,. وتطايرت إشاعات 
لا يدرى أحد كيف تطايرت. قيل إن المتهم معروف لدى رجال الأمن ولكنهم يتسترون 
عليه لصلته القريبة بشخصية هامة . وقيل أيضا إنه لا يوجد متهم فى ا حق والواقع» ولا 
جريمة ولكنه مرض خطير مجهولء, وأن معامل وزارة الصحة تعمل ليل نهار فى الكشف 
عن سره. وتفشت ال خيرة والبلبلة بين الناس . 

ويومًا -وكان قد مضى على مقتل السيدة شهر أو نحوه- أبلغ الشرطى الديدبان بقسم 
وهرع الضابط محسن عبد البارى إلى مكان الجثة وكان بوسعه ‏ لو أراد أن يعاينها من 
نافذة حجرته» وجد جثة رجل شبه عار» معسولا عن يقين) ملقى لصق جدار القسمء 
وكاد يصرخ من شدة الانزعاج حين وقعت عيناه على أثر حبل الخنق حول الرقبة!. . 
رباه. . حتى هذا الشحاذ! . . وتفحص جلبابه كأئما ثمة أمل فى العثور على شىء . 
ودعى شيخ الحارة للتعرف عليه فقرر أنه متسول من الوايلية الصغرى» بلا مأوىء ويعرفه 
الكثيرون. وجرى التحقيق مجراه لا سعيًا وراء أمل ولكن تغطية للهزية المزرية. وسئل 
سكان البيوت القريبة من مكان الجريمة ولكن أى جديد ينتظر؟ . . ولم لا يسأل المقيمون 
فى القسم أيضًا وهو الملاصق للجرية؟! . وانتشر المخبرون فى مواطن الشبهات ولكنهم 
سيق المشبوهون والمنحرفون بالعشرات إلى الحجز حتى خلت منهم العباسية جميعًا ولكن 


1110 





شيا التر 00 


ما الفائدة؟ . وزيد عدد الشرطة بالشوارع وتضاعف عددهم بالليل . ورصدت الداخلية 
ألما من الجنيهات مكافأة لمن يرشد إلى القاتل الخفى . وتناولت الصحافة الموضوع بقوة 
مثيرة فى صفحاتها الأولى» وتضخم هذا كله فى نفوس أهل العباسية حتى استحال إلى 
أزمة مروعة. ركبهم الفزع . وعذبتهم الأوهام. وانقلبت أحاديثهم إلى هذيان» وهجر 
القادر منهم حيه» ولولا أزمة المساكن وظروف المعيشة لخلت العباسية من أهلهاء ولكن 
لعل أحدا لم يتعذب كما تعذب الضابط محسن عبد البارى أو زوجته الحبلى السيئة 
الحظ . وقد قالت له على سبيل العزاء والتشجيع : 

لا لوم عليك» هذا شىء يعجز خيال البشر. 


- لم يعد لبقائى فى وظيفتى معنى . 
دلنى على تقصيرك . 


أشك فى ذلك» فهذا شىء خارق للعادة. . 

ولم ينم تلك الليلة. ظل ساهراً يفكر ونازعته رغبة فى الهرب إلى عالم شعره 
الصوفى» حيث الهدوء والحقيقة الأبدية. : حيث تذوب الأضواء فى وحدة الوجود 
العليا حيث العزاء عن متاعب الحياة وفشلها وعبثهاء أليس عجيبا أن يتتسب إلى حياة 
واحدة عابد الحق وهذا المجرم الضارى؟ . . إننا موت لأننا نفقد حياتنا فى الاهتمامات 
السخيفة . ولا حياة ولا تجاة لنا إلا بالتوجه إلى الحق وحده! 

ولم يكد يمضى أسبوعان حتى وقع حادث لا يقل غرابة عن سابقه» إذ سقط جسم من 
آخر عربة للترام رقم 77 أمام شارع عشرة آخر الليل. وأوقف الكمسارى الترام ومضى 
نحو مصدر الصوتء. ولحق به السائق» فرأيا أفنديًا على اللأرضء ظنا أنه سكران أو 
مسطول أو عثرت به القدم وسدد السائق نحوه بطاريته اليدوية وسرعان ما ندت عنه 
صرخة» ثم صاح وهو يشير إلى عنق الرجل : 

-انظر.. 

فنظر الكمسارى فرأى أثر ال حبل المشهور. وارتفع صوتاهما فهرع إليهما عدد من 
الشرطة والمخبرين المنتشرين فى الزوايا والأركان. وفى الحالتم القبض على شخصين 
تصادف مرورهما قريبًا من مكان الحادث وسيق الجميع إلى القسم . وكان للحادث رجة 





00 وشا التمد 


المقبوض عليهما إذ تبين أنه ضابط جيش بملابس ملكية» وجرى التحقيق مع الثلاثة 
الآخرين دون أن ينتهى إلى شىء . وذاق محسن مرارة الهزيمة والخيبة للمرة الخامسة حتى 
خيل إليه أن المجرم يتقصده هو بالذات بألاعيبه الجهنمية . وذكرته شخصية المجرم برجل 
الروايات الخفى» أو بمخلوقات الأفلام السينمائية التى تهبط إلى الأرض من الكواكب 
الأخرى» وقال لزوجته وهو يغلى بأحزانه : 

من الحكمة أن تذهبى إلى بيت والدك بالهرم بعيدا عن هذا الجو الملشحون بالعذاب 

والرعب. 

لكنها تساءلت فى احتجاج : 

أليس من المخجل أن أتركك على هذه الحال؟ 

فقال وهو يتأوه: 

ليتنى أجد سببًا وجيها لإلقاء اللوم على نفسى أو على أى من معاونى . 

ونوقشت المسألة فى الصحف على نطاق واسع فى مقالات مسهبة بأقلام علماء 
النفس ورجال الدين. أما العباسية فقد اجتاحها الذعرء وأمست تقفر مع المغرب من 
سكانها سواء فى المقاهى أو فى الطرق» وبات كل وكأنه ينتظر دوره. وبلغت الأزمة 
ذروتها عندما وجدت طفلة بمدرسة البنات الابتدائية مختنقة فى دورة الميأه . 

وتتابعت الأحداث بصورة مرعبة. وتلقاها الناس بذهول. لم يعد أحديهتم 
بالتفاصيل المملة عن التحقيق والبحث وآراء الباحثين فى الصحف . انحصر التفكير فى 
الخطر الداهم الذى يزحف غير مكترث لشىء, ولا يفرق بين شيخ وشاب» وغنى 
وفقيرهء رجل وامرأة» صحيح ومريض» فى بيت أو فى الترام أو فى الطريق. 
مجنون؟. . وباء؟ . . سلاح سرى؟ . . خرافة من الخرافات؟!. . وغشى الحزن الحى 
شبه المهجورء وأنهكه الذعرء وأغلقت البيوت أبوابها ونوافذهاء ولم يعد لأحد من 
حديث غير الموت . 

وكان محسن عبد البارى يتجول فى الحى كالمجنون» يتفقد الشرطة والمخبرين» 
ويتفحص الوجوه والأماكن» ويمضى فى يأس تام» ويناجى يأسه طويلاً» وهزيمته 
المريرة» ويود لو يقدم عنقه إلى المجرم شرط أن يعفى الناس من حبله الجهنمى . وزار 
مستشفى الولادة حيث ترقد زوجته . جلس إلى جانب فراشها قليلاً وهو يرنو إليها وإلى 
الوليد» مفتر الثغر عن ابتسامة . ابتسامة لأول مرة منذ عهد قصير. ثم لشم جبينها 
وذهب . عاد إلى الدنيا التى يود ألا يراه فيها أحد. ووجد ما يشبه الدوار. الحياة التى 
يقضى عليها حبل مجهول فتصبح لا شىء. لكنها شىء بلا ريب وشىء ثمين. الحب 
والشعر والوليد. الآمال التى لا حد لجمالها. الوجود فى الحياة. . مجرد الوجود فى 


ل نت 





الحياة . أهناك خطأ يجب أن يصلح؟ . متى يصلح؟ . واشتد الدوار كما يحدث عند يقظة 
مفاجئة عقب نوم عميق . 

ونمت أنباء إلى مأمور القسم بأنه تقرر نقل الضابط محسن عبد البارى وإحلال 
آخر محله . استاء المأمور استياء شديدا» ومضى من فوره إلى حجرة الضابط الذى يقدره 
خير قدره. رآه مستلقى الرأس على المكتب كالنائم» فاقترب منه وهو يقول بلطف: 

ناداه فلم يرد. وكرر النداء ولكنه لم يرد. هزه ليوقظه فمال رأسه ميلة غريبة. عند 
ذاك لمح المأمور نقطة دم فوق السومان. نظر نحو زميله بفزع فرأى أثر الحبل الجهنمى 
حول العنق. وزلزل القسم ومن فيه! 

وحدثت سلسلة اجتماعات خطيرة فى المحافظة واتخذت قرارات هامة وعاجلة. 
واستدعى المدير العام جميع معاونيه وقال لهم بقوة وحماس: 

سنعلن حربًا لا هوادة فيها حتى يقبض على المجرم . 


وتفكر قليلاً ثم استطرد : 
هنالك شىء لا يقل خطورة عن المجرم نفسه. وهو الذعر الذى اجتاح الناس . 


يجب أن تسير الحياة سيرتها المألوفة وأن يعود الناس إلى الإحساس الطيب بالحياة . 
وتجلى التساؤل فى الأعين المستطلعة فقال المدير: 
-لن تنشر كلمة واحدة عن الموضوع فى الصحف . 


وآنس من العيون فتور فقال: 

الحق أن الخبر يختفى من الدنيا إذا اختفى من الصحف . 
وقلب عينيه فى الوجوه ثم قال: 

-لن يدرى أحد بشىء ولا سكان العباسية أنفسهم . 

ثم ضرب مكتبه بقبضته وقال: 


لا حديث بعد اليوم عن الموت» يجب أن تسير الحياة سيرتها المألوفة» وأن يعود 
الناس إلى الإحساس الطيب بالحياة» ولن نكف عن البحث. 





يي 


زنة 

ازدحم مدخل العمارة رقم ١١5‏ بشارع رمسيس بالمنتظري ين أمام أبواب المصاعد. وهو 
مدخل لا يخلو من ازدحام كما يجدر بعمارة جميع شققها مؤجرة للشركات . وكان بين 
المتتظرين ثلاثة ة أشخاص جاءوا فى وقت واحد على وجه التقريب». رجلان وفتاةء 
وكأكثر الحاضرين لم يكن يعرف أحدهم الآخر. وبطبيعة الحال لم ينتبه أحد إلى الرجلين 
على حين تسللت نظرات الاهتمام إلى الفتاة لشبابها وجمالها وأناقتهاء وبينا بدا أحد 
الرجلين كمن يناقش نفسه مناقشة حادة جعل يقضم ظفره من حين لآخر لاحت فى عينى 
الآخر نظرة حالمة وحزينة» وعندما صادفت عيناه الفتاة دبت فيهما حياة متألقة كالزهرة . 

قصد أول الثلاثة الشقة رقم ١8‏ بالدور الثالث فمضى إلى السكرتارية وحيا السكرتيرة 
اللطيفة هناك وقال برقة ممزوجة بالثقة : 

محمد بدران. . 

ولم تكد الفتاة تغيب وراء باب المدير حتى عادت وهى تقول : 

دخل محمد بدران حجرة المدير فمد له هذا يده من وراء مكتبه وهو منهمك فى مكالمة 
تليفونية» ثم أشار إليه بالجلوس » فغاص فى مقعد جلدى كبير أمام المكتب. وبسرعة 
حدر اوحارو بونرا مار اوور وا رت 
ويرطب لهيب الحر الذى عاناه فى الطريق واختئق به فى المصعد. وسرعان ما وعد نفسه 
بتركيب جهاز تكييف فى حجرة مكتبه حالما تتحسن الأحوال عما قريب إن شاء الله» ولو 

يشاركه فيها الأبناء فى بعض أوقات المذاكرة بل ولا بأس من أن يتحول جزء منها إلى 
مكآن لوس الزوبعة فى أشهر القيظ ب وكالسادة اعالنت ,على دنه أعلام القرام باذ تحفظ 
فأكملت ما ينقص حياته من الرفاهية . شقة جديدة فى حى راق بعيدًا عن روض الفرج 
طبعاء أثاث فاخر» مطبخ أمريكانى» بار أمريكانى أيضًاء سخان» فريجيدير كبير» 
سيارة» شقة دائمة بالإسكندرية للتصييف فى الصيف ولعطلات المواسم فى بقية 
الفصول. ولسبب ما خطرت بباله الفتاة الجميلة التى رآها فى مدخل العمارة أمام 
مصعد. ما أجمل أن «يملك» الإنسان صديقة مثلها . فائقة الجمال حقًا. ولجمالها أثر 
بهيج مثير لأحلام الشباب فى الحب والنشوة السامية . ترى أما زال يذكر عهد الشباب 
الأول بأحلامه ومثالياته؟! وإذا به يستيقظ على صوت المدير وهو يقول: 


1101 





وشا التد 


"6 ِ 


كيف حالك يا أستاذ محمد؟ 
فخرج من أحلامه قائلاً: 
-بخير ما دمت بخير يا سعادة المدير. . 
وضحكًا معابلا مناسبة ظاهرة وإن أحنقه صوته الجهورى ذو النبرة الشديدة 
والجلجلة» ثم رفع إليه عينيه كأنما يقول «فى خدمتك يا فندم» فقال المدير الذى اعتمد 
مكتبه بمرفقيه : 
كيف الأحوال؟ 
ماشية! ليس فى الرأس إلا مشروعات . . 
كل شىء بأوانه» أراهن على أنك ستحقق مشروعاتك.» أنا خبير بالرجال. . 
فابتسم قائلاً : 
- لنا زميل لعلك تعرفه» كنا نعمل منذ ثلاثة أعوام فى جريدة واحدة بثلاثين جنيهاء 
هل تصدق أنه يعمل اليوم بثلاثمائة جنيه؟ 
- ستجىء فرصتك أيضا (ثم وهو يضحك) وأنا ماذا كنت منذ خمسة أعوام؟ 
لكنك رجل أعمال. . ! 
وضحكا مرة أخرى» وإذا بوجه المدير يسترد هيئته الحادة ويقول داخلاً فى موضوعه : 
- أنا ارتأيت طريقة ستوفر عليك تعبا كثيرا . . 
ورمقه محمد بقلق كأنه خاف أن يعقب التوفير فى التعب توفير فى الأجر» ثم قال 
بعجلة : 
- أنا لا يهمنى التعب» إلى بنقط الموضوع وسوف تقرأ مقالآلن يشك قارئه فى أنه بقلم 
أخصائى من العلماء! 
فلم يبد على المدير أنه اكترث لاعتراضه» وأخرج من درج مكتبه مقالة مسطورة على 
فرخين من الورق» فتساءل محمد فى شبه انزعاج : 
كتبتها كلها؟ 
-لا ينقصها إلا إمضاؤك! 
فتناولها الآخر فى فتور وهو يغمغم : 
فقاطعه قائلاً بلهجة مرحة : 
داقرأ ولا تخف» متى وجدتتق خيلا يا جاحد؟! 
فاسترد شيئًا من طمأنينته وهو يقول كالمحتج : 





0 وشسا ار 


ولكنك ستعودنى على الكسل . . ! 

وراح يقرأ: «عزيزى القارئ» ماذا تعرف عن العقار الجديد (اس. أ. ب»)؟ لعلك 
تسمع عنه لأول مرة» ولم تسمع بطبيعة ال حال عن الثورة العلمية التى أحدثها فى أم 
الشمال بصفة خاصة وفى القارة الأوروبية بصفة عامة؟ . فى الأسطر القادمة ستعرف كل 
شىء عنه» مؤيد بأقوال جمهرة من كبار العلماء. ولما كانت مجلتنا علمية قبل كل شىء 
فإنا نرجو ألا يطوح الخيال بأحد قرائهاء فإن اعتقادنا ألا قوة تستطيع أن تعيد الشباب إذا 
ولى» ولكن عقارً يؤخر الشيخوخة عشرة أو خمسة عشر عامًا ليس مما يستهان به. .». 

واستمر فى قراءة المقال والمدير يتابعه فى اهتمام لا يخلو من سخرية.» حتى أتمهء 
وتبادلا النظر فى صمت مليا ثم سأله المدير : 


ما رأيك؟ 
مدهش» ثمة أخطاء فى اللغة أو النحو ستصحح بطبيعة الحال» ولكنه مقال هام 
ومثير. 1 


يجب نشره فى صفحة مهمة . . 
فقال مجع بار ان بشي من لكر 
على الأقل» إن مجلتنا ذات صفة علمية معترف بها! 


فقال المدير ببرود: 
-لن أزيد مليمًا على المبلغ التفق عليه ! 
لا أقصد هذا. . 


-بل تقصده! لا تكن طماعاء ستأخذ المجلة أجرة إعلان تمتاز جدا. وستأخذ أنت 

مكافأتك كما اتفقنا فلا داعى للمشاغبة! 

فدارى محمد هزيمته الخفيفة بضحكة وقال بحرارة زائفة : 

أخاف أن يؤدى الإفراط فى تناول العقار إلى. . 

-ما أجمل تلاوتك للآيات الإنسانية! لكننى أزعم أننى إنسان أكثر منك» هذا العقار 

إذا لم يفد فلن يضرء وهو مفيد قطعاء والإنسان يعيش على الأوهام ويسعد بها. . 

وتناول من جيبه مظروفًا صغيراً» ووضعه على المكتب أمام الأستاذ محمدء وكان 
هذا يعرفه كما يعرف وجه طفلهء فأخذه وهو يبتسم قائلاً: 

ألف شكريا إكسلانسء ربئا ما يحرمنى منك. . 

ولا منك يا أستاذ محمد. . 


11100 





وشياالتد /اه ؟ 


وقاما فى وقت واحد فتصافحاء ثم ذهب. وشملته حركة سريعة» أشبه بالاندفاع » 
وهى طابعه فى السير» وكان عليه أن يذهب إلى المجلة دون إبطاء» ولم يكن فى ذهنه إلا 
المشكلات الخاصة بالمجلة التى عليه أن يحلها قبل هبوط الليل . فى زمن بعيد نسبيًا كان 
يفكر طويلاً بعد تناول مثل هذا المظروف . على الأقل كان يقارن بدهشة بين حاله حين 
تخرجه فى الجامعة والتحاقه بالعمل مخمورا بأسمى الآمال» وبين حاله التى صار إليها 
حين لم يعد لشىء قيمة إلا السيارة وجهاز التكييف وتعليم الأولاد فى الكلية 
الأمريكية. . 

وقصدت الفتاة الشقة رقم ”” بالدور الخامس . سارت بقامتها الرشيقة ووجهها 
الجميل» وعينيها اللوزيتين اللتين تشعان حيوية حتى انتهت إلى مكتب السكرتير» فقام 
بحماس وصافحها بحرارة ثم أشار إليها بالجلوس وهو يقول: 

-المدير مشغول» خمس دقائق » كيف حالك؟ 

جلست وهى تبتسم فى تحفظ ماكر» وتشاغلت عن الشاب المحدق فيها بالنظر إلى 
الحجرة البديعة المعدة لاستقبال أهل الأهمية والمال وعلق بصرها بلوحة من الفن الحديث 
لم تميز بوضوح من أشيائها إلا تفاحة استقرت فى مكان غمازتها عين بشرية هالعة على 
حين اكتنفتها خطوط وألوان فاقعة وأجزاء متنائرة من أعضاء الجسم الإنسانى» وبصفة 
عامة خيل إليها أنها ترى ركن حجرة ‏ كانت مأهولة بالبشر أثر زلزال عنيف مدمرء 
استردت عينيها وهى ترفع حاجبيها المقرونين فى شبه احتجاج ساخر فرأت الشاب وهو 
يشير إلى الكرسى الجالس عليه ويقول باسما : 

ستجلسين هنا بعد أيام . . 

- متى تسافر إلى ألمانيا؟ 

- فى نهاية الأسبوع على الأكثر» ولكن متى أراك ثانية؟ 

ودق جرس التليفون الخاص بالمدير فرفع الشاب السماعة لحظة» ثم أعادها ومضى 
إلى الحجرة» وما لبث أن خرج مصحوبًا بخواجا طاعن فى السن فأوصله حتى الباب 
وعاد إلى الفتاة وهو يقول: 

تفضلى يا آنسة زينب . . 

وهى تمر أمامه فى طريقها إلى الحجرة همس فى أذنها : 

أظن من الممكن أن نتقابل الليلة . . ؟ 

فظلت تنظر فيما أمامها وإن وشى عارضها بابتسامة» حتى غيبها باب الحجرة . تقدم 
المدير ليلاقيها فى المتتصف. بقامته المترهلة» وصلعته الوضيئة» وانحنى نحوها بوجهه 





04" وشيا الت 


المجدورء يتقدمه أنف كالكف المبسوطة بين هالتين من سوالف بيضاءء فتناول يدهاء 
وضغط عليها بحنان مريب ومضى بها حتى أجلسها على المقعد الوثير أمام المكتب» ثم 
جلس على كرسيه وعيناه لا تتحولان عن وجهها: 

خطوة عزيزة يا زوزو» كيف حال والدتك وأخواتك؟ 

وكانت رغم مطاوعة الأمور تجد قلقّاء وإحساسا كأنه التقزز» لكنها ابتسمت إلى 
عينيه المكللتين بحاجبين أشيبين» عينيه الحادتين رغم الكبر» وقاومت النفور المستقر فى 
شعورهاء والذى جاء معها فى الطريق بل من البيت» رغم محاولاتها القوية فى مغالبته 
بالأحلام الخيالية المتألقة كالماس . 

ستشرفين السكرتارية فى نهاية الأسبوع. . 

اتسعت الابتسامة المغتصبة من شفتيهاء فتحركت قسمات الرجل فى نشوة كالطرب 
وقال بحرارة: 

أنت ضوء الحياة يتسلل إلى قلبى المظلم من جديد؛. وسوف ينعكس على حياتك 

بالسعادة. . 

ذكرها هذا ما رددته جدران بيتها الصماء فى غير حياء» وبأمها التى تبدو أحيانًا كثمرة 
متوثبة وإن تكن تنقلب قطة مستكينة عندما تندى جفونها بدمعة ما. وغمغمت فى حرج : 

أرجو أن تجدنى عند حسن ظنك . . 

ابتسم ابتسامة اقشعر لها بدنهاء فندمت على ما فرط منها دون تدبر. وإذا به يتساءل: 


-وقرييك؟ 
فقالت بامتعاض خفى : 


انتهى الأمرء فسخت الخطبة . . 

-ماذا قلتم؟ 

-لم تعوزنا المبررات الوجيهة. . 

فقال بنبرة مبتهجة : 

-لن تندمى على مافات» أمك حكيمة» وأنت كذلك. إن متاعب الحياة لا تفض كما 
يزعم الحمقى فى الصحف, ولكنها تفض بالإرادة الحية» إرادة شخص ذكى 


داح عيها ارما بشع فى رعق الاتوار لي 11 ذل . لكنها لم تندم على فسخ 
الخطبة. . لم تعدها بحياة ‏ تستحق هذا الاسم» وتوعدت أسرتها بمتاعب جديدة . . وهى 


لم تكن تحب قريبها. الآن لن يفصل بينها وبين من تحب شىء» حتى لو علم بحقيقة ما 
تمضى إليه إذ من حسن الحظ أن الطيور على أشكالها تقع . وسألته باستهانة : 


1110م 





اام 01 


ماذا يزعم الحمقى فى الصحف؟ 

أحاديث كألف ليلة وليلة عن إصلاح المجتمع والكون.ء ماذا تفيدين من ذلك أنت؟ ! 

فرفعت كتفيها فى استهزاء» فعاد يقول: 

-لولا الدين لتزوجت منك بلا تردد. . 

فغضت البصر حتى شعر بأنه ينبغى أن يبرر موقفه فقال: 

- إن تغيير الدين كفيل بالقضاء على مركزى» وبالتالى على الوسائل التى يمكن أن 

أسعدك بها. . 

فقالت بارتياح خفى : 

هذا مفهوم وواضح. . 

فقال بحماس : 

.ولو هيأت لك فيللا كاملة لأحرجتك لكنك ستكونين السكرتيرة» شىء عادى 

وطبيعى» وستكون متع الدنيا بين يديك. صدقينى إن المال هو سر بهجة الحياة» 

وإنى مصمم على جعلك أسعد مخلوقة فى هذا الوجود. . 

#امتشكرة دا 

فهز رأسه بارتياح وقال: 

سأرسلك إلى حمدى رجب مدير الإدارة ليمتحنك» مجرد إجراء شكلى كى تسير 

الأمور فى مجراها الطبيعى. . 

متشكرة جدا . . 

وخبرى والدتك بأن تستعد للانتقال إلى مصر الجديدة . . 

سيجىء هذا فى وقته. . 

وندمت مرة أخرى على ما أفلت منها من قول . باتت سريعة الغضب حقاء وإن ظل 
وجهها باسمًا هادا . وأوشكت أن تغضب على طموحها المجنون نفسه. . 

وقامت وهى تقول : 

سأذهب إلى مدير الإدارة . 

فقام أيضًا ومضى حول مكتبه. وسارت نحو الباب فتبعها وهو يرنو إلى رسم ظهرها 
البديع» حتى وقفا وجها لوجه وراء الباب» تناول يدها وانحنى كأنما ليقبلها ولكنه مد 
وجهه عند متتصف المسافة إلى خدها فلثمه . ولبث دانى الوجه من وجهها. وأنفاسه 
ترعش الأهداب المسدلة من كلفة الفستان أعلى الصدر» ثم تساءل برغبة محمومة : 

أما من قبلة؟ 





ل وشياالتء 


فأومأت إلى الأحمر فى شفتيها وتساءلت : 
-و. . وهذا؟ 
ولو! 
فلثمت جانب فيه» ثم استدارت نحو الباب. . 
وقصد ثالث الثلاثة الشقة رقم 0٠‏ بالدور الثامن. كانت صورة الفتاة الجميلة ما تزال 
تعايش خياله معايشة لطيفة» مخالطة أفكاره ومشاعره وأنفاسه» وكان يتصور فى نشاط 
حار خلاق الحياة العريضة التى يمكن أن يصنعها ذلك المثال من الجمال الحى». لكنها 
انطوت فى ركن مجهول أمام السكرتيرة الدميمة الذكية التى ابتسمت لاستقباله . حياها 
برقة وهز رأسه هزة المتسائل وهو ينظر نحو باب المدير فقالت على الفور: 
إنه يتتظرك يا أستاذ . . 
ودخل فقام المدير باسم الوجه وهو يقول: 
- أهلاً أستاذ وديع » جئت فى وقتك. . ! 
وتصافحاء ثم جلس وديع» أما المدير فمال نحو صوان قريب فمد يده داخله مليّاء ثم 
قدم إلى الأستاذ لفافة ماسية أدرك هذا لأول مرة أنها اقرش»» ثم قال: 
-هدية لك!» لم أعرف إلا مصادفة أنك من أهل الكيف! 
وابتسم وديع فى شىء من الارتباك وهو يدسها فى جيبه» وجلس المدير وهو يقول: 
-قرأت القصة. جميلة» نعم جميلة» لى عليها بعض الملحوظات سأحدثك عنها 
عندما يبدأ الاجتماع (ونظر فى الساعة). . وإذا كان لدى الآخرين ملاحظات أخرى 
فرجائى أن تفرغ من إعادة كتابتها قبل نهاية الشهرء حتى يجد كاتب السيناريو مهلة 
لكتابته» وحتى ندخل الاستديو فى الميعاد المتفق عليه. . 
القصة تتغير ولكن قصة القصة» قصة جميع القصصء واحدة.» هذه هى المسألة التى 
يتكرر وقوعها عند مناقشة أى من قصصه»ء قصتك جميلة يا أستاذ. . ولكن! . هى جميلة 
ولكن يجب أن تؤلفها من جديد . وتساءل من خلال تنهدة لم تسمع عن ذلك الركن من 
الدنيا الذى تجرى فيه الأمور على طبيعتها وتنطلق الطيور المغردة» بلا خوف ولا جهل ولا 
طغيان» ولم يداخله شك فى أنه سيجد هنالك الفتاة الجميلة التى عايشت خياله حتى 
أثملته . وتحرك حركة لا معنى لها وقال على سبيل الدفاع عن النفس : 
-يا أستاذ مجدى» إنك سألتنى إن كان عندى قصة فقدمتها ثم أخبرتنى أنك قبلتهاء 
الب كذلك؟ 


1110م 





شيا التد 5 


طبعًاء لكن القصة ليست إلا مشروعاء وعلينا أن نبدأ من أساس متين حتى نضمن 

إنتاج فيلم نظيف» شركتى عنوان الإنتاج النظيف. ألا تعلم أنهم يطلقون علي اسم 

المنتج المجنون لهذا السبب؟! 

كان يتابع صوته بغيظ مكتوم» وينظر بغرابة إلى وجهه المطل عليه من وراء مكتبه 
متضمنًا جميع آيات الصحة والعافية والتحدى» كانت ملامحه جميعا تتعلق بالتحدى» 
عيناه الجاحظتان, أنفه المدبب» فكاه العريضان القويان» وكانت عنايته بالأناقة فائقة 
الحد ورائحة المسك تفوح منه» رغم علم جميع المقربين إليه من أنه يتدهن بها لرأى قرأه 
عن إثارتها فى أحد الكتب الجنسية . هذا المدير الكبير الذى قضى زهرة عمره مندوبا 
لشركة تأمين» وما زال يباهى بطلاقته فى الفرنسية ويستعمل منها الألفاظ والعبارات 
مناسبة ولغير مناسبة» إلى درايته بأشياء كثيرة فى الحياة العملية» وإن يكن الشىء الوحيد 
الذى لم يفقه فيه حرفًا هو الفن بصفة عامة» والقصة بصفة خاصة» وتساءل وديع عن 
اللعنة الغريبة التى قضت عليه طوال حياته الفنية بأن يقف موقف المستأذن بفنه أمام الناس 
لا يربطهم سبب واحد بهذا الفن. وتنهد من الأعماق تنهيدة خفية حارة كمعركة فى 
أعماق المحيط . . 

وفى تمام السادسة مساء جاء المخرج الأستاذ محمد طنطاوى . وتبعه بعد قليل الموزع 
مسيو دزرائيلى » ثم قامت الحجرة لاستقبال النجمة عواطف زهدى . وهلت المرطبات 
ألوانًا وضج المكان بالأحاديث والنكات والتعليقات» على حين انكمش الأستاذ وديع فى 
كرسيه ينتظر أن تبدأ محكمة التفتيش عملها. وجعل يسترق إلى وجوههم النظرات . 

وتساءل متى تتقوض سيطرة الطغاة. متى يمكن أن يفكر محمد طنطاوى كإنسان؟ . 
متى يحل فى رأس مسيو دزرائيلى شىء غير الأرقام والنقود؟ . متى تقلع عواطف زهدى 
عن العادات المتأصلة التى اكتسبتها فى بيت الهوى التى انتشلت منه إلى عالم الفن؟ . متى 
يكف مجدى السيد عن انتاج أفلام كعربون لعشق جديد؟ . متى تقف هذه العوامل كلها 
عن التدخل فى فبركة القصص؟ . . ووجد نفسه تستعيد صورة الفتاة الجميلة التى عايشته 
منذ قليل» وحلم مرة أخرى بالحياة العريضة التى يمكن أن يصنعها جمالها الحى . 

وارتفع صوت المدير وهو يقول: 

-ههء لندخل فى الموضوع» الأستاذ وديع عبدالرازق هنا ليسمع آراءكم فى قصتهء 

فيجب أن ننتهى الليلة من المناقشة حتى يشرع فورا فى تعديل القصة. . 

واتجهت الأنظار نحو مسيو دزرائيلى باعتباره رأس المال وكان ضائعًا فى المقعد 
الضخم لقصر قامته وضآلة جسمه فتزحزح إلى الأمام حتى استوى على طرف المقعد 
وقال باهتمام : 





1 شياالتد 


القصة تبدأ ساخنة ولكنها تنتهى باردة» هذا شىء خطير جدا. . 
تركزت عليه الأبصار فى انتباه واحترام . وتجلت مقدمات الموافقة دون كلام» ولما هم 
المخرج بفتح فيه قاطعه الخواجا قائلا : 
لا مؤاخذة يا محمدء أنا عندى موعد ولابد أن أذهب حالاً فاتركنى حتى أتم كلامى» 
قلت ساخنة وباردة» وشخصية البطل غير محبوبة لأنه غنى» والمتفرجون فى بولاق 
والسيدة زينب لا يحبون الأبطال الأغنياء» ولا مجال فى القصة للضحك» 
والجمهور يحب الضحكء. وجو الضحك فرصة لخلق رقصة أو أغنية» ابحثوا هذه 
النقط. وإذا تعذر تعديل القصة فعندى لكم سيناريو جاهز قابل للتصوير فوراً . 
وتساءل وديع بحدة : 
-سيناريو؟! 
فابتسم إليه ملاطمًا وقال: 
- أنا وكيل توزيع أفلام أجنبية» وعادة استحضر جميع السيناريوهات لأختار على 
أساسها الأفلام التى أوزعهاء وأشترى ما أشاء من الأفلام» ولكنى أستبقى 
سيناريوهات الأفلام الأخرى حتى تسعفنى فى مثل هذه الزنقة» ولن يضيع حقك 
كمؤلف فسيكتب اسمك على القصة الجديدة» ولن تتهم بالسرقة لآن الفيلم المصور 
عن هذا السيناريو لن يرد إلى الشرق الأوسط. فكروا فيما قلت» وسأتصل تليفونيا 
بك يا مجدى الساعة الواحدة بعد متتصف الليل لأعرف النتيجة . 
ووقف رافعا يده بالتحية فوقفت الحجرة» ثم ذهب. 
وتغيرت تعبيرات الوجوه بعد ذهابه فانطلقت على سجيتها مما دل على أنه كان ثمة 
توتر غير ملموس ثم زال» وقلب مجدى ناظريه فى الوجوه وهو يقول بنبرة ملؤها 
التشجيع : 
لا تهتموا بما قال» أنا عارفه» كلامه كتير لكنه يقتنع فى النهاية برأيى» والحق أن هذه 
القصة صا حة تمَامًا لعواطف . 
فقالت عواطف : 
- السيناريو الذى أشار إليه لخصه لى بالتليفون وهو غير مناسب لى على أى حال» أنا 
لا أصلح لتمثيل الزوجة الخائنة» وسيغضب هذا غالبية جمهورى . 
فقال محمد طنطاوى وهو يشعل سيجارة : 
- فلنتكلم فى قصة الأستاذ وديع. 
- خبرنى عن رأيك فيها؟ 


11100 





وشا التد ١‏ 


أنا أوافق دزرائيلى على أنها تنقصها الفكاهة . 

فقال وديع بحرارة: 

الموضوع جادء إذا أردت اللمسات الفكاهية هنا أو هناك فهذه أمرها غير عسير وهو 
يجىء فى العلاج دون إفساد الفكرة الأصلية . 

-لا أقصد هذاء أنا أريد خلق شخصية مضحكة لتلعب دورها فى الفيلم كله كتابع أو 
فاستمات وديع فى الدفاع قائلاً : 

لكنها تبدو شخصية ملزوقة» وقد تكررت فى أفلامنا حتى باخت . 

فقالت عواطف : 

بالعكس هذه الشخصية تنجح دائماء ودورها مناسب لحمودة. 

ولم يكن حمودة إلا أخاهاء ولذلك لم يجد وديع فى المعارضة جدوى فعدل عنها 


قائلاً : 
سأجد لها مكانًا فى القصة . 


اوسن النهاية أكتر انها لزسيك ياوه كه يقول دقرا نال ولكن عقوا لاباسن ينه 
اختمها بمعركة بين البطل وغريه . 

الاي الى هذه نهاية لا تناسب موضوعا نفسياء ولا تناسب موضوعنا بحال» فذكر 
فى هذا من فضلك» إنها نهاية مناسبة لفيلم رعاة بقر أو ما يشابهه. 

المعركة لعبة ناجحة» وأنا متتخصص فى المعارك . 

فقال مجدى ضاحكًا : 

اطادؤوك إلا لظام مخوضنا عاب عرس فى للم طويل راو من سترك وإعادة؟؛ 
أتريده أن يضرب المتفرجين أو يضرب المنتج ! 

وضجت الحجرة بالضحك عدا وديع الذى مضى يجتر غمه صامتاء وإذا بعواطف 


تقول : 
ودورى مناسب بلا شك ولكنه فى النصف الأول من الفيلم سلبى. . فقال وديع 
اليائس من تتابع الضربات: 


دورك فى الأول هو دور امرأة عادية» نموذج متكرر من نسائنا فى البيت ولكن دورك 
الحقيقى يبدأ بزواجك من البطل . . 
-ليس هذا بدور بطلة فيلم. . 





2 شاالتمد 


مي 


ولكن هكذا القصة تسير. . 

ولو! 

وتساءل ترى ألا يمكن أن يجد عملا آخر غير التأليف؟ . وتأوه دون صوت . وعند 
ذاك قال مجدى : 

هذه ملاحظات بسيطة لن تغير جوهر القصة» وطبعا أنت موافق يا أستاذ وديع؟! 

الحق أنى غير موافق . . 

فضحك ضحكة مترعة بصحة وعافية وقال: 

هكذا يكون موقفك كل مرة» وتستمر المناقشات حتى منتصف الليل» ثم تجبر 

بخاطرنا. . 

وقال المخرج : 

الأستاذ وديع عنيد ولكنه يسايرنا فى النهاية» وفنان السينما يجب أن تذوب 

شخصيته فى المجموع ! 

وندت عن مجدى آهة كأنما تذكر فجأة شيئًا ذا بال» واستخرج من درج مكتبه شيكًا 
وهويقول: 

القسط الثانى حل منذ أسبوعين» لعن الله المشاغل . . 

ومد له يده فتناوله وهو يستشعر أول نسمة باردة فى هذه الجلسة الجهنمية . وبدا منه أنه 
يستعد لمواصلة المرافعة» ولكن مجدى قال: 

مكن أن نلخص مات الاتفاق عليه بما يأتى : خلق شخصية مضحكة لحمودة» تسخين 

فى النهاية بمعركة. خلق حوادث مهمة لعواطف قبل الزواج من البطل . . 

ثم ضحك ضحكة عالية وهو يقول : 

ولكن لا نريد حوادث قبل زواجها من المنتج . 

وضجوا جميعا بالضحكء واستأذن المخرج ووديع فذهبا معًا. ودعاه المخرج إلى 
سيارته الكبيرة ليوصله إلى محطة التروللى باس فانسابت بهما السيارة كالعروسء وقال 
المخرج : 

مطلوب منى قصة لشركة أبو الهول سأخرجها بعد هذا الفيلم مباشرة» فهل عندك 

فكرة؟ 

عذاب جديد فى سبيل رزق جديد» كم يسره هذا الطلب وكم يحزنه! وفكر ملياثم 
قال متسائلا : 

-ما رأيك فى موضوع عن المال؟ 


1101 





وشياالتم 33ظ»> 


-قصة بوليسية؟ 
-كلاء إنى أود أن أكتب عن المال باعتباره غولاً مخيمًا يلتهم القيم الجميلة بلا رحمة 
كالخلق والجمال والروح. . 


ففرقع محمد طنطاوى بأصبعيه فرحا وقال بحماس : 
اشرع فى كتابتها وقابلنى يوم الجمعة لكتابة العقد. فكرة عظيمة» وهادفة» وصالحة 
جدا للاشتراك فى جائزة وزارة الثقافة . 


زعبلاوى 


اقتنعت أخيرا بأن على أن أجد الشيخ زعبلاوى . 
وكنت قد سمعت باسمه لأول مرة فى أغنية : 
الدنيا ما لهايا زعبلاوى شقلبوا حالها وخلوها ماوى 
وكانت أغنية ذائعة على عهد طفولتى فخطر لى يوم أن أسأل أبى عنه كعادة الأطفال 
فى السؤال عن كل شىء» سألته : 
من هو زعبلاوى يا أبى؟ 
فرمقنى بنظرة مترددة كأنما شك فى استعدادى لفهم الجواب» لكنه قال : 
فلتحل بك بركته» إنه ولى صادق من أولياء الله» وشيال الهموم والمتاعب» ولولاه 
مت غما. . 
وفى السنوات التى تلت ذلك سمعته مرات وهو يثنى أطيب الثناء على الولى الطيب 
وكراماته . 
وجرت الأيام فصادفتنى أدواء كثيرة» وكنت أجد لكل داء دواءه بلا عناء وبنفقات فى 
حدود الإمكان؛ حتى أصابنى الداء الذى لا دواء له عند أحدء وسدت فى وجهى السبل 
وطوقنى اليأس» فخطر ببالى ما سمعته على عهد طفولتى» وتساءلت لم لا أبحث عن 
الشيخ زعبلاوى؟! وذكرت أن أبى قال إنه عرفه فى بيت الشيخ قمر بخان جعفرء وهو 
شيخ من رجال الدين المشتغلين بالمحاماة الشرعية» فقصدت بيته» وأردت التأكد من أنه 
مازال يقيم فسألت بياع فول أسفل البيت» فنظر الرجل إلى باستغراب وقال: 
-الشيخ قمر!» ترك الحى من عهد بعيد» ويقال إنه يقيم اليوم بجاردن سيتى» وأن 
مكتبه بميدان الأزهار. . 





5 وشياالتد 


واستدللت على عنوان مكتبه بدفتر التليفون» وذهبت إليه من توى فى عمارة الغرفة 
التجارية» واستأذنت» ثم دخلت الحجرة على أثر خروج سيدة حسناء منها أسكرتنى 
برائحة زكية كالسحر المخدرء استقبلنى باسمّاء وأشار إلى بالجلوس فجلست على مقعد 
جلدى فاخرء وأحست قدماى رغم غلظ النعل بغزارة السجادة ونفاستها. وكان الرجل 
يرتدى البدلة العصرية ويدخن السيجار»ء ويجلس جلسة المعتد بنفسه وماله» وينظر إلى 
بترحاب حار لم أشك معه فى أنه يظننى زبوناء فركبنى الحرج والضيق لتطفلى على وقته 
الثمين» فقال يستحثنى على الكلام : 

أهلاً وسهاة؟ 

فقلت لأضع حدا لموقفى الحرج : 

- أنا ابن صديقك القديم الشيخ على التطاوى! 

فمرت بنظرته رنوة فتورء لا الفتور كله لأنه لم يفقد الأمل كله وقال: 

الله يرحمه كان رجلا طيبًا . . 

فتشجعت على البقاء بقوة الألم الذى ساقنى إلى المجىء وقلت : 

كان حدثنى عن ولى طيب يدعى زعبلاوى قابله عند فضيلتكم» إنى يا سيدى أريده 

إن كان ما يزال على قيد الحياة . 

استقر الفتور فى العينين» ولم أكن لأدهش لو طردنى أنا وذكرى أبى معاء وقال 
بلهجة من صمم على إنهاء الحديث : 

كان ذلك فى الزمان الأول» وما أكاد أذكره اليوم. . 

فقمت لأطمئنه إلى اعتزامى الذهاب وأنا أسأله : 

أكان وليًا حما؟ 

كنا نراه معجرة. . 

فسألته وأنا أتحرك لأزيد من طمأنيلته : 

- وأين يمكن أن أجده اليوم؟ 

مدى علمى أنه كان يقيم بربع البرجاوى بالأزهر. . 

وأكب على أوراق مكتبه بحركة قاطعة بأنه لن يفتح فاه مرة أخرى فحنيت رأسى 
شكرا واعتذرتث عن إزعاجه مرات» وغادرت مكتبه وأنا لا أسمع للدنيا صونًا من وش 
الخجل فى رأسى . 

وذهبت إلى ربع البرجاوى الذى يقوم فى حى مأهول لحد الاكتظاظ ؛ فوجدته تآكل 
من القدم حتى لم يبق منه إلا واجهة أثرية وحوش استعمل رغم الحراسة الاسمية مزبلة. 


111 0 





شيااتد ينض 


وكان له مدخل مسقوف اتخذه رجل محلا لبيع الكتب القديمة من دينية وصوفية» وكان 
قميئًا ضئيلاً كأنه مقدمة رجل . فلما سألته عن زعبلاوى نظر إلى بعينين ملتهبتين ضيقتين 
وقال باستغراب : 

-زعبلاوى! يا سلام! والله زمان» كان يقيم فى هذا الربع حقًا عندما كان صالحًا 

للإقامة» وكان يجلس عندى كثيراً فيحدثنى عن الأيام الخالية» وأتبرك بنفحاته» 

ولكن أين زعبلاوى اليوم؟! 

وهز كتفيه فى أسى» وسرعنان ما تركنى لربوون قادم :ورحت:أسأل ! صحاب 
الدكاكين المنتشرة فى الحى» فاتضح أن عدد) وافرا منهم لم يسمع عنهء وآخرين تحسروا 
على أيامه الحلوة وإن جهلوا مكانه» والبعض سخر منه بلا حيطة ونعتوه بالدجل 
ونصحونى أن أعرض نفسى على دكتور كأنى لم أفعل . ولم أجد بدا من العودة إلى 
بيتى يائسا . 

ومضت الأيام مثل عكارة الجوء واشتد بى الألم» فأيقنت بأننى لن أصبر على هذه 
الحال طويلاً» وعدت أتساءل عن زعبلاوى وأتعلق بالآمال التى بعثها اسمه القديم فى 
نفسى . عند ذاك خطرت لى فكرة وهى أن أقصد شيخ حارة الحى» والحق أنى عجبت 
كيف لم أفكر فى هذا من أول الأمر. وكان مكتبه عبارة عن دكان صغير غير أن به مكتبًا 
وتليفونًا. وكان يجلس إلى مكتبه مرتديا جاكتة فوق جلباب مقلم» ولم يقطع دخولى 
حديثه مع رجل يجلس إلى جانبه» فوقفت أنتظر حتى انصرف الرجل» ثم نظر إلى 
بدوره» فقلت أفض مغاليقه بالقواعد المتبعة» فسرعان ما جرت البشاشة فى وجهه. 
ودعانى إلى الجلوس وهو يسألنى عن مطلبى» فقلت : 

- إننى فى حاجة إلى الشيخ زعبلاوى . 

فرمقنى بدهشة كما رمقنى السابقون من قبل وابتسم عن أسنان مذهبة وهو يقول: 

- على أى حال فهو حى لم يمت» ولكن لا مسكن له وهذا هو الخازوق» وربما صادفته 

وأنت خارج من هنا على غير ميعاد» وربما قضيت الأيام والشهور بحنًا عنه دون 


جدوى.. 

حتى أنت لا تستطيع أن تجده! 

حتى أنا! إنه رجل يحير العقل» ولكن أحمد ربنا على أنه مازال حا . 
ونظر إلى مليا ثم تمتم 

الظاهر أن حالتك شديدة . . 

جذا. 


كان الله فى عونك» لكن لم لا تستعين بالعقل! 





1 شيااتد 

وبسط ورقة على المكتب ومضى يخطط عليها بسرعة ومهارة غير متوقعتين حتى رسم 
للحى خريطة شاملة أحياءه وحواريه وأزقته وميادينه» نظر إليها بإعجاب ثم قال: 

.هذه مساكن. وهنا حى العطارين» وحى النحاسين» خان الخليلى» القسم 

والمطافى. الرسم خير مرشد» وخذ بالك من المقاهى وحلقات الذكر والمساجد 

والزوايا والباب الأخضر فقد يندس بين الشحاذين فلا يميز منهم, أنا فى الواقع لم 

أره من سنوات» وشغلتنى عنه شواغل الدنياء وقد أعادنى سوالك عنه إلى أجمل 

عهود الشباب . . 

وجعلت أنظر فى الخريطة بحيرة» ودق جرس التليفون فرفع السماعة وهو يقول لى 
بأريحية 

خذهاء ونحن فى خدمتك . . 

غادرته وأنا أطوى الخريطة» ورحت أقطع الحى» من ميدان إلى شارع إلى عطفة» وأنا 
أسأل من آنس فيه إِلمامًا بالمكان» حتى قال لى كواء بلدى : 

اذهب إلى حسنين الخطاط بأم الغلام فإنه كان صديقه. . 

وذهبت إلى أم الغلام. وجدت عم حسنين يعمل فى دكان ضيق عميق الطول» ملىء 
باللوحات وحقائق الألوان» وتنبعث من أركانه رائحة غريبة هى خليط من رائحة الغراء 
والعطر. وكان عم حسنين متربعا فوق فروة أمام لوحة مسنودة إلى الجدار قد نقش فى 
وسطها باللون الفضى اسم الله. وكان مكبًا على زخرفة الحروف بعناية تستحق الاحترام 
فوقفت وراءه متحرجا من إزعاجه أو قطع فيض الإلهام عن يده المنسجمة فى ملكوتهاء 
وطال انتظارى وإشفاقى» وإذا به يتساءل فى لطف بلدى : 

أدركت أنه كان على علم بوجودى فعرفته بنفسى وقلت: 

-قيل لى إن الشيخ زعبلاوى صديقك وأنا أبحث عنه. . 

كفت يده عن العمل وتفحصنى متعجبًا ثم قال بنبرة تنهدية : 

زعبلاوى!» يا سبحان الله! 

فتساءلت بلهفة : 

.هو صديقك» أليس كذلك؟ 

كان يا مكان» الرجل اللغز! يقبل عليك حتى يظنوه قريبك» ويختفى فكأنه ما كان» 

لكن لا لوم على الأولياء. . 

انطفأ الأمل كما ينطفئ المصباح بغتة لانقطاع التيار» وقال الرجل : 


1110 





شياالتد 5 


لازمنى عهدا حتى خلت أننى أرسمه فيما أرسم ولكن أين هو اليوم؟ 

لعله ما زال حي . 

.هو حى بلا ريب» وكان له ذوق لا يعلى عليه» وبفضله صنعت أجمل لوحاتى. . 

فقلت بصوت يكاد يطمسه رماد الأمل : 

يعلم الله أننى فى مسيس الحاجة إليه وأنت أدرى بالمتاعب التى يقصد من أجلها! 

ثم وهو يبتسم مشرقًا : 

لغ انقو شفاك اللهء والحق أنه رجل كما يقال عنه وأكثر . . 

واقتلعت قدمى وأنا أصافحه ثم ذهبت . ومضيت أشرق فى الحى وأغرب سائلاً عنه 
من آنس فيه طول عمر أو خبرة حتى أخبرنى بياع ترمس بأنه قابله فى بيت الشيخ جاد 
الملحن المعروف منذ زمن وجيز. وذهبت إلى بيت الموسيقار بالتمبكشية» ووجدته فى 
حجرة بلدية» أنيقة» تتردد فى جنباتها أنفاس التاريخ » وكان يجلس على كنبة وعوده 
الشهير منطرح إلى جانبه منطويًا على أجمل أنغام عصرناء على حين ورد من الداخل 
صوت هاون ولغط صغار. وحائًا سلمت وقدمت نفسى أشعرنى بحلاوة استقباله 
وانطلاقه على سجيته بأننى فى بيتى» ولم يسألنى عما جاء بى سواء بالكلام أو الإشارة 
ولم أشعر بأنه يدارى السؤال أو يضمره حتى عجبت للطفه وإنسانيته » وقلع سنتترا 


خيرا : 
-يا شيخ جادء أنا من عشاق فنك» طالما طربت له فى أفواه المطربات والمطربين. . 
فقال باسما: 
فقلت فى حياء : 
لا مؤاخذة على إزعاجك. قيل لى إن زعبلاوى صديقك وأنا فى أشد الحاجة إليه . . 
فقطب فى اهتمام وقال: 
-زعبلاوى! أنت فى حاجة إليه؟ الله معك». ترى أين أنت يا زعبلاوى؟ 
فتساءلت بلهفة : 
-ألا يزورك؟ 
وفى وجهه جمال لا يمكن أن ينسى . 
- ولكن أين هو؟ ! 


- زارنى منذ مدة» قد يحضر الآن» وقد لا أراه حتى الموت . 





0 وشساالتم 


. 


-لم كان كذلك؟ 
فتناول العود وهو يضحك وقال: 
هكذا الأولياء وإلا ما كانوا أولياء! 


هذا العذاب من ضمن العلاج! 
وأمسك بالريشة وراح يعابث الأوتار فينطقها نغما عذبًاء فتابعته شارد اللب ثم قلت 


-إذن ضاعت زيارتى سدى! 

فابتسم وهو يلصق خده بجنب العودء وقال: 

الله يسامحك. أيقال هذا عن زيارة عرفتنى بك وعرفتك بى ! 

فخجلت أيما جل وقلت معتذرا : 

لا تؤاخذنى» أخرجنى شعور الخيبة عن حدود الأدب . 

لا تستسلم للخيبة» هذا الرجل العجيب يتعب كل من يريده» كان أمره سهلاً فى 
الزمان القديم عندما كان يقيم فى مكان معروف, اليوم الدنيا تغيرت» وبعد أن كان 
يتمتع بمكانة لا يحظى بها الحكام بات البوليس يطارده بتهمة الدجل» فلم يعد 
الوصول إليه بالشىء اليسيرء ولكن اصبر وثق بأنك ستصل . 

ورفع رأسه عن العودء وانتظم العزف حتى صار مقدمة موسيقية واضحة.» وإذا به 

يغنى : 
أدر ذكر من أهوى ولو بملامى فإن أحاديث الحبيب مدامى 

وعلى جمال اللحن والغناء تابعته بقلب غافل مكدود ولما فرغ من الأداء قال: 

لحنت هذه القصيدة فى ليلة واحدة» وأذكر أنها كانت ليلة عيد الفطرء وكان هو 
ضيفى طوالهاء وهو الذى اختار لى القصيدة». وكان يجلس حيئًا بمجلسك هذاء 
وحيئًا يلاعب أولادى كأنه أحدهم» وكلما غلبنى الفتور أو استعصى على الإلهام 
لكمنى مداعبًا فى صدرى وضاحكنى فيجيش قلبى بالنغم وأواصل العمل حتى 
اكتمل لى أجمل لحن صنعته . 

فتساءلت فى دهش : 

أله فى الطرب؟ 

-هو الطرب نفسه. وصوته عند الكلام جميل جد وما إن تسمعه حتى ترغب فى 
الغناء» وتهيج أريحية الخلق فى صدرك . 


11100 





وشا التد ا" 


- وكيف يشفى من المتاعب التى يعجز عنها البشر؟ 

هذا سره» ولعلك تظفر به عند اللقاء . 

لكن متى يجىء اللقاء؟! . ولذنا بالصمت فعادت ضوضاء الصغار تملا الحجرة. 
ومضى الشيخ فى الغناء مرة أخرى» وجعل يردد: ولى ذكرهاء فى ألوان من طبقات 
النغم ومسحاسنه حتى رقصت الجدران من سكرة الطرب» وأعربت عن إعجابى بكل 
جوارحى فشكرنى بابتسامته العذبة» ثم قمت مستأذنًا فأوصلنى إلى الباب الخارجى, 
وعندما صافحته قال لى : 

سمعت أنه يتردد هذه الأيام على الحاج ونس الدمنهورى» ألا تعرفه؟ 

فهززت رأسى بالنفى » وانتفاضة أمل جديد تدب فى قلبى » فقال: 

-هو من الوارثين» ويزور القاهرة من حين لآخر فينزل فى فندق ماء ولكنه يسهر كل 

ليلة فى حانة النجمة بشارع الألفى . 

وانتظرت الليل ثم ذهبت إلى حانة النجمة . سألت نادلاً عن الحاج ونس فأشار إلى 
ركن شبه منعزل لموقعه وراء عامود مربع ضخم تقوم بأضلعه المرايا فى كل جانب» 
وهنالك رأيت رجلا يجلس إلى مائدة وحيداء وأمامه فوق المائدة زجاجة فارغة إلى 
ثلثهاء وأخرى فارغة تمامًا وعدا ذلك لا يوجد شىء من مزة أو طعام فأيقنت أننى حيال 
سكير خطير . وكان يرتدى جلبابًا فضفاضا حريريًا وعمامة مقلوظة» ويمد ساقيه حتى 
أصل العمود ناظراً إلى المرآة فى ارتياح وانسجام وقد توردت صفحة وجهه المستدير 
الوسيم رغم دنوه من الشيخوخة ‏ بحمرة الخمر. اقتربت منه فى خفة حتى توقفت 
على مبعدة ذراعين من مجلسه ولكنه لم يلتفت نحوى ولم يبد عليه أنه شعر بوجودى. 
فقلت برقة متوددة : 

مساء الخير يا سيد ونس . 

فالتفت نحوى بشدة كأغا أيقظه صوتى من سبات» وحدجنى بنظرة إنكار فقدمت إليه 
شخصى معتذرا عن إزعاجه وهممت بتوضيح السبب الذى جاء بى إليه لكنه قاطعنى 
بلهجة شبه أمرة وإن لم تخل من لطف عجيب : 

تفضل بالجلوس أولاً» واسكر ثانيًا! 

ففتحت فمى لأعتذر لكنه وضع أصبعيه فى أذنيه وقال: 

ولا كلمة حتى تفعل ما قلت. 

أدركت أننى حيال سكران ذى نزوات فقلت أسايره حتى منتصف الطريق فجلست 
وابتسمت وقلت: 


- أرجو أن تسمح لى بسؤال واحد. 





7 شيااد 


لم يرفع أصبعيه من أذنيه» وأشار إلى الزجاجة وقال: 

فى مجلس كمجاسى هذا لا أسمح بأن يتصل بينى وبين أحد كلام إن لم يكن سكران 

مثلى» وإلا خلا المجلس من اللياقة وتعذر فيه التفاهم . 

أفهمته بالإشارة أننى لا أشرب فقال بقلة اكتراث : 

هذا شأنك»: وهذا شرطى! 

وملا لى كوبه» فتناولته فى رضوخ وشربته» وما إن استقر فى جوفى حتى اشتعل» 
فصبرت عليه حتى ألفت عنفه وقلت : 

د إنه لشنديد؛ :وأظن أن لى أن أسألك عينء . 

لكنه أعاد أصبعيه إلى أذنيه وقال: 

وملا الثانى فنظرت متردداء ثم تغلبت على احتجاجى الباطنى وشربته دفعة واحدة» 
وما إن استقر فى موضعه حتى فقدت إرادتى وعلى أثر الثالث ضاعت ذاكرتى» وعقب 
الرابع اختفى المستقبل» ودار بى كل شىء» ونسيت ما جكت من أجله» أقبل على الرجل 
مصغيًا ولكنى رأيته محض مساحات لونية لا معنى لهاء وهكذا كل شىء بدا. ومروقت 
لم أدره حتى مال رأسى إلى مسند الكرسى وغبت فى نوم عميق» وفى أثناء نومى حلمت 
حلمًا جميلا لم أحلم بمثله من قبل. حلمت بأننى فى حديقة لا حدود لهاء تنتشر فى 
جنباتها الأشجار بوفرة سخية فلا ترى السماء إلا كالكواكب خلل أغصانها المتعائقة 
ويكتنفها جو كالغروب أو كالغيم . وكنت مستلقيًا فوق هضبة من الياسمين المتساقط 
كالرذاذ» ورشاش نافورة صاف ينهل على رأسى وجبينى دون انقطاع . وكنت فى غاية 
من الارتياح والطرب والهناء وجوقة من التغريد والهديل والزقزقة تعزف فى أذنى» وثمة 
توافق عجيب بينى وبين نفسى» وبيئنا وبين الدنيا فكل شىء حيث ينبغى أن يكون بلا 
تنافر أو إساءة أو شذوذ» وليس فى الدنيا كلها داع واحد للكلام أو الحركة» ونشوة طرب 
يضج بها الكون. ولم يدم ذلك إلا لفترة قصيرة فتحت بعدها عينى . أخذ الوعى يلطمنى 
كقبضة شرطى» ورأيت ونس الدمنهورى ينظر إلى بإشفاق» ولم يكن فى الحانة إلا بضعة 
أشخاص كالنيام . وقال الرجل : 

نمت نوما عميقاء لااشك أنك جائع نوم . 

فأسندت رأسى الثقيل إلى راحتى ولكننى رددتها فى دهشة ونظرت فيها فرأيتها تلمع 
بقطرات ماء» وقلت محتجا : 

اراس فنا 

فقال بهدوء: 


11100 





0/١ وضيااتر‎ 


-نعمء» حاول صاحبى أن ينبهك . 

-أرآنى أحد على هذه الحال؟! 

لا تهتم» إنه رجل طيب» ألم تسمع عن الشيخ زعبلاوى؟ 

فانتفضت قائما وأنا أهتف : 

زعبلاوى! 

فقال بدهشة : 

-نعم» مالك؟! 

أين هو؟ 

-لا أدرى أين هو الآن» كان هنا ثم ذهب . 

هممت بالجرى ولكن إعيائى كان فوق ما قدرت فما لبثت أن تهاويت فوق الكرسى, 
وصحت بيأس : 

-ما جئتك إلا لألقاه. ساعدنى على اللحاق به أو أرسل أحد فى طلبه . 

فدعا الرجل بائع جمبرى وأمره بالبحث عن الشيخ وإحضاره. ثم التفت إلى قائلاً : 

-لم أكن أدرى أنك مصاب» آسف جدا . 

-لم تدعنى أتكلم. . 

-يا خسارة!» كان يجلس على هذا الكرسى إلى جانبك» وكان يتغزل طيلة الوقت 

بعقد من الياسمين حول عنقه أهداه إليه أحد المحبين» ثم عطف عليك فراح يبلل 


رأسك بالماء لعلك تفيق . 
فسألته وعيناى لا تفارقان الباب الذى ذهب منه بائع الجمبرى : 
-هل يقابلك هنا كل ليلة؟ 


-كان معى الليلة» وليلة أمس وأول أمس» ولم أكن رأيته منذ شهر! 
فقلت وأنا أتنهد: 

لعله يأتى غدا . 

أنا على استعداد لأعطيه ما يريد من نقود . 

فقال ونس بإشفاق: 

العجيب أنه لا تغريه المغريات ولكنه سيشفيك إذا قابلته . . 

بلا مقابيل؟ 





و وشياالتر 


بمجرد أن يشعر بأنك تحيه . 

وعاد بائع الجمبرى بالخيبة» وكنت قد استعدت بعض نشاطى فغادرت الحانة وأنا 
أترنح . وعند كل منعطف ناديت (يا زعبلاوى» لعل وعسىء ولكن لم يفدنى النداء» 
ولفت إلى غلمان السبيل فتطلعوا نحوى بأعين هازئة حتى لذت بأول عربة صادفتنى . 

وساهرت ونس الدمنهورى الليلة التالية حتى الفجر ولكن الشيخ لم يحضر. 
وأخبرنى ونس بأنه سيسافر إلى البلد وبأنه لن يعود إلى القاهرة حتى يبيع القطن. وقلت 
على أن أنتظر وأن أروض نفسى على الصبر» وحسبى أنى تأكدت من وجود زعبلاوى» 
بل ومن عطفه على مما يبشر باستعداده لمداواتى إذاتم اللقاء. ولكننى كنت أضيق أحيانًا 
بطول الانتظار فيساورنى اليأس» وأحاول إقناع نفسى بصرف النظر نهائيًا عن التفكير 
فيه . كم من متعبين فى هذه الحياة لا يعرفونه أو يعتبرونه خرافة من الخرافات فلم أعذب 
النفس به على هذا النحو؟ 

ولكن ما إن تلح على الآلام حتى أعود إلى التفكير فيه وأنا أتساءل: متى أفوز باللقاء؟ 
ولم يثنى عن موقفى انقطاع أخبار ونس عنى وما قيل عن سفره إلى الخارج للإقامة» فالحق 
أننى اقتنعت ماما بأن على أن أجد زعبلاوى . 

نعم» على أن أجد زعبلاوى . 


البار 


أخيرا تراءت القرية» والليل يهبط من ذروة الأفق» والقوم عائدون وراء البهائم 
ينوءون بالإعياء» والخلاء الماثر بالمغيب يترامى إلى ما لا نهاية. تقدم أبو الخير 
بقدمين متورمتين نحو القرية. من شدة الخنوف تجمد قلبه فلم يعد يخفق بالخوف. ومن 
شدة الألم لم يعد يشعر بالألم. ولمحه العائدون فاتسعت الأعين دهشة وفغرت 
الأفواه وراحوا يتهامسون ويشيرون نحوه. وغض أصدقاؤه بينهم الأبصارء وجعل 
يشق طريقه بعيدا عنهم ماضيًا نحو مصيره» وتابعته الأعين وهو يبتعد رويدا رويد 
حتى لم يبق منه إلا ما يبقى فى الخناطر من حلم» وهزوا الرءوس وقالوا: ضاع 
الرجل . . انتهى أبو الخير . 


7 5 
اخ د 


وقعت مأساة أبو الخير فيما يشبه المصادفة . غليه النعاس ذات ليلة فى مخزن الغلال 
بدوار سيده الجبار. واستيقظ على حركة لكنه للوهلة الأولى لم يشعر إلا بأنه شىء غارق 


1110 





ويا الت ا" 


فى الظلام» أى مكان؟» أى زمان؟» لم يدر شيئا فى الوهلة الأولى» ثم ردته رائحة 
الغلال إلى وجوده. وانتبه إلى الحركة التى أيقظته فمد نحوها بصره فى الظلام» وإذا به 
يسمع صونًا يقول فى ضراعة ورعب : 

ل 51 سياف 

هذا الصوت يعرفه. صوت زنوبة بنت عليوة. مذعورة كأن وحشا يأكلهاء توثب أبو 
الخير ليعرب عن شهامته بعمل ما لكن صونًا غليظًا عميقًا سبقه هاتمًا فى نبرة 
محمومة : 

اف 

تسمر فى مكانه وخارت قواه» هذا الصوت يعرفه أيضا . صوت سيده. عبد الجليل» 
الحبار» السلطة» القانون» الحياة والموت. نسى زنوبة وانحصر تفكيره فى وجوده غير 
المبرر فى هذا المكان» فى المأزق الذى خلقته غفوة خائنة» وبم يجيب لو استجوب!» وفى 
لحظة اقتنع بأن الورطة ورطته هو لا ورطة زنوبة وحدهاء وبأن الذنب ذنبه هو لاذنب 
الجبار الذى لا يسأل عما يفعل» وظل يحملق فى الظلام حتى تراءى له كائن ضخم 
كالشبح يضطرب بالحركة» لعله الجبار مستوليًا على البنت كالفرخ بين مخالب الحدأة . 
واستمرت الضراعة الباكية تلطمها الزجرة المحمومة كما تلطم الزوبعة ورقة الشجر. 
وتولاه فزع وتقزز ويأس حتى أحب لو يستجيب الله مرة أخرى إلى دعاء نوح» وندت 
عن الأرض خشخشة مكتومة نت عن تحركات الأقدام المتوترة ولم تتعد دائرة الشرك 
الرهيب» وأنين متوجع أعقبته همهمة كلفحة نار. وخيل إليه أن الظلام يعوى تحت وطأة 
ثقيلة» وأن عروقه ستنفر» وتوثب ليصرخ لأنه لم يعد يتحمل الألم غير أن صرخة من 
الجبار سبقته» صرخة ألم مباغت» بدأت حادة ثم غلظت وانتهت كالزئير» ثم صاح: 

ديا مجرمة. . 

وسمع وقع لطمة شديدة تبعت بأنين مستسلم يائس وسقوط جسم» جسم رقيق 
خفيف الوزن . وقال الجبار بحنق ملتهب . 

-يا مجرمة!. . خذى. . 

وانهالت مطرقة القدم الغليظة على المتأوهة. خذى. . خذى. . خذىء وتواصل 
الأنين آخذا فى الهبوط حتى اختفى» وتلته زفرات هامسة؛» أما الغعضب فاشتعل جنونه 
إلى ما لا نهاية» خذى. . خذى. . خذى» وصاح أبو الخير بلا وعى : 

-اتق الله . . 

فتلقى صونًا كالقذيفة متسائلاً: 


00 





و" وشياالتم 


فاندفع أبو الخير نحو الباب وشده إليه . انفتح الباب وتدفق ضوء القمر فمرق أبو الخير 
نم وإذا بالجبار يصيح : 

عرفتك» أبو الخير» قفا. . 

جرى كال رصاصة بقوة التقزز والفزع واليأس» والصوت فى أعقابه : 

ولد يا أبو الخير. . ياامجرم. . قف يا مجرم . 

وتردد صوت السيد فهرعت نحوه الأقدام؛ وأرهفت الأسماعء وما لبثت أن 
استيقظت القرية» وجعل أبو الخير يجرى شوطا ويهرول آخر حتى انتهى إلى كوخ 
صديقه ارين جكل بطيخ بم السجارى : ارتمى إلى جانبه وهو يلهث من الجهد 
والكلال فاقبل الآخر عليه مرحبا ملاطفا ومواسيا. قدم له كوز ماء ليشرب ويبلل وجهه. 
وراح يصغى إلى مأساته فى جوف الليل . وتنهد أبو الخير أخيراً وتساءل: 

أتكلم فى النقطة؟ 

فهز صاحبه رأسه محذرًا وقال: 

يقتلونك ولو فى المحكمة . . 

فتساءل فى حيرة : 

-والعمل؟ 

«اغعفها. 

لون سيا 

فرفع الحارس رأسه إلى السماء دون كلام» فقال أبو الخير : 

- الولية والبنت فى القرية تحت رحمة الحبار بلا معين. 

فكر فى حياتك . 

فتنهد فى كرب شديد وتساءل : 

أين القانون؟ 

فضحك الحارس ضحكة جافة وقال: 

تجده نائمًا فى بطن بطيخة. . 

فى اليوم التالى جاءه ا حارس بأخبار . قال له إنه ذاع فى القرية أن أبو الخير اغتتصب 
البنت وقتلها ثم هرب . شهد بهذا السيد نفسه والجميع يصدقونه دون مناقشة. وأهل 
الضحية فى حريق من الحزن» كذلك الأهل والجيران. ورجال كثيرون توعدوا بالانتقام» 
والحكومة تجرى التحقيق وتسمع أقوال الشاهد الوحيد. وحق الخزى على امرأته وابنته 
وأخرسهما الحزن: 

11101 





وشا الت 1١‏ 


جريتى أننى رأيت جرعة الآخر. 

-لم نمت فى المخزن؟ 

مريت 

فرمقه بأسف قائلاً : 

انف . 

ومر بالحارس رجال من رجال السيد يبحثون عن أبو الخير» ومر به رجال من أهل 
البنت الضحية . سمع أبو الخير من مخبئه أصوات المجدين فى البحث عنه ولمح وجوههم 

سن هكرت 

- نعم ) ربنا معك. ٠.‏ 

فقال وهو يدارى خجله بغض البصر: 

ناولا أتنا..: 

وانطلق أبو الخير عند جثوم الظلام بلا هدف ولا معين. لم يكن جاوز طيلة حياته 
السوق بحال ولا يعرف عن الدنيا شيئًا. وتجنب القرى القريبة لعلمه بأنها فى متناول 
الجبار» إلا أن الحكومة نفسها تجد الآن فى أثره. ولا سبيل إلى تبرئة نفسه. وسيكون 
دائمًا عرضة فى هذه البقاع وفى أى لحظة إلى رصاصة تنطلق فتقضى عليه . وظلام هذا 
الليل لن يمتد إلى الأبدء سرعان ما ينقشع عن ضوء النهار» ويبدو هو للأعين كعقرب 
تستبق إليها الهراوات والنعال. ومن لامرأته وابنته؟ من لهما فى جو ينضح بالمقت 
والرغبة فى الانتقام؟ وجد فى السير على غير هدى . ووجد الأشياء تعلن فى حذر عن 
ذواتها فوضحت نوعا ما أشجار الصفصاف والنخيل» والزرع المنتشر تتخلله المماشى» 
وترعة كنيع اما زعااو ثلا شاطراكيرسن موجانةه تحرج من ذفول ستعجياء واتثفيت 
لخاطر برق فى رأسه المكدود نحو الآفق إلى يساره فرأى القمر صاعدا فوق الأرض بأذرع 
متجليًا كأكبر ما يرى وأسهم الضياء تنطلق منه وانية . ضايقه على غير عادة القمرء وجعل 
يلتفت إلى الوراء كلما أوغل فى السير. وترامى نباح من أطراف الصمت الثقيل» ومرة 
تعالى عواء فارتعدت فرائصه. أين منه مصر الكبيرة ليذوب فى زحمتها ويجد مخبأ 
ولقمة؟ كم يلزم من الوقت للقدم المتورمة لتقطع ما يقطعه القطار السريع فى أربع 
ساعات؟ وانطلقت زعقة غفير كصفير القاطرة فتوقف لها قلبه. لعله يعترض سبيله 
متسائلاً عن هويته ومذهبه. وخاف أن يتقدم خطوة. ومال نحو شجرة جميز فلبد عند 
أصلها كأنه نتوء فى سحائها. لن يتعرض له غفير فى ضوء النهار ولكن من للمرأة 








00 وشياالتر 


والبنت؟! يمكن أن يبلغ بعد العذاب مصر ولكن من يحمى المرأة والبنت؟ وكيف تطيب 
الحياة لمن يعيش مظازوا إلى الأبد محروق القلب على امرآته وابسه؟ ولبث يحملق 
فى الفضاءء أفكاره تتلاطم» والساعات تمرء حتى سرقه النوم» واستيقظ وهو يحلم 
بأنه يتهاوى من قمة جبل . فتح عينيه فرأى الأقدام الغليظة تضرب من حوله حلقة 
محكمة. 

وقف فزعًا وهو يلمح الرجال يرمونه بنظرات كالأحجار المدببة وجيادهم وراء 
ظهورهم تصهل . وهتف من الأعماق: 

- أنا فى عرض النبى ! 

فلطمه أحدهم لطمة أردته على الأرض وصاح به: 

- تهرب يا بن التيس! 

فهتف مرة أخرى : 

- أنا فى عرض النبى ! 

فغرس الرجل قدمه فى بطنه وهتف : 

-أنا. 

أوشك أن يقول أنا برىء ولكنه تذكر لحسن حظه أنه يخاطب رجال الجبار فأمسك» 
ورمق الرجل بنظرة ذليلة خرساء . فقال الرجل: 

ارجع واعترف . : 

قال بنبرة باكية : 

فركله بقسوة وقال: 

:لبيك لوي كلف ليل المقفة! 

- يسجنو نئى 

ركله ركلة أشد من الأولى وقال: 

ويعيش أهلك فى أمان! 

تأوه يائس ولم ينبس فزمجرت الحناجر تتعجله» فقال بصوت مهموس : 

سأرجع . ! 

ورجع يقطع الطريق على قدميه وهم يتبعونه عن بعد. 

وأخيرا تراءت القرية. والليل يهبط من ذروة الأفق. والقوم عائدون وراء البهائم 


11100 





ويا الثم 4 


ينوءون بالإعياء . والخلاء المدثر بالمغيب يترامى إلى ما لا نهاية . تقدم أبو الخير بقدمين 
متورمتين نحو القرية. من شدة الخوف تجمد قلبه فلم يعد يخفق بالخنوف. ومن شدة 
الآلم لم يعد يشعر بالآلم . ولمحه العائدون فاتسعت الأعين دهشة وفغرت الأفواه. 
وراحوا يتهامسون ويشيرون نحوه. وغض أصدقاؤه بينهم الأبصار. وجعل يشق 
طريقه بعيدًا عنهم ماضيًا نحو مصيره. وتابعته الأعين وهو يبتعد رويد رويدا حتى لم 
يبق منه إلا ما يبقى فى الخاطر من حلم . وهزوا الرءوس وقالوا: ضاع الرجل . . انتهى 
أبو الخير . . 


كلمة فى الليل 


أخيراً انزاح » وأصبحت إحالته على المعاش حقيقة واقعة. وانتشر الخبر فى المراقبة 
مشيعا الارتياح العميق فى كل إدارة» وكان ثمة تهامس كالأنين بأن فى النية مد خدمته 
عامين جديدين» وبسبب ذلك نجح سكرتيره الخاص فى جمع التبرعات لإقامة حفل 
تكريم لهء ثم جاء الخبر اليقين كالشفاء بعد المرض . وتبادل الموظفون التهانى بلا حرج ء 
وفرح حتى أتعسهم كادرً» وحق لمحمد الفل رئيس المحفوظات أن ينقر على مكتبه 
الكالح جذلاً ويقول: 
ألم يكفنا أننا تحملناه أربعين عامًا؟ ! اللهم إن لنا الجنة بغير حساب . . ! 
وروح يسرى طاهر كاتب القيودات العجوز بدفتر القيد على وجهه وقال: 
- فى ألف داهية يا حسين يا ضاوى . . 
ولم يكن فى سيرة الرجل المحال على المعاش شىء يخفى» ولكنهم أقبلوا عليها كأغا 
تؤرخ لأول مرة. وأبرز يسرى طاهر القابع تحت رفوف المحفوظات المكدسة رأسه من 
بين صفين عاليين من الملفات فوق مكتبه ‏ كرأس السلحفاة وقال: 
دخلنا الخدمة فى يوم واحد» قرار تعيين واحد شمل يسرى طاهر وحسين الضاوى 
وعلى الكفراوى وعبدالسلام زهدى ورغيب إسكندر (وكان يشير بأصبعه إلى 
الثلاثة الآخرين) ثم أعطاه ربناء أو أعطاه الشيطان وهو الأصدق حتى تقلد منصب 
المراقب العام فى سرعة مذهلة» ماذا فعل لنا؟ كان يمر بنا وكأنه لم يعرفناء لم يمد 
لأحد يداء داسنا كأننا حشرات حتى اكتظت ملفات خدمتنا بالعقوبات» ومضى 
يترقى حتى بلغ القمة ونحن مازلنا فى القاع ‏ عليه اللعنة! 
فطوى رغيب إسكندر وكيل الصادر الجريدة التى كان يتفحصهاء وتزحزح إلى الوراء 





قليلاً ليتفادى من شعاع الشمس المنعكس على ضلفة النافذة الزجاجية» وضحك ضحكة 
مقتضبة كالنذير» ثم قال بنبرة ممطوطة تناسب الجرى وراء الذكريات البعيدة : 

- الله يسامحك يا حسين يا ضاوىء كنا جميعا من ساقطى الابتدائية» وعملنا معا 
عمالا فى المطبعة» وكان سعادته يجىء أحيانًا بالجلباب والقبقاب ألا تذكرون؟ ليس 
الفقر عيبًا طبعاء ولكن العيب فى الطرق الملتوية الشاذة المهينة التى يرتفع بها بععض 
الناس بغير الحق» ويوما انتقل عامل المطبعة كاتبًا بسكرتارية المدير! كيف ولم؟ وبعد 
سنة عين سكرتيرا للمدير» ثم مديراً لمكتبه» ثم زوجا لابنته» ثم انطلق كالصاروخ 
الذى نسمع عنه فى هذه الأيام! يا خبر أبيض يا حسين يا ضاوى! ولا الأحلام. . 
فقال محمد الفل رئيس المحفوظات مكايدا : 

كانت الفرصة أمامكم فلم خبتم؟! 

وتجاوبت ضحكاتهم الملتوية المائعة كأغها تحكى فضيحة» وقال يسرى طاهر: 

لا يتيسر الوثوب الخاطف إلا لمن حاز مؤهللات خاصة! 

وتساءل محمد جاد وهو كاتب حديث الخدمة : 

- ألم يكن المراقب من حملة الليسانس؟ 

فقال رغيب إسكندر بتسليم : 

حصل على الابتدائية والكفاءة والبكالوريا وليسانس الحقوق من منازلهم ! 

فارتسمت الدهشة فى وجه الشاب حتى قال على الكفراوى مدير الدفتر خانة : 

- لا تدهش» كان قوة نشاط عجيبة» لكنه لم يرتفع بفضل شهاداته» بل إنه لم يحصل 
عليها إلا حين وجد نفسه فى مركز لا يليق أن يستمر فيه دون شهادة عالية» كان قذرا 
بكل معنى الكلمة» ولكنه فى القدرة على العمل فاق إبليس نفسه! 

فعاد محمد الفل يقول وهو يكور راحته على المسبحة : 

العمل؟ ذكرتنى يا سى على» كانت حياته عملاً خالصاء عمل. . عمل. . عمل» 
أنمكن أن يعد ذلك فضيلة؟! ما قيمة العمل إذا لم يختم يوم الإنسان بساعة صفاء 
ومحبة تجعل للحياة طعمًا؟ هه؟ أما مديرنا العام السابق والحمد لله فلم يتمتع 
بحياة على الإطلاق» دوسيهات . . ملفات . . مذكرات . . تلك كانت حياته» حتى 
يوم الجمعة كان يواصل العمل فى بيته» وكان يعمل كل يوم حتى ساعة متأخرة من 
الليل» وحتى فى الأعياد والمواسم الرسمية» ولم يقم فى إجازة اعتيادية فى حياته 
كلها مرة واحدة» عمل. . عمل . . عمل . . وكان هدفه من العمل خدمة وكيل 
الوزارة أو الوزير ليتقاضى فى النهاية علاوة أو درجة؛ حياة كاملة مضت على 
وتيرة واحدة بين مسكنه فى الحدائق وميدان لاظوغلى. . . أعوذ بالله. . 


1110 





وشا انتم 1م 


فقال عبد السلام زهدى وكيل الوارد ووجهه يتقلص اشمئزازا : 

حتى الطعام كان يتناوله شطائر فى مكتبه بسرعة ولهوجة» وانقطعت أسبابه بأسرته 
أو كادت. حتى بناته المتزوجات لا يراهن إلا خطفًاء وامرأته قضت حياتها فى شبه 
فراغ مخيف. إنه مجرم ولكنه قضى على نفسه بالعقوبة التى يستحقهاء ذلك الرجل 
البغيض الذى لم يعرف من الدنيا إلا الملفات والمذكرات والتعاليم المالية. . 

وهز رغيب إسكندر رأسه فى أسى وقال: 

- لكنه لم يكن عدو نفسه فقطء كان أيضا عدو الآخرين. . 

وسرعان ما سال الامتعاض من زوايا الأعين» وقال محمد الفل بنبرة مغيظة محنقة : 
-لم أر موظمًا كذلك الرجل استغل جهود جميع مرءوسيه ليفيد هو منها وحده. ويمنع 
الخير عن الآخرين كما لو كان سيؤخذ من لحمه ودمه! 


فأردف عبدالسلام زهدى قائلاً : 

-وحتى هذا شر سلبى, أما مقالبه وغدره ونميمته ووقيعته» كل أولئك فشر إجرامى» 
ق أخر اتاو اعد ارعل؟ 

-قل كم خرب بيوتا؟ 


الله يرحمه فريد قناوى مات وهو يدعو عليه على فراش موته. . 

وحسنى غنيم مدير الحسابات السابق شل بسببه. . 

فال يسرى طاهر كاتب القيودات : 

لا حصر لضحاياه» لكنه لم يفكر إلا فى شىء واحد هو مصلحته» وترك الوزارة بلا 

صديق» أؤكد لكم أنه لا صديق له فى الدنيا. . 

وحوالى الساعة السادسة من مساء الخميس وقف تاكسى أمام نادى «فينكس)» فنزل منه 
حسين الضاوى . جاء ليشهد الحفل الذى يقام لتكريمه فوق حديقة السطح لمناسبة إحالته 
غلن العاف 

كان قد قضى فى المعاش يوما واحداء يوم الأربعاء» يوم لن ينسى فى الأيام . أقل ما 
يقال فيه إنه جعله يتساءل فيما يشبه الرعب هل حقا يستطيع أن يتحمل يومًا آخر كذلك 
اليوم! . وحيرته فى مسكنه صباحا تحت أعين امرأته المشفقة هم آخر لا ينسى . والراديو 
تسلية لم تخلق له لا يكاد يعرفه» ولم يجد الفرصة ليتعرف به . والكون كله بدا أنه كف 
عن الحركة. وارتدى بدلته التى لم يعد لها معنى كأنها بدلة عسكرية لضابط متقاعد وغادر 
البيت غارقًا فى الكرب» ومشى حتى أدركه الإعياء سريعًا فاستقل عربة إلى وسط 
المدينة . أزعجه الازدحام كأنما سد مسالك تنفسه. وتريث قليلاً أمام معارض المحال 





1 شياالتد 


التجارية ولكن عينيه لم ترغبا فى رؤية شىء ولم تكترثا لشىء» وخشى أن تقع عليه فى 
تخبطه عين أحد من معارفه» أى من الأعداء» فلاذ بأول مقهى صادفه. ومضى إلى آخر 
ركن فيه. لم يكن ارتاد مقهى منذ أربعين عامًاء مذ كان يجالس يسرى طاهر وعلى 
الكفراوى ورغيب إسكندر وعبدالسلام زهدى فى مقهى المالية فى الزمان الآول. وقال 
لنفسه : إنه يأوى أخيراً إلى ملجأ الكسالى والعجزة. فعصرته حسرة . 

وتصفح جريدة ولكن ماذا يقرأ؟ لم يهمه فى الجريدة فيما مضى إلا أخبار الوفيات 
والدواوين وسرعان ما تململ فى مجلسه فكرهه وكره من فيه» وطوقته الوحدة كالقبرء 
وشعر فى انفصاله عن الوزير والوكيل والمذكرات بضياع أبدى . غادر القهوة ليسير بلا 
هدف على ما فى ذلك من جهد لم يعتده ووجد نفسه يمر بسينما فدخل . والسينما كذلك 
مكان لم يطرقه طوال الأربعين عامًا إلا مرات معدودات فى مناسبات الاحتفالات 
التقليدية بخطبة بناته» ولم يلبث فيها إلا نصف ساعة, ثم غادرها وهو يزفر مللاً ويأسّاء 
وعاد إلى البيت ذليلاً. وجد ابنتيه المقيمتين فى القاهرة فى زيارته فجالسهما طويلاً 
لأول مرة منذ عهد لا يذكره» واستقر بنفسه أول إحساس بالارتياح فى يومه الجهنمى . ثم 
وجد نفسه منفردا بزوجته فى جلسة مرهقة» والراديو يواصل ضجيجه لا يهمه منه شىء 
ولايهزه شىء» وساءل نفسه ألا يعد امرأته فى معسكر أعدائه المزدحم؟ هى لم ترض 
يوما عن أسلوب حياته» واحتسجت المرة بعد المرة على إهمالها وفراغها وجفاف حياتهاء 
ولولا أن وجدت ملادذًا فى بيتى ابنتيها لحطمت حياتها بيديهاء ترى هل ارتاحت إلى هذه 
النهاية الخانقة؟ . . هل تحلم بشىء من الأنس تجده فى وحشته المنكسرة؟ ! وحين استلقى 
فى فراشه تساءل فى رعب كيف يتحمل يوم آخر كهذا اليوم؟! 

أما حفل التكريم هذا فهو آخر ما يربطه بالماضى» بالناس . وهو حدث له أهميته. على 
الأقل لتعلم الوزارة خطورة الرجل الذى تقاعست عن مد خدمته» وليعلم أعداؤه من 
كبار الموظفين وصغارهم أى رجل هو! . . سوف يقف أمامهم مهيبًا جباراً مستهينًا باسم 
ولن يدري أحد بالذل الذى كابده أمس . إنهم يمقتونه مقنًا ولكن خطباءهم سيستبقون إلى 
الإقرار بمزاياه التى لا يمكن إنكارهاء وسيرد على تحياتهم بتحية بارعة يؤكد بها تلك المزايا 
بطريقته الخاصة» وسيجد فرص للتهكم من كبار أعدائه بلباقة شيطانية . إنها آخر حلبة 
ملاكمة يخوضهاء ملاكمة بقفازات حريرية لكنها مبطنة بالحديد» وليخرجن منها ظافراً . 
استقل المصعد إلى سطح النادى» ومضى نحو مدخل الحديقة فى مشيته التقليدية التى 
كانت تفسح له الطريق فى أروقة الوزارة كأنه قاطرة. وامتد بصره إلى الداخل فرأى 
الموائد على هيئة صدر وجناحين ولكن المقاعد كانت خالية» أو شبه خالية! . . وعلى 
وجه الدقة لم ير إلا السادة: صلاح الدين كامل مدير المستخدمين» وإبراهيم شافعى مدير 
الحسابات» وأمين هنداوى مدير المخازن» وزيادة عبيد المراقب العام الذى حل محله. 


11100 





شاالتد ا 


أربعة من أعدى أعدائه وبخاصة الرجل الأخير. ثقلت قدماه وطاف به ما يشبه الدوار. 
حلوى وورود ولكن أين الآدميون؟! . كادت تخذله إرادته لولا الاستماتة فى مدافعة 
الشماتة بأى ثمن . الأوغاد الجبناء قاطعوا الحفل . ترى أهى مكيدة مدبرة؟ . ومن المدبر؟ 
لكنه ابتسم لحسين الضاوى كما كان يبتسم فى فترات الهزائم الوقتية التى تعقب استقالة 
وزير صديق» وتقدم نحو أعدائه يصافحهم واحدا واحداء ثم ألقى نظرة على المقاعد 
الخالية وقال وهو ما يزال يبتسم : 

فيكم الكفاية» تفضلوا بالجلوس . . 
جلسوا. وجاء الخدم ليؤدوا الخدمات المألوفة , وانتظر الرجل حتى ابتعد الخدم ثم 
أطلق ضحكة ميتة وقال مداريا حرجه: 

- يبدو أن الختام ليس مسكًا ولا كالمسك. . 

فقال مدير المخازن فى دهشة بلهاء : 

-لعله وقع خطأ ليس فى الحسبان. . 

فقال مدير الحسابات : 

- نتتظر على أى حال. . 

ولكن حسين الضاوى قال باستهانة : 

الانتظار لن يجدى . . 

فقال صلاح الدين كامل وكان أقربهم جميعًا إلى روح المهادنة» قال وهو ينظر إلى 
المقاعد الخالية : 

- لم أر فى حياتى قلة ذوق كهذه. . 

فحسا الضاوى حسوة شاى باللبن ثم قال والغضب يشتعل تحت قبضة إرادته: 

- لا أدرى شيئًا عما وقع. ولا يهمتى كثيرا أمرةء وسأصارحكم برأيى كما عودتكمء 

هنالك طراز واحد من الرجال أحترمه؛ طراز الرجل القوى» وهو غير المحبوب 

بطبيعة الحال» ولو كنت ممن يلتمسون الحب ما أعجزنى! 

وعكست عينا زيادة عبيد المستديرتان الصغيرتان الحادتان نظرة ساخرة» سرعان ما 
فجرت الغضب الكامن فى عروق الضاوىء فقال وهو يحدج خصمه فى حنق : 

أنا لا يهمنى شىء» لم يوجد رأس لم ينحن لى طويلاً . 

فتظاهر زيادة بالدهشة لغضب الرجل وقال ببرود كالموت : 

-طول عمرك مناضل ملاكم ولكننى لا أذكر أننى رأيتك غاضبًا مرة واحدة. . 

فقال الضاوى بصوت ملتهب : 





8" ويا ار 


-لم يحدث أن وجدت أمامى من يستحق أن يثير غضبى ! 

فتساءل صلاح الدين كامل برجاء : 

- ألا يمكن أن تمر الجلسة بسلام؟ ! 

فأشار الضاوى إلى المقاعد الخالية وهتف بصوت متهدج : 

مؤامرة دنيئة . . 

فرمقه زيادة عبيد بهدوء ساخر وقال ببروده المعتاد : 

أنت مخطى» لم نعمل على منع أحد من الموظفين من الحضورء وما جئنا إلا لظننا 

بأنهم موجودون فى الحفل حتى نحافظ أمامهم على كرامتنا كموظفين كبار. . 

ثم بهدوء مركز كالسم : 

وإلا ما كان هناك باعث واحد يدعونا إلى المجىء ! 

امتقع لون الضاوى وتحركت شفتاه حركة عصبية كحركة ذيل البرص المقطوع. وركز 
فى خصمه عينيه وعشرات الاحتمالات الجنونية تتلاطم فى رأسه» لكنه كظم الطوفان فى 
اللحظة المناسبة» وقال بحقد وتحد: 

- أنا غير نادم على أننى عاملت كل شخص با يستحقه. . 

فتساءل زيادة بسخرية : 

-ماذا جنيت من حياتك؟! الدرجة ها أنت تتركها فى مكانهاء الدرجة التى نبذت كل 

شىء فى سبيلهاء وعقابك الحقيقى أنك ستجد أن الحياة قد نبذتك أيضا . . 

وعاد صلاح الدين كامل يقول برجاء : 

سيسمعنا الخدم ! 

فوقف الضاوى وهو يقول دون مبالاة: 

لايهمنى. المراقب العام لا يهمنى بتاتاء كذلك الخدم» كل شىء يبدو حقيرا لا 

يستحق الأسف . . «السلام عليكم). . 

ومضى دون أن يصافح أحدا . وما لبث أن سافر إلى المنصورة ليمضى أيامًا عند كبرى 
بناته . . قضى أسبوعا فى صحة أقرب إلى الاعتلال ولكنه رجع إلى الحدائق على حال لا 
بأس بها. وخيل إليه أنه نسى حفل التكريم وآلام الهزيمة ولكن الحزن لم يفارقه. ولا 
الخوف من المستقبل» من الملل والفراغ . وكان أعجب ما وقع له أنه اكتشف عند صلاة 
الصبح أنه لم يكن يفقه معنى للفاتحة . حقًا لم ينقطع يوما عن الصلاة» ولكنه كان يؤديها 
كما يحلق ذقنه وكما يعقد رباط عنقه بفكر مشغول بأمر أو بآخر» بمذكرة يعدهاء ببند من 
التعاليم المالية» بمعركة يتوثب لهاء بأى شىء إلا الصلاة. 


11 0 





وشسااتر »> 


ولأول مرة وجد نفسه أمام هذه العبارة اباسم الله» بلا مشاغل يشغل قلبه عنهاء 
فاكتشفها لأول مرة فى حياته. وشعر بدوار وغرابة» وتساءل كيف مر ذلك العمر 
الطويل؟! ومن شدة انفعاله غادر مسكنه إلى الطريق» وسار فيه إلى الداخل إلى الشارع 
العمومى كما ألف أن يفعل كل يوم فى عشرات الأعوام الماضية» ثم لم يتفق له أن يسير 
فى هذا الاتجاه أبدًا منذ زمن بعيد جداء وبخاصة فيما وراء المنعطف. ولا كان ثمة ما 
يدعوه إلى ذلك» فظل يحتفظ له بصورته القديمة إذ كان طريقًا مقفرً تحدق به الحقول من 
الجانبين» باسم الله بها تبدأ كل سورة» والحق يجب أن يبدأ بها كل شىء. ولعل هذا هو 
المراد حقّاء وكلما أوغل فى الطريق بدت له كائنات جديدة لم تكن لتخطر له على بال. 
امتدت على الخانبين الفيللات بحدائق مخضرة منسقة» وتراءت وراءها الحقول. وقامت 
على الطوارين الأشجار بجمالها الرزين» كأنها فى صمتها تتناجى بلغة تنتظر من يكشف 
عن سرها كما كشف هو عن سر آخر . وبدا الطريق ممتدا إلى غير نهاية فعجب غاية 
العجب وتساءل متى خلق هذا العمران كله؟ ! وخيل إليه أنه سيخجل كثيرا عند البوح 
بكشفه لأحد من الناس . ولكن أى أحد من الناس يعرفه ليبوح له بكشفه؟ إن العمران لم 
يدخل بعد قلبه» قلبه المقفر من كل شىء. وعقابك الحقيقى أنك ستجد أن الحياة قد 
نبذتك أيض . كما وجدها يوم الأربعاء أول أيام المعاش» ماذا جنى من حياته الماضية؟ . 
ماذا جنى غير الفراغ والدوار؟ قدمت من الجهد فوق ما يطيق البشر» ولكنه جهد مضى 
باسم الطموح الجنونى» باسم الجشعء باسم الأنانية» باسم الكراهية» باسم الحقد» باسم 
العراك» ولا عمل واحد باسم الله. وتأوه فى موقف اختاره تحت ظل شجرة غير مبال 
بأنظار المارة . ترى هل فات الأوان وضاعت الفرصة؟ وامتد بصره مع الطريق فتراءت 
أشجاره المتباعدة كأنها سياج شبه متصل من الخنضرة اليانعة تتخللها رءوس المصابيح 
الكهربائية البيضاء . كل هذا العمران والجمال قائم فى الطريق الذى يعيش فيه من قديم 
وهو لا يدرى به ماذا يعرف من هذه الدنيا العجيبة؟ ! وماذا يفعل بماضيه المثقل؟ وتنهد فى 
حزن كأنه بنيان يتقوض . ورجع إلى مسكنه وهو يلهث من الانفعال فوجد امرأته جالسة 
تتشمس فجلس إلى جانبها وهو يقول : 

-لم أكن أتصور أن شارعنا على هذا القدر من الجمال! 

فتساءلت: 

-ماذا حدث له؟ 

-شارع جديد, ممهد ونظيف. والفيللا والأشجار! 

فقالت بدهشة : 

-هو كذلك طول عمره. . 





1 شياالتم 


لكننى لم أره إلا اليوم! 

فرمقته بنظرة فاترة لكنها ناطقة بأمر انتقاد وتأنيب فتقبلها خاضعاء وتساءل فى لهفة 
ترى هل فى العمر بقية لإصلاح الماضى الفاسد؟ للاعتذار عن كل هفوة, والتكابر 
عن كل جريمة» وتحويل الأعداء والضحايا إلى أصدقاء؟ . وفكر مليًا ثم قال بحماس 
طفلى : 

ألا يمكن أن يبدأ الإنسان حياة جديدة ولو فى مثل عمرى؟ 

-أى حياة؟! 

جديدة بكل معنى الكلمة» أرجو أن تجيبى بأن هذا ممكن . 

فساورها حب استطلاع مشوب بقلق وقالت : 

لا أفهم» ماذا تعنى؟ 

سوف تفهمين. . 

جديدة بكل معنى الكلمة. وإلا فكيف يحتمل العمر الباقى؟. . هل ينسى يوم 
الأربعاء؟ . وأغمض عينيه كمن يتذكر أشياء مستعصية . وكانت تتابعه بعينين قلقتين فما 
لبثت أن ساءلت نفسها : ترى لم يبتسم هكذا؟ 

وكان حقا يبتسم . ابتسامة جديدة» لا نفاقًا ولا تشفيًا ولا استفزازً ولاسخرية ولا 
مكراولا قريضا ولا . ولة.. 

ابتسامة صافية . 


4. 


حادة 


الصاخبة. وجعل يميل بنصفه الأعلى داخل الدكان ليبتعد ما أمكن عن الضوضاءء ثم 
ختم حديثه بقوله «انتظرنى» سأحضر فورا» وأعاد السماعة إلى موضعها وتناول علبة 
سجائر هوليود من فوق الطاولة ونقد البائع نقوده ‏ ثمن العلبة والمكالمة ‏ واستدار فوق 
الطوار متجها نحو الطريق . كان فى الستين أو نحوهاء طويل القامة نحيلهاء كروى 
الجبهة والعينين. مكور الذقن» وأما صلعته فلم يبق فوق مرآتها إلا جذور شعر أبيض 
مثل منابت شعر ذقنه . وقد أفصح مظهره عن إهمال صريح نتيجة للسن أو الطبع أو 
نسيان الذات . على ذلك كان يتمتع بحيوية مرحة» وتلتمع عيناه بنشاط وابتهاج» فأشعل 
سيجارة وأخذ نفس عميقّاء وبدا أنه ينظر إلى الداخل لا إلى الطريق» ثم مال يمنة بمحاذاة 


111001 





وشياالتر ا 


صف من اللوريات الواقفة لصق الطوار حتى وجد منفذا إلى الشارع . ونففر الستيجارة 
وهو يبتسم» ثم مرق من المنفذ ليعبر الشارع إلى ضفته الأخرى . وما كاد يجاوز مقدمة 
اللورى الأخير حتى شعر باندفاع سيارة فورد نحوه بسرعة فائقة . وقال أحد الشهود فيما 
بعد إنه كان عليه أن يتراجع بسرعة» وإنه لو فعل ذلك لنجا رغم سرعة السيارة» لكنه 
لسبب ما لعله المفاجأة أو سوء التقدير أو القضاء وثب إلى الأمام وهو يهتف «ياساتر 
يارب» وجرت الحوادث متلاحقة . ندت عن الرجل صرخة كالعواء» وفى ذات الوقت 
انطلقت صرخات الفزع من المارة والواقفين على الطوار وفوق إفريز محطة الترام . ورئى 
غير آدمى. وصدر عن فرملة الفورد صوت محشرج متشنج ممزق وهى تزحف على 
الأرض بعجلات متوقفة جامدة. وهرع نحو الضحية فى ثوان عشرات وعشرات 
كأسراب الحمام حتى تكون منهم سور غليظ منيع وانتشر فى المنطقة الهرج . ولم ينبضش 
جسم الرجل بحركة واحدة» وكان منكفئًا على وجهه ولا يجرؤ أحد على لمسه» وإحدى 
رجليه ممدودة إلى آخرهاء والأخرى منثنية منحسرة البنطلون عن ساق نحيلة غزيرة الشعر 
وقد فقدت فردة حذائها. وتغشاه صمت بخلاف كل شىء حوله كأن الأمر لا يعنيه ألبتة. 
الرجل وهو يرتفع فى الفضاء أمتارا ثم يهوى فوق الأرض كشىء . وألصق سائق الفورد 
ظهره بالسيارة من باب الحيطة وراح يخاطب مجموعة من الحفاة أحدقت به على سبيل 
المراقية : 

لا ذنب لى» اندفع هو من أمام اللورى فجأة» وبسرعة» ودون أن ينظر إلى يساره 

كما يجب . . 

وإذ لم يجد وجها مستجيبًا عاد يقول بلهجة خطابية : 

-لم يكن فى الإمكان أن أتجنب صدمه. . 

وندعن المصاب صوت كالزفير المكتوم» وتحرك حركة شاملة مباغتة» ثانية واحدة» ثم 
غرق فى اللامبالاة. . 

-لم يمت! حى . 

لعلها إصابة بسيطة . . 

لكنه طار فى الهواء والعياذ بالله! 

-ولوء عفو ربنا كبير. ٠‏ 

- لا يوجد دم؟ 

عند فمهء انظر. . 

-كل ساعة حادث من هذا النوع . . 

وجاء شرطى مسرعا ففتح له وقع قدميه ثغرة فى السور الآدمى نفذ منها وهو يصيح 





11 وشياالتر 


بالناس أن يبتعدوا. فابتعدوا خطوات» خطوات فقط». وعينهم لا تتحول عن الرجل ولا 
تخف حدة تطلعها وإشفاقها. وقال إنسان: 

-سيبقى هكذا حتى يموث ونحن لا تلفعل شيثًا . . 

فأجابه الشرطى بلهجة رادعة : 

أقل لمسة قد تقتله» وبوليس النجدة والإسعاف فى الطريق إليه. . 

واعترض الحادث جانب الطريق فاضطرت السيارات إلى الالتفاف حول السور 
البشرى مشاركة الترام فى تمشاه فضاق بها حتى تحركت فى بطء شديد وتجمعت فى 
صفوف ممتدة ومتداخلة وهى تصرخ وتعوى بلا فائدة» ومن ركابها تطلعت أعين إلى 
الضحية فى اهتمام» وأعين تجنبت النظر فى جزع . وجاء بوليس النجدة وراء صفارته 
الحلزونية فاتسعت الحلقة» وغادرت القوة السيارة إلى الرجل الملقى» وكان الضابط 
حاسما وحازما فأصدر أمرا بتفريق المتجمعين» وتفحص الرجل بنظرة شاملة» وسأل 
الشرطى : 

ألم تحضر الإسعاف. . ؟ 

وإذالم تكن ثمة ضرورة إلى السؤال فإنه لم يلق بالا إلى الجواب» وتساءل مرة 
أخرى : 

-هل من شهود؟ ! 

فتقدم ماسح أحذية وسائق لورى وصبى كبابجى كان عائدا بصينية فارغة . وأعادوا 
على مسمع الضابط ما حدث منذ كان الرجل المجهول يتكلم فى التليفون. وجاءت سيارة 
الإسعاف» وأحاط رجالها بالرجل» وتفحصه رئيسهم بعناية وحذر وهو يجلس 
القرفصاءء ثم نهض متوجها إلى الضابط فبادره هذا قائلاً: 

أظن يجب نقله إلى الإسعاف. . ؟ 

فقال الآخر بلهجة ذات أثر لا يختلف عن الأثر الذى يحدثه عادة جرس سيارته : 

-بل يجب نقله إلى مستشفى الدمرداش . . 

وأدرك الضابط ما يعنيه ذلك على حين استطرد رجل الإسعاف قائلاً: 

أعتقد أن الحالة خطيرة جد . . 

وعندما أرقد الرجل بحجرة الفحص بمستشفى الدمرداش كانت طلائع الليل تزحف 
كالجبال. وفحصه مدير القسم بنفسه, ثم التفت إلى مساعده قائلا: 

إصابة خطيرة فى الرئة اليسرى» تهدد القلب مباشرة. . 

-عملية؟ 


1110 





اام > 


فهز رأسه قاتلاً: 

نه ع 

وصدقت فراسة الطبيب فقد تحرك الرجل حركة شاملة كالرعشة» واضطرب صدره 
اضطرابًا متلاحقًا محشرجاء ثم شهق شهقة خفيفة واستكن . وكان الطبيبان يراقبانه 
فالتفت المدير نحو مساعده وهو يقول: 

-انتهى. . 

وجاء ضابط النقطة وكان الرجل ما يزال راقدًا بكامل ملابسه عدا فردة الحذاء 
المفقودة. وقال الطبيب: 

هذه الحوادث لا تنتهى . . 

فقال الضابط وهو يومى إلى الفقيد: 

- وشهادة الشهود ليست فى صا حه ! 

ثم وهو يقترب من السرير: 

ازج و اتدل على شتخصيتة. . 

وشرع فى عمله على حين بسط الشاويش المرافق له ورقة فوق منضدة وتأهب بدوره 
لتسجيل المحضر . . ودس الضابط يده برفق فى جيب الجاكتة الداخلى فاستخرج حافظة 
نقود قديمة متوسطة الحجم ومضى يفتشها جيبًا جيبًا ويملى على الشاويش : 

خمسة وأربعون قرشا من العملة الورقية. . 

روشتة للدكتور فوزى سليمان. . 

وألقى نظرة عابرة على أسماء الأدوية ولكنه لاحظ وجود كتابة على ظهرها أيضا 
فجرى بصره عليها بلا إرادة فإذا بها: المواد الكحولية والبيض والدهنيات تمنوعة. 
ويستحسن تجنب المنبهات كالشاى والقهوة والشيكولاتة . وابتسم الضابط ابتسامة باطنية 
إذ إن تعليمات مماثلة صدرت إليه من طبيبه فى نفس الشهر!» ثم واصل إملاءه وأصابعه 
تستخرج من الحافظة محفوظاتها : 

مجلد صغير من السور القرانية . . 

ولمالم يجد شيئًا آخر فى ال حافظة قال بضيق : 

لا توجد بطاقة تحقيق شخصية! 

وانتقل إلى الجيب الداخلى الصغير وما لبث أن قال بفتور: 

ثلاثة قروش ونصف عملة معدنية . . 

ووجد أيضا حقا صغيرا فرفع غطاءه المحكم فرأى مادة غريبة كالين المسحوق. وامتلاً 





؟ وشياالتد 


أنفه برائحة مسكية» ثم ما لبث أن عطس عطسة من الأعماق» فأعاد الغطاء إلى موضعه 
وقال بعين دامعة : 

حق نشوق . . 

وتوالى التفتيش وتتابع الإملاء: 

منديل » علبة سجائر هوليود. سلسلة مفاتيح » ساعة يد. . 

وكان آخر ما عثر عليه صفحة مطوية من كراسة فبسطها فوجدها رسالة لم تغلف 
بمظروف بعد» فأمل أن يصادف فيها ما يمكن أن يستدل به على شخصية الرجل . نظر أول ما 
نظر إلى الإمضاء ولكنها لم تزد عن «أخوك عبدالله» فعاد إلى رأس الصفحة ولكن الرسالة 
كانت موجهة «أخى العزيز أدامه الله»» فاستاء من هذه المعاندة ولم يجد بدا من قراءتها . 

أخى العزيز أدامه الله : 

اليوم تحقق أكبر أمل لى فى احياة . 

اضطر إلى التوقف رافعا عينيه إلى تاريخ الرسالة» وكان تاريخ اليوم نفسه ٠١‏ فبراير» 
وامتد بصره فوق الأسطر إلى الوجه الباهت المشوب بزرقة مخيفة» المغلق كسرء الجامد 
كتمثال» ذلك الذى تحقق أكبر أمل له فى الحياة. وتساءل الطبيب: 

عثرت على شىء؟ 

فانتبه إلى نفسه وابتسم ابتسامة استهانة ليدل على اعتياده أى شىء وقال : 

-اليوم تحقق أكبر أمل لى فى الحياة» بذلك بدأت الرسالة! 

وعاد إلى القراءة متجنبًا النظر إلى عينى الطبيب : «فقد انزاحت عن صدرى الأعباء 
المريرة» انزاحت جميعًا والحمد لله» أمينة وبهية وزينب فى بيوتهن» وها هو على 
يتوظف» وكلما ذكرت الماضى بمتاعبه وكدحه وقلقه وشقائه أحمد الله المنان» وهذا هو 
النصر المبين» . 

واسترق النظر مرة أخرى إلى الإنسان الراحل» الذى لا يدرى أحد مقره» الذى يثير 
الدهشة بصمته وانعزاله وارتداده العميق إلى المجهول . المتاعب والقلق والشقاء والأمل 
الكبير والنصر المبين! 

«وبعد تفكير طويل قر رأيى على ترك الخدمة» . فعلاً. «فهيهات أن تتحسن صحتى 
طالما بقيت فى المدينة» وحسبت الحسبة فوجدتنى أخدم فى الحكومة بثلاثة جنيهات هى 
الفرق بين المرتب والمعاش » لذلك قررت أن أطلب إحالتى على المعاش» وقريبًا أعود إلى 
البلدة إن شاء الله» وسوف أنضم إلى مجلسك الظريف عند عبدالتواب شيخ الخفرء أما 
الآن فكل شىء بخير وليس فى الإمكان خير ما كان» . 


11100 





وشا التد 14١‏ 


وطوى خابط لوف الوع رل: 
إنه موظف كما يفهم من خطابه ولكن ليس به ما يمكن الاستدلال على هويته . 


ستتخذ الإجراءات المألوفة وغالبًا ما يجىء أهله فى الوقت المناسب فيتسلمون الحثة 
من المشرحة . : 


حنظل والعسكرى 


هذه الأقدام الثقيلة تبعث وقعًا له فى صدره صدى مخيف, والنحنحة الصادرة عن 
صاحبها نذير بالمتاعب والآلام» إنه الشاويش قادم فى ظلمة الليل . تمنى أن يفر من وجهه 
لكنه لم يستطعء وبكل مشقة قام وهو يلقى بثقله على الجدار فى أول المنعطف» وكان 
يترنح وحاله تنذر بالانهيار فى أية لحظة» وفتح عينيه بجهد صوب القادم كالقدرء حاول 
كثيرا أن يتحرك فتبددت محاولاته فى الظلام» كما بعثرت ذكرياته» ولاح على شعاع 
الفانوس وجهه الكالح المغبر الفظ كالنائم» ولم يكن على جسده إلا بقايا جلباب ممزقة» 
وباطنه المجنون يحترق رغبة فى الحقنة المحرمة . 

لظن ب ال 

آه. هذا النداء المشئوم تعقبه الصفعات واللكمات. وبصوت يائس مكروب توسل 
قائلا : 

-رحمة لله يا حضرة الشاويش . . 

وقف أمامه حاجبًا عنه شعاع الفانوس» شابكًا بندقيته بكتفه فاشتد التصاق حنظل 
بجدار عطفة شنافيرى . كان يعانى الخوف ويدافع الغيبوبة ويعلن المسكنة» ولكن ما بال 
الشاويش لم يهدر ولم يلعن ولم يصفع؟ ! 

أخذت الحقنة؟ 

-لا وربك . 

- لكنك نائم أو كالنائم! 

- لأننى لم آخذها. . 

تعال معى» المأمور يطلبك! 

فتنهد فى صدر مجنون جائع وهتف : 

أنافى عرضك . . 





0 شياالتد 


فوضع على منكبه يذ آدمية لا حديدية ولا عسكرية» فتعجب حنظل دون أن ينبس » 
فقال الشاويش : 
سال حسم 
-لم أفعل شيعًا! 
مضى به برفق وهو يهمس له: 
ستجد أن كل شىء طيب» لا تخف . . 
وقف فى حجرة المأمور على بعد مبعدة متر من بابها الذى أغلق وراءه» لا يتقدم 
خطوة» ولا يرفع عينيه إلى النظرة التى تستقر عليه من وجه محنك؛ والضوء الساطع 
مسلطًا على جسده الطينى الذى لا يكاد يستره شىء» وقد بدا بين الجدران البيضاء الملساء 
والأثاث الوقور شيئًا متخلمًا عن الزمن» توقع حنظل صاعقة ولكن جاءه صوت المأمور 
فى نبرة آدمية غير منتظرة ككل شىء فى تلك الليلة : 
اجلس يا حنظل» مساء الخير. . 
يارب السماوات!» ماذا جرى للدنيا؟ ! 
أستغفر الله ياحضرة المأمورء أنا خادمك! 
ولكنه حدجه بنظرة تأنيب وهو يشير بأصبع أمر إلى مقعد جلدى, فشردة كثيراء ثم 
لم ير بدا من الإذعان فجلس على طرف المقعد وهو ينظر إلى قدميه الترابيتين» فى 
ضخامة قدمى تمثال» المطمورتين تحت طبقات من القشرة الأرضية. ورغم ذلك لم 
يصدق شيئًا فقال فى ذل : 
يا حضرة المأمورء أنا رجل مسكين» كثير الخطاياء ولكن بؤسى أفظع من خطاياى» 
والرحمة عند الله مفضلة على العدل. . 
فقال المأمور بنبرة جادة رقيقة فى آن : 
اطمئن يا حنظل» أنا عارف أنك أخطأت كثيراً ولكنك قاسيت أكثر» وأنت أدرى 
يذنوبك» والشاويش معذور فى قسوته عليك فالقانون هو القانون» ولكن جدت 
أمور أوجبت تغيير المعاملة» تغير كل شىء» ونحن كما أن لنا جانبًا عسكريًا فلنافى 
ذات الوقت اننا الأتساتى . . 
وجعل ينظر إلى المأمور بذهول وهو يغالب بمشقة سلطان الغيبوبة فرمقه الرجل برثاء 
وقال: 
صدقنى يا حنظل » صدق كل ما تسمع وما ترى» رأسك لا يقوى على التركيز لأنك 
لم تحقن؟. نفد آخر نقودك ولم تحقن» وتاجر السم لا يرحم ويطالب بالدفع 
المقدم» لكنك ستشفى من هذا كله. . 


1110م 





١ شااشر‎ 


فقال حنظل بصوت باك : 
- أنا مسكين » حياتى حظ عائر» كنت قويا فضعفت » وبياعا فأفلست» وأحبيث 
فتلوعت» وأدمنت» ثم تسولت. . 

ستخرج من المصحة رجلاً جديدا» ولى معك لقاء آخر. . 

وفى باحة القسم أحاطت به مجموعة من العساكر فبحكم العادة تكور جسده كأنما 
يتلقى ضربة» ولكنهم ابتسموا إليه؛ انفرجت الشفاة الغليظة تحت الشوارب الثائرة. . 

لقان 

- نعم يا حنظل » كل شىء تغير. . 

- بالشفاء يا حنظل . . 

-ليعف الله عما سلف. . 

وحمل وهو بين النوم واليقظة» وسرعان ما استسلم للنوم فى عربة راحت تتأرجح به 
إلى ما لا نهاية . وفتح عينيه على حجرة غريبة» رآها بياضا ناصعًا وضوءًا باهرا كما رأى 
وجها حانيّاء وشعر بضعف وتقززء وغثيان ووحدة فى الأعماق» وخوف. فتوسل 
قائلاً : 

الحقنة» الحقنة يا عم متبولى . . 

وداعبت أذنه ضحكة رقيقة» وسطعت أنفه رائحة نفاذة» وعانى جوعا فى الرأس وفى 
الحواس» وتشققت أركان رأسه» ثم غاب عن الوجود. وغادر حنظل المصحة رجلاً 
جديدا كما وعد المأمور. تجلت صورته الطبيعية لأول مرة ورفل فى جلباب أبيض 
فضفاض. وحلق ذقنه فتبدت قوة شاربه وانتعل مركوبًا أصفر فاقعا . ووضح وشم الأسد 
فوق معصمه ووشم العصفورة عند سوالفه تحت لاسة مزركشة. ومضى به شاويش 
كالصديق» كل شىء صديق » فتراءت بشرته سمراء صافية تحت الشمس» وما تمالك أن 
ضحكء وقال لنفسه إن وزنه سيخف بعد النظافة» وكان صاحيًا واعيًا يرى الأشياء 
ويسمع الأصوات ويحب الشاويش ولا يستشعر فى جوفه الألم . وامتلاً ثقة بالنفس حتى 
خال أن بقدرته أن يطيرء وصدق ما يحيط به» فلم يدهش عندما أقبل عليه العساكر 
مهنئين» وتصافحوا بحرارة ومودة فى شبه مظاهرة فى باحة القسم . ولم يدهش كثيراً 
عندما رأى المأمور يقف لاستقباله» ولكنه تأثر جداء وبروحه المتواضعة ارتمى على يده 
يريد أن يقبلها ولكن المأمور تلقاه بين ذراعيه وشد عليه برحمة فتذاوب خجلا وامتنانًا 
وفاضت عيناه بالدمع . وأجلسه الرجل على المقعد وعاد إلى كرسيه وراء المكتب وهو 
يضحك ضحكة رطيبة صافية» وقال: 

مباركة عليك الصحة والعافية . 





1 شياالتد 


فاغرورقت عيناه فاستطرد المأمور قائلا : 

- الآن تستطع أن تبدأ من جديد. . 

فقال بدموعه المنهمرة : 

بفضل الله وبفضلك . . 

- لا تبالغ فالفضل لله وحده. 

وفتح المأمور دفترا بين يديه وأمسك بالقلم وخط عبارة فى رأس صفحة بيضاء. ثم 
قال بهدوء وهو يرمقه بنظرة هادئة وعميقة كضوء القمر: 

اطلب ما تشاء يا حنظل . 

فارتبك الرجل ولم بحر جوابا. تحركت شفتاه فتحرك شاربه الفطرى ولكنه لم يحر 
جوايا فتحه المأمور قاتلا : 

اطلب ما تشاء يا حنظل» هذا أمر! 

اولكدن:.: 

الك اينما فقا . 

فقال فى تردد : 

أطلب الستر. . 

أفصح» اطلب ما تشاءء هذا أمر. . 

تذكر حنظل دعاء أمه؛ وحكايات الليل» وأنغام الرباب» ثم ضحك قائلاً : 

كنت أسرح بعربات الفاكهة! 

فقال المأمور ويده تكتب فى الدفتر: 

دكان فاكهة بالحسينية» رفوف مزدوجة» كهرباء لحسن العرض . . 

فتساءل فى ذهول : 

والنقود؟! 

لا تشغل بالك» هذا أمر يخصنا ويخص الجميع تكلم ماذا تطلب . . إنه أمر! 

ووجد حنظل شجاعة جديدة» مستمدة من شخصه الحديد ودكان الفاكهة. فقال 
بصوت متهدج : 

سنية بيومى بياعة الكبدة» الحق إنى . . 

فقال المأمور ويده لا تكف عن التسجيل : 

- لا داعى للشرح.ء كله معلوم يعرفه عسكرى النقطة. وكل عسكرى» وخفير 

السوق» سنية شابة مليحة وجريئة» ولم تتزوج بعد رغم ما كان» وفى وقت ما كانت 


1110م 





وشيااسسر 3-3 

أفتك بك من الهريين» وتمادت فى قسوتها فاشتدت حالتك سوءاء وهجرتك» 
لكنها ستعود إليك» لتكن دكان فاكهة وكبدة» سيكون ذلك شيئًا فريدا فى الحسينية 
على مثال محال البقالة الراقية جداء غيره؟ . مال رأسه من التأثر . وحلمت عيناه 
بأديم أخضر تنبثق منه ورود حمراء مطوقة بدوائر من البنفسج» وطنت فى أذنه نغمة 
تردد: «يا منية القلب قل لى»» لكنه رأى بقعة سوداء كسحابة من الذباب فاقشعر 
بدنه وقال بإشفاق : 

أخشى ألا تدوم صداقة العساكر يا سيدى المأمورء وإنه وإن يكن لشقائى الماضى 
أسباب كثيرة فإن العساكر كانوا من الأسباب الهامة فى ذلك» طالما طاردوا عربتى 
لسبب ولغير ما سبب وصادروا رزقى وضربونى» وفى مسألة سنية بالذات فإن أول 
من لعب بعقلها كان العسكرى حسونة! 

فارتفعت الضحكة الرطيبة الصافية مرة أخرى وقال المأمور بلهجة لا تدع مجالاً 
لشلك: 

-لن تجد فى العساكر عدوا واحدا لك» هم من اليوم وإلى الأبد أصدقاؤك المخلصون» 
اطلب ما تشاء يا حنظل» هذا الأمر. ! 

وثمل حنظل بسكرة شجاعة لم ينعم بها حتى أيام الفتونة» فقال: 

أمثالى من الفقراء كثيرون لعلك يا حضرة المأمور لا تعرفهم . . فقاطعه قائلاً ويده 
تكتب دون انقطاع : 

أعرف كل شىء» دلنا عليهم» وسيكون لكل دكانه وامرأته وصداقة العساكرء 
سيتحقق هذا كله فاطلب ما تشاءء إنه أمر. . 

فضحك حنظل ضحكة مجلجلة وشبك راحتيه وشد عليهما وهو يقول: 

كأننى فى حلم ! 

الواقع نوع من الحلم» والحلم نوع من الواقع» اطلب ما تشاءء إنه أمر. . 
الو 

كم من المسجونين من يستحق السجن حقً؟ ! 

ل 

سيخرج من السجن كل من لا يستحق السجن حقا ولو فرغت السجون! 

فهتف حنظل فى نشوة : 

ليحيا العدل» ليحيا المأمور! 

وشهد حوش بيت حنظل بعطفة الشنافيرى حفلاً فريدا حضره المأمور والعساكر 
والفقراء وطلقاء السجون. وارتدت سنية فستانًا برتقاليًا وتلفعت بشال أخضر فلم يظهر 





4 ضيااتر 


من جسدها البض إلا معصم محلى بأسورة ذهبية وأسفل ساق مطوقة بخلخال فضى 
بشراريب من أهلة . وكانت تقدم بنفسها الشراب» شراب التمر هندى والكركديه . وثمة 
فرقة موسيقية عليها مسحة من شارع محمد على احتلت ركنًا وراحت تحيى القادمين . 
واستمتع كل شخص بحريته حتى العساكر غنوا ورقصوا تحت بصر المأمور» ثم وقف 
مقرئ بين مذهبجية ومضى يتغنى بمديح الرسول مترئا : 
لما بدا لاح منار الهدى 

فتضاعفت آهات الطرب من صدور الفقراء والمساجين والعساكر وزغردت سنية 
زغرودة وزغرودة كأنما تصدر عن ناى. وفى ختام الحفل وقف المأمور وخاطب الجميع 
قائلا : 

- أول الغيث قطرء ثم ينهمر»ء طاب ليلكم . 

وزغردت سنية مرة أخرى» وأخذ المدعوون فى الانصراف عند الفجرء والديكة تسبح 
لله والصمت يسبح. . 

واستلقى حنظل على الأريكة ليرتاح بعد عناء فجلست سنية عند رأسه وراحت 
تداعب قصة شعره. كان سعيدا مطمئنًا راضيًا لا يريد لشىء نهاية . وقال برقة 

أنت أصل الخير كله . . 

فامتدت أصابعها إلى سوالفه كأنما تزقق عصفورة الوشم فعاد يقول: 

جميع ما حصل لا أعتبره معجزة» المعجزة أن قلبك لان بعد ما كان . 

وانسابت يدها إلى خده فذقنه ثم استكنت على حنجرته» واستسلم لمداعباتهاء وود فى 
أعماقه ألا يكون لشىء نهاية» غير أنه انتبه على إحساس غريب» يشبه الضغط على 
حنجرته» واشتد بدرجة خرجت عن مألوف كل مداعبة . وقرر أن يطلب إليها أن تخف من 
منطريبها وحن موه لم يكرح و تكد الفلط وم يله بزع ينها عن عق وكا شر 
بكابوس يرزح فوق صدره. وبثقل سمج » زكيبة رمل» أو قطعة جدار هوت فوق رأسه. 
أراد أن يتأوه» أن يقوم» أن يتحرك ل . وحرك رأسه بعنف ليتتخلص من الكرب 
فاحتكت بالأريكة» بشىء يشبه الارضء التراب» بل ثمة طين أيضاء وغمره شعور جديد 
فى درجته وطعمه وكابته . وسمع صونًا يعرفه يصيح به متهكما : 

- لم يبق إلا أن تنام فى عرض الطريق! 

- ما أشبهه بصوت العسكرى! . العسكرى القديم بصوته الخشن المنذر بالمتاعب. ثم 

إنه يختنق . يد سنية لا تريد أن ترحمه . وفجأة رفع الجدار عن صدره فاعتدل جالسًا 

وهويئن فى الظلام . تخايل لعينيه شبح عملاق يحجب عنه ضوء الفانوس كأنا يمتد 

فى الفضاء حتى النجوم . وديكة الفجر تصيح.ء والبندقية تطل من فوق كتف 


11100 





وشا التم / 


الشبح. وفوق صدره هو ينداح الألم فى الموضع الذى تخلى عنه الحذاء الغليظء 
وهتف: 
- أين عهد المأموريا شاويش؟ 
فركله بلا رحمة وصاح به: 
- عهد المأمور! يا مجنون يا مدمن» قمع القسم. 
ونظر حوله فى ذعر وذهول فوجد طريقًا نائمّاء وظلمة شاملة» وصمنًاء ولا حفل» 
ولا اثرحفل > ولاسنية + ولا شىء: 


مندوب فوق العادة 


كنت أراجع الصحف اليومية» وهو ما أبدأ به عملى عادة كل صباح» عندما فتح 
الباب دون استئذان عن رجل غريب . كان هائل المنظر لطوله وضخامته» فخم البدلة» 
وطربوشه الطويل الغامق يضفى على وجهه الأبيض نصاعة» وفيه وجاهة تؤكدها نظارة 
كحلية وشارب غزير مربع كساه المشيب . كان أيضًا فى الستين أو نحوها لكنه تقدم من 
مكتبى فى حركة قوية ثابتة قابضة يمناه على منشة عاجية بيضاء وهو يقول بصوت حلقى 
غليظ : 

صباح الخير» مكتب الصحافة؟ 

فأجبته ولم أفق من صدمة اقتحامه : 

-نعم» صباح النور! 

أظنه تابع لمكتب الوزير؟ 


لصوي 
فأخرج حافظته» واستخرج منها بطاقة أعطاها لى . نظرت فيها فقرأت : 
اسماعيل بك الباجورى 
مستشار برياسة مجلس الوزراء 


انفجرت «الرياسة» فى رأسى» ولم يكن قد مضى على خدمتى إلا عام أو دون ذلك 
بأشهرء ووقفت باحترام وأنا أبتسم كالمعتذر» وقلت بتأثر ظاهر: 

تفضل بالجلوس يا فندم» أنا فى خدمتك! 

لكنه مشى موغلا فى الحجرة الصغيرة المستطيلة حتى وقف وراء النافذة فى نهايتها 
يطل على ميدان الأزهار» ثم عاد إلى مكتبى وهو يسأل : 





0 شيااترد 


ألم يحضر معالى الباشا؟ 

كلاء معاليه يحضر حوالى العاشرة . 

-ولا مدير مكتبه؟ 

والمدير يحضر حوالى التاسعة . . 

فانحرف جانب فيه الأيسر فى امتعاض» ثم مد يده إلى سركى الوارد وراح يفره 

بسرعة ثم قال: 

خانات كثيرة لم تسدد» هاك شكوى لم يرد عليها منذ عشرين يوما! 

فانقبض صدرى وأنا أتساءل على وجه من أصبحت اليوم» ثم قلت : 

- إنى أوزع الشكاوى المنشورة فى الصحف على الإدارات المختصة فى يوم ظهور 

الجريدة» والإدارات هى التى تتأخر فى الرد. . 

-ولم لا تستعجلها؟ 

- أستعجلها طبعًا» ولكن بعض الردود يستدعى التحرير إلى التفاتيش فى الأقاليم . 

فهز رأسه فى امتعاض ثم أشار إلى الباب وهو يقول بلهجة آمرة: 

اتبعنى من فضلك . . 

وسار فى ردهات الوزارة وأنا أسير إلى جانبه متأخر عنه خطوة من باب التأدب» من 
ردهة إلى ردهة. حتى أخذنا فى طريق العودة وهو لا يمسك عن ثثر الملاحظات : 

- مكاتب خالية» أين الموظفون؟ !». حتى السعاة» والفراشون كالذباب الغائم!» ما 

هذه الزكائب المحشوة بالأوراق؟» وهذه الزبالة؟» وتلك الأكداس المكدسة من 

الملفات كالمقابر» وراتحة الزيت والبصل؟. ماشاء الله . . ماشاء الله . . 

وجعلت أبدى عن أسفى بهز الرأس والتبسم الحزين وأنا أسأل الله أن ينهى اليوم على 
خير» وإذا به يقول: 

وعدنا إلى الحجرة فوقفت وراء مكتبى على حين جلس على الكنية فى شبه استلقاء 
ثانا ساقاه فوق ركبته» والظاهر أنه رحم ارتباكى فقال لى : 


د اجلس. 

فجلست متشجعا بنبرة رقيقة انتزعتها انتزاعًا من غلظة صوته» ومضى يتفحصنى من 
وراء نظارته الكحلية فى غير مبالاة ثم سألنى : 

من الجامعة؟ 

تعم. 


1110 





اام 4 


-لم توظفت؟ 

فلم أحر جوابًا. فقال: 

قل لأعيش !»ء كلنا يريد أن يعيش» لكن الحياة تجرى على غير ما يجب! 

فخفضت رأسى موافقاء ولاشىء أحب إلى من أن يحضر مدير المكتب ليخلصنى من 
موقفى الرهيب . 

أنا مكلف بعمل بحث شامل» مهمة شاقة» ولكن أهل ثمة فائدة؟ تأثرت جدا 

لتعطفه بالبوح بمهمته الخطيرة وازددت فى الوقت نفسه حرجا فقلت: 

ستجىء الفائدة حتما على يديك . 

فتثاءب لدهشتى» وحل صمت مقلقء وكان يبدو عظيمًا جد ولعله ضاق بالصمت 
والانتظار فراح يتحدث وكأنما يحدث نفسه هذه المرة: 

- على المرء أن ينشد الطمأنينة والصفاء ولكن كيف يتأتى هذ!؟ ! 

فقلت وأنا فى شك من سلامة تدخلى فى الحديث : 

-ربنا يهب سعادتك الصحة . 

فأنزل ساقه عن ركبته قائلا : 

الصحة!. ماهى الصحة؟. هى كمال التوازن والتوافق والتعاون فى الكائن» ولكن 

هيهات أن تتحقق إذا كانت الصحة العامة معتلة» خخذ مثلاً صحة الوزارة! » نخانات 

لم تسددء موظفين لا يحضرونء روتين» وما الرأى فى هذا الغلاء الفاحش؟ 

فقلت وأنا أتابعه بجهد. وأى جهد: 

-شىء لا يطاق. . 

العالم أيضًا صحته معتلة» هتلر ورم خبيث» والحلفاء ورم آخرء والأوقاف عندكم 

لماذا يستحق بعض الأوباش هذه الألوف المؤلفة؟ 

فقلت رغم دبيب الدوار فى رأسى : 

فلنأمل خيراً ما دام دولة الباشا مهتما بهذه المسائل . 


فنهض بغتة وهو يقول: 
ولكن متى يأتى الوزير؟ . . الساعة العاشرة؟» ومتى يأتى مدير مكتبه؟ . . الساعة 
التاسعة. . 


ونظر فى السناعة ثم جلس مكفهر الوجه. واتجهت عيناه نحو التقويِم المثبت بالجدار» 
الأربعاء 7 يونية» ١9‏ جمادى الأولى» ١5‏ بشنس» وتساءل فى ملل : 
كم ورقة يجب أن تمض حتى تصبح الصحة على ما يرام؟ 





و" وشا التد 


ثم حدجنى بنظرة متحرشة هرب لها قلبى» ولكن سرعان ما حلت محلها نظرة دعابة 
وهو يسأل: 

ماذا تريد من الدنيا؟ 

فارتبكت مؤثراً الضمت» ولا آنست انتظاره لجوابى تكلمت يدى بإشارات مبهمة 

أشياء كثيرة ! 

-تكلم! 

فاستجمعت شجاعتى قائلاً: 

والصحة؟ 

لياس هنا 

وكم من النقود تريد؟ 

- ما يكفينى . . 

٠‏ يكفيك لأى شىء؟ 

حسبى الضروريات. والكماليات الهامة. وأن أتمكن من تكوين أسرة . : 

والآخرون ألا ينبغى لهم ذلك أيضًا؟ 

-نعم لم لا! 

-عند ذاك ترتاح النفوس من الانفعالات الخبيثة . . 

فقلت بارتياح حقيقى : 

- نعم يا فندم. . 

فقال بحدة ساخرة : 

-كلا!ء لا يكفى هذا كله. سيظل هناك هتلرء وتشرشل أيضّاء هذه هى العقدة 

المحيرة» لقد كلفت بالبحث ولكننى كلما وجدت حلا لمشكلة عرضت مشكلة 

أخرىء وكلما أزلت دملاً ظهر دمل جديد» كأن الرحلة يجب أن تشمل العالم 

كله . . 

فغمغمت بذهول: 

-العالم! 

-نعم العالم» راقب آثار الحرب فى بلادنا إن كنت فى حاجة إلى دليل» أمور كثيرة 


11100 





معقدة» ومشاكل لا حصر لهاء فكر فى أن تنعم بالجبال فى سويسرا فسيقال لك إنها 
مهددة باجتياح الجيوش الألمانية» أو أن تستظل بشجرة بوذا فى الهند فستجد جوأ 
مشحونا بالتعصب والانفجارء وقد تتطلع إلى زيارة موسكو ولكنك لن تعود. 
والغلاء» ألم يبلغ حدا لا يتصوره عقل؟ 
ولهث خيالى فى إعياء» ولم أعد أفهم شيئًاء ولكنى عكفت على النزر اليسير الذى 
وجدت له معنى فقلت: 
الغلاء فاحش جد والطماطم نادرة الوجودء أما البطاطس فباتت أسطورة. . 
ولاح فى نظرته الكحلية تفكير» وشىء من الحزن والفتور» فتساءل: 
أتحل هذه المشاكل إذا حددنا المرتبات؟ 
- أى مرتبات يا فندم؟ 
يصدر مرسوم بأن أعلى مرتب لا يجوز أن يزيد عن كذا . 
-كذا؟ 
- ألا تنتشر تبعًا لذلك الطماطم؟» وتظهر البطاطس. وتهبط أجور المساكن؟ 
-ولكن الدنيا ليست موظفين فحسب. هناك تجار» ورجال صناعة وأصحاب أراض» 
وهناك أيضا الأجانب! 
فهز رأسه كالمتعب وقال: 
-ويوجد هتلرء وموسولينى وتشرشل» وأكاذيب لا حصر لهاء وصرخات زنوج 
تصم الآذان. . 
ياله من شخص غريبء ليس له جبروت المستشارين» ولاجلال الرياسة المخيف» 
بل وفيه جانب لطيف لا يكاد يفصله عن . . ماذا أقول؟ عن التهريج إلا خطوة؟ !» بيد 
أنى قررت أن أستمسك بالحذر الشديد حتى النهاية . وقلت برقة ورجاء: 
-هذه أمور محيرة» ولا سبيل إلى حل مشاكلهاء أو سبيل طويل لا يعلم مداه. ولكن 
هناك سبيل ميسور قريب المنال لو أقنعت صاحب الدولة مثلاً بزيادة علاوة الغلاء؟ . 
فحدجنى بنظرة استغراب وهو يقول: 
أتريد أن تحول مهمتى الخنطيرة إلى مجرد مسعى شخصى لتحسين حالتك؟ 
فاحترق وجهى بالخجل وقلت متلعثما : 
لا أقصد ذلك ولكن فقاطعنى بقوة: 
ولكن عيبنا أننا نفكر فى أنفسنا ولا شىء غير أنفسنا . . 
ونظر فى الساعة وهو يقول متسخطًا: 





0 شيا التر 


الوزير فى الساعة العاشرة» مدير المكتب فى التاسعة» ضاع سدى جميع ما قصدته 
من التبكير ! 
وتذكرت بغتة واجبا فاتنى لشدة ارتباكى فهتفت : 
-لم أطلب لسعادتك القهوة! 
ومددت يدى نحو الجرس ولكنه أوقفها بحركة آمرة ساخطة وقال بحدة: 
نحن فى مقبرة لا قهوة! 
ثم بشىء من الهدوء : 
قلت إن عيبنا أننا نفكر فى أنفسنا ولا شىء غير أنفسناء الحق أن لى من القدرة ما 
أستطيع به أن أبلغ الصفاء» على فقط أن أعتزل العالم وهمومه» وهو صفاء حقيقى 
أسمع فى سكونه الأبيض موسيقى النجومء على فقط أن أعتزل العالم وهمومهء 
لكنى لا أستطيع» لا أريدء للهموم أيضًا أنغامها التى يلتقطها القلب. فإما صحة 
عامة أو لا صحة على الإطلاق هذه هى عقيدتى النهائية» ولذلك كلفت بالمهمة . 
وراح يعبث بشعر المنشة فداخلنى شعور بالحيرة» وتساءلت عما يعنى الرجل» ماذا 
وراء هذه النظارة الكحلية؟ . وعند ذاك فتح الباب وظهر الساعى وهو يقول لى كعادته : 
واليلك مدير وضل: 
واستأذنت من المستشار فمضيت من فورى إلى المدير وقلت له: 
إسماعيل بك الباجورى المستشار برياسة مجلس الوزراء فى مكتبى . 
وانتفض المدير واقفًا وهو يتساءل: 
إسماعيل بك الباجورى؟ 
وفى اللحظة التالية كان يصافحه باحترام بالغ مقدما نفسه إليه» ثم ذهبا معًا إلى حجرة 
مدير المكتب ولبغت وحدى أفكرء ولما يذهب عنى روع المقابلة وشجونها. 
وواصلت عملى فى مراجعة الصحف وأنا مشتت الفكرء لا يتركز انتباهى فى شىء مما 
بين يدى . ومضت نصف ساعة أو نحوهاء وإذا بالباب يفتح ويدخل مدير المكتب 
مهرولاً. أقبل نحو التليفون وهو يسألنى : 
هل تعرف هذا المستشار؟ 
قأجبت نفيًا . وأدار قرص التليفون: 
- آلو رياسة مجلس الوزراء؟» أنا على عباس مدير مكتب وزير الأوقاف» من فضلك 
هل يوجد فى الرياسة مستشار اسمه إسماعيل الباجورى؟ 


1110 





شيااتمء عام 


سعادتك متأكد يا فندم!» عندنا شخص بهذا الاسم وهذه الصفة كما هو واضح فى 
بطاقته . 


آسف على إزعاجكم » سأفعل ما أشرتم به. . 

وضع السماعة دون أن ينظر إلى وجهى الضائع ثم أدار القرص ثانية : 

آلوء سعادتك المأمور؟ 

على عباس مدير مكتب وزير الأوقاف», عندنا شسخص ينتحل شخصية مستشار 
بالرياسة» يتحدث حديئًا غريبًا ويطلب مقابلة معالى الوزير» وبالنظر للظروف 
الدقيقة التى تمر بها البلاد فأخشى أن يكون من الإرهابيين. . 


- فى انتظارك يا فندم» أرجو السرعة. . 

وأعاد السماعة وغادر الحجرة وأنا فى حال» ووضح الأمر فى القسم. لم يكن الرجل 
إرهابيًا ولكن كان به لطف . واستدعينا أسرته» واتخذت الإجراءات المتبعة» وقد سمعته 
وهو يقول للمأمور فى كبرياء غاضب : 

الحق على» ما كان أسهل أن أنعم براحة البال» الحق على . . 


فكر ومضت فجأة فوعدته بالخلاص من حيرته, ومضت فى رأسه عندما مرت عيناه 
بالصورة المدرسية القديمة . كان يعانى حيرة البحث عن موضوع جديد للمجلة كما ينبغى 
لصحفى مطالب بجديد كل يوم . وفجأة ومضت فكرة. وكانت الصورة معلقة يمكانها 
من حجرة الحلوس مند أكثر من ثلاثين عاماء لا تنطق ولا توحى بشىء ولا تكاد ترى» 
ولكن بدا أنه آن لها أن تتكلم. ركز انتباهه بحماس فى الصورة التى كاد يمحوها طول 
البقاء. صورة السنة النهائية بالقسم الأدبى من الجيزة الثانوية عام 474١م‏ ما الرأى فى 
دراسة صحفية عن أصحاب هذه الوجوه الفتية؟ . المدرسة والحياق. 1974م و1950م؟2 
فكرة طيبة من ناحية المبدأء فهل يستطيع أن يظفر بحقائق تصلح أساسا لبحث طريف؟! . 





8 شيااتم 


كم من أعوام مضت دون أن يلقى نظرة على الصورة؟ . وكم من معالم فيها انطوت إلى 
غير رجعة» كهذه الطرابيش » وهؤلاء المدرسين الإنجليز والفرنسيين! . وكانت مجرد 
نظرة إلى أى وجه كافية غالبا لتذكيره بصاحبه وإن غاب عنه اسمه» وإن جهل كل الجهل 
مصيره» ولا أحد بينهم تربطه به اليوم علاقة» حتى ولا هذا الفتى المثير الذى جاوره فى 
امكل زعااطوياة: ولتمحص الوجوم جيعد 7ج لعن لأ على قمر بريجهين ا معتى هما : 
ثم وقف عند فتى كان من أبطال كرة القدم ولقى حتفه» فى مباراة بين الجيزة ومدرسة 
أخرى » حادث لا ينسى» وتراءى ضحيته فى الصورة براق العينين معتد] بنفسه منحرف 
جانب الفم فى شبه ابتسامة» وهو اليوم عظام. وواصل مسيره من وجه إلى وجه حتى 
وقف عند وجه نحيل مستطيل ١‏ ذكره بموقف صاحبه فوق سلم سكرتير المدرسة وهو 
يخطب خطبة ملتهبة داعيًا الطلبة إلى الاضراب احتجاجً على تصريح 78 فبراير. وإلى 
جانبه مباشرة برز وجه وجيه يحمل طابع الأناقة والسلالة الممتازة فورد اسم الأسرة 
بسرعة على ذاكرته الماوردى ‏ فسجله فى مذكرته واثقًا من سهولة الاهتداء إليه» فضلا 
عن أنه كان نجما لامعا فى الحياة السياسية منذ عشرة أعوام» فهذا أول عنصر هام فى 
مشروع بحثه. وجرت العينان على الوجوه واحدا بعد آخر فلم ينطق وجه أو يبين حتى 
بلغتا وجها ليس من السهل نسيانه» فهو رمز التفوق المدرسى بكل سحره» وأول الفصل» 
وأول كل فصلء وأول المدرسة» الأورفلى وبفضل التفوق وغرابة الاسم بقى فى 
الذاكرة. وفى كلية الحقوق كان له شأن» ثم عين فى النيابة العمومية أيام كان التعيين فيها 
حدنًا هاماء سيسهل عليه الاهتداء إليه بالرجوع إلى وزارة العدل» وهو ثانى عنصر هام 
فى دراسته» الأورفلى بعد الماوردى . وتحداه وجه جديد بذكرى دامية» مشاجرة نشبت 
بينه وبين صاحبه فى حوش المدرسة وإن لم يذكر من أسبابها شيئًا على الإطلاق . 
وتتابعت الوجوه صامتة صمت الحجر حتى جاء الوجه المثير» الجار القديمء حامد زهران 
مدير شركة «الهرم المدرج». ابتسم ابتسامة باردة. هذا هو فتى العصر! . ما زال يذكر 
بوضوح كيف ترك الجيزة الثانوية ساقط بكالوريا وكيف التحق بخدمة وزارة الحربية 
بالكفاءة» ولم تنقطع علاقته به إلا منذ عشرة أعوام حين ترك هو عطفة أبو خوذة بعد 
أن فتح الله عليه فى الصحافة. وتراءت إليه أخبار عن استقالته من الحكومة ليشغل 
وظيفة سكرتير لمدير شركة الهرم المدرج» ثم علم آخر الأمر بتوليه منصب المدير 5٠5‏ 
ج. م. فى الشهر . يا له من معجزة سواء فى طفرته الجنونية أو فى تفاهته التى لا يشك هو 
فيهاء على أى حال سيكون عنصراً هاما وذا دلالة فى دراسته . دراسة طريفة كما يأمل . 
وستعتمد على تحليله واستنياطاته أكثر من اعتماده على أحاديث أبطالها المجهولين إذ إن 
الطريف حا ليبس أشخاصهم ولكن دلالتهم الاجتماعية . ومهما يكن من أمر فليؤجل 
تقرير الصورة النهائية للبحث حتى يجمع مواده. . 


1110 





وشي انتم م.م 


وبدأ يطلب مقابلة عباس الماوردى فى عزبته بقليوب بعد أن علم بإقامته فيها عن طريق 
دائرة الماوردى بميدان الأزهار. وفى الموعد المحدد كان يقطع الممشى المحفوف بأصص 
الورد على الجانبين إلى السلاملك . كان القصر تحفة من طابقين وسط حديقة مساحتها 
فدانان اكتظ أديمها بأشجار المانجو والبرتقال والليمون وأعراش العنب ومربعات ومثلثات 
ودوائر لاعد لها من الأزهار والخضرة والجداول. وهو قائم كالمارد وسط فضاء من 
الحقول يترامى حتى الأفق» يغشاه الصمت والهدوء والامتثال» وتتراءى عن بعد فوق 
سطحه أجساد منحنية» بدت ضائعة فى النبات والفضاء . وأقبل عليه عباس الماوردى 
يرفل فى عباءة فضفاضة» بوجه ممتلى مورد وشعر لامع منسرح فوق رأس مستدير كبير» 
وفى طوله وعرضه امتداد هائل جعله أشبه بتمثال متلفع بستار قبل إزاحته! حدجه بنظرة 
باسمة» لم تخل من دهشة حذرة واستطلاع» وقال مرحبا: 

أفاذ مهاد بالأرفاة سين متصون: 

وتصافحا ثم جلسا وهو يقول: 

-إنى أتابع نشاطك الصحفى بإعجابء وأذكر به زمالتنا المدرسية» وإن كنا لم نلتق 

منذ افتراقنا فى الحيزة الثانوية . . 

فقال حسين باسما : 

تقابلنا مرة خطفًا فى البرلمان عام ٠96١م‏ أو ١96١م.‏ 

فتساءل بحاجبيه «حقًا؟»» واستسلما مليا لذكريات المدرسة» ثم فاتحه بمقصده من 
الزيارة . 

فقال عباس برجاء : 

الب تن المتكين أنتراقن فى الى 14 

ولكن حسين قال متحمسا: 

لست من رأيك» هى دراسة قد تكون خطوة أولى لمتابعة جيل بأسره» ولن أنشر 

كلمة عنك قبل الرجوع إليك؛, أعدك بهذاء ولعلى أستغنى عن ذكر الأشخاص 


لم يعترض وإن لم يبد متحمسا. ولم يعلن وجهه عن شىء حتى تساءل حسين 
منصور بقلق عما وراءه. ترى هل آلمه الموقف وما أثار من ذكريات؟ ! مهما يكن من أمر 
ثرائه اليوم فقد كان بالأمس مليونيراً بلا جدال» وكان نجمًا سياسيًا بازغاء نجح فى 
الانتخابات بالتزكية بفضل جاهه. ورشحته الأقاويل للوزارة فى أواخر ١96٠‏ م. 

-إنى أقيم هنا بصفة دائمة» ولذلك أرسلت ابنى الجامعى إلى عمته بالقاهرة» ولا أكاد 

أغادر العزبة إلا فيما ندر . . 





حي شيااتء 


ولانت فرامله فاستفاض حديثه . قال إنه يزرع أرضه بنفسه مستعملاً أحدث الآلات 
الزراعية» وإنه يعنى عناية خاصة بتربية الماشية والدواجن» وأنه أعد لأوقات الفراغ مكتبة 
كبيرة» واختار ركوب الخيل هواية ورياضة . إنه قابع فى تملكة صغيرة استغنى بها عن 
العالم كله ويود لو يمضى عمره فى حدودها لا يجاوزها. وإذا بالآخر يسأله عن 
الفلاحين؟ 
أنا فلاح أيضاء وكذلك كان أبى» ولا أجد صعوبة فى التعامل معهم., إنهم قوم 
ظيبون.: 
وعاد حسين يتساءل ولكنه عدل عن الموضوع بلباقة : 
- ألم ترشح نفسك للاتحاد القومى؟ 
فقال بتوكيد : 
- اقترح على كثيرون ذلك» ولكننى سعيد هكذا! 
تخيل حسين تلك الحياة الجامعة للفطرة والحضارة معاء المنعمة بكل طيب, المنطوية 
فى عزة وكبرياء. المتعزية باللذائذ الدنيوية والفكرية» الهائمة بالليل والقمر والبار 
الامريكانى والغرزة البلدى . . 
وأصدقاء الماضى؟ 
-من؟! الخاصة يمضون عندى نهاية الأسبوع, أما الآخرون فلا أدرى عنهم شيئًا . . 
وأبى أن يتكلم كلمة واحدة عن أمر من الأمور العامة فلم يلح عليه وسأله : 
ألا تشتاق أحيانًا إلى السيئما معلة؟ 
عندى صالة عرض خاصة.» لا ينقصنى شىء ! 
وعرض عليه الصورة المدرسية القديمة لعله يدله على أحد منها فتفحصها باسما. ثم 
أشار إلى وجه قائلا: 
على سليمان» أصيب برصاصة فى صدره على عهد صدقى» وبسببها عين فى 
السلك السياسى بعد تخرجه. ثم خرج أخيرا فى التطهير. . 
وأشار حسين إلى صورة حامد زهران فهز الآخر رأسه نافيّاء فقال: 
حامد زهران» مدير شركة» 6٠٠‏ ج. م. شهريا!. 
فتساءل بحاجبيه «حقا؟» ولم ينبس» والتمعت عيناه بنظرة ارتياب حائرة» فأنهى 
الآخر الحديث. 


وفى وزارة العدل اهتدى إلى مقر أول المدرسة الأستاذ إبراهيم الأورفلى المستشار 


11101 





وشياالتد .م 


بالجنايات. رصده أمام بناء المحكمة حتى خرج متبوعًا بالحاجب الذى راح ينادى 
التاكسى. فأقبل نحوه مبتسمّاء ورمقه المستشار بنظرة داهشة» ثم ما لبث أن تعرف عليه 
فمد إليه يده مصافحا. ولما أدرك مقصده بصفة أولية دعاه إلى الغداء معه فحملهما 
التاكسى إلى مسكنه بشارع ماهر . دخلا مسكدًا محترمًا لكنه عادى فى جملته مما أدهمش 
حسين منصورء ولكن عندما تحلق السفرة معهما ثمانية من الأبناء متقاربى السن زايلته 
الدهشة . 

نشاطك الصحفى يلفت الأنظار حقا! 

فشكره وهو يسترق النظر إلى جسده النحيل وعينيه اللامعتين المتعبتين. . كم تمتع فى 
المدرسة بصيت التفوق الساحر؟ . اليوم لا يعلم باسمه أحد خارج دائرة القضاء. ولا ألمم 
على مهمته بشىء من التفصيل قال الأورفلى بسرعة : 

لا شأن لعملى بالصحافة!. عندما كنت رئيس نيابة وفى أثناء التحقيق فى قضية 

مشهورة حاولت الصحافة دفعى إلى الأضواء ولكننى أبيت عليها ذلك» الشهرة لا 

تعنى شيئًا للقاضىء والمتهمون إما أبرياء يجب صيانتهم, أو مذنبون لا يجوز 

يوي 

فقال حسين بثقة : 

- لا تخش النشرء إنى أقوم بدراسة عن المدرسة والحياة» وإذا شئت رمزت إلى اسمك 

بحرف, وقد أستغنى حتى عن هذا . . 

-وهو الأفضلء ولكن ماذا تريد على وجه التحديد؟ 

فحدجه بنظرة إغراء صحفية وهما يحسوان القهوة فى الصالون منفردين» ولم يبق 
من الأولاد إلا طنين يقتحم باب الحجرة المغلق من آن لآن. . 

- أريد أن أسجل رأيك فى جيلنا وفى هذا الجيل» أهم القضايا التى فصلت فيهاء 

فلسفتك عن عملك والحياة. . 

ومضى يفصح عن آرائه فى تمهل وفى شىء من الحياء . . كان متحيزا للجيل الماضى 
كأفراد وللحاضر كفلسفة» وبدا معجبًا بمهمته راضياً عنها رغم ما تقتضيه من جهد 
متواصل » ثم أخذ يروى عجبًا من القضايا التى صادفته . 

أنت كنت الأول علينا دائما . 

ففكر مليّاء ثم قال: 

وكنت أول البكالوريا فى القطر كله. . 

أرى فى وجهك صفاء غريبًا رغم كل شىء . 





4 وشياالتر 

- رغم ماذا؟ 

فقال برقة : 

إن من يحكم بالإعدام على إنسان. . 

فقاطعه بتوكيد: 

-ما دمت مرتاح الضمير فإنى لا أعرف للقلق معنى. . 

الحق أن صفاءك غير عادى . 

فضحك عاليًا وهو يقول: 

-اغتبرنى من الصوفية إذا شكت. 

فتجلت الدهشة فى عينى حسين وتوثب إلى مزيد من المعرفة ولكن سرعان ما بدا على 
الآخر ما يشبه الندم على ما فرط منه وأبى أن يزيد كلمة واحدة. 

- يبدو أن عملكم شاق حقا . 

- حياتنا تفنى بين أوراق القضايا. . 

واضح جدا أنه مرهق بالعمل» كما كان وهو طالب» رهبئة نبيلة وكفاح متصل» 
وثمانية أولاد» وتصوف. 

مع ذلك يرى الموظفون فى كادر القضاء جنة النعيم. . 


فقال مبتسما : 

اناا 

وعرض عليه الصورة المدرسية فنظر فيها باهتمام» فأشار حسين إلى حامد زهران 
متسائلا : 

ألا تذكر هذا الطالب؟ 

دكا د 


6 


حامد زهران» من ساقطى البكالورياء مدير شركة» 0٠١٠‏ ج. م. شهريا. 

فحملق فى الصورة كأا يحملق فى طبق طائر» فقال حسين : 

ظدشت الخبر لا يهز الصوفى . 

وانطلقا معًا يضحكان. وسأله عمن يعرف فى الصورة من زملاء الدراسة فجرى 
بصره عليها ثم وضع أصبعه على وجه فى الصف الثانى وهو يقول: 

محمد عبد السلام» كاتب بالنيابة» وعمل معى فى أول عهدى بالخدمة فى أبو تبج 

ولا أدرى الآن عنه شيئًا . . 


11101 





شياالتد ا 


واضطر إلى السفر إلى المنيا ليقابل محمد عبد السلام فى مقر عمله الأخير . بدا له أكبر 
من سنه بعشرة أعوام على الأقل» ووجد فى هيئته الرثة وشعره الأبيض الأشعث وثنيتيه 
المفقودتين ما يذكر بالخرابات. ولم يتذكره الرجل ولم يقتنع بدعواه حتى أطلعه على 
الصورة القديمة . وجلسا فى حجرة استقبال سائبة المفاصل فى شقة قديمة مكتظة بالذرية 
لا أعرف أحدا فى هذه الصورة» طول مدة خدمتى وأنا أتنقل من بلد إلى بلد. . 
ووجد حسين فى قلبه نغز ألم» وشعر نحو الرجل برثاء واحترام عميقين» وسأله عن 
درجته فقال : 
الدرجة الخامسة منذ عام,» اكتب هذايا أستاذء ويا حبذا لو تنشر صورتى مع 
الأولاد.» ست بئات وأربعة أولاد. ما رأيك؟. أليس من الجائز أن يكون الله قد 
أرسلك لى فرجا فى الشدة؟ ! 
ووعده بكل خير! . واستدرجه للحديث عن ذكريات العمل» ورجاه أن يكتب له 
بالتفصيل ميزانية أسرته فى عام مثلاً» وأشار إلى صورة حامد زهران قائلاً: 
هذا الزميل القديم يتقاضى اليوم 50١‏ ج. م شهريا. 
فذهل الرجل حتى خيل إليه أن وجهه ازداد شحويًاء وتساءل: 
ماذا يعمل؟ 
مدير شركة. 
-لكن الوزير لا يقبض نصف هذا القدر! 
.هذا شىء وذلك شىء. . 
فتساءل فى دهشة : 
- كيف وفيم ينفقها؟ ! 
فابتسم حسين ولم يجب فسأله الآخر: 
ما شهادته؟ 
-الكفاءة! 
-يا خبر أسودء أنت تمزح. . 
كلاء العبرة ليست بالشهادة. . 
العبرة بماذا؟ دلنى كيف يصل إنسان إلى هذا الحظ؟ . . ها هو يقف معى فى صف 
واحد فى الصورة فخبرنى كيف بلغ هذه المرتبة؟ ! 
فقال ملاطفا: 
- هناك شىء اسمه الحظ . . 





6 وشسا اشر 


اي 0 

- لا يوجد عمل فى بلادنا يستحق هذا القدر من المال» وإلا فلماذا لم نصل إلى القمر؟ 

وطيحاف سين قائلة : 

على أى حال أنتم أحسن حالاً من الملايين. . 

فقال محتج : 

الملايين» أنا عارف هذاء ولكن حامد زهران هو المشكلة . 

ولم يجد صعوبة فى الاتفاق على مقابلة مع جاره القديم حامد زهران. ولما كانت 
الشركة ليست بالمكان المناسب للمقابلة الحرة فقد دعاه إلى مسكنه بالدقى . وتطلع حسين 
إلى الفيللا القائمة فى أحضان الصغصاف بإعجاب» وسرعان ما ذكرته بقصر عباس 
الماوردى فى عزبة قليوب. الهندسة الرائعة والحديقة السابغة وأنفاس العز العطرية . ترى 
أى صورة يتراءى فيها اليوم ذلك الجار القديم؟ . . فإنه لا يحتفظ منه إلا بالعود النحيل 
والوجه الشاحب,. العابث فى ضحكه. شبه الججائع , وهى صورة لا تتلاءم بحال مع هذه 
الفيللا المثيرة. الله يرحم أيام زمان يا حامدء أيام الشلن تقترضه بشتى الحيل ولا ترده ولا 
بالطبل البلدى . ليت الزمن لم يفرق بينناء إذن لرأيت عن كثب كيف تقع هذه الزلازل 
البشرية! . 

أهلاً حسين» أين أنت يا رجل؟ 

كان فى كامل زيه كالكبراء فى بيوتهم» وكان الصالون يخطف الأبصار بالأضواء 
والمرايا والتحف. أما هو فقد اخضر عوده وجرى فيه ماء الحياة . 

- أنا أحتج على هذه الزيارة النفعية» كان يجب أن يكون هذا البيت بيتك» حتى التهدئة 

الواجبة لم أتلقها منك فى حينها! 

وارتبك حسين قليلاً لكن قال بلباقة : 

-لن يشفع لى عذر! . . لذلك أطلب العفو. . 

وضحك حامد قانع مركب و شدي اد كر كا يوقا حر لصبير ا 
الصحفى للعمل . وتجنب حسين الأسئلة التى قد يشتم فيها تعريض أو سخرية قاصراً 
تحرياته على النجاح وكيف تيسر له وعن سياسته فى الشركة وآرائه فى جيله . . 
إلخ. . 

كانت تربطنى بالمدير السابق علاقة العمل قبل أن يتولى إدارة الشركة فاختارنى 

سكرتيراً له ثم مدير لمكتبه» فهو قد اختارنى عن خبرة سابقة. . خبرة سابقة! . الحق 


1110 





وشا التر ألم 


إنك فتحت بيتك القديم نادى قمار للسادة من رؤسائك» نادى قمار وغرزة أيضاء 

ولكن من المقطوع به أنك ذكى نهاز للفرص! / 

-وفى مدة خدمتى فى مكتبه درست كل كبيرة وصغيرة مما يتصل بالعمل» 

وتعرفت على جميع الكبار من المتعاملين مع الشركة . 

فى هذا يوجد الفرق بين العبقرى والعادى من السكرتاريين . 

ومديرى هو الذى رشحنى للوظيفة عند نقله منها إلى الخارج . . 

- نعم الترشيح!. ولكن ما هى السياسة التى رسمتها للمستقبل؟ 

وأفاض فى الحديث عن ذلك بثقة واعتداد» ودون الآخر خلاصة وافية للكلام وهو 
يراقبه عن كثب» ويسجل فى ذاكرته حركاته وسكناته» وعندما انتهى التحقيق قام زهران 
وقال وهو يتجه إلى الداخل : 

انتظر حتى أقدمك إلى زوجتى. . 

-آه. . فايقة! . . الجارة القديمة! . . ترى كيف أصبحت اليوم؟! . تزوجها زهران أيام 

التلمذة وكان جار لأبيها عم سلامة سائق الترام. ترى كيف تتبدى اليوم فى هذه 

الفيللا؟ ! 

ورجع حامد زهران يسير بين يدى فتاة فى العشرين» حلية براقة» ووجه مستعار 
السمات من الشرق والغرب . رباه أهى زوجة جديدة . 

وتم التعارف» وجرى الحديث بالإنجليزية أكثر الوقت» وكانت المباهاة تصرخ فى وجه 
زهران الضاحكء ولكن أين فائقة؟. . ماتت أم طلقت؟! لم تكن الصورة لنتم حتى 
يتأكد من هذه النقطة . ومضى من توه إلى عطفة الكرمانى بباب الشعرية» إلى مسكن عم 
سلامة القديم» وفى أول العطفة علم من كواء بلدى بأن عم سلامة توفى من سنوات» 
وأن ابنته فائقة فاتحة دكان سجائر وحلوى أسفل البيت. واقترب من البيت منفعل الصدر 
وهو يحاذر أن تراه حتى وقع عليها بصره وهى جالسة وراء الطاولة لا يبدو منها سوى 
وجهها وعنقها. وكانت تدخن سيجارة وقد بدا وجهها أكبر من سنه بعشر سنوات على 
الأقل كوجه محمد عبد السلام كاتب نيابة المنيا. وبدت شاردة الطرف متجهمة 
ومستسلمة للمقادير. وتذكر كم كانت مثالاً للصبر والحيوية والأمل فشعر بأن أنبل ما فى 
صدره ينحنى لها رثاء واحتراما . . 

وغادر عطفة الكرمانى ضيق الصدر بعكارة الجو. ومضى يفكر فيما جمع من مواد 
لدراسته ويحللها تحليلاً أوليًا وهو يتساءل: 

ترى أى معنى ستتمخض عنه هذه الصورة القديمة؟ ! 








اغرورقت عيناه. رغم ضبطه لمشاعره وكراهيته أن يبكى أمام هؤلاء الرجال أغرورقت 
عيناه. وببصر مائع نظر إلى الجشمان وهو يُحمل من النعش إلى فوهة القبر. بدا فى كفنه 
نحيلا كأن لا وزن له» شد ما هزلت يا أماه» وتوارت عن ناظريه تماما فلم يعد يرى إلا 
ظلمة. وسطعته رائحة التراب» ومن حوله احتشد الرجال ففاحت أنفاس كريهة وعرق» 
وفى الدوش خخارج الحجرة ارتفع لغط النساء» وانفعل برائحة التراب حتى عافت نفسه 
كل شىء . وهم بالانحناء فوق القبر ولكن يدا شدت على ذراعه وصوتا قال: 

-تذكرربك. . 

تقزز من ملمسه ولعنه من الأعماق. هذا خنزير كسائر من حوله من الخنازير. ولكن 
لحظة الوداع استردته بوخزة كالندم» وقال إن معاشرة ربع قرن من الزمان لا تعنى فى هذه 
اللحظة شيئا ولا تساوى شيئا» وتردد من بعيد صوت كالعواء ثم دخل الحجرة طابور من 
العميان فطوقوا القبر فى نصف دائرة ثم جلسوا القرفصاء . وشعر بأعين كثيرة تحدق فيه أو 
تسترق إليه النظرات» وإنه يعرف ما تعنيه هذه النظرات . وشد قامته الرشيقة فى عناد . 
يقولون لم يقف هكذا غريبا فى منظره وملبسه كأنه ليس واحدا منا. لم نحته أمه عن بيئته 
ثم تركته وحيدا؟ إنهم لا يعزونك ولكنهم يدارون شماتتهم بك . ومذاق الحياة أمسى 
كالتراب. وبرز من الفوهة الترابى ومساعده فوقفا فوق سطح الأرض مرة أخرى وأقبلا 
يسدان القبر ثم يسويان الأرض فى نشاط وحيوية . ونادى السقاء على الماء؛ ورتل 
العميان» ثم ردد رئيسهم التلقين. وتساءل عما ستجيب به أمه . وقال إنها ستكون وحيدة 
حقا. وماذا يقول فى ذلك الخنازير؟ ها هو الخشوع يغشى جباههم كسحابة صيف . 
وأدركه الضجر فتاق إلى الوحدة فى بيته وألحت عليه رغبة فى أن يعيد النظر فى كل 
شىء. ستحدق الأسئلة المحرجة بأمه فى ظلام القبر. ولن يساعدها أحد من هؤلاء 
الشياطين» ولكن يومكم سيجىء . وانخفضت الأصوات فى نغمة حزينة موحية بالختام» 


111001 


قرا م 


ووقف الطابور فى حال انتظار وتقدم الترابى منه خطوات . عند ذاك قال الواقف إلى 
يمينه : 

-دعه لى فلا تحاسبه إنى أدرى بهؤلاء الناس . . 

وثار حنئقه من جديد ولكنه أدرك أن الطقوس قد انتهت وتضاعف شعوره بالوحدة. 
وألقى على المقبرة نظرة شاملة فارتاح لأناقتها وتراءى له بين قضبان النافذة اللبلاب 
والصبار والريحان التى تزركش جدار الفناء والأركان. كانت رحمها الله تحب الرفاهية 
فأعدتها للدارين ولكن لم يبق لها إلا المقبرة. وتحرك الناس فى بطء نحو الحوش فمضى 
إلى الباب الخارجى ليودع المشيعين. وصافحته النساء أولاء ورغم ثياب الحداد والبكاء 
واللطم لم تختف من أعينهن نظرات الفجور ولا زايلت وجوههن القحة وفلتات 
التهتك . وتتابع الرجال. شد حيلك وسعيكم مشكورء من تاجر مخدرات إلى بلطجى 
ومن برمجى إلى قواد. وأتبعهم نظرة باردة وهو لا يشك فى أنهم يبادلونه نفس العاطفة . 
ومع ذلك لم ينس أنه مدين لهم وهو ما يؤكد سخطه دواما. وقال إنه قد انتتهى منهم إلى 
الأبد ولكنه بلا نصير. وفى طريقه إلى مسكنه بشارع النبى دانيال لفحه هواء منعش معبق 
بأنفاس الخريف وبدت السماء غامضة فى مولد المغيب . مسكن النبى دانيال الذى شهد 
فترة بهيجة ناعمة من حياته» ولا أثر للراحلة فى مسكنه إلا صوان كبير ونارجيلة مهملة 
تحت فراشها المهجور. وجلس فى شرفة تطل على ملتقى النبى دانيال بسعد زغلول يدخن 
سيجارة فجذب بصره استعداد قائم فى شقة على الجانب الآخر للطريق تسكنها أسرة 
أفرنحية» فثمة بوفيه رصت عليه القوارير وأوعية الثلج» وفى نهاية البهو تعانق رجل 
وامرأة بحرارة لا تناسب الوقت المبكر . وقال إنه ابتداء من اليوم سيعرف الحياة على 
حقيقتها . إنه وحيد بلا مال ولا عمل ولا أهل ولم يبق إلا أمل غريب كا حلم» إنه مطالب 
منذ اليوم بتأمين حياته» وهى مسئولية لم يتحملها من قبل . إذ نهضت بها أمه وحدهاء 
ففرغ هو طوال الوقت لإمتاع شبابه اليافع . وأمس فقط لم يكن يفكر فى الموت بحال . 
فى مثل هذه الساعة أو قبل ذلك بقليل جاء الحنطور بأمه فغادرته معتمدة على ذراعه 
وسارت فى خطوات متثاقلة متخاذلة من الإعياء والضعف» وقد وهنت وهزلت وكبرت 
ثلاثين عاما فوق عمرها الحقيقى الذى لم يجاوز الخمسين. هكذا تبدت بسيمة عمران فى 
آخر صورة لهاء وهى راجعة إلى بيت ابنهاء أو البيت الذى أعدته لابنهاء بعد أن قضت 
فى السجن خمس سنوات . وتأوهت قائلة : 

أمك انتهت يا صابر: 

فحملها بين ذراعيه دون مشقة وهو يقول: 

-كلام فارغ» ما زلت فى عز الشباب. . 





م االظقراق 


واستلقت على فراشها قبل أن تنزع قطعة من ملابسهاء ثم أمالت وجهها نحو مرآة فى 
الصوان وقالت بحسرة وهى تنهج : 

- أمك انتهت يا صابر»ء من يصدق أن هذا الوجه هو وجه بسيمة عمران. . ! 

الآن. فى استدارة البدر كان . ووجنة موردة كالتفاح» وأما الجسد الجسيم الهائل فلم 
يكن ليهتز هزة واحدة عند القهقهة . وقهقهتها كانت تهتز لها المجالس . 

-لعنة الله على المرض . . 

فقالت وهى تجفف وجهها بكمها رغم لطافة الجو: 

- ليس المرض وحده ولكنه السجنء والمرض جاء من السجن, أمك لم تخلق لذلك» 

وقالوا الكبد والضغط والقلب. الله يمرض عيشتهم» ترى ألا يمكن أن أرجع إلى ما 


ع 

وأحسن . عندك الراحة والطب. . 
عواناك 17 

وامتعض عند ذلك فلم ينبس» فسألته : 
ماذا تبقى لك منه؟ 

لم يخل من حذر وهو يجيب: 


دتلنىة لا بذكن , 
كنت حكيمة عندما كتبت بيت رأس التين باسمك وإلا لصادروه فيما صادروا من 
مالى:: 

- ولكنى بعته عندما نفدت نقودى كما قلت لك وقتها. . 

فتأوهت وهى تضع راحتها على يافوخها : 

-آه يا رأسى» ليتك أبقيت عليه» كان فى يدك مال كثير ولكننى أنا التى عودتك على 
الحياة الحلوة» أردت أن تعيش مثل الأكابرء وأردت أن أترك لك ثروة لا يغرقها 
البخر» لم + 

- ثم ضاع كل شىء فى خبطة واحدة. . 

تعم» منهم لله انتقام وضيع من رجل وضيع» رجل طالما تنعم بنقودى». ثم حقد 
على بسبب بنت لا تساوى ثلاثة ملاليم فتذكر فجأة الواجب والقانون والأعراض 
وأوقع بى ابن الزانية» لذلك بصقت على وجهه فى المحكمة. . 

وطلبت سيجارة بإشارة من يدها فأشعل لها سيجارة وهو يقول: 

الأفضل ألا تدخنى الآن. هل كنت تدخنين هناك؟ 


11101 





اللقراق ملم 
- سجائر وحشيش وأفيون» ولكنى كنت قلقة عليك دائما. . 
ودخنت رغم تهافتهاء وجففت وجهها وعنقها بيدها الأخرى: 


- كيف لى أن أدرى؟ ليس أمامى إلا أن أعمل برمجيا أو بلطجيا أو قوادا. . ! 
-أنت! 


حق أنك علمتنى حياة أجمل ولكنى أخشى ألا يكون ذلك فى صالحى . . 

-أنت لم تخلق للسجون! 

وماذا فى الدنيا غير هذه الأعمال؟ 

ثم مستدركا فى حدة : 

-كم شمت بى الأعداء فى غيابك! 

صابر . . تجنب الغضب . إنه الغضب الذى أدخلنى السجن فما كان أسهل على أن 
أرضى الوغد الذى غدر بى. . 

- فى كل مكان أصادف من يستحق السجن . . 

- دعهم يقولوا ما يشاءون ولكن لا تستعمل قبضتك . . 

فكور قبضته قائلا : 

-لولا هذه القبضة لعرضوا بى فى كل مكان» إن أحدا لم يجرؤ على ذكرك بسوء 
أمامى وأنت فى السجن . . 

فنفخت الدخان فى غضب وقالت: 

- أمك أشرف من أمهاتهمء إننى أعنى ما أقول» ألا يعلمون أنه لولا أمهاتهم لبارت 
تجارتى . . ! 

ابتسم صابر رغم الكآبة الشاملة فعادت تقول : 

-إنهم مهرة فى خداع الناس بمظاهرهم» الوجيه فلان. . المدير فلان. . الخواجا 
علان. . سيارات وملابس وسيجار. . كلمات حلوة. . روائح زكية. . لكننى 
أعرفهم على حقيقتهم؛ أعرفهم فى حجرات النوم وهم مجردون من كل شىء إلا 
العيوب والفضائح. وعندى حكايات ونوادر لا تنفدء الأطفال الخبثاء القذرون 
الأشقياءء وقبل المحاكمة اتصل بى كثيرون منهم ورجونى بإلحاح ألا أذكر اسم 
واحد منهم ووعدونى بالبراءة» مثل هؤلاء لا يجوز أن يعيروك بأمك فأمك أشرف 
من أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم» وصدقنى أنه لولا هؤلاء لبارت تجارتى . . 

عاوده الابتسام فتأوهت قائلة : 





ا اللرا 


- أين أيام الفضمحك أين؟ أمك أحبتك بكل قواهاء ولك أعددت هذا المسكن الجميل 
بعيدا عن جوى كله. وأرسلت مالى يجرى تحت قدميك فإذا جاءتك منى إساءة لا 
حيلة لى فيها فلا ذنب لى» وليس فى الرجال من له نصف جمالك ورشاقتك» غير 
أنه يجب أن تتجنب الغضب وأن تتعظ بما جرى لى . . 

رنا إلى تعاستها بحزن ثم تمتم : 

- سيعود كل شىء إلى أصله . . 

أصله؟ ! أنا انتهيت» بسيمة أيام زمان لن تعودء ولا سبيل إلى العمل من جديد» لا 
الصحة تسمح بذلك ولا البوليس. . 

ونظر إلى الأرض قائلا : 

- لم يبق من ثمن البيت إلا القليل . . 

- وما العمل؟ يجب أن تعيش كما عودتك! 

- لكنى لم أعرفك يائسة أبدا . 

إلا هذه المرة. . 

- إذن على أن أعمل أو أن أقتل . . 

أطفأت السيجارة ثم أغمضت عينيها إعياء أو طلبا للتركيز فقال صابر: 

- لا بد من مخرج . 

- نعم طالما فكرت فى ذلك وأنا فى السجن. . 

ولأول مرة فى حياته تزعزعت ثقته فى أمه . واستطردت المرأة : 

أجل فكرت طويلاء ثم أقنعت نفسى بأنه لا يصح أن أصر على الاحتفاظ بك ما دام 


حدجها بنظرة متسائلة من عينيه السوداوين فتمتمت بنبرة اعتراف منهزمة : 


-أنت لاتفهم شيئا ولك حق» الواقع أن الحكومة صادرتك ساعة صادرت أموالى» 
لم يعد لى الحق فى امتلاكك أنت أيضاء أدركت ذلك يوم صدور الحكم. . 
وصمتت من شدة معاناة اليأس ثم واصلت: 

إلى أين؟ 

- إلى أبيك . . ! 


11100 





التقراق ”7 


رفع حاجبيه المقرونين فى ذهول هاتفا : 

- أبى؟ ! 

فهزت رأسها علامة الإيجاب فقال: 

- لكنه ميت» أنت قلت إنه مات قبل مولدى . . 
- قلت ذلك ولكنه ليس من الحقيقة فى شىء . . 
-أبى حى؟ شىء مذهل حقاء أبى حى! 
وجعلت ترمقه بنظرة استياء ومضى هو يقول : 
-أبى حى ! لكن لم أخفيت عنى ذلك؟ 

-آه جاء دور الحساب . . 

أبداء ولكن ألا يحق لى أن أسأل؟ 

- أى أب فى الدنيا كان يمكن أن يهيىئ لك من أسباب السعادة بعض ما هيأت لك . . 


-لا أنكر شيئا من هذا أبدا. . 
البحث؟ ! 


- نعم إنى أتحدث عن رجل كنت امرأة له منذ ثلاثين عاما ثم لم أعد أدرى عنه شيئا . . 
قطب فى حيرة وتهاوى جذعه الذى أطلقه الانفعال: 


- معناه أنى أوجهك إلى المخرج الوحيد من ورطتك . . 
لعله قد مات . . 
- ولعله حى. . 


- وهل أضيع عمرى فى البحث عن شىء قبل التأكد من وجوده؟ 
- ولكنك لن تتأكد من وجوهده إلا بالبحث» وهو خير على أى حال من بقائك بلا مال 
ولا أمل.. 


- بديله الوحيد أن تعمل برمجيا أو بلطجيا أو قوادا أو قاتلاء فلا بد مما ليس منه بد. . 
- وكيف يمكن أن أعثر عليه؟ 


تنهدت من الأعماق وهى تزداد تعاسة بالعودة إلى الماضى : 
- أما اسمه فهو المسجل فى شهادة ميلادك» سيد سيد الرحيمى» وقد أحبنى منذ 
ثلاثين عاما وكان ذلك فى القاهرة. . 





1 التتراق 


القاهرة! ليس أيضا فى الإسكندرية! 

-إنى أعلم أن مشكلتك الحقيقية ستكون فى العثور عليه . . 

- لم لم يبحث عنى هو؟ 

289 

قطب صابر واستقرت فى عينيه نظرة احتجاج مكفهرة فقالت: 

-انتظرء لا تنظر إلى هكذاء واسمع بقية الحديث عنه» إنه سيد ووجيه بكل معنى 
الكلمة» لا حد لثروته ولا نفوذه» لم يكن فى ذلك الوقت إلا طالبا بالجامعة» ومع 
ذلك كانت الذنيا تهتز لذى محضره. 

تابعها بنظرة تجلى فيها الاهتمام المشوب بالفتور فقالت : 

- أحبنى » وكنت بئتا جميلة ضائعة» وحفظنى سرا فى قفص من ذهب . . 
تزوجلك:: 

- نعم وما زلت أحتفظ بشهادة الزواج. . 

- ثم طلقك؟ 

تنهدت قائلة : 

- بل هربت! 


-هربت؟! 
- هربت بعد معاشرة أعوام وأنا حبلى» هربت مع رجل من أعماق الطين. . 
بذهول وهو يهز رأسه : 


-شىء لا يصدق . . 

وبعد قليل ستتهمنى بأننى المسئولة عن ورطتك . . 

- لن أتهمك بشىء فحسبنا ما بناء ولكن ألم يبحث عنك؟ 

-لا أدرى ء هربت إلى الإسكندرية ثم لم أسمع عنه شيئاء وكثيرا ما توقعت أن ألقاه 
يوما فى أحد بيوتى ولكن عينى لم تقع عليه . . 

ضحك فى فتور ثم قال : 

- وبعد ثلاثين عاما تدفعيننى للبحث عنه. . 

- أليس يدفعنا إلى ما هو أغرب من ذلك» وستكون معك شهادة الزواج وستكون 
معك أيضا صورة الزفاف» وسوف ترى بعينيك أنك صورة منه. . 

عجيب أن تحتفظى بالشهادة والصورة. . 

1110 





قرا 8 


- كنت أفكر فى مستقبلك » وكنت فتاة فقيرة تعيش فى كنف بلطجى» ولا أتانى 
النجاح صدقت نيتى على الاستئثار بك . . 

- ومع ذلك لم تتخلصى من بقايا الذكريات . . 

جففت وجهها وعنقها بحركة حادة بعض الشىء وقالت: 

-هممت بذلك مرات ثم عدلت» كأن ركنا فى كان يتنبأ بما سيقع . . 

راح يذرع الحجرة فى حيرة ثم وقف أمام السرير وهو يسأل : 

- وإذا بعد الجهد والتعب أنكرنى؟ 

- من يرى بهاء صورتك وينكرك؟ ! 

عاد إلى الجلوس وهو يقول: 

القاهرة مدينة كبيرة وأنا لم أزرها من قبل . . 

- من قال إنه اليوم فى القاهرة؟ لم لا يكون فى الإسكندرية» أو فى أسيوط أو 
دمنهورء الحق أنه لم يطلعنى على حال من أحواله أين هو اليوم» ماذا يعمل أهو 
أعزب أم متزوج؟ الله وحده يعلم. . 

فلوح بيده كالغاضب وقال : 

- وكيف يراد منى العثور عليه؟ 

-ليس ذلك يسيرا بطبيعة الحال ولكنه ليس بالمحال» وأنت لك معارف من ضباط 
البوليس والمحامين» وليس من شخصية كبيرة إلا ولها فى القاهرة مقام. . 

- أخشى أن ينفد مالى قبل العثور عليه . . 

- لذلك يجب ألا تتوانى عن البحث . . 

وتفكر قليلا ثم سأل : 

- وهل يستحق يا ترى كل هذا التعب؟ 

-بلا أدنى شك يا بنى» ستجد فى كنفه الاحترام والكرامة» وسيحررك من ذل الحاجة 
إلى أى مخلوق بما سيهيئ لك من عمل غير البلطجة أو الجريمة» فتظفر آخر الأمر 
بالسلام. . 

-وإن وجدته فقيرا! . . ألم تكونى أنت غنية لا يحيط بثروتك حصر؟ 

- أؤكد لك أن المال ليس إلا حسنة من حسناته» وقد كنت غنية حقا ولكنى لم أهيئ 
للك كرافة ولااعماذ ولا لافنا .كدت تسين :ملحا نلكنتك لتخرمن الالسندة المتواثية 
لليل'منك ومن أمك .+ 

عاد إلى التفكير فخيل إليه أنه يحلم» ثم سألها: 





ا االقرا 


- هل تؤمنين حقا بأننى سأعثر عليه؟ 

- شىء يحدثنى بأنه حى وأنك إذا لم تيأس أو تتوان فسوف تعثر عليه . . 

هز رأسه وهو بين الحيرة واليأس وتم : 

-هل حقا أمضى للبحث عنه؟ وإذا علم أعدائى بهذه الحكاية أفلن يجعلوا منى نادرة 

جنونية؟ ! 

- وماذا يقولون إذا وجدوك آخمر الأمر قوادًا؟ الحق أنه لا خيرة لك فيما أنت ذاهب 

إليه. . 

أغمضت عينيها بعد ذلك وغمغمت (إنى تعبة جدا» فرجاها أن تنام على أن يستأنفا 
الحديث غدا. وخلع حذاءها ثم غطاها ولكنها أزاحت الغطاء عن صدرها بحركة عصبية 
فلم يعده» وما لبث شخيرها أن تردد. . واستيقظ حوالى التاسعة من صباح اليوم التالى 
بعد ليلة سهاد ممزقة بالفكر. وذهب إلى حجرتها ليوقظها فوجدها ميتة. ترى هل ماتت 
وهى نائمة أو أنها نادته آخر الليل فلم يسمع؟ على أى حال وجدها ميتة وهى لم تزل 
بالملابس التى غادرت بها السجن . وها هو الآن يتفحص بعناية ودهشة صورة الزفاف . 
الصورة التى جمعت بين والديه منذ ثلاثين عاما. وها هو يركز بصره على صورة أبيه» 
على وجهه بالأخص. شاب جميل حقاء مفعم بالشباب والحيوية» ونظرته تفيض 
بالاعتداد بالنفس» ووجهه المائل للبياض. المستطيل الممتلئ ذو الجبهة العالية» 
والطربوش المائل إلى اليمين» لا يمكن أن ينسى . ولم تكذب أمه حين قالت إنه صورة منه 
ولكنه كما يكون القمر على الورق صورة من القمر فى كبد السماء . 

وفى شقة الجيران أخذ المدعوون يتوافدون وأنغام الموسيقى تترامى» هذا صوت القرآن 
يتلى فى غرفة المرحومة . والآن أين هى الحقيقة وأين هو الحلم؟ أمك التى ما تزال نبرتها 
تتردد فى أذنك قد ماتت» وأبوك الميت يبعث فى الحياة. وأنت المفلس المطارد بماض 
ملوث بالدعارة والجريمة تتطلع بمعجزة إلى الكرامة والحرية والسلام . 


ليبق الأمر سراء وإذا خاب مسعاه فليستعن بمعارفه» وليبدأ بالإسكندرية فهذا طبيعى 
جداء وإن يكن من المستبعد أن يقيم بها شخص كأبيه ولا تدرى به أمه . واتخذ من دليل 
التليفون دليله» حرف السين» سيد» سيد» سيد. . حتى استقرت عيناه على سيد 
سيدالرحيمى. آه لو يدلله الحظ ويعفيه من متاعب لا يدرى مداها أحد. سيد سيد 


110 





اللظقراق قن 


الرحيمى صاحب مكتبة المنشية . أين هذا من جاه أبيه؟ والمنشية كانت معبدا لأمه طيلة ربع 
قرن من الزمان» ولكن لعله يجد فى الاسم مفتاحا للغز. ووجد صاحب المكتبة فى 
الخمسين من عمره» وذا سحنة لاتمت بسبب إلى صورة أبيه» وأخبره أنه يبحث عن سمى 
له وأطلعه على صورته مخفيا صورة أمه» وقال الرجل : 


-لا أعرف صاحب هذه الصورة . 
ولما أوضح له أنها صورة التقطت منذ ثلاثين عاما قال: 
- ولا أذكر أنى رأيته . : 


- ألا يمكن أن يكون قريبا من بعيد؟ 

- نحن فى الأصل من الإسكندرية» وجميع أهلى يقيمون هنا عدا بعض أقارب 
فى الريف من ناحية الأم» ولكن ما سبب بحثك عنه؟ 

وارتبك لحظة ولكن سرعان ما أجاب : 

-إنه صديق قديم للمرحوم أبى» أليس للرحيمى فروع فى بلاد أخرى؟ 

وتفحصه بنظرة لم تخل من ريبة وقال: 

- الرحيمى هو جدىء ولا يتتسب إليه من أسرتنا إلا أنا وأختى وليس لنا فروع من 
ناحيته خارج الإسكندرية . 

ولا سبيل إلى الصبر أو الطمأنينة لمن لم يعد يمهلك سوى مائتين من الجنيهات. وهى 

تتناقص بمرور الساعات ولا أمل بعدها فى حياة كريمة . ومرضت عيناه من التفحص 
المركز للوجوه وأعياه القلق. ولجأ إلى محام من معارفه يشاوره فقال له: 

- لعل له رقم تليفون سرى . : 

وتطوع لمعاونته فى الكشف عنه دون نتيجة» ثم قال له: 

اسأل مشايخ الحارات . . 

فقال صابر بإنكار: 

-إنه وجيه بكل معنى الكلمة. . 

- إن ثلاثين عاما خليقة بأن تفعل الأعاجيب» بل فى نيتى أن أكلف صديقا من ضباط 
البوليين حرق هنة فى الجون! 

-السجون؟! 

-لم لا؟ السجن كالجامع مفتوح للجميع» وأحيانا يدخله إنسان لنبل فى أخلاقه لا 
لاعوجاج . 

وضحك المحامى ضحكة مقتضبة ثم قال : 





0 التقراق 


- ولكن لنبدأ بالشهر العقارى فلعله من الأعيان المتخفين . 

- ولم يكن فى كشف السجون اسمه ولا فى سجلات الملاك فلم يجد مفرا من اللجوء 
إلى مشايخ الحارات . واستبدل إلى حين اقتراحا للمحامى بالإعلان فى الصحف إذ 
أن ذلك يذيع مشكلته العجيبة على الملا ويمكن أعداءه الكثيرين فى الإسكندرية من 

العبث به» فأجل تنفيذ الفكرة إلى ما بعد مغادرة المدينة . ودار على مشايخ الحارات 

من العطارين إلى كرموسء ومن رأس التين إلى محرم بك. وكلما ذكر اسم سيد 
سيد الرحيمى سثل : 

-عمله؟! 

لا أدرى عنه شيئا إلا أنه من الوجهاء وهذه صورته منذ ثلاثين عاما. 

-ولم تبحث عنه؟ 

-إنه صديق قديم لأبى وقد كلفت بالبحث عنه. 

وتحدق فيه الأعين باستغراب : 

- وهل أنت متأكد من أنه حى؟ 

المت متاكدا فخ كى ء.. 

- وكيف عرفت أنه فى الإسكندرية؟ 

مجرد أمل ليس إلا. 

ثم يجيئه الجواب النهائى كجدار السجن : 

- غير معروف عندنا. 

ولم ترتم عيناه لحظة واحدة من التهام الوجوه» ولم يشعر فى دوامة الاستطلاع بخطى 
الخريف حتى أيقظه مطر مباعت عند لسان الكورنيش الموغل فى البحر فانسحب مسرعا 
إلى الميرامار» ورفع عينيه إلى سماء أظلت جو الظهيرة بقطع من الليل. وسمع صوتا 
يقول مرحبا: 

تعال. 

صافحها وجلس. 

- لم أتمكن من تعزيتك ولكنى انتظرت أن تزور «الكباريه» . 

ألست فى حداد؟ 

الكنار مكان مناسب للمحزونين» والجميع يتساءلون أين أنت؟ 

وتوقف المطر فوقف من فوره معتذراً بمشاغل فقالت بدورها هامسة : 

- خبرنى هل أنت فى ضائقة مالية؟ 


1110 





التلراق ا 


آه هل بدءوا يتقولون؟ وقالت بإغراء : 

- مثلك لن يعز عليه المال إذا أراده! 

فصافحها مرة أخرى ببرود ثم ذهب . مثلك لن يعز عليه المال. . أجل فأذعن لنداء 
القوادة. ذلك ما يتمناه أعداؤه ولكن دونه الموت . وتساءل ماذا بقى فى الإسكندرية؟ 

وبسط راحتيه أمام قارئ الكف ولكنه لم يقل جديدا. وزار العارف بالله سيدى الشيخ 
زندى بعطفة الفراشة . تربع بين يديه فى حجرة تحتانية مغلقة الشيش دواما فهى تعيش فى 
مغيب متصل وتتلوى فى جوها سحائب البخور. وشم الشيخ منديله ثم أحنى رأسه 
مستغربا ثم قال: 

- من جد وصل . . 

وترامى إليه هدير الموج من الأنفوشى فقال بأمل «بداية حسنة» وقال الشيخ : 

- وتعب كليالى الشتاء . 

اليوم بسنة وكم هو باهظ التكاليف. 

- وستنال مطلوبك . 

وفى جزع سأله : 

ما مطلون ؟ 

-إنه ينتظرك بفارغ الصبر. 

-هل يدرى بى؟ 

-إنه ينتظرك . 

لعل أمه لم تقل له كل شىء . 

-إذن هوحى. 

-الحمد لله. 

وأين أجده فهذا ما يعنينى حمًا؟ 

افش 

- لا يمكن الصبر إلى ما لا نهاية . 

- أنت فى البدء . 

دافى الاسكندازية؟ 

أغمض الرجل جفنيه ثم تتم : 

د شرك بالصين: 





1 اراق 

وقطب مغتاظا ثم قال: 

- لم تقل شيا . 

فقال الشيخ محولا عنه رأسه : 

حقلت كل شىء: 

وخرج إلى جو عاصف تركض فيه السحب مثقلة بالظلمات . وقال دجالون 
وعاهرات والنقود تبعثر بلا حساب . وعزم على بيع أثاث شقته تمهيدا للسفر إلى 
القاهرة . 

وكان قد باع التحف الرشيقة فى محنته ليواجه بثمنها نفقات معيشته الخيالية. وكره 
دعوة السماسرة إلى شقته فقصد المعلمة نبوية صديقة أمه الحميمة والشخصية الوحيدة 
التى لم يكرهها فى ذلك الوسط . وقالت وهى تقدم خرطوم النارجيلة : 

- سأشترى أثاثك على العين والرأس ولكن لماذا تهجر بلدك؟ 

سأشق لى طريقا فى القاهرة بعيدا عن الخلق ! 

الله يرحم أمك». أحبتك ودللتك فسدت فى وجهك سبل الرزق! 

وأدرك ما تعنيه فقال : 

-لم أعد أصلح لهذه المهن! 

- وماذا تفعل فى القاهرة؟ 

- صديق هناك وعدنى خيرا . 

قالت باسمة عن ثغر ذهبى : 

أعمالنا لا تشين إلا المغرورين» طاوعنى! 

فبصق فى موقد كبير ينفث بخور الهند. 

وتعلق بصره بالإسكندرية والقطار يرج الأرض مبتعدا. رآها مدينة الأطياف مغروسة 
فى حلم الخريف تحت مظلة هائلة من السحبء وهواء بارد معبق بمطلع نوفمبر يجوب 
شوارعها الأنيقة شبه الخالية . وودعها هى وأمه وذكريات ربع قرن من الزمان بزفرة طويلة 
ساخنة . وكيف يكون الجال لو أن من تبحث عنه قد خلفته وأنت لا تدرى فى ركن من 
الإسكندرية لم يبلغه مسعاك؟ ومن ضمن لك أن يكون حظك فى القاهرة خيرا منه فى 
الإسكندرية؟ وكم فى البحر من أمواج وكم فى السماء من نجوم . وعجيب أن يكون بعيدا 
هذا البعد كله من تحمل روحه وجسده بين جنبيك . وما أبعدك عنه إلا شهوة عمياء 
انتزعتك من أحضانه لتلدك فى ماخور. وكان يسألها عن أبيه فتجيبه «كان موظفا محترما 
ورجلا طيبا ولكنه مات فى ريعان الشباب»» وأهله أليس له أهل؟ فتجيبه «لا أعرف له 


1110م 





الظقسراق 3 


أهلا!». لذلك ظن طويلا أنه ابن رجل من البلطجية وأنه ابن زنا. وأنت اليوم وحيد بلا 
أهل ولا أصدقاء كأنك جنس غريب . وهاله الزحام فى محطة مصر فألح عليه شعوره 
بالوحدة. 

ونازعته نفسه إلى العودة فى أول قطار ولكنه أودع حقيبته الأمانات ثم خرج إلى 
الميدان والشمس تميل ميلة العصر . ودار رأسه مع السيارات والبصات والعابرين. وترامى 
الميدان فى غاية من الاتساع وبلا شخصية» وتقابل فوق أديمه متناقضات من أشعة حامية 
وهواء لطيف» وشوارع مزدهرة وأخرى خربة. وقضى ساعة وهو يبحث عن فندق 
رخيص فى الميدان وما حوله حتى وجد نفسه فى شارع الفسقية ذى البواكى أمام فندق 
«القاهرة». وقف على الطوار المسقوف المقابل للفندق على كثب من شحاذ مستلق لصق 
الجدار يتغنى بمديح نبوى . وانعكس عليه من الشارع طابع عمل ودمامة وضجر لكثرة 
الدكاكين على الصفين وعربات النقل وأكوام البضائع ولكنه أمل أن يجده أرخص فندق 
فى الناحية . وهو مبنى قديم» ترابى الجدران» مكون من أربعة أدوار وعلية فوق السطح. 
وذو باب مرتفع مقوس الرأس كوجه باك» يفتح على مدخل مستطيل ينتهى إلى السلم 
ويتوسطه مكتب جلس إليه رجل إلى جانبه امرأة. الرجل طاعن فى السن أما المرأة. . 
رباه إنها فتاة فى عز الشباب تشد عينيه بقوة ليست بلا سبب . إنها توقظ مشاعر نائمة وتنبه 
ذكريات مدفونة فى الضباب . العطفة المبلطة الصاعدة من الأنفوشى المشبعة بهواء البحر 
ورطوبته المالحة وانفعالات الجنون الملفعة بالظلام. وسرعان ما توثقت علاقات خفية بينه 
وبين الفندق كأنما جاءه على ميعاد ووجد نفسه يعبر الطريق نحوه مدفوعا برغبة فى 
الاستطلاع والكشف وإن يكن غير مصدق لظنونه تماماء وصوت الشحاذ يتردد عاليا فى 
نبرة أعجبته : 

طهزينة مديحى صاحب الوجه المليحى 
النصارى واليهود 
أسلموا على يديه 

السمرة الرائقة النقية» والعينان اللوزيتان الدعجاوان» وبريقهما المضىء المفعم 
بالنبض والاقتحام. أين من هذه القطة المهزولة ذات الثوب الباهت الواحد وأظافرها 
الجارحة؟ إنها تذكره بها بعنف تاركة له تخيل ما صنع الزمن فى عشر سنوات أو يزيد. 
والاسم القديم ضائع كأبيه» ولكن رائحة البحر تملا خياشيمه وها هو يرتجف لتذكر الليل 
البهيم» ورغم ذلك كله فقد ظل أبعد ما يكون عن اليقين. وبنت العطفة ذكرى عابرة لا 
قيمة لها ولكنها تبعث الآن فى صورة فريدة ذات سطوة خطيرة الشأن كبعث أبيه من 
الموت الذى جاء به من البحر إلى هذه المدينة المثيرة . استقبلت الفتاة القادم بنظرة قصيرة 





1 التلراق 


ولكنها متغلغلة ثم أدارت وجهها نحو استراحة الفندق إلى يمينها. ووقف صابر أمام 
المكتب والعجوز عاكف على دفتر يطالعه من خلال عدسة مكبرة يمسك يمقبضها المعدنى 
الصغير بيد مرتعشة . 

ولم ينتبه العجوز إلى القادم لشيخوخة حواسه فيما بدا فأدام الشاب النظر إلى عارض 
الوجه الذى شغله». مكتشفا آيات تؤكد ظنونه وآيات تبددها» ثم تحول الوجه إليه بنظرة 
ناقدة لانتهازيته فربتت على ساعد الرجل لتنبهه. وعند ذلك بادره صابر قاتلا : 

-مساء الخير يا والدى! 

رفع الرجل إليه وجهه ويده لا تكف عن الارتعاش . وهو وجه من الصعب التنبؤ عن 
صورته الأصلية إذ اختفى أديمه تحت قناع من الأخاديد والتجاعيد» وبرز أنفه مقوسا حادا 
مجدوراء واحتارت فى عينيه الناضبتين نظرة باهتة مصوصة كأنا لم تعد تعنى برؤية 
العالم» وقال صابر: 

-إنى أسأل عن سعر الحجرة . . 

- ريال فى الليلة . . 

- ولمن يقيم أكثر من أسبوعين؟ 

- الريال عملة لا قيمة لها اليوم. . 

- قد أقيم شهرا أو أكثر تبعا لمشيئة الله . 

فأمسك الرجل عن الكلام إعراضا عن المساومة وهنا رأى صابر طربوشه الطويل 
الغامق لأول مرة» وتمتم : 

- كما تشاء . 

وراح يملى عليه الاسم والمكان الذى جاء منه ولما سئل عن عمله أجاب : 

- من الأعيان! 

وقدم له بطاقته الشخصية . وجعل يسترق النظر إلى الفتاة طوال انشغال العجوز 
بالبطاقة . 

والتقت عيناهما مرة ولكنه لم يقرأ فيهما المعنى الذى يتلهف عليه . وبسبب انفعاله 
وحده راح يقنع نفسه بأنها هى هى . . ولفحه هواء البحر فى الركن المظلم وهو نصف 
عارء وملآت أنفه رائحة القرنفل المنبعثة من الشعر المبعثر . وثمل بشعور تفاؤل عجيب 
فقالإنه على نحو ذلك سيعتر على أبيه . والمؤكد بلا أدنى شك أن هذه الفتاة على 
استعداد لشىء ما. إنها تقف منه موقفا حياديا فى الظاهر ولكنها تخاطب ماضيه وأعماقه 
بألف لسان. ولااشك أن وراء هذه القشرة الناعمة الصامتة اللامبالية مدينة مسحورة. 


1110 





التلران سام 


ولو كان الظرف غير الظرف لدعاها إلى الرقص واحتواها بين ذراعية وقال لها بكل جرأة 
كيف يرضى بالعيش تحت هذا القبو من ترطب جسده بهواء البحر فى عطفة القرشى . 
ورد العجوز إليه البطاقة قائلا : 

-إذن فأنت من الإسكندرية؟ 

فهز رأسه بالإيجاب مبتسما فغمغم الرجل بكلمات مبهمة » فقال بمكر راميا الفتاة 
بنظرة سريعة : 

أراهن على أنك تحب الإسكندرية! 

وابتسم جانب فم العجوز وحده» وعلى خلاف توقعه أضربت الفتاة عن متابعته 
فشعر بخيبة» ثم خطر له أن يسأله : 

-هل عرفت يوما سيد سيد الرحيمى؟ 

فضيق الرجل عينيه ثم قال : 

- غير مستبعد أنى سمعت عنه. . 

تركز صابر فى اهتمام أنساه كل شىء حتى الفتاة نفسها : 

ف 

-لا أذكر» لست متأكدا. . 

ولكنه من كبار الوجهاء . . 

- عرفت كثيرين منهم ولكنى لم أعد أذكر أحدا. . 
اليوم أو غدا. والتقط فى اللحظة المناسبة نظرة من عينى الفتاة قبل أن تستردهما. قرأ فيها 
شكا وما يشبه السخرية وكأنها تتساءل عما دعا هذا الوجيه إلى النزول بفندقها المتواضع . 
ولم يضايقه ذلك وقال إن الحقيقة ستنجلى عندما تعرف مهمته وسوف تعرف عاجلا أو 
آجلا . ترى هل تذكرته؟ وشعر بغرز الأظافر فى ساعده عقب المطاردة البارعة التى بدأت 
من ساحل الصيادين بالأنفوشى واستقرت فى الركن المظلم بعطفة القرشى» ولفح هواء 
البحر بدعابته القاسية نصفه العارى. ولكن أين كان أبوها فى ذلك الوقت؟ ومتى انتقل 
إلى إدارة هذا الفندق؟! . . ونادت المرأة قائلة : 

عم محمد يا ساوى . 

فجاء عجوز من مجلسه عند الباب» عميق السمرة مائل للقصر دقيق الجسم تتكون 
ملابسه من طاقية بيضاء وجلباب رمادى مقلم ومركوب. فأشارت المرأة إلى صابر قائلة : 


حجرة رقم ١١‏ . 





ا التلراق 


ابتسم صابر لدى سماعه الرقم» ثم استأذن فى الذهاب لإحضار حقيبته» ولما عاد تبع 
عم محمد الساوى إلى الحجرة فى الدور الثالث. وغادرها الرجل ثم دخل خادم يحمل 
الحقيبة . خادم بين الشباب والكهولة» سريع الحركة بدرجة لا تتناسب مع العمل الذى 
يؤديه» ضيق العينين جدا مستديرهماء صغير الرأس» يوحى منظره بالسذاجة. وسأله 
عن اسمه فأجاب : 

- على سريقوس . 

وآنس فى نبرته امتنانا بدرجة أشعرته بالقدرة على امتلاكه وقتما يشاء» وسأله: 

-هل العجوز الجالس إلى المكتب هو صاحب الفندق؟ 

- نعم . عمل خليل أبو النجا. . 

وهم بسؤاله عن الفتاة ولكنه كبح رغبته عن حكمة إلى حين . وحذر نفسه قاتلا : إن 
السذاجة سلاح ذو حدين! ولما خلا له المكان شمله بنظرة سريعة فتركت فى نفسه انطباعا 
بالقدم. السقف العالى والسرير ذو الأعمدة والكنصولء وقال إن أباه كان يعجب بهذا 
المنظر حينما أحب أمه. ودلف من نافذة عالية وأطل على ميدان صغير فى الطرف 
الشمالى من الشارع» تتوسطه فسقية تعج نافورتها رذاذًا على غلمان مهللين. وأضاء 
المصباح ثم جلس على كنبة تركية قديمة . وراودته أخيلة جنسية . وتخللتها أحلام بالعثور 
على أبيه . أما نداء العينين اللوزيتين المضيئتين فعجيب كل العجب . ولعلها الآن تفكر فى 
أمره وتساءل ولكن ليس ثمة ما يقطع بأنها هى هى . فى زحمة المولد نهرته قائلة لا تقترب 
منى هكذاء فقال متظاهرا بالكبرياء: لم تقلها بنت قبلك . فأجابت بكبرياء أشد: ولكنى 
أقولها وأعيدها. وذهبت فى صحبة امرأة شرسة والهواء يلعب بضغيرتيها فأين كان عم 
خليل؟ ! وعيناك اليوم التقت بعينيها أكثرمن مرة وتجلت معان» ولكن لم يلتمع بينهما ما 
يوحى بذكريات مشتركة . لم تقل عيناها إنها تذكر المجلس فوق سور الكورنيش عند 
قوارب الصيد المقلوبة . والأحاديث المفتعلة للتستر على الرغبات اللجامحة . وقبلة خطفت 
أعقبتها معركة غير حامية . وعندما أعيتك الحيل صحت سأقتلع يوما أظافرك. أما يوم 
المطاردة الرائعة وصراع الركن المظلم وشذا القرنفل والهواء المشبع برائحة البحر فكانت 
نصرا صريحاء ثم تلاه اختفاء وصمت,ء لاهى ولا الأم الشرسة» وأسف دام طويلاء 
حتى انتقلت أمك من حال إلى حال واستقر بك المقام فى الشقة الأنيقة بالنبى دانيال. من 
أدراك أن لهذا الفندق علاقة بعطفة القرشى؟! وأن هذه الفتاة المثيرة هى تلك البنت 
القرنفلية؟! على أى حال فهذه الفتاة تثير عاصفة فى دمك . وفى سواد مقلتيها ترى 
الليالى المعربدة بأنغامها الجنونية. وما أحوجك إلى دفء الشهوة المعزية فى فترات 
الراحة من البحث» وقيمة ذلك تتضاعف للوحيد الذى لا أهل له ولا صاحب له. 
وعندما تجىء المعجزة ستقول له: 


1110م 





اللقراق ا 


أنا صابرء صابر سيد سيد الرحيمى» هاك شهادة الميلاد» وهاك شهادة الزواج» 
وانظر جيدا فى هذه الصورة . : 
عند ذاك سيفتح لك ذراعيه وتنجاب عنك الوساوس إلى الأبد. وصرت امرأة أنيقة 
بكل معنى الكلمة, أين البنت المغطاة بملح البحر؟ أين رائحة غفلة العذراء؟! 


استيقظ مبكرا بعد ليلة لم ينم فيها سوى ثلاث ساعات . ووجد رغم ذلك نشاطا لم 
يحلم به من قبل . وفتح النافذة فلم ير المنظر الذى فى غفلة توقعه» منظر عمارات النبى 
دانيال وسعد زغلول وزرقة البحر على مرمى البصر وهواء الإسكندرية العامر بالفتن. 
رأى سماء ملفعة بالسحب السمراء» وفى الأفق الشرقى نضح الستار بياض ناصع» 
وعلى الأرض الخالية سعى فوج من العمال والباعة» وفى لمحة واحدة تجلت لمخيلته صورة 
أبيه والوجه الدافئ المفعم بالإثارة» وجاءه على سريقوس بالفطور إلى حجرته فأكل 
بشهوة عظيمة» ولما رجع الخادم ليحمل الصينية الفارغة سأله : 

- من الفتاة التى كانت تجلس إلى جانب عم خليل أمس؟ 

-زوجته! 

ليعترف بأن هذا لم يجر له فى بال» وكم بدا له مزعجا : 

- من الإسكندرية؟ 

-لا أدرى. . 

متى امتلك عم خليل هذا الفندق؟ 

- لا أدرى» إنى أعمل هنا منذ خمس سنوات فقط . 

- وهل كان وقتذاك متزوجا. 

لعم.. 

هى بنت عطفة القرشى . اشتراها العجوز من المرأة الشرسة. وصنع منها امرأة حسناء 
طاغية» ولكن عليه هو أن يتفرغ لمهمته قبل أن ينفد آخر ما يمهلك من نقود. ووجد عم 
خليل أبو النجا بمجلسه وراء المكتب وهو يحادث عم محمد الساوى الجالس إلى يمينه . 
ولمح فى طريقه نفرا من النزلاء يجلسون فى الاستراحة ما بين متناول لفطوره وقارئ 
لجريدة . جاء بكرسى أمام المكتب ثم جلس رافعا يده بالتحية وهو يقول: 





م قراف 


-عن إذنك دليل التليفون . 

وفر الصفحات حتى عثر على حرف السين. سيد سيد. . وسيد سيد الرحيمى! 
وخفق قلبه بقوة. هذا هو فى مدينته . ليس كصاحب مكتبة المنشية . والمهنة؟ طبيب بميدان 
الأزهار وأستاذ بكلية الطب . كما يحدث للوجهاء وأبناء الوجهاء. واستخفه فرح 
0 3 

الظاهر أن ربنا سيرضى عنى . . 

فنظر عم خليل بعينيه المذكرتين بالآخرة فقال: 

-الظاهر أنى سأنجح فى المهمة التى جئت من أجلها من الإسكندرية. 

فغمغم العجوز: 

- جميل أن ينجح إنسان . 

كما جحت فى شراء الفاتنة! ورآه ما زال ينظر إليه مستطلعا فقال: 

-إنى أبحث عن رجل هو كل شىء فى حياتى . 

فدعا له محمد الساوى قائلا : 

-ربنا يحقّق مقاصدك . 

وقال عم خليل أبو النجا: 

لا يجىء أحد إلى هذا الفندق للإقامة ولكن لمهمة تستغرق ليلة أو أسبوعا أو شهرا 

ثم يمضى إلى حال سبيله . 

هذا طبيعى جذا. 

- ولذلك فهم يتجاورون فى الغرف والموائد والاستراحة ويندر أن يعرف أحد منهم 

الآخر. 

- يخيل إلى أن عملك مسل جدا؟ 

- لاشىء مسل على الإطلاق! 

ومغالطة الزمن أليست مسلية؟! وسمع وقع حذاء نسائى فأجل قيامه الذى هم به. 
وجاءت الزوجة مدملجة الجسم فى جونلا سوداء وبلوزة حمراء مطوقة الرأس والخدين 
بإشارب أبيض منمنم . ووشى خطرانها باكتناز سوى هو الوسط المثالى بين النحافة 
والبدانة» فسرعان ما ثمل أنفه بعبير أنشوى مسكى عصف بعقله وقلبه» وهى وإن لم 
تبتسم إلا أن عينيها عكستا نظرة راضية موحية كأرض خصبة لم تزرع بعد. ونهض عم 
محمد الساوى وهو يحبك معطفا رماديا قديماء أما عم خليل فقد رفع إليها وجهه 
متمتما: 


1100 





التقراق لا 

-نويت بالسلامة؟ 

فقالت بصوت حلقى دسم : 

فتك بعافية . 

ومضت إلى الخارج يتبعها عم محمد الساوى. أنت سر من الأسرار يا عم خليل. . 
ووجهك يصلح رمزا للموت كعلم القرصان. ولم يرتكب أناس الأخطاء بلا تبصر؟ وقام 
متظاهرا بالهدوء فحيا الرجل وغادر الفندق. وسبقته عيناه إلى كافة أنحاء الطريق حتى 
رأى المرأة والعجوز يميلان مع ميدان الفسقية فأسرع فى مشيته حتى لحق بهما. والتفت 
عم محمد نحوه فابتسم كالمعتذر وقال: 

- لا تؤاخذنى يا عم محمدء أود أن أعرف الطريق إلى ميدان الأزهار؟ والتفتت نحوه 

المرأة فى شىء من الدهشة . ووقف عم محمد ليصف له طريق الوصول فاضطرت 

المرأة إلى الانتظار . وتظاهر بالإنصات إلى كلام عم محمد دون أن يعى منه كلمة» 

وكلما وجد فرصة آمنة حدج المرأة بنظرة فتتلقاها بالرضى الهادئ المثير للطموح بلا 

دليل. انتتهى من شرحه فشكره ثم ذهب . ترى أين هى ذاهبة مع كلب الحراسة؟ 

وألم تكن جرأته سابقة للأوان؟ إنه دائما جرىء غير أن الجرأة هذه المرة قد تفسد عليه 

البحث أو تعرقله. وبلغ ميدان الأزهار مستعينا بالمارة ولم يجد فى العيادة سوى 

التمرجى. وأخبره الرجل أن الطبيب يحضر عادة حوالى الثانية عشرة فجلس 

ليتتظر. هل ترددت أنفاس أبيه فى هذه الشقة؟ ها هو القلق يساوره والجزع . والأمل 

واليأس . وكلما تقدمت الساعة قل صبره. وإن وجد أباه حقا فكيف يكون موقفه 

منه؟ كيف يتصرف إن أنكره أو طرده؟ ولكنه سيستميت فى الدفاع عن حقوقه. 

وإعجاب! ولكنه تذكر أنه لعجلته واضطرابه لم يعرف اختصاص الدكتور! وخرج 

من حجرة الانتظار إلى الصالة فجلس فى قبالته التمرجى وسأله: 

- من فضلك ما اختصاص الدكتور؟ 

-القلب! حضرتك طبعا. . 

-أزدت أن أتأكد.» أصلى من الإسكندرية! 

وشعر بسخافة أسئلته ولكنه لم يبال» بل عاد يسأله: 

هل عندك فكرة عن عمره؟ 

فأجاب الرجل مندهشا: 

-لا أدرى عن ذلك شيئا! 

ولكنك تفرق ولا شك بين الشباب والكهولة! 








0 اللراق 


- إنه أستاذ بالكلية! 

- وهل هو متزوج؟ 

أعلن التمرجى عن مدى استغرابه بضحكة ثم قال : 

- متزوج وأبء وله ابن طالب بالكلية. . 

عقبة وأى عقبة تعترض أمله فى القبول» وسيكون للأسرة رأى فى العضو الجديد 
القادم من ماخور ولا مؤهل له غير جماله المبذول للفجور. ولكن إصراره بلغ المنتهى . 
وجاء المرضى تباعا حتى امتلأت الحجرات . ثم دعاه التمرجى إلى حجرة الكشف . ونفخ 
سحب القلق والوساوس ودخل . رأى وجها لا يمكن أن يرجع بحال إلى أصل الصورة 
التى يحملها ولكن من يتصور أن أمه ‏ فى آخر ليلة لها يمكن أن ترجع إليها؟ وجلس 
أمام مكتب الدكتور وراح يجيب على أسئلته التى شرع فى تدوينها فى دفتر كبير: 

- اسمى صابر سيد سيد الرحيمى . 

ضحك الدكتور قائلا : 

-عال : أنت إذن ابنى» وما عمرك؟ 

- الواقع أننى لا أشكو مرضا على الإطلاق! 

فحدجه بنظرة متسائلة فقال : 

- إنى أبحث عن سيد سيد الرحيمى . . 

-عنى أنا؟ ! 

- لا أدرى ولكن تفضل بالنظر فى هذه الصورة! 

تفحصها الدكتور ثم هز رأسه بالنفى . 

لست صورة حضرتئك؟ 

ضحك قائلا : 

بالتأكيد لا» ومن هذه الفتاة الجميلة؟ 

أليس لأحد من أقربائك؟ لاحظ أن تاريخها يرجع إلى ثلاثين عاما مضت. . 

ولا هى لأحد من أقربائى . 

حضرتك من أسرة الرحيمى؟ 

والدى سيد الرحيمى» كان موظفا بالبريد. 

- أليست للأسرة فروع لم تعرفها؟ 

أسرتى محدودة أصلا وفرعا! 


11100 





الللراق ملم 


قام يائسا وهو يقول: 

- آسف على إزعاجك, ولكنك ربما سمعت عن أحد الوجهاء بهذا الاسم . . ؟ 

- لا أعرف وجيها بهذا الاسمء ولكن ما الحكاية بالضبط؟ 

-الحكاية أنى أبحث عن وجيه يدعى سيد سيد الرحيمى» صاحب هذه الصورة منذ 

ثلاثين عاما . 

لعله هنا أو هناك وأنا على أى حال لست مرجعا فى هذه الشئون. 

وقضت نبراته بإنهاء الحديث فحياه وانصرف . ودخل أول قهوة صادفته فجلس إلى 
البار ثم طلب براندى . ها هو يبدأ من جديد . وما إغراء دليل التليفون إلا خدعة سخيفة . 
وتبدد التفاؤل الوهمى الذى اجتاحه منذ رأى زوجة عم خليل . وتذكر سلسلة الأبحاث 
التى قام بها فى الإسكندرية من الشهر العقارى ومشايخ الحارات وأولياء الله ولكنه 
يحتاج لإعادة ذلك إلى مرشد ولا أحد له فى القاهرة. لذلك استحسن أن يبدأ بالإعلان 
ولعله أرخصها وأسهلها وأجداها. ونظر إلى الساقى العجوز وسأله: 

- ألم تسمع عن سيد سيد الرحيمى؟ 

دكتور فى العمارة التالية . 

-كلاء أعنى الوجيه سيد سيد الرحيمى؟ 

ردد الخواجا الاسم كأنه يلوكه فى ذاكرته ثم قال: 

- لا أذكر زبونا بهذا الاسم . 

ألم يحدث لك أن بحثت عن شخص وأنت تجهل مقامه؟ 

أجاب وهو يمد بصره إلى لا شىء : 

- ابن مفقود من أيام الحرب! 

هز صابر رأسه معلنا عن أسفه ثم قال : 

ولكن الحرب انتهت وعرف مصير كل من اشترك فيها. 

- أن أعتبره مفقودا خير من التسليم بموته! 

وسأل الخنواجا عن موقع جريدة أبو الهول فوصفه له بميدان التحرير. ذكره مبناها 
الأبيض المربع» والفناء الذى تتوسطه فسقية بفيللا ثرى يونانى بالأزرايطة. ومضى نحو 
الباب الداخلى فرأى فتاة واقفة على عتبته وما لبثت أن أشارت إليه . دهش صابر وأحد 
إليها بصره ولكن ساعيا مرق من جانبه متجها نحوها فأدرك أن الإشارة لم تكن له 
وسلمها الساعى شيئا ثم اختفى وراء الباب» ووجد صابر نفسه أمامهاء رشيقة نحيلة» 
لفت انتباهه فى وجهها تناقض محبوب جمع بين سمرة البشرة وزرقة العينين» وتكوين 





م التلران 


الرأس والوجه غاية فى الأناقة والبداعة» انبعث إليه منه شعور بالجذب والطمأنينة » ثم 
استعاد نشوة نبيذ بتافرنا وهو يسمع عزف كمان. وحياها باسما ثم سألهاعن قسم 
الإعلانات فقالت بصوت رقيق موحى بالثقة بالنفس : 
أنا ذاهبة إليه . 
ولحظها منقبا عن مواضع للإثارة ولكن طرفه رد تمتلئا بالإعجاب وحده. ودنخلا 
الإدارة فأشارت إلى رجل فى الصدر حملت لافتة مكتبه اسم «إحسان الطنطاوى» 
فحياه» ثم دعاه الرجل إلى الجلوس على كرسى بين مكتبه ومكتب الفتاة التى جاءت به . 
وأبان صابر عن مقصده قائلا إنه يرغب فى الاهتداء إلى شخص يدعى سيد سيد 
الرحيمى» فتساءل الرجل : 
دكتور القلب؟ 
فأجاب بالنفى» وتوقع أن يسمع منه مزيدا عن الشخصيات التى تحمل هذا الاسم 
ولكنه لم يفعل» فقال: 
-فى الحق أننى لا أعرف سوى اسمه. . 
- أليس لديك فكرة عن عمله أو مكانه؟ 
كلا ألبتة» كل ما أعلمه عنه أنه من الوجهاء.» محتمل أن تكون له مهنة تناسبه ولكنى 
لم أجد فى الدليل إلا الدكتور. 
- قد يكون رقمه سرياء وقد يكون من أعيان الريف» وعلى أى حال فالإعلان أوجز 
سبيل إليه . 
-ليكن إعلانا صغيرا بقدر الإمكان» ويوميا لمدة أسبوع, فى شكل دعوة للاتصال 
بى بفندق القاهرة سواء بالمراسلة أو بالتليفون. 
- لا بد من ذكر اسمك فى الإعلان. 
وفكر بسرعة وقلق ثم تمتم : 
صابر سيد. 
ولم تتحقق مخاوفه فراح الرجل يخطط صورة للإعلان فلاحظ صابر أن الفتاة تتابع 
حديثه فلم يشك فى أن غرابة الإعلان هى التى أغرتها بذلك. ورأى ثمة مكاتب أخرى 
يجلس إليها موظفون وموظفات» وعرف اسم الفتاة «إلهام» وهى تخاطب به» وسمع 
إحسان الطنطاوى يسأله: 
- ألا تشير إلى الغرض من إعلانك؟ 
-كلا. . 


11100 





اللساق ماس 


ثم بعد هنيهة صمت : 

-المؤسف أننى ظننت أن الذين يعرفونه فى القاهرة لا حصر لهم ولكنى لم أجد حتى 
الآن أحدا يعرفه. 

- موضوعك غريب» الاسم وحده! وكيف تتأكد من هوية من يتقدم إليك مدعيا أنه 
سيد سيد الرحيمى . . ؟ 

- لدى ما أستدل به على ذلك ! 

وقالت إلهام وقد غلبها حب الاستطلاع : 

-فى المسألة سر عجيب» كأسرار السينما! 

فقال صابر باسما وهو يرحب فى أعماقه بتدخلها فى الحديث : 

- أو أن يكشف بالسهولة التى تكشف بها أسرار السينما! 

على الأقل أنت تعلم أنه وجيه من الوجهاء فكيف عرفت ذلك؟ 

سكت صابر مليا فقال إحسان الطنطاوى بلهجة جدية : 

- هذا سؤال على مستوى التحقيق! 

آه» هذه الطفلة الكبيرة» لعلها على استعداد للميل إليه» وهى طاقة من عبير لطيف 

يدعو إلى استباحة الأسرار» ليست كالنار التى صهرته بالفندق» وقال: 

-يا آنسة إلهام أنا رجل غريب فى بلدكم . . 

تعونت 1 

- أجل أنا فى الأصل من الإسكندرية وجئت القاهرة أمس . فأنا غريب فى بلدكم 
ويهمنى جدا العثور على ذلك الرجل» وإنى أستبشر خيرا بوجهك! 

ابتسمت بشجاعة الفتاة العاملة» ومرة أخرى تذكر نشوة النبيذ بتافرنا على أنغام 

الكمان. 


غادر الجريدة وموظفو الإدارة يتأهبون للانصراف . خطر له أن ينتنظر قليلا ليلقى نظرة 
أخيرة على إلهام فوقف ضمن الواقفين تحت مظلة محطة للبص . إشعاعها اللطيف لم 
الإعلان. وجرى هواء مائل للبرودة فى جو أبيض امتص لونه من سحاب ناصع البياض 





لم القلراق 


فأضفى على الدنيا حلما رائقا . ورأى إلهام وسط مجموعة من الشبان والشابات وقفوا 
أمام الجريدة متبادلين كلمات سريعة وابتسامات قبل الافتراق» ثم عبرت الفتاة شارعا 
جانبيا للجريدة إلى محل صغير يدعى فتركوان واختفت داخله . تبعها بلا تردد» ثم نظر 
إلى الداخل من خلال حاجز زجاجى فرآها جالسة إلى مائدة منفردة» وتبين حقيقة المحل 
وهو مطعم للشطائر ومشرب للعصير والقهوة. دخل كأنما يقصد البوفيه ثم لمحها- 
مصادفة ‏ فتهلل وجهه ومضى إلى مائدتها فى أقصى المحل والنادل يضع أمامها طبقا 
بالشطائر وكوبا من عصير البرتقال: 

مصادفة جميلة جداء هل تسمحين لى بمشاطرتك المائدة؟ 

قالت دون حماس ودون فتور: 

-تفضل . . 

وطلب غداء كغدائهاء وزاد انتعاشا بإشعاعاتها التى ترفعه إلى مستوى غير مألوف فى 
علاقاته مع الناس . وشعر ببهجة غريبة: 

-لااشك أننى أبدو ثقيلا ولكن هكذا يبدو الغريب! 

-إنى أرحب بالغرباء . 

- شكراء أقصد أن لهفة الغريب على التعرف بالناس تنفرهم منه؟ 

- ليس فى مشاركة عابرة كهذه ما ينفر إطلاقا . 

وشكرها ثم تناول أولى شطائره . 

- لعلك ذاهبة إلى السينما؟ 

-كلاء ولكننا نستأنف العمل فى الجريدة بعد ساعتين أو أكثر قليلاء ولما كان بيتى فى 

أقصى الجيزة وا مواصلات كما تعلم فإننى أفضل كثيرا أن أتناول طعامى هنا . . 

- وهل تبقين هنا طوال الوقت؟ 

- بعض الوقت وأتمشى على النيل البعض الآخر. 

ورحا يتناولان طعامهما. واسترق كلما وجد فرصة_ النظر إلى فيها وهو يمضغ 
الطعام» وإلى أصابع يديهاء متمليا ما أمكن زرقة العينين فى البشرة السمراء. 

- ماذا ترين فى الإعلان» هل يحقق المقصود منه؟ 

-هو كذلك دائما. 

قصد أن يوقظ حب استطلاعها ولكنها لم تتماد فى الكلام فقال: 

- كم تهمنى النتيجة . 

- ألا تعرف شيئا عن الرجل الذى تبحث عنه؟ 


1110م 





التقراق م 


عندى صورة وبعض معلومات طفيفة . ا 
- إنى موفد للبحث عنه من قبل والدى العجوز الذى كان يعرفه فى الزمن القديم. . 
وقرأ فى عينيها الصافيتين تساؤلا فقال باسما : 


معاملات قديمة. 
مالية؟ 


- لا تخلو من هذا الجانب الهام! 

أن تتحقق أحلام لم تخطر بالبال هو ما يطمعك فى المستحيل» وهذه الفتاة من معدن 
يخلق النشوات. 

- لم أشعر من قبل بمثل هذا الشعور! 

فرفعت حاجبين مقوسين متباعدين فى تساؤل إنكارى فقال مفسرا : 

- الغربة والأمل وصحبتك اللطيفة! 

- فيما يتعلق بصحبتى أرجو ألا تكرر أقوالا أسمعها كثيرا ولم أجد لها معنى . 

- تسمعينها فى الإدارة ! 

مثلا. 

-هل أنت سعيدة فى العمل؟ 

هه! 

-هل تتركينه للبيت فى حينه؟ 

-إنى أعتبره عملا لا محطة . 

وفكرته الثابتة عن الجنس الآخر لا يمكن أن تتغير . هو فى نظره سلسلة من المخلوقات 
الوحشية الفاتنة الباحثة عن الغرام بلا مبدأ. أمه وقريناتها وفتيات الكنار الليلى وعطفة 
القرشى . وحتى نشوته الصاعدة إلى فوق لم تستطع أن تزعزع هذه الفكرة الثابتة» ومع ذلك 
لم يشأ أن يجردها_فى خياله_ من ثيابها وهى عادة مزمنة لم تفارقه . تجريدها من الثياب 
غيرمجد لأن سحرها لا يستقر بموضع بالذات» شائع كضوء القمر. وبه جانب مجهول 
تتعلق به الآمال كمستقر أبيه» ولن يتحقق سروره بها كسروره بالأخريات أى بالبهلوانيات 
والألفاظ الجارحة والأفعال الشائنة والعبث الهمجى الوقح. هى شىء فريد. وفى ساعات 
قلائل كشفت عن طبيعة ثانية فيه وعن ذوق لم يذق به الأشياء من قبل . 

- ومع ذلك فانظرى إلى عنايتك بأظافرك! 

لاح فى وجهها الاحتجاج فى صورة طابع جدى وقالت: 





لم القرا 


- عنايتك بشعرك ليست دون ذلك! 

- اعتبرى ملاحظتى طريقة غير مباشرة بالإعجاب . 

ثم مستدركا بنبرة اعتذار وهو ينظر إلى اللوز الوردى المغروس فى البنان : 

عندما سأعود إلى الإسكندرية سأحمل منك أجمل ذكريات القاهرة . 

- لم لم تعلن فى فرع الجريدة بالإسكندرية؟ 

وهم بأن يدفع ثمن الغداء لها ولكنها أبت ذلك بإصرار فعدل عنه قائلا : 

-لو أردت أن تفعلى نفس الشىء لما رفضت . 

فقالت ضاحكة : 

ولا هذه! 

وفى مرآة مثبتة فى الجدار الأيسر ضبطها وهى تتفحصه باهتمام فارتاح لذلك جدا. 
ليكن تأثيره كتأثيره فى الأخريات! وتذكر الأسرار التى كشفها فى ماضيه القصير فابتسم . 
النوافذ والغابات والروائح الفطرية الفاتنة . وقامت لتذهب فصافحها مودعا ولكنه لم 
يتبعها رغم رغبته الشديدة فى ذلك . وأدرك أنه من المحتمل جدا أن يطلع نزلاء الفندق 
وصاحبه على الإعلان» وأن علاقته يمن يبحث عنه لن تخفى على أحد . ولما أخبر خليل 
أبو النجا ومحمد الساوى عن المكالمة التليفونية المتتظرة قال العجوز: 

- إذن أنت تبحث عن أبيك؟ ! 

فتورد وجهه وأحنى رأسه بالإيجاب . 

-وكيف فقدته؟ 

- فقدته كما فقدنى وها أنا قد قمت للبحث عنه . 

- لاا شك أنها قصة عجيبة ! 

وتضايق من الأسئلة المطوقة فقال: 

- بل عادية جدا فأرجو استدعائى عند الطلب . 

الشاب الذى يبحث عن أبيه» هكذا سيطلقون عليه. وسيقولون ويتقولون. وهز 
كتفيه استهانة . ولزم الاستراحة أكثر الوقت وكلما رن التليفون تعلق به بصره. ووقعت 
مكالمات غير مجدية فاتصل به سيد سيد الرحيمى الحلاق ببولاق وثان مدرس لغة عربية 
وثالث سائق ترام وقابلهم واحدا فواحداء كما قابل الدكتور من قبل ولكن لم يكن لأحد 
منهم علاقة بمن يبحث عنه . أين من يبحث عنه إذن؟ ولم لم يتصل به كما فعل الآخرون؟ 
إذا كان قد مات أفلم يترك ابنا أو قريبا؟ وتذكر نقوده التى تتناقص باستمرار بجزع شديد. 
ومن حوله جلس كثير من النزلاء وتطايرت رائحة القهوة والسجائر ولكن أحدا لم يلق 

1110م 





اللقراق ا 


إليه بالا وكأن الإعلان لم يقرأه أحد وهو ما حمد الله عليه . ولكن ما عسى أن يصنع إذا 
تتابعت الأيام بلا نتيجة؟ ماذا لو نفد المال ولم يظهر الأب؟ أنت قواد أو بلطجى؟ وعهد 
النبى دانيال الذى مضى كعبير طيب بددته الريح . عرف حب الأم وإغداقها المال بلا 
حساب وعرف مسرات الحياة بلا خوف أو ندم. وقالت الحياة جميلة وأنت زهرتها. 
وحتى عند الوعى بحقيقة الأمر خضعت لها باعتبارها مصدر كل شىء. وأنت ترقص فى 
ملهى الكنار الليلى صاح مخمور أكل الغيظ قلبه: 

يا بن بسيمة ! 

فكانت معركة دامية وتنائر الزجاج» ولا شىء يحمى السمعة السيئة إلا القبضة 
الحديدية . وما دامت بسيمة قد دفنت فلا أمل إلا إذا جاء الأب . وقال أحد القاعدين فى 
الاستراحة : 

القطن! كل شىء يتوقف على القطن! 

لم؟ أهو رحيمى آخر؟ وهو لولا الإعلان ما تصفح جريدة. حتى أنباء الذرة وغزو 
الفضاء جاءته عن طريق السكارى بملهى الكنار. وتساءل رجل آخر: 

- وهذه الحروب التى تهدد العالم ألا تضمن لنا القطن؟ 

-لن تكون كالحروب الماضية . 

- أجل إنها لن تبقى على شىء. . 

- القطن والفول والبهائم والخلق! 

فتساءل الصوت الأول: 

- وأين الله خالق كل شىء وحافظه؟ 

أين الله حقا؟ هو عرف اسم الله ولكنه لم يشغل باله قط . ولم تشده إلى الدين علاقة 
تذكر . ولا شهد النبى دانيال ممارسة عادة دينية واحدة فهو يعيش فى عصر ما قبل 
الدين. . وقضى عليه بأن يمضى أجمل أوقات النهار بين ثرثارين أغلبهم من الريف» 
ورائحة السجائر تختلط دائما برائحة البصل الأخضر . وإذا اشتدت مرارة الصبر تسلى 
بتخيل إلهام أو زوجة عم خليل أبو النجا. والهواء ضرورى جدا والنار لا غنى عنها. 
وسوف يصمت إلى الأبد دون أن ينبس لسانه بجواب يخرجه من حيرته. وإذا لم يلب 
أبوه النداء أفليس من الخير أن تنفجر الذرة لتهلك كل شىء؟ الخنوف والجوع والماضى 
الملوث؟ ومرة حانت منه التفاتة إلى التليفون فرأى زوجة عم خليل بمجلسها الذى رآها به 
أول مرة. إذن عادت ودق قلبه باعثًا حرارة جنونية فى كافة المراكز المتلهفة. الجسم 
الصارخ والنظرة المتآمرة مع الغرائز . ونسى التليفون والرحيمى وإلهام. وصعد إلى 





8 اللقرا 


حجرته فى الدور الثالث وانتظر وراء الباب» ثم سمع وقع أقدام صاعدة فخرج إلى 
الطرقة فالتقيا فى منتصفها. وتظاهر بالمفاجأة وقال: 

حمدا لله على سلامتك! 

فشكرته بابتسامة فقال: 

-تركت خلفك وحشة حقيقية! 

فجادت بهزة شكر من شعرها الأسود وسارت فى طريقها المفضى إلى سلم الدور 


الرابع غير أنه همس بجرأة : 
-الإسكندرية! 
تباطأت حتى وقفت تقريبا على بعد ياردة منه متسائلة : 
الس ؟ 
أجل » الإسكندرية . 
قالت مقطبة : 
- لا أفهم شيئا! 
فقال بإصرار: 
إن كدف تميك كأنا لا يكن أن الس . 
دأنك مون ؟ 
قالتها بثبات زعزع ثقته فتساءل : 
-ألست. . 
ولكنها قاطعته وهى تمضى فى سبيلها : 


- لعبة قديمة وسخيفة . 

واستدرك قبل أن يوغل فى الابتعاد : 

واعتمد على الدرابزين حتى يتمالك أنفاسه. حتى تبرد بعض الشىء النار الحامية . 
وتملكته لحظة جنونية فتمنى لو يهلك جميع من فى الفندق ليخلو لهما وحدهما. كما 
عصف به الجنون ليلة المطاردة التى اندلعت من ساحل الصيادين بالأنفوشى . وإذا بعلى 
سريقوس يهبط السلم وهو يدندن بموال صعيدى فجره إلى موقفه بإشارة وقال بمكر: 

سمعت صوتا يناديك لعله صوت الست! 

بالست؟ 


1110 





التقراق م 


حرم عم خليل؟ 

كلا . لعلها الحجرة »١7‏ أنا قادم من عند الست وهى تدخل شقتها . 

-ريماء وستتأكد بنفسك» ولكن هل تقيم الست فى شقة؟ 

-شقة عم خليل فوق السطح . 

- وأين كانت طوال الأيام الماضية؟ 

-عند أمهاء إنها تزورها كل شهر. 

ورمق ظهر عم خليل» وهونازل_ باحتقار ومقت» وكره فكرة العودة إلى مجلسه 
بالاستراحة فغادر الفندق . تمتع بشمس ترسل أشعتها من سماء صافية» فى جو يتيه 
ببرودة لطيفة محببة ورغب فى المشى بنهم فمشى بلا هدف وهو يأسف على أنه لا يجد 
فراغ البال لمشاهدة القاهرة . وتذكر أن مدة الإعلان ستنتهى بعد يوم فمضى إلى جريدة أبو 
الهول» والحق أنه كان يرصد ميعاد الذهاب إلى الجريدة ليرى إلهام من جديد. وجد 
توقفت عن دق الآلة الكاتبة وسألته : 


لا جديد؟ 

أجاب وهو يفيق نهائيا من لفحة الجحيم : 
مكالمات ومقابللات غير مجدية . . 
الصبر طيب . 


تابع أصابعها فوق أحرف الآلة بارتياح خفف عنه متاعبه» وبدا عنقها طويلا وهى 
خالعة جاكتتها وفى صفحته اليسرى لاح خال. ورغم سعادته برؤيتها فاجأه حزن طارئ 
لا تفسير له. وتبين أن إحسان الطنطاوى ينجز إعلان وفاة فحاصرته ذكريات الليلة 
الأخيرة لأمه. ووضحت له تعاسة مركزه فى الوجود إذ يعتمد كلية على شبيه بالسراب . 
وحانت فى تلك اللحظة التفاتة سريعة من إلهام إليه فانشرح صدره وتجاهل همومه. 
وفرغ إحسان الطنطاوى من إعلان الوفاة فحياه قائلا بشىء من الخبث : 

تجديد؟ 

ضحك وهو يحنى رأسه فى تسليم » ثم سأله : 

- جاءنى كثيرون أما هو فلا حياة لمن تنادى» ما تفسير ذلك؟ 

الإعلان من هذا النوع يتطلب المثابرة. 

- ولكن المفروض أن الرجل معروف على أوسع نطاق! 

- أنت لا تعرف سوى اسمه» وماعدا ذلك بالسماع عرفته ولا يمكن أن تقطع فى ذلك 





م التقراق 


برأى حاسم, وأنا رجل عشت فى مختلف الأوساط بالقاهرة زهاء ثلاثين عاما ولم 
أسمع عنه. . 
ولك أصدق قامافن أرسك العف عنه: 
- إذن ففى المسألة سر ستكشفه لك الأيام . 
تفكر قليلا ثم قال: 
- عندى له صورة قديمة أخذت له منذ ثلاثين عاما . 
- نضيفها إذا شئت إلى الإعلان فتضاعف من فائدته . 
وأراه الصورة فتفحصها ثم تمتم بإعجاب : 
يا له من شخصية ! 
وانتظر صابر فى إشفاق أن يلاحظ الرجل وجوه الشبه بينه وبين صاحب الصورة 
ولكنه لم يلاحظ شيئاء ومضى يتحدث عن الإعلان الجديد وتكاليفه . ووافق صابر على 
الاقتراح مرغما. ثم غادر الجريدة وهو يفكر فى نقوده التى تتناقص يوما بعد يوم» والتى 
سيضحى بعد نفادها معدما كمتسول . وذهب إلى فتركوان فجلس إلى مائدة إلهام ينتظر. 
ولا رأته ترددت فى شىء من الارتباك ولكنه أزال ترددها بوقوفه مرحباء وبمجرد أن 
جلست طلب الغداء من الشطائر والعصيرء وتصرف بلا كلفة ليبدد دهشة اللقاء. وإذا 
بها تقول : 
-رأيت الصورة! 
-حقا؟ 
-أنت تشبهه! 
تعنين الرجل؟ 
هزت رأسها موافقة وهى ترمقه بارتياب فلم يجد بدا من اختلاق كذبة جديدة فقال : 
-إنه أخى . . 
- أخوك؟ معقول جدا ولكن لماذا لم تقل ذلك من الأول؟ 
فابتسم ولم يجب فسألته : 
ومن الفتاة الجميلة ! 
كانت زوجته رحمها الله. . 
-آه» وهل. . أعنى أخاك . . كيف . . 
اختفى قبل مولدى . خلاف ثم اختفاء كما يقع أحياناء وأخيرا بعد ثلاثين عاما 
أرسلنى أبى للبحث عنه. . 


1110 





فاق 0 


-حقا إنها قصة مثيرة» ولكن لم تعتقد أنه شخصية معروفة؟ 

هكذا قال لى أبى» ولعله مجرد استنتاج» ولكن العجيب أن إحسان الطنطاوى لم 
يلاحظ الشبه بيننا عندما أريته الصورة فهل حدثك عن ذلك بعد ذهابى؟ 
-كلاء رغم وضوح الشبه» ولكن رأس الأستاذ إحسان مشغول بالحسابات. . 
وجاءت أطباق الشطائر فبدأ الغداء . وعند ذلك قال معتذرا : 

- آسف على تطفلى» ولكنى وحيد فى المدينة والفراغ يوشك أن يقتلنى . . . 
فقبلت عذره بابتسامة وسألته: 

- كيف تمضى وقتك؟ 

- فى الانتظار. 

- هذا ممل جداء ثم إن البحث غير الانتظار . 

ولكنه لا يخلو من فترات انتظار. 

- وماذا تفعل فى أوقات الانتظار؟ 


من هنا تلمسين مدى حاجتى إلى صديق . 

ووشى تورد وجنتيها بتشربها الإشارة فتشجع قائلا: 
-وأنت الصديق! 

شربت قليلا من الماء ثم واصلت الطعام فتساءل : 
-مارأيك؟ 

- قد تكون مغاليا فى ظنك . 

- هذه الشئون تعرف بالقلب . 

يمكن أن نتقابل كلما جئت لتجديد الإعلان . 
فضحك قائلا : 

إذن فأنت تريديننى أن أواصل الإعلان إلى الأبد؟ 
- ما دام يهمك العثور عليه . 

-هو ذلك. ولكن إذا أثبت الإعلان عقمه فسوف أستأنف البحث . 
ورفعت كوب البرتقال فرفع كوبه قاتلا : 
صحتك! 





م التقراق 


-أنت تشجعنى على الحذر منك! 

وشربا وهما يتبادلان الابتسام . وقال إنه ما كان يطاردها لو كانت مكان الأخرى عند 
ساحل الصيادين . وقال إنها عزيزة جدا وهو يحبها. «ومن الفتاة الجميلة؟» عجيب موقع 
السؤال من أذنك . لكونها لم ترها فى الليلة الأخيرة . ولم تر كفنها النحيل كلا شىء . 

وقال بدهاء : 

- أشكرك جدا! 

وجدت فى الشكر فخا ولكنها لم تبد احتجاجا. وحل صمت سعيد فانغرست بذور 
التفاهم . وطريق البحث شاق ومحرق وطويل فيحتاج إلى استراحة من الظل الظليل . 


تعب البصر من تفحص الوجوه. وشوارع القاهرة الزاخرة بتيارات البشر والسيارات 
كأمواج البحر فى الأيام العاصفة . وسحب الخريف الواردة من الإسكندرية يتبدد أكثرها 
قبل الوصول إلى سماء القاهرة ولكن ذكريات الإسكندرية مشتعلة أبدا فى القلب 
المتتظر. ولم تعد استراحة الفندق مرهقة مذ عادت المرأة من رحلتها ولكنها فى الحق 
معذبة. وليس نادرا أن ترى بمجلسها إلى جانب زوجها وأنت ترصدها من أقصى 
الاستراحة» ولها نظرة دسمة موحية تنفجر همساتها كالشرر. وكم من محاولات فاشلة 
بذلت للانفراد بها فى طرقات السلم» وقد تدرى بها من بعد فتفسدها عليك ثم تجىء إلى 
مجلسها ساخرة. وهى لا ترد ابتسامة وتتجاهل أى إشارة. ومن خلال حيرة ضبابية 
تلتمع بوارق إغراء لاسلكية . وكلما جن جنون الإثارة تمنى الهلاك لجميع من بالفندق 
لينقض عليها فى الخلاء الصامت . فى هذه الحالات الجنونية تنزوى إلهام فى ركن كالندم 
عند طغيان الجرية . ويفيق أحيانا على روائح السجائر والبصل وأحاديث القطن والقمح 
وال حرب المدمرة. لعلهم مثلك يجرون وراء أمل شبيه بما يعدك به أبوك المفتقد. ومن 
صميم ذهوله استيقظ مرة على صوت محمد الساوى وهو يهتف: 

-صابر أفندى . . تليفون. . 

وثب فى انتباه حاد واندفع نحو المكتب . هل أخيرا . . ؟ 

وتأهبت جميع حواسه لسماع الكلمة الموعودة . 

-آلو؟! 

حضرتك صاحب الإعلان؟ 


1110 





التقساق ع 


-أنا الرجل الذى تطلب فيما أعتقد. . 

- سيد سيد الرحيمى؟ 

العيوه . 

-هل الصورة صورتك؟ 

دتعم.. 

ازدرد ريقه بصعوبة ثم قال بصوت متهدج: 

- كيف أقابلك؟ أى مكان تحدده؟ 

فلنؤجل ذلك للمقابلة . . 

- أفضل أن تعطينى فكرة قبل المقابلة . . 

-هل يمكن أن أعرف من أنت؟ 

اسمى منشور فى الإعلان. . 

- أعنى مهنتك أو عملك؟ 

- من الأعيان. : 

-ولم تريدنى؟ 

- ستعرف ذلك فى الوقت الذى تحدده» وكله خير. 5 

وسكت الصوت قليلا ثم قال: 

تعال الآن. . إليك العنوان : فيللا ١0‏ شارع التلبانة بشبرا . 

سأل عم خليل وعم محمد عن العنوان ولكنهما لم يعرفاه وقال له الساوى : 

- أسماء الشوارع تتغير فى كل ساعة» اذهب إلى شبرا أولا ثم اسأل هناك عن 
ولكنه لم يجد أحدا قد سمع عن الشارع . ولما أعياه التخبط ذهب إلى قسم شبرا وهناك 
تأكد من عدم وجود شارع بهذا الاسم . تداعى إلى فراغ اليأس. هل أخطأ السمع؟ هل 
عبث به عايث؟ 


ورجع إلى الفندق وصوت الشحاذ يعلو بالمديح فكره كل شىء إلى حد المرض . ولما 





55 التلياق 


رأى المرأة فى مجلسها المألوف امتزجت كراهيته برغبة عنيفة دموية . وأخبره الساوى أن 
شخصا سأل عنه فى التليفون أكثر من مرة» ورجح أنه نفس الشخص الذى طلبه أول 
النهارء فعاوده الأمل وقال إنه أخطأ السمع بلا شك وأن الرجل استبطأه فكرر السؤال 
عنه . وتمتم عم خليل : 

- وفقت إن شاء الله؟ 

فأجاب متظاهرا بالمرح : 

-فى الطريق. . 

وخطف من المرأة نظرة ثم مضى إلى مجلسه بالاستراحة منهوك القوى» وتسللت إلى 
المكان كآبة مساء الخريف فأضيئت الأنوار. واختفت المرأة فازدادت الكآبة كثافة. لاا شك 
أن الرجل سيعيد المكالمة . وإذا بالساوى يلوح له بالسماعة فهرع إليه: 

الوك 

صابر؟ . . فات النهار ولم تأت؟ 

-لكنى لم أجد الشارع . . 

- هل بحثت عنه حقا؟ 

- طول النهار تقريبا. . التلبانة رقم ١6‏ بشبرا. . 

- حقيقة إنك حمار. . 

وضحك ضحكة طويلة قبل أن يغلق السكة. أعاد السماعة وغادر الفندق. انتتفض 
طوال الوقت من الغضب . عابث كلب وغد. هكذا يرد إلى نقطة البدء ودون بادرة أمل . 
وذهب إلى بقالة الحرية بكلوت بك فاشترى زجاجة كونياك وأعد له الرجل عشاء سمك . 
يوم عابث ويأس فلا أقل من أن يختم بسهرة مستهترة . وشرب بسرعة ودون أدنى اهتمام 
بالنقود التى تنفق» كأيام النبى دانيال» عندما قالت له الدنيا جميلة وأنت زهرتها. وهواء 
الإسكندرية المعربد الملىء بالفتن . أما هذه المدينة فلا يلقى فيها إلا العناء. وكل ساعة تمر 
تقربه من النهاية المخيفة . وماذا بعد الانتظار والجرى وراء المجهول فى الظلام؟ وإذا خطر 
له أن يمتهن مهنة أمه فسيكون هزءة رجال الليل بالإسكندرية . واللكمة التى كانت تؤدبهم 
تنقلب راحة مبسوطة لخدمتهم. الجريمة دون ذلك يا أوغاد. لعل عابث التليفون واحد 
منكم فالويل لكم . وامرأة الفندق متعة يرغب فيها منذ عهد الأنفوشى وإلهام عبير طيب 
ولكن ما قيمة أى شىء قبل العثور على الآب؟ وتبسم بالنشوة رغم رائحة السمك . 
ومضى يسير تحت البواكى المقطبة. وحن إلى الرقص فى الكنار الليلى» والشوارع 
السنجابية المغسولة بماء المطر . والهواء المنبعث من الهدير الذى يغطى الأجساد بغلالة 
سمراء. ومس دمه جئون حيوانى كليلة المطاردة . وأمه كانت تدخن النارجيلة وتحكم 


1110 





التلران ا 


فلا عدو لنا إلا الفقر. وقالت له اعشق كل يوم امرأة ولكن لا تجعل لإحداهن من سلطان 
عبثا فاضحا. ولكن أين سيد سيد الرحيمى؟ وهتف بصوته الملىء «يا رحيمى» ثم راح 
يدندن بالأغنية الإسكندرانية ما تبطل الشقاوة وتعال عندنا» . وبحكم الكونياك والسمك 
والهم جرد الزوجة من ثيابها وعبث بها بوحشية. ورجع إلى الفندق عند متتصف الليل 
فوجده غارقا فى النوم. ودخن سيجارة فى حجرته الأثرية ثم نام . واستيقظ . انتبه إلى 
أنه استيقظ على صوت وفتح عينيه . ثمة ظلمة عميقة والنافذة لم تنضح بأى نور. ثم 
يديد عراخينا عيطم على إلباتن. جلس وهو يرهف السمع فعاوده النقر الخفيف 
الحذر. مد يده إلى مفتاح الكهرباء فأضاء المصباح العارى ثم مضى إلى الباب وفتحه 
بخمة. وما إن تحركت الضلفة عن فرجة حتى مرق منها شخص ثم رد الباب وراءه 
بسرعة . اشتعل يقظة وهو يحملق فيها ثم غمغم بذهول نشوان: 

-أنت؟! 

نظرت حولها بحركة تمثيلية مازحة كأنما فوجئت بخطأ لم يجر على البال وتمتمت : 

-أين أنا؟ . . أخطأت المكان؟ 

وحبكت الروب حول صدرها نصف العارى وعضت على شفتيها لتئد ابتسامة 
فجذبها إلى صدره. إلى بيجامته المبعثرة وشعره المنذكوش » وضمهاإليه بقوة الصبر 
المعذب الطويل : 

- أما أنا فإنى أنتظر مائة عام! 

واتجها ملتصقين نحو السرير» وفى الطريق أطفا النور. 


دك 
هى أدرى بأمرها وهو لا يهمه شىء. ورفع شفتيه عن ثغرها لحظة ليسألها : 


رةه 
فهمس فى أذنها من خلال أنفاس حارة : 
جدا! 
إذن فأنت من النوع المقتحم! . . لم أفطن إلى طبعك بسبب دهائك الجميل . وفى 
الوقت المناسب لا يردك شىء عما تريدين . ما أحلى الحب فى الظلام. وتحقق حلم 





م اللقراق 


الجنون فى دوامة من الذهول. وانصهر التأمل فى وقدة طاغية» وسبحت موجة من النار 
فى الظلمة الدامسة . واستحكمت لحظات النسيان المطلق فالتهمت الماضى والحاضر 
والمستقبل . 

- قلت إنك أكثر من كرية ! 

-وأنت؟! 

وتسللت إلى أنفه رائحة خفيفة ولكنها مثيرة جمة الذكريات . وتوقع أن يسمع هدير 
البحر. حتى تواصل تردد الأنفاس كصدى رنين الأوتار بعد توقف العزف . ورأى الظلمة 
مرة أخرى. سواء فتح عينيه استطلاعا أم أغمضهما شبعا وارتياحا. وقال بصوت 


-فى الدنيا أشياء تستحق عليها التهنئة حقا . 
سيجارة من فضلك . 
أشعل لها سيجارة وهو يقول : 


ظننتك غير مدخنة . . 

-نادرا جدا ما أدخن! 

وترك العود يعكس على جسدها ضوءة » ولكنها نفخته فساد الظلام وانتشرت راكحة 
فسفورية خفيفة . 

لم ألمس فيك طوال الأيام الماضية إلا المعاندة! 

- ولا المعاندة! أنا لا أبدى شيئا! 

- أما أنا فصارحتك بكل شىء من أول يوم! 

فضحكت قائلة : 

- عندما رأيتك قادما منذ عشرة أيام قلت لنفسى هذا هو. . 

فهتف بانتصار: 

-الإسكندرية؟! 

كلاء لا أقصد هذا ولكننى قلت هذا هو رجلى! 

والإسكندرية؟ 

- أنت تختلق حكايات لا أصل لها. 

-حقا؟ 

-ولم أكذب عليك؟ 

-عجيب أن يخلق مثلك مرتين! 


1110م 





اللقريق م 


- يجب ألا يسرقنا الوقت حتى لا تحدث حوادث ! 

- كيف أمكنك المجىء؟ 

أخذ المنوم فنام» متاعبه كلها تتجمع عند النوم . 

- ولكنك خيبت ظنى» طالما قلت لنفسى إذا كانت هى فتاة الإسكندرية فقد يعنى هذا 
أننى سأوفق فى البحث . . 

- تعنى أباك؟ 

نعم . 

ما حكايتك بالضبط؟ 

- نشأت وأنا أظن أبى ميتا ثم أخبرنى ثقة بأنه حى » هذه هى الحكاية باختصار. 

- لعلك تبحث عن المال؟ 

- ولكنه ليس كل شىء» الذى يهمنى الآن أكثر من سواه أن أسمع منك أنك ستجيئين 
كل ليلة؟ 

كلما وجدت فرصة. 

فقبلها قبلة طويلة هادئة فقالت بشقاوة : 

- كلما راق لى ذلك! 

فتشمم عبير صدرها بامتنان وقال بتوسل : 

- لا تتكرى الإسكندرية! 

-أنت مجنون بخيال» واحذر أن تكون كذلك فى حكاية أبيك؟ 

فقال بوجوم: 

- أود لو كان ذلك كذلك لأريح نفسى. . 

- همك أكبر مما ظننت! 

- نعم » ولكن همى الجديد» بعد هذه الليلة» أن أبقى هنا أكبر مدة ممكنة . 

- وماذا يمنعك من ذلك؟ 

بعد تفكير : 

-إذا نفدت نقودى قبل العثور على أبى وجب على الرجوع إلى الإسكندرية . 

- ومتى تعود إلينا فى تلك الحال؟ 

- على أن أبحث عن عمل هناك . 

فشبكت أصابع يدها فى أصابع يده وقال: 





م اللظران 


_- 
ارتفع انتباهه إلى القمة فعادت تسأله : 
- ولم لا تبحث عنه هنا؟ 
-غير ممكن! 
كلك ألغاز» ولكنى أخبرك بأن النقود ليست مشكلة . 
خفق قلبه وقال مقتبسا من جو الكنار الليلى : 
الظاهر أنك مليونيرة . 
فقالت فى مباهاة : 
-هذا الفندق. . والمال. . كل شىء باسمى أنا! 
-والرجل موظف عندك؟ 
كلا هو المتصرف فى ماله طالما أنه على قيد الحياة . 
على أى غمال هذا لا يعتى شينا بالنسبة لى! 
وخجل من مكره الساذج رغم الظلام فقالت: 
- لندع الله أن يهديك إلى أبيك فهو حل أيسر من غيره . 
- هذا ضرورى ولو أننى لن أهتم منذ الساعة بشىء سوى انتظارك . 
وأحاطها بذراعه ولكنها تزحزحت إلى حافة السرير قائلة : 
اقترب الفجر ووجب الذهاب. . 
ورجع إلى سريره بعد أن أغلق الباب وعناقها لاصق به كالعبير» واستلقى فى ارتياح 
عميق فسرعان ما زحف عليه التخدير . وقال إنه يشعر لأول مرة بأنه يحتمل أن يستغنى 
عن أبيه» ولكن عندما لوح له الساوى بسماعة التليفون هرع إليه كالريح ثم هتف بجزع : 
-آلو؟ 
وإذا بصوت جاد يسأل: 
- صابر سيد صاحب الإعلان؟ 
- نعم أنا هو! 
- أنا سيد سيد الرحيمى فماذا تريد؟ 
لابد من مقابلتك . . 
- أنا منتظرك بمحل فتركوان » هل تعرفه؟ 
- نعم سأكون عندك فى خلال دقائق . 


11100 





التلراق 0 


وأجال عينيه فى المحل حتى رأى رجلا جالسا إلى مائدة إلهام لم يشك لحظة 
فى أنه صاحب الصورة ٠‏ بل إنه لم يكد يتغير فى مدى الثلاثين عاماء عدا انتشار المشيب 
فى سوالفه وانطباع تجاعيد غير ملحوظة إلا عند التدقيق حول فيه وتحت عينيه . نظر صوبه 
فى رهبة حقيقية إذ وجده أضخم وأفخم من أى خيال» واتجه نحوه حتى حدس الرجل 


تخصيه فنيقن للتعقوله مانس رصان لا ندال سيت 
- صابر أفندى؟ 
- نعم » وسيادتك صاحب الصورة بلا ريب . 
وجلسا والرجل يقول: 


- أنت شاب فى عز الشباب» ويخيل إلى أننى رأيتك قبل الآن» أين يا ترى؟ 

أنا فى الأصل من الإسكندرية» أنزل الآن فى فندق القاهرة بشارع الفسقية» وأمشى 
كثيرا فى كلوت بك وميدان المحطة» وقد جلست أكثر من مرة إلى هذه المائدة! 

-لااشك أنى رأيتك فى أحد هذه الأماكن» فأنا أزور الإسكندرية من آن لآن وأمر كل 
يوم بميدان المحطة» وليس نادرا أن أجلس فى هذا المحل! 


فهتف صابر: 

- هذا أعجب ما سمعت » ولو أننى لا أذكر أنى رأيتك من قبل إلا بالتخيل» ولكن 
متى اطلعت على الإعلان؟ 

- منذ أول يوم! 


-حقا! ولكنك لم تتصل بى إلا اليوم! 

بلى» ذلك أن الإعلان يدل على أنك لم تستطع الاهتداء إلى بالطريق العادى على 
حين أننى رجل معروف جدا ولا أيسر من الاهتداء إلى بيتى أو مكان عملى» لذلك 
تجاهلت نداءك . ولما لمست إلحاحك لم أر بدا من الاتصال بك . 

- هذا عجيب حقا فإنى لم أصادف أحدا يعرفك» ولا رقم لك فى الدليل . 

لندع الآن ذلك وخبرنى عما تريد؟ 

-الحق أنى أريدك أنت» ولكن ألا تلاحظ شيئا يا سيدى؟ 

ونظر فى وجهه متوقعا أن يلاحظ الشبه بينه وبين الصورة ولكنه خيب ظنه فقال 

انظر إلى وجهى ! 

ماذا فى وجهك؟ 

هنا سمع صوتا يهمس : 





م قرا 


- أستاذ صابر! 

التفت نحو الصوت فرأى إلهام واقفة. نهض فصافحها ثم هم بتقديمها إلى أبيه» وإذا 
بالرجل يمد لها يده قائلا : 

- إلهام! كيف حالك؟ 

- وقبلت الفتاة يده باحترام فهتف صابر: 

- إذن أنت تعرفينه! 

فسأله الرجل دون اكتراث بدهشته : 

- خبرنى متى عرفت أبنتى . 

فصاح صابر. 

ابنتك ! رباه! 

وبسرعة غير متوقعة غادرت إلهام المكان قبل أن يستطيع منعهاء وقال الرحيمى 
بهدوئه الذى لزمه طيلة الوقت: 

كثيرا ما أسمع كلاما لا معنى له ومنه ما يمسنى شخصيا ولكنى لا أكترث لذلك 

ألبتة» خبرنى الآن عما تريد؟ 

جلس صابر فى حال من الانحلال التام» وبحركة آلية قدم له الصورة الجامعة بينه 
وبين أمه التى رأى نصفها فى الإعلان» ووثيقة زواجه بأمه. وشهادة تحقيق الشخصية» 
نظر الرجل فيها واحدة بعد أخرى وهو هادئ كتمثال. وبكل برود وضع كلا منها فوق 
الأخرى» وبحركة سريعة حاسمة راح يمزقها إربا. صرخ صابر وانقض عليه يريد أن يمنعه 
ولكن بعد فوات الأوان. أمسك بثنية الجاكتة وصاح به: 

- أنت تمحو وجودى محوا فالويل لك . 

فقال الرجل دون أن يخرج عن هدوثه المثير: 

ابعد عنى» لا ترنى وجهك» دجال كأمك, ولا شأن لى بك» اذهب . . ودفعه عنه 

فتقهقر حتى اصطدم رأسه بحافة البوفيه . 

واستيقظ» فتح عينيه وهو يتنفس بصعوبة فرأى الحجره الأثرية على ضوء النهار الذى 
ينضح به الشيش» وأدرك أنه عار تماما تحت الغطاء فتذكر الليلة المنطوية بجميع 
ملابساتهاء وتنهد بارتياح » ولكنه شعر ‏ لشدة انفعاله بالحلم ‏ بإعياء وحزن. 


11100 





وتعددت أحلامه لدرجة أثارت انزعاجه وامتعاضه» ويستيقظ فيلازمه شعور بالتعب 
والكدر وأحيانا يخيل إليه أن الصمت يخنق العالم» وكثيرا ما يذكره ذلك الصمت 
بالصمت المصاحب لارتفاع الموجة وتجمعها قبل أن تنفجر مرعدة مزبدة» وفى الحلم يطل 
عليه وجه أبيه بالرغم من أن العشق أصبح المحور الذى تدور حوله حياته» العشق الذائب 
فى أحضان الظلمة. وهو يكره الأحلام لأنها ترجعه إلى فترة ماضية من حياته ألح فيها 
عليه الصرع حتى أوشك أن يهلكه. وطاردته ذكريات المرض طويلا بعد شفائه منه فكان 
الصرع من أسباب اندفاعه فى طريق اليأس والقوة كسمعة أمه سواء بسواء . أما الصراع 
الذى يخوضه فى الأحلام فيورثه عقب اليقظة إنهاكا وحزنا فيمتلى بأفكار الفناء» وإذا 
ترامى إليه الأذان من الجامع القريب وهو على تلك الخال تضاعف حزنه . 

وعندما دخل إدارة الإعلان بجريدة أبو الهول تطلع إليه نفر من الموظفين فى فضول 
ولكن تطلع إلهام إليه أفعمه بنشوة أحلى من بسمة الفجر الأولى فوق البحر الأبيض . 
وصافحها بحرارة كما ينبغى لصديق فسألته : 

أما من جديد؟ 

فأجاب وهو يملا من وجهها عينيه: 

جئت لأجدد الإعلان ولو أننى ترددت طويلا هذه المرة! 

- هل تفكر فى وسائل أخرى . 

ابتسم ولكنه لم يخبرها بأن اهتمامه بالعثور على الرحيمى لم يعد فى مكانته الأولى . 
وقال له الأستاذ إحسان الطنطاوى : 

عندنا لك مفاجأة . 

فجلس وهو يتساءل فقال الرجل : 

- سألت عليك امرأة بالتليفون. . 

-امرأة؟! 

دسألت عن سر الإعلان: 

-حقا! ومن هى؟ 

- لم تكشف لنا عن هويتها ولم تشف لها غليلا بطبيعة الحال. 





30> التلران 


- أليس من المحتمل أن تكون من طرف الرحيمى؟ 

فقالت إلهام : 

- قد وقد؟ 

وما قد اللأخرى؟ 

فقال الطنطاوى ضاحكا: 

- قد تكون من طرفك أنت! 

استعذب هذا التحقيق الذى أخذ بمجامع قلبه وقال: 

- أو عابثة من العابثين» لقد لعب معى أحدهم لعبة سخيفة . 

ترى هل المرأة من طرف الرحيمى؟ زوجته أو أرملته؟ أو لعلها كريمة دفعت إلى ذلك 
بحب الاستطلاع» إنها امرأة مجربة لا تصدق شيئا بسهولة . هى داهية بقدر ما هى فتاكة 
بقدر ما هى لذة طاغية. وجلس إلى المائدة بفتركوان فتذكر لحظات الحلم العجيب. 
وجاءت إلهام فاتخذت مجلسهاء وطلب الغداء» وتبادلا ابتساما ودوداء» وقالت: 

- لست على حماسك الأول للإعلان وهذا أحسن . 

أنت لا تدرين شيئا عما خفض درجة حماسى ! 

داعس ؟ 

- نعلم فهذا البحث يجب أن يترك للزمن الطويل . 

- ولكن ألا تسمحين بأن أدفع ثمن الغداء ولو مرة؟ 

أنت الضيف لا أنا؟ 

- ما ألطفك يا آنسة إلهام» ألا يمكن أن أذكر الاسم مجردا؟ 

- بكل سرور. 

-ما ألطفك! 

ومضيا يتناولان الطعام فى ارتياح وسرور. وقرأ فى عينيها الزرقاوين اهتماما بموضوع 
ما لن يلبث أن يترجم إلى كلمات فانتظر الكلام بشغف مؤملا أن يكشف فيه عن حقيقة 
مشاعرها. وتذكر ظلمة النصف الثانى من الليل وذوبانه فى فتئة رائعة فعجب لانقسامه 
الحاد بين المرأتين . وقالت : 

-يخيل إلى أنك فى إجازة خاصة لإنجاز هذه المهمة؟ 

تجس النبض للتعرف عليه ؛ وساوره قلق ولكنه قال: 

- لست موظفا بأى معنى لهذه الكلمة» أنا من الأعيان! 

-تزرع أرضك؟ 


1100 





تقراف 20> 


- أبى من ذوى الأملاك . 

واضح أنها تتستر على شعور بعدم الارتياح . قال : 

- وأنا أدير أملاكه العقارية» وهو عمل أثقل من أى وظيفة! 

ثانى كذبة يكذبها عليها وهو كاره رغم أنه لم يكذب بعد على المرأة الأخرى . 
المهم أنك لا تعيش فى فراغ فهو عدو البشر. 

- هو كذلك» عانيته أسبوعين» ولكن كيف عرفت ذلك؟ 

- ليس عسيرا على أن أتصوره ثم إنى قرأت عنه . 

- التجربة لا تكون حقيقية إلا حين أمارسها . 

- رأى وجيه . 

فى سنك هذه لا يتاح لك معرفة الحقائق بطريقتى إلا فيما ندر؟ 

- إن كنت تتصورنى طفلة فأقلع عن تصورك! 

ياربى كم أحبها وكم يسعدنى الوجود بقربها. وتقدم خطوة جديدة فقال : 
- أنت تعرفين كل شىء عنى تقريبا فهل تعرفيننى بك؟ 


- وماذا أعرف عنك؟ 

-اسمى» عملى» أبى» مهمتى فى القاهرة» إعجابى بك! 
وهى تضحك ضحكة صامتة : 

لا تخلط الحقائق بالخيال! 


وقال لنفسه بل هو الحقيقة الوحيدة التى عرفها. وتجهم الجو فى المحل كأن نوافذه 
أغلقت . وغاب إشراق الظهيرة السابح وراء الحاجز الزجاجى فى الخارج فتخيلا جسامة 
السحابة التى أخفت الشمس . 

وقال مستدرجا إياها إلى الاعتراف : 

- وبدورى فأنا أعرف اسمك ووظيفتك . 

- وماذا تريد أن تعرف أكثر؟ 

-ما تجودين به» متى توظفت؟ 

- منذ ثلاثة أعوام» وهو تاريخ تخرجى فى التجارة الثانوية» ولكنى مستمرة فى 

التعلم . 

وقلق. لا تسألى عن مؤهلاتى فالكذب عنها لا يجدى, ولكنك لبقة مهذبة. 

وأسرتك بالجيزة» هه؟ 





0 اللرات 


- أعيش مع أمى فقطء أسرتنا من قليوب» وخالى بمصر الجديدة» المهم أن فى أسرتنا 
مفقودا مهما كما فى أسرتك . 
فقال بدهشة : 
- من هو؟ 
أجابت وهى تكتم ضحكة : 
-أبى ! 
اتسعت عيناه الجميلتان فى ذهول . وتذكر الحلم العجيب . وقصه عليها محورا فيه بما 
يتمشى مع كذبته الأولى . الآباء المفقودون أكثر تما تتصور. ولعلهما يبحثان عن أب 
واحد. 
- ولكن كيف فقد أبوك؟ 
- لا كأخيك ألا ترى أننى أببح أسرار أسرتى بغير حساب؟ 
فرمقها بعتاب مالبث أن اختفى وراء نظرة متألقة بحب الاستطلاع فى ذروته» 
فقالت: 
- الحقيقة أن أبى انفصل عن أمى وأنا فى المهد . 
-هرب؟ 
ضحكت ضحكة عالية فتنبه إلى هفوته قاتلا : 
أعنى اختفى ؟ 
-إنه محام معروف فى أسيوط ولعلك سمعت عنه فهو الأستاذ عمرو زايد. زال عنه 
توتر التوقع فقال فى دعابة : 
- ظننته سيد سيد الرحيمى! 
فتساءلت ضاحكة : 
- أيسعدك أن تكون عمى؟ 
فأجاب بقوة: 
كلا . 
تورد وجهها الأسمر وهى تقول: 
صممت أمى من بادئ الأمر على الاحتفاظ بى إلى النهاية» وجاراها أبى إذ كان 
شارعا فى الزواج من أخرى» فاتفقا على نفقة» ثم عادت بى إلى بيت جدى 
بالقاهرة» وبعد وفاته عشنا وحيدتين . 
تابع القصة بقلب لم يخل من سوء ظن . كحاله مع جميع النساء والأمهات خاصة. 


11100 





اللظراق لاه 


بيد أن إلهام لم تسمع قطعا عن القوادين والبلطجية والبرمجية . هل تستطيع أن تحكى 
قصتك فى مثل هذا التفصيل؟ وغيمت روحه كالسماء . 

- ويوما قال خالى إن على أن أعرف أبى فقالت أمى أنه لا يستحق ذلك وأنه لم يسع 

إلى رؤيتها مرة واحدة» وكنت أشعر طوال الوقت أننى بلا أب» وقال خالى إننى 

أكبر يوما بعد يوم وأنه لاغنى لى عن أبى بحال . 

فغمغم وهو لا يدرى تقريبا: 

- والحرية والكرامة والسلام! 

فهزت منكبيها فى استهانة وقالت: 

أصرت أمى على الرفض خشية أن يفكر فى استردادى » وانضممت إليها بلا تحفظ , 

واتفق رأينا على أن العمل أهم من الأب وأبقى . 

آه كيف تتكلم الجميلة؟ أى عمل يغنى عن الحرية والكرامة والسلام؟ 

واجتهدت حتى أكملت تعليمى» وحصلت على الوظيفة فى امتحان أعلنت عنه 

الجريدة» وانتسبت بعد ذلك إلى معهد تجارى عال . 

- وأبوك ألا تفكرين فيه؟ 

- كأنه غير موجودء وهو الذى اختار ذلك! 

لأنك فى غير حاجة إليه؟ 

-كلاء فأنا فى غير حاجة إلى أمى كذلك ولكنى أحبها ولا أتصور الدنيا من غيرها. 

ليست على شفا هاوية مثلك. وليست جائعة إلى الحرية والكرامة والسلام. ولا 
يهددها ماض ملوث قد ينقلب فى أى لحظة فيصير لها المستقبل الوحيد. 

- إنى سعيدة بعملى رغم أننى لست مثلك من الأغنياء! 

طعنته وهى لا تدرى . لكن الهيام غلب على جميع مشاعره. ولولا خوفه لاعترف لها 
بحقيقة حاله. ولما ذهبت شعر بقلق فى وحدته . إن سمو عواطفه نحوها يغريه بأن يجرب 
معها حيوانيته . وهو إغراء يقترحه عقله لا إحساسه. وهو إذ يتخيل ذلك فإنما يتخيلها 
مذعورة من المباغتة ثم يتخيل نفسه مخذولا منهزما. وليس عقله وحده الذى يغريه بذلك 
ولكن تقاليده فى معاملة النساء ورغبته الثابتة فى العبث بما يسمى بالأخلاق الفاضلة . 
وكما يغطى تلوثه بالقوة فهو يغطيه أيضا بالاعتداء على الفضائل ليجعل من ماضيه قاعدة 
لا استثناء معيبا. ولذلك فإن إلهام وإن قامت فى حياته كالنار إلا أنها أقلقت مخاوفه 
وعقده وزعزعت أركان العالم الذى بناه لنفسه واطمأن إليه؛ وفى الحقيقة هو لا ينسى 
عذابه إلا فى نار كريمة التى تشتعل فى ظلام النصف الثانى من الليل . 





8 التلراق 

ومشى فى الشوارع مستسلما لحو نوفمبر اللطيف المنشط». حتى بلغ فندق القاهرة 
حوالى العصر. ورأى عم خليل مهوم الرأس تحت طربوشه الطويل. وعم محمد 
الساوى مقتعدا كرسيه من خلاف عاقدا ذراعيه فوق مسنده. جلس فى الاستراحة ساعة 
ثم قام إلى التليفون فطلب إلهام وقال لها : 

- سأقابلك غدا فى فتركوان فهل تأذنين؟ 

-بكل سرورء ولكن خيرا إن شاء الله؟ 

- كله خيرء ولكنى سأقابلك كلما أمكننى ذلك! 


17 


العزاء الحقيقى تجود به ظلمة النصف الثانى من الليل» عندما تعزف الأنفاس المترددة 
ألحانا من الغايات. عندما يسود النسيان المطلق الأرض والأفلاك. غذاء دسم وراحة 
أبدية لا كالقلق النشوان وعذاب الوحدة التى تخلفها وراءها إلهام . ولم تنقطع عنه ليلة 
واحدة. مذ أيقظه طرقها الحذر من نومه السكران. ومضت سيطرتها تزحف عليه كالزمن 
لا مهرب منه. وهو بفضل تجاربه السابقة يمثل دور المسيطر المتحفظ ولكن لم تخنه 
اللحظات؟ وبهذه القوة لم تتمكن منه امرأة من قبل» ولم تشده بمثل هذه الأغلال. وهو 
لم يجد عندها استجابة واحدة فلم يدر إلا الظن ما حقيقتها. فليلة ذابت فى أحضانه 
وهمست فى أذنه : 

لاحياة لى بدونك! 

كذكريات الكنار الليلى على أنغام البحر وتلك الليالى الظافرة فى كل شىء. وربت 
على خدها بحنان وسيادة وهو يسبح بعزم ضد موجة تشده نحو أعماق الخضوع . هى كل 
شىء. الحب. والآمال التى بعثته وراء الأب الضائع . وفى ليلة أخرى أنس منها تحفظا 
شاردا. واستسلاما خامداء لا تعليق ولا حماس ولا نفور. عند ذلك سهد متفكرا حتى 
مطلع الفجر. ومن شدة ضيقه ناجى إلهام داعيا الروح المنبثق منها كعبير فاتن لا اسم له 
ويقول لنفسه إذا أردت أن تتخذ منى أسيرا فعلى الدنيا السلام. أنت الجحيم إذا 
سيطرت . وعن مآسى السيطرة تستطيع أن تحكى عشرات القصص . ولكن الحياة من 
غيرها لا طعم لهاء غثيان» وفتور كالرماد. ودون ذلك الجنون والدم. وكم كانت بسيطة 
عند ساحل الصيادين وإن لم تخل من مشاكسة . كموهبة كامنة لم تنضج بعد. ها أنت 
تسلكها فى ذكريات الأنفوشى بعناد لا مبرر له» وتلك حقيقة ضاعت كموجة فى بحر. 


11101 





اللظراق م 


وهى ليست الحب وحده ولكنها نسيان سحرى لعذاب البحث العقيم عن الآب ويأسه. 
وهرب من دوامة القلق التى تخلقها إلهام؛ وهى فى ذات الوقت لا تخلو من مزية أو أكثر 
اختصت بها إلهام أو الأب . وقال لها وهو يتعذب من تغيرها: 

- لست كعادتك . 

فسألته بسذاجة: 

-هل تجدنى أحيانا مختلفة؟ 

أماكرة هى أم ذاهلة؟ أنسيت لحن الاعتراف المعربد المجنون؟ 

وأمك تكشف لك مرة عن وجهين . حين طمع صديق فى زيارتها بمسكن النبى 
دانيال. طردته من شراعة الباب بقسوة وحشية ثم خلت إلى نفسها وهى تسب وتلعن . 
ثم أغمضت عينيها إعياء وتهاوت بلا حول وأجهشت فى البكاء . 

وقال بلا اكتراث فى الظاهر: 


فقالت ببساطة ولكن خيل إليه أنها تتحداه: 
- إنى على خير حال . 


- يسرنى أن أسمع ذلك . 

فداعبت خده براحتها قائلة فى هدوء : 

- ألا ترى أنك أعز عندى من الحياة نفسها؟ 

أنت لا تتعامل بالألفاظ. وجميع ما يحيط بك ينذرك بالمناعب ولن يكون هذا بلا 

ثمن. قال بمكر: 

- وأنت عندى كذلك وأكثر» ولذلك فكلما اقترب الرحيل حزنت بلا حدود! 

-أنت تتكلم عن الرحيل؟ 

-السكوت لن يبعده. 

- سنبعده بقدر ما نستطيع ولكن حيلتنا محدودة فغريزة النقود هى الغريزة الوحيدة 
التتى حافظت على قوتها عند الرجل! 

-وفضلا عن ذلك فليس هو بالحل . 

- هو جرعة إسعاف عند الضرورة . 

- والرجل يقظ فى هذا الجانب؟ 

جدا. ولا تهمه النقود بقدر ما يهمه كيف أنفقها . 

غيور؟ 





اع القلراق 


- فوق ما تنصورء وبيننا اتفاق يجب أن أحترمه وإلا ضاع كل شىء» ولكن ماذا تفعل 
أنت؟ ألا عمل لك إلا انتظار مكالمة تليفونية؟ 
-لو جاءت لاختفت متاعب الحياة . 

كان أبى على هامش ال حياة . 

دوليون قذلك امن 

- كيف فقدته؟ 

- تاريخ قديم سأحدثك عنه فى ظرف آخر. 

- ولم لا يريد أن يتصل بك؟ 

آه هذا هو العذاب الغامض الملىء باحتمالات لا حصر لها. وعادت تسأله: 
- خبرنى عن حالك إذا لم يظهر الرجل؟ 

- تصورى حال رجل بلا مال ولا أهل ولاعمل! 
- وكيف عشت فيما مضى؟ 

- ملكت الألوف ولكن لم يبق إلا عشرات . 

- ماذا كنت تعمل؟ 

دالا تش نن.. 

- لم لا تبحث عن عمل؟ 

- لا قيمة لأى عمل يجىء عن غير طريق أبى . 
-لاأفهم. 

- ولكن صدقينى . 

اشتغل بتجارة . 

- لا رأسمال ولا خبرة. 

- وظيفة؟ 

لا مؤهل ولا وساطة. 

ثم بعد هنيهة صمت : 

- الواقع أننى لا أصلح لشىء . 

فتخللت غابة صدره بأصابعها وهى تهمس : 
دإلاالحمب..: 

فابتسم فى الظلام ثم سأل : 


11101 





لتلا دم 


-ترى كيف تمضى بنا الحياة؟ 

الأمور معقدة وزوجى غير مأمون الجانب . 

- كم أنه طاعن فى السن ! 

-هو كذلكء» وأضيف أنه من صلب معمرين عاشوا حتى قيل إن الموت نسيهم ! 
- وعمره على أى حال أطول من عمر البقية الباقية من نقودى . 

- وقد يشم رائحة غريبة فى الهواء فلا نلتقى بعد ذلك! 

فشد على راحتها فوق صدره وقال: 

- عند اليأس نهرب . 

مستعدة لذلك ولكن ماذا نصنع بعد الهرب؟ 

فقال بحدة: 

-فكر ولا تحلم. 

- أيعنى هذا أنه يجب أن ننتظر؟ 

وكم نتحمل الانتظار؟ . ٠.‏ وماذا بعد الانتظار؟ 

-الموت! 

- ربما سبقناه إليه» يخيل إلى أحيانا أنه سيدفننى» لا مرض به ألبتة وبى أنا مرض الكبد 


واللوزتين. 
-شىء مضحك ! 
-هو فى الواقع مبك» وعند أول بادرة شك سأمتنع عن الزيارة . 
عند ذاك أجن . 


-وأجن أنا أيضا ولكن ما الفائدة؟ 

-الانتظار غير مجد» والهرب عقيم» والتليفون حلم» ما العمل؟ 
أجل ما العمل؟ 

أظن الهرب أنسب الحلول. 

-أبدا . 

-إذن فهو الانتظار. 

- ولا الانتظار. 

-إذن ما العمل؟ 





م التلرات 


-آه» ما دمنا عاجزين فلنقطع ما بيننا . 

سد فاها براحته لحظة وهو يقول: 

أهون من ذلك الموت. 

فتنهدت قائلة : 

-الموت. 

ثم وهى تناجى نفسها : 

- أجل» الموت. . 

هزت نبرتها أعماقه فأرهف حواسه وقلبه يخفق. وطال صمت لدرجة أرهقته 
فقال: 

ماذا أسكتك؟ 

تعيك؛ لااسالن غ شي 

- ولكن مشكلتنا ما زالك عند نقطة البدء. 

دعها حيث هى . 

- ولكن يوجد بلا شك حل . 


- لكننى توقعت فى لحظة أن تقولى شيئا هاما . . 
- لا رأى عندى» ولكنه حلم» كالتليفونء أن أرث سريعا الفندق والمال المودع 
باسمى» وأن نعيش معا إلى الأبد. 


آم . 
- عيبنا أننا عند العجز نحلم . 

- ولكن الحلم قد يتحقق فجأة . 

- كيف؟ 

-يتحقق وحده! 

- صوتك ضعيف يقطع بأنك لا تصدق . 

-نعم» وإذن؟ 

_ إذن سيطلع الفجر ونحن لا ندرى» وقد قلنا ما يمكن أن يقال. 


1110 





قرا عدم 


ارتدت ثيابها فى الظلام وهو يتطلع إلى شبحها المتحرك وتبادلا قبلة وراء الباب ثم 
دهبت . 

اندس تحت الغطاء فغشيته كآبة مقبضة. الظلام لون الموت. وظلمة القبر تشهد الآن 
صورة لأمك لم يشهدها أحد. وعندما نطق القاضى بالحكم وددت أن تخنقه. وفى 
السجن قالت لك أمك «أنا عارفة الوغد الذى وشى بى» سأقتله» . كنت جميلة وقوية. 
وما اعترى صحتك فى السجن لا ينسى . وحبك لى لا ينسى كذلك . أما صورتك الآن 
فلا يمكن تخيلها. كم من هموم تتلاشى لو اعترفت لإلهام بكل شىء. هى تعطيك كل 
شىء صادق وأنت لم تعطها إلا حزمة من الأكاذيب . أبى . . لم تصر على الاختفاء؟ 
قال: «أمك تظن أنها قتلتنى وفى الحقيقة أنا الذى قتلتها» . إذن فأنت مخيف لأنك قاتل 
«ولكننى سأعرف كيف أهتدى إليك» . وإلهام أنت تغضبها وهى تقاوم بشدة. وتصيح 
وهى تدارى ثوبها الممزق «سأقتلك». سأقتلك أنا لأخفى جريتى . وارتفع صوت المؤذن 
عند الفجر فهاله أنه لم ينم دقيقة واحدة ولكنه تذكر الاغتصاب والقتل فهدأت نفسه قليلا 
وأدرك أن النوم سرقه وهو لا يدرى بعض الوقت. ولعله حلم بالسهاد فيما حلم. 
واستيقظ مرة أخرى فى السابعة وفتح النافذة فرأى الضباب يزفر على الآفاق» والسماء 
طبقات من الألوان القاتمة. وترامى إليه صوت الشحاذ: 

طلوزيئنةمديحى صاب الوجه اللمليح 

وما كاديبلغ باب الاستراحة حتى رأى عم خليل نازلا متكئا على ذراع على 
سريقوس. متلفعا بالعباءة» جلس ينظر إليه من بعيدء إلى يده المعروقة المرتعشة» 
والكوفية السوداء التى أخفت عنقه النحيل . خير ما تفعل يا عم خليل هو أن تموت . أنا 
أعرف عنك أكثر ما تتصور. أنت لا تنام إلا بالمنوم وبعد أن تدلكك كريمة طويلا. 
وسعادتك تمارسها فى الحنان العقيم» ولذتك الوهمية عندما تجردها من ثيابها فتذهب 
أمامك وتجىء ثم تحبها براحتيك . يستوى لدى أن يجىء أبى أو أن تذهب أنت . مرة 
أوشك أن يقتل فى الكنار الليلى . فى طرقة المرحاض اعترضه ضابط بحرى وقال له: 
«اترك علية فئار وإلا. .2. واشتبكا فى صراع مخيف. تلقى منه ضربات وكيل له 
ضربات وحشية . ولم يكف حتى حين استلقى غريه بلا حراك. ولم تعد مجرد خطة 
للتغلب على الخصم ولكن اندفاعا جنونيا للقضاء عليه . لولا أن رمى النادل بنفسه عليه 
صائحا «هل تحب المشنقة؟» وعند الفجر قالت له أمه ايا حسرتى لما أسمع أننى كنت 
سأفقدك!». وقالت (إذا ضايقك وغد فخبرنى وأنا قادرة على إرساله إلى القبر) . كما 
فعلت مع منافسة لها فقتلها رجل من أعوانها ثم فر إلى ليبيا. وقالت الإسكندرية إن 
بسيمة عمران هى الفاعلة الأصلية . ولكن أين الدليل؟ أما أنت يا عم خليل فلن تتغير 
تغيرا يذكر بعد الموت . 





م االقراق 


قال صابر يخاطب الأستاذ إحسان الطنطاوى : 

أظن أن الاستمرار فى الإعلان عبث؟ 

فأجاب الرجل بتسليم : 

أظن ذلك . 

- لا شك أنه اطلع على الإعلان» هو أو أحد من ذويه. 

هذا هو اعتقادى . 

وتدخلت إلهام فى الحديث قائلة : 

-إذن فهو يرفض العودة. 

فقال صابر: 

- أو لعله يقيم فى جهة نائية» أو خارج القطر. 

- على أى حال فالاستمرار فى الإعلان كما قلت عبث؟ 

ثم وهى تزداد حماسا لفكرتها : 

- كل شىء يتوقف عليه وحدهء» والزمن هو الذى يعالج مشكلة من هذا النوع. 

وسوف يعود إليكم عندما يريد ذلك» كما نقرأ أحيانا عن عودة الغائبين . 

إنها لا تدرى أنه هو المحتاج إلى الغائب وليس العكس . وأنه لا يحتاج إليه حبا فى 
الحرية والكرامة والسلام فحسب وإنما خوفا من التردى فى الجريمة . إنها لا تدرى شيئًا عن 
الجريمة التى تتعقبه» ولا المأزق الذى سيجد نفسه فيه عندما تنفد نقوده فى القريب. ولم 
يعد فى الطاقة الاستعانة بالمحامين ومشايخ الحارات وغير هؤلاء من المرشدين» وإنه يفكر 
كثيرا فى نفض يده من الأمر ولكن لا يهون عليه الكف النهائى عن البحث . وإذا قرر يوما 
الكف عن البحث فسوف يندفع فى طريق آخر كثور أعمى . قال: 

فلنجدد الإعلان للمرة الأخيرة . 

وانتظر فى فتركوان» لا يكاد يمر يوم دون لقاء . صار اللقاء عادة جميلة للطرفين . 
أجل فى النصف الثانى من الليل ينسى كل شىء ولكن ما أن ينبلج الصبح حتى تنزع نفسه 
شوقا وحنانا إلى إلهام . وفى محضرها ترتفع به مشاعره إلى آفاق من السعادة والأنس 
والصفاء ولكن رغبته الغشوم فى كريمة لا تموت. تغفو إلى حين ولكن لا تموت. جاذبية 


1110م 





قرا 23> 


إلهام لا تخمد ولكن سيطرة الأخرى لا مهرب منها كالقضاء . ولشدة وطأة هذه السيطرة 
يمقتها أحيانا بقدر ما يعشقهاء وكم نادى باطنه إلهام لكى تنقذه ولكنه نداء اليأس. وشد 
مايهرب من هذا السؤال المزعج «من تختار إذا خيرت» ولكنه يدأب على جسه كدمل 
كامن . أحيانا يمقت وهو ينتظر كالأسير. وإلهام سماء صافية يجرى تحتها الأمان وكرية 
سماء ملبدة بالغيوم تنذر بالرعد والبرق والمطر ولكنها أيضا سماء الإسكندرية المحبوبة . 
وكان يحتسى الشراب على صوت الرعد بالنبى دانيال ويدفئ قلبه بالقبل. وهى تأبى أن 
تعترف بأنها فتاة عطفة القرشىء لماذا تخفين الأسرار؟ لأنك العذاب والشيطنة . وقد 
التحمت فى خياله بهدير البحر ورائحة الماء المالح واليود وحنين الوطن ومغامرات الليالى 
المفعمة بالشهوات والمعارك البهيمية . وهى مثله تغلى فى شراييئها دواعى الفطرة والغريزة 
والعمى والقحة لا كإلهام نسمة تستقر فى ذروة لا يرقى إليها أحد. ونظر إلى عينيها 
ترنوان إليه وهى تتخذ مجلسها قبالته . وأبدت ملاحظة عن انشغاله فقال: 
- عندما أستنفد وسائل البحث فلن أجد عذرا للبقاء فى القاهرة . 
فأسبلت جفنيها وهى تسأله : 
- أقررت متى تسافر؟ 
- لا أتصور أى حياة خارج القاهرة! 
فقالت بصراحة فاتنة : 
كلام جميل أرجو أن تحققه! 
هذا ما أفكر فيه بلا انقطاع . 
وأهلك وعملك؟ 
- لكل مشكلة حل» يخيل إلى . . . 
ثم واصل حديثه بعد انقطاعة قصيرة : 
- يخيل إلى أننى لم أجئ إلى القاهرة للبحث عن سيد سيد الرحيمى ولكن لكى 
أجدك أنت» أحيانا نبجرى وراء غاية معينة ثم نعثر فى الطريق على شىء ما نلبث أن 
نؤمن بأنه الغاية الحقيقية! 
فتقالت بصراحة أفتن من الأولى ولكن بوجه مورد: 
- أما ناحيتى فأنا مدينة لسيد سيد الرحيمى! 
قال بنشوة عجيبة : 
-ما أجملك! ما أجمل الحب» هو الحب الذى يشدنى إليك يوما بعد يوم» وهو الذى 
يكمن وراء كل كلمة من كلماتى إليك مهما يكن موضوعها الظاهرى» واسمه لم 





م التلراق 


يجر على لسانى قبل الساعة» ولكن لولاه ما كان ثمة مبرر أو معنى لأى كلمة 
فغمغمت شفتاها بكلمات لم تسمع فتساءل. 
أليس كذلك؟ 
فقالت مستردة شجاعتها : 
-بلىء وأكثر. . . 
وانتشى لحد الطرب» وأعرب عن نشوته بضغطة رقيقة من راحته فوق ظهر كفهاء ثم 
تذكر أنه سيلقى كريمة بين ذراعيه بعد ساعات فساوره القلق» وخاف العينين الزرقاوين 
السعيدتين» ثم تراءت له أخيلة مظلمة نفثت فى أعصابه بهيمية خفية. آه. . كثيرا ما 
عشق أكثر من امرأة فى وقت واحد بلا عذاب ولا قلق. ولكنه مع إلهام تعذبه كريمة ومع 
كريمة تعذبه إلهام والتوحيد بينهما أمنية لا يجرؤ على تمنيها . 
وسألها هاربا من أفكاره: 
- خبرينى ألم تعرفى الحب من قبل؟ 
فقالت بلا تردد وهى تبتسم : 
-لاء لا أظن» عواطف الصبا وهمية,. وأين هى؟ لا أثر هناك لهاء وهى كانت 
موجهة إلى ممثل كبير قد مات من زمن, لاء لم أحب قبل هذه المرة» ولكنى خطبت 
مرة وفسخت الخطبة عندما طالبنى باللاستقالة من وظيفتى» وبعض الزملاء فى 
الجريدة يكلموننى عن الحب بأسلوب الصفحة الأخيرة من الجريدة» كل ذلك لهو 
لطيف بلا غاية» سأحدثك عن ذلك كله فيما بعد. على شرط ألا تسافرء أو على 
الأقل ألا تنسى القاهرة. . 
- قد أسافر إلى آخر الدنيا ولكنى لن أنسى القاهرة! 
- حسن أن أسمع ذلك» ولكن ما شأنك أنت مع الحب؟ 
- ما عرفته ينبغى أن يكون له اسم آخر . 
-إذن فلنمر عليه بسلام» وأنا أفهم الحياة بدرجة لا بأس بهاء وعندما أنظر فى وجهك 
لا أشك فى أننى أرى وجه رجل صالح . . 
سيطر بسرعة على دهشته ثم تساءل باهتمام : 
ماذا تعنين؟ 
-لا أدرى» أنت. . . أنت. . أعفنى من التعاريف» شىء يشع من عينيك أقنعنى . . 
هو المسئول. . هو المسئول عن عواطفى الصادقة» الأفضل أن تتكلم أنت! 


لنت 





قرا م 


العينان الصافيتان لا تريان» أيدل وجهه حقا على أنه رجل صالح؟ وأين ذهبت عربدة 
الحياة والدعارة البهيمية؟ وأمه وأساطيرها ونزوات الليالى المرعبة؟ يجب أن يجىء الأب 
لينتشله من مأزقه ويطرد الأكاذيب . قال: 

- لا أود أن أمدح نفسى ولكن حبى دليل على أنى إنسان خير مما كنت أظن ! 

أكثر من ذاك» انظر كيف تشقى بالبحث عن أخيك» أعر فته يوما ما؟ 

- كلا . 

- ومع ذلك فأنت تجد وراءه كما لو كنت عاشرته العمر كله أليس ذلك نبلا؟ 

لعنة الله على الكذب . لذلك يفقد حديث إلهام معناه كأنه الصمت . 

-ماهى إلا مهمة كلفت بها. . 

-ولو! ثم إن تحقيقها ليبس فى صا حك من الناحية المادية فلا تنكر نبلك! 

كريمة مثله تمرغت فى التراب طويلا وهما يتفاهمان حتى على البعد. وفى أعمق 
الحظات الحب الحارة تتمالك أنفاسها لتهمس فى أذنه «متى تختفى العقبة التى تهدد حبنا» 
فيمسه رعب الوعى كصفعة مباغتة وتهمس تضاعيف الظلام بالجرية . أما إلهام فلا تقرأ 
فى وجهه سطرا واحدا من الجريمة . ولا يجرى لها على بال أنه يقتل للاستكثار بامرأة 
أخرى . وأنه بات يشم رائحة دم مسفوك . وأنه لا معنى لتشبث عم خليل بالحياة إلا أن 
يدفعه إلى مصير محتوم . ولأنك يا إلهام لم تنقذينى من الهاوية أحببت - وأنت لا تدرين 
مجرما. وإذا مضيت فى الكذب عليك فسوف أجن . ولم تضعف أنت أمام الحقيقة 
بالرغم من أنك قاتلت حتى أوشكت أن تقتل» وأنك تفكر طويلا فى القتل؟ قل أنا فقير 
معدمء والرحيمى أبى لا أخى, وأنه إن لم يعترف بى فلن أساوى حفنة من تراب» 
وماضى غارق فى الدعارة والفضيحة . آه. . ستصرخ من الفزع . وينطفئ شعاع عينيك 
الذى يلهم الحب . ثم ترى هى الوجه الصالح على حقيقته . لو أنشأتك أمك نشأة مناسبة 
لكنت اليوم قوادا سعيداء لكنها صانتك فى النبى دانيال لتتعذب أبد الدهر . ثم أحبت 
أباك لتحرمك نعمة اليأس . 

- ماما لها رأى» هى تعرف عنك الكثير» وقالت لم لا ينشئ عملا فى القاهرة؟ 

ماما؟ إنه يخاف الأمهات . كأمه تستطيع أن ترى حقيقته بنظرة واحدة. لن يعميها 
الإشعاع المزعوم الذى يشع من عينيه . 

دا ع 

بعد تردد: 

- هذا يتوقف على استعدادك! 





م التقراق 


قل لها إنك تتقن السكر والرقص والعراك والحب. 

إدارة الأملاك هى خبرتى الوحيدة! 

-لا مؤاخذة» ليس عندى فكرة عن دراستك؟ 

تذكر المدارس الوطنية والأجنبية التى عبرها عبور المتفرج . 

- والدى لم يتركنى أكمل أى نوع من التعليم لحاجته إلى وبخاصة عقب مرضه! 

-فكر فى مشروع تجارى» وأنا أعرف من الزملاء أناسا متنوعى الخبرة . 

حسن » سأفكر فى ذلك ولكن بعد مشاورة أبى! 

وقال لها وهو يودعها: 

-من المؤسف أن هذا المكان لا يسمح لى بأن أقبلك . 

العقل ينصحه بأن يهجر إلهام ولكنه لا يستطيع . هى كأبيه فيما تعده به وفى أنها حلم 
عسير التحقيق. أما كرية فامتداد حى لأمه فيما تهبه من متعة وجريمة. ارجع إلى 
الإسكندرية واعمل قوادا لأعداتك . اقتل واغنم كريمة ومالها. استخرج الرحيمى من 
الظلمات وتزوج إلهام. آه. . وشتاء القاهرة قاس ولا يضمر المفاجآت ولايعزف 
موسيقى السماء. وما أزحم شوارعها ومحالها فهى سوق تتلاصق فيها الأجساد 
والسيارات . وأكثر من امرأة تجد فيك ما تبحث عنه بنظرة واحدة حين تشقى أنت عبثا فى 
البحث عن الرحيمى . لعله هلفوت ضحك على أمك فأوهمها بأنه من الوجهاء. وكثيرا 
ما يجد لمحة من صورة أبيه المتخيلة فى هذا الرجل أو ذاك بين مئات من الوجوه المتتابعة . 
إنه يرفضه أو لعله يخافه أو لعله ميت. وفى الشتاء سرعان ما تجنح الشمس للمغيب 
وترتفع أمواج الظلام . ولدى رؤيته عم الساوى سأله عمن يعرف من رجال الله القارئين 
للغيب فدله على رجل بالدرب الأحمر يدعى الشيخة زهرة . ولما بلغ مسكنه وجده مغلقا 
مختوما بالشمع الأحمر وقيل له إن البوليس قبض عليه بتهمة الدجل . وتساءل صابر متى 
كان الدجل تهمة؟ وعندما رأى الفندق وهو راجع إليه أثار فيه شعورا برتابة الببت وكآبة 
السجن . وجلس فى الاستراحة وهى آهلة تضج بالأصوات وتختنق بالدخان. . ومن 
عجب أن الأحاديث لا تكاد تتغير رغم أن الوجوه تنغير كل يوم. وسمع رجل وهو 
يتساءل : 

ألا يعنى هذا فناء العالم؟ 

فقال بلا وعى : 

- فى ألف داهية! 

وتعالت ضحكات فأيقظته » وسأله سائل : 


11100 





التلسرا م 
- حضرتك مع الشرق أم الغرب؟ 
فقال وهو آسف على تورطه فى حديث لا يهمه : 
لا هذا ولاذاك! 
ثم تذكر جملة متاعبة فقال بتأفف : 
-أنا مع الحرب!. . 


فى تلك الليلة لم تأت كريمة فى ميعادها. انتظر فى الظلام عامر الرأس بخيالات 
الشراب . ومن الفراغ جسد صورا يصبر بها شهوته»؛ ومرت ساعة كاملة بعد متتصف 
الليلة ولم تأت . هو لا يدرى شيئا عما يحدث فوق السطح ولكن كرية لم تتخلف ليلة 
واحدة منذ طرقت بابه لأول مرة. وتقدم الوقت ساعة أخرى ساحقا أعصابه فيئس من 
ليلته وأيقن أن مجيئها بعد ذلك سيكون عبثا. وجعل ينظر صوب الباب مرهف السمع 
ولكن اليأس كثف الظلمة. وظل مسهدا حتى انطلق صوت المؤذن فقال إنه ينادى بفناء 
هذه الليلة . واستيقظ حوالى العاشرة فسخر من نفسه قاتلا : «ليكن حساب عسير)» ونزل 
إلى الاستراحة فتناول فطورا خفيفا وراح يراقب من بعيد علاقة المودة التى تؤاخى بين عم 
خليل ومساعده الساوى. وتساءل متى ينزل فيجد مكان عم خليل خاليا؟ وكيف يسأل 
كريمة عن أسباب تخلفها؟ وفجأة قامت معركة كلامية بين اثنين من النزلاء لم يدرك سببها 
ولكنه تابع باهتمام حركة أيديهما العصبية وكلماتهما الحادة وتهديداتهما التى لم يتحقق 
منها شىء» ثم شعر بضجر غير محتمل . 

وقرأ فى وجه إلهام ‏ فى أثناء تناول الغداء ‏ اهتماما أضفى عليها فتنة جدية ملحوظة . 
انجابت عنه هموم كثيرة وعاوده شىء من المرح فقال : 

اعترف لك بأننى لا أجد لحياتى معنى إلا عند اللقاء . 

فحدجته بنظرة إرادية وقالت: 

الحق أنى لا أنقطع عن التفكير فى حياتنا . 

عاتبها فى باطنه على توانيها فى امتلاكه والسيطرة عليه» وعلى هزائمها غير العادلة 
أمام عدوتها الطاغية . أنت مسئولة عما سيقع . قال: 

- يسعدنى أن أسمع ذلك» وأنا بدورى لا أنقطع عن التفكير! 

-هات ما عندك؟ 





ام اللقرا 


قال وهو يلعن نفسه وأكاذيبها: 

أفكر فى أمرين: العمل والزواج! 

- هل اقتنعت نهائيا باقتراحى؟ 

- أجل » ولكن على أن أتم مهمتى على أى وجه أولا ثم أسافر للاتفاق مع أبى. . 

كره نفسه لحد الموت» وتمنى أن يمحق أكاذيبه دفعة واحدة وليكن ما يكون . وقال إنه 
لم يعرف هذا النوع من الألم المحير قبل ذلك . وبدافع كالاستغاثة قال : 

- لنذهت إلى سينما هذا المساء: 

فى ظلمة السينما أخذ راحتها فى يده. الظلمة دائما. ورفع يدها إلى فمه فلشمها فى 
سعادة عجيبة . وتشمم منها عبيرا طيبا فى سرحة طائرة . وقال إنه يستريح من الاحتراق 
والجريمة أما العذاب الذى يخشى أن يعذبه فى النصف الثانى من الليل فيطرده عن باله . 
وهمست إلهام متسائلة : 

- أليس هذا ظلما بينا؟ 

ولم يكن يتابع الفيلم بحال فهمس مداعبا : 

افتراقنا ساعة واحدة ظلم أفظع! 

وتركز فى الشاشة لأول مرة فرأى رجلا يضطهد فتاة وسمع حواراً عنيفاء ولأنه لم 
يتابع القصة من أولها بدا له المنظر حركات وكلمات لا معنى لها. كما نشاهد أجزاء من 
حياة الناس منقطعة عن ملابساتها فنمر بها دون اكتراث وأحيانا ضاحكين ما يستحق 
الرثاء . وكم يبدو بحثئك عن أبيك من خلال الإعلان مضحكا ومغريا بالمزاح . وهل تجىء 
كريمة الليلة فى ميعادها؟ أو يتعذب حتى الفجر؟ وكيف تنجلى هذه المتاعب كلها فى 
البحث والحب ولحظ إلهام فى لحظات المناظر الشديدة الإضاءة فرأى استغراقها فأحنقه 
ذلك وأوقف مداعباته لراحتهاء وأراد أن يسحب يده ولكنها شدت على أصابعه فشد 
على راحتها ممتنا. وغادرا السينما فأوصلها إلى محطة الباص ومضى إلى بقالة الحرية 
بكلوت بك فأكل بسطرمة وسردين وشرب نصف كونياك . ورجع إلى حجرته عند 
منتتصف الليل فلبث فى الظلام ينتظر . ولم يعد الغيب بأى أمل» واشتد الصمت خارج 
الحجرة كالصمم. 

وتتابعت الدقائق فى عذاب وحنق. لا. . لم يعرف هذا الذل من قبل . ذل الرغعبة 
الجائعة. . ذل البحث الخائب . . ذل الخنوف من الذل. ولحقت الليلة بسابقتها مسهدة 
ملعونة مصدعة . ورسم أن يوجد بالفندق فى عصر اليوم التالى فشهد نزول كريمة إلى 
مجلسها بجانب زوجها كما رآها أول مرة. تفشى عذاب الرغبة فى كيانه فهاله أن تستأثره 
المرأة لهذا الحد. وتجنبت أن تنظر ناحيته وهو فى ركن الاستراحة يتصيد. لا تعرف 


1110 





اران ١م‏ 


جنونى فهى لا تخشى عواقبه . ولما قامت لتصعد إلى شقتها التقت عيناهما لحظة عند 
استدارتها فرمته بنظرة محذرة ثم ذهبت . ما معنى هذا التحذير؟! العجوز لم تتغير 
معاملته لها وهو فى سن لا يملك معها قوة أعصاب لمداراة مافى نفسه . وفكر أن يلحق بها 
فى الدور الثانى أو الثالث ولكنه لمس سرعة صعودها كأما حسبت حساب أفكاره فأعادت 
التحذير بصورة أخرى . الأيام تمر والنقود تتناقص وحكاية الأب أمست أسطورة سخيفة 
لايركن إليها بحال. ولاغنى له عن هذه المرأة فهى حياته والأمل الباقى له فى الحياة . 
وتكرر التسكع بالليل فى كلوت بك والسكر والانتظار فى الظلام ليلة وليلة وليلة . وهو 
راجع عند منتصف الليل قال محمد الساوى بصوت نعسان: 

- سأل التليفون عنك عصر اليوم . 

آه. . لم تعد أنباء التليفون تهز أعماقه ولكن آه لو يخلف ظنه ويجيئه بالمعجزة فى هذه 
اللحظة من اليأس والعذاب؟ قال الرجل : 

-صوت أمرأة. . 

بخصوص الإعلان؟ 

-كلاء سألت هل أنت موجود فقلت لها إنك لم تعد بعد فأغلقت السكة! 

إلهام؟ من شدة نكده لم يقابلها فى اليومين الأخيرين. ولما خلع بدلته وأطفأ المصباح 
سمع نقرة على الباب! وثب وثبة مجنون وفتح . شد على ساعديها بقوة وهتف بغعضب 
وشى رغم زمجرته بالراحة السعيدة . 

وجذبها صوب الفراش وهو يقول: 

عأنف5 + الوريل للق 

- أنت تمزق لحمى! 

- كما مزقت أعصابى ! 

- وماذا تعرف عن عذابى أنا؟ 

أراد أن ينزع عنها الروب ولكنها أمسكت بساعديه: 

-كلا. . البقاء مجازفة غير مأمونة . . سأقول كلمة ثم أذهب. . 

ادعى الشيطان ليدافع عنك! 

- أنت سكران ولكن اضبط نفسك». حركة بسيطة قد تهدم كل ما بنيناه. أجلسها إلى 

جانبه على حافة السرير وهو يسأل: 
-ماذا حصل؟ 
- عند رجوعى آخر مرة من عندك استيقظ على غير عادة وسألنى هل كنت طوال 





ا التقراق 


الوقت إلى جانبه فاعتذرت بالعذر المألوف وخيل إلى أن على سريقوس لمحنى» 
لست متأكدة ولكنى خفت خوفا شديدا! 

-لعلها أوهام! 

لعلها ولعلهاء لا يجوز أن نجازف بكل شىء» سنخسر الحب والأمل» كلمة واحدة 
منى تقضى على بالفقر الأبدى لا تنس ذلك . 

وتنهدت ثم استطردت : 

لذلك امتنعت عن المجىء» ولم أستطع بطبيعة الحال أن أفسر سلوكى» وقدرت وأنا 
فى غاية من العذاب حالك وأفكارك» ولكن الرجل لم يكتب كل شىء باسمى إلا 
على صفو الأيام الباقية. . 

-إذن؟ 

- وإذن فيجب أن أمتنع عن الحضور بتاتاء هذا هو الأسلم . 

هذا جنون! 

هذا هو العقل. 

- كيف أنتظر؟ إلى متى أنتظر؟ 

وهى تتلهد : 

- لا أعرف الجواب كما تعلم. 

دوبيوك تققد قود راضط إلى النشرء 

- يمكننى أن أمدك بالقليل منها لإطالة بقائك أكبر مدة ممكنة . 

أعرف هذا ولكن ما الحيلة؟ . . أنا معذبة مثلك . 

أنا أشدء أنا مهدد بالعذاب والإفلاس معا. 

- وأنا أتعذب لنفسى ولكء كيف لا تدرك هذا؟ 


- متى يموت الرجل؟ 
- أنت تسألنى كأننى مطلعة على الغيب! 
وماذا أنت إذن؟ 


-امرأة تعيسة» أتعس مما تتصور. 


11100 





اللراق عام 


- قد يسخر من ممخاوفنا الموت ويموت فجأة. 

- هذا محتمل . 

- رجل طاعن فى السن ولا يمكن أن يعيش إلى الأبد . 

قد يموت الليلة وقد يموت بعد عشرين عاما فى سن أخت له ماتت منذ عامين! 

اللعنة . 

لا حيلة لناء ويجب أن أذهب الآن. 

ولا أراك إلا بعد موته؟ 

- قلت لا حيلة لنا. 

بل هنالك حيلة . 

وصمتا فى الظلام حتى سمعا هسيس الصمت» وإذا به يقول: 

- أنت تذكريننى طيلة الوقت بحديث قدي » حديث إشارات متقطعة يشهد عليها هذا 
الظلام» فلنتكلم بالصراحة هذه المرة. . على أن أقتله؟ ! 

قالت بنبرة مضطرية : 

-أنت لاترتاح إلى هذا الحديث. لذلك نبذته» لست قاسية ولا متوحشة» 
عيبى الوحيد أننى أحبك بجنون» الأفضل أن ننتظر. . 

حتى يموت فى سن أخته؟ 

حتى يأمر الله بما يشاء . 

وركبه تصميم جنونى فنهض فى الظلام» يائسا كل اليأس» ثم جلس مرة أخرى 

شاعرا بالتهاب رغم برودة الجو. تساءل: 

- ماذا بعد الجريمة؟ 

لم تنبس بكلمة» وأحس الظلام دخانا كثيفا: 

- لا تضيعى الوقت هباء»ء ماذا بعد الجريمة؟ 

سمع همسا غير مبين كأنما تريد أن تتكلم فتمنعها شرقة. ثم جاء صوتها كأنما يزحف 

من جحر : 

- ننتظر فترة. . لكن فى أمان. . ويمكن أن نلتقى فى خفاء. . ثم أكون لك أنا 
والثروة. . 

قال وهو يكور يده فى الظلام : 

اليأس لا يدع لنا سبيلا ولا وقتا للاختيار. 





ام التلراق 


4# 


-للأسف . 

- ولكن ماذا ينبغى أن أفعل؟ 

قالت بعد صمت أقصر بكثير نما قدر : 

-ادرس العمارة الملاصقة للفندق . 

آه هى مبيتة كل شىء. الجريمة جاهزة فى رأسها الرشيق» مغفور لها كل شىء ما دام 


قد دبر فى سبيل حبه . 
-شقة مأجورة لخياطين وبياعين بدل نصف عمرء فهى تخلو ليلا» ولايصعب 
الدخول أو الخروج منها. 
هذه هى العمارة . 
دسظهيا والضة طن ! 
-يعنى الانتقال سهل . 


- تجىء إلى سطحناء يجب أن تنتظره فى الشقة ! 

أظنه يصعد إلى شقته بين الثامنة والتاسعة؟ 

- وليكن فى اليوم الذى أذهب فيه إلى زيارة أمى وهى ميعاد معروف من كل شهر . 
قال بدهشة : 

- لا أصدق أننى لم أكد أتم شهرا فى الفندق! 

- ومن السهل بعد ذلك أن تنتقل إلى العمارة التى جئت منها . 


فقال بارتياب : 
- كثيرأ ما نسمع عن جرائم من هذا النوع عند اكتشافها! 
فقالت ببرود: 


لأننا لا نسمع إلاعن الجرائم التى تكتشف . 

جبارة» كأمك أو أكثر! 

أهذا هو كل شىء؟ 

-كلاء يجب أن تقع سرقة لتبرر القتل! 

- وماذا أسرق؟ 

-دع ذلك لىء احذر أن تترك أثراء إن الكلاب تجرى وراء الآثر! 

- يبدو أن التنفيذ سيكون غاية من الإحكام . 

حياتنا حياة واحدة» فإذا قضى عليك قضى على » ولا حيلة لنا فى البحث عن طريقة 
للخلاص من الآلم والجنون. 


1110 





التظراق ام 


وهز رأسه قائلا فى حيرة : 
- جنون» جنون» هل تصدقين أن شيئا من ذلك سيقع؟ 
فقالت ببرود: 


-ادرس العمارة جيداء أمامك أيام احذر أن يراك أحد وأنت تنتقل من سطح إلى 
ومضى يفكر . أما هى فقّالت: 
لنبدأ من الأول من جديدء خطوة فخطوة حتى لا يفوتنا شىء. . 


١ ٠. 


ستختلف عنهم جد الاختلاف . وعندما يأتى الليل ستكتسب صفة دموية غريبة فتنضم 
إلى طائفة المجرمين. ها هو عم خليل أبو النجاء يستقبل الصباح البارد» يده لا تكف عن 
الارتعاش» ولا يفكر فى الموت . سيقف عمرك عند العاشرة مساءء أنت لا تعلم ولكننى 
أعلم» فلا تشغل بالك بمتاعب الدقيقة التالية» تقبل نصيحة أخ يائس» ولعلى الآن 
أشارك الله فى بعض علمه بالغيب» منذ قبلت أن أكون قاتلا. ورن جرس التليفون 
فضحك ضحكة سمعها الأقربون من حوله» أهو سيد سيد الرحيمى يجىء فى اللحظة 
ليس فى حاجة إليك» سيبحث عن الحرية والكرامة والسلام عند غيرك . هل أنت تتثاءب 
ياعم خليل فحتام تغالب النوم الأبدى؟ لماذا تصر على جرى إلى مصير محتوم؟ ما معنى 
وأن تتعلق آمالى بإزهاق روح» خبرنى عن معنى ذلك كله» أسبوع مر ولا فكر إلا فى 
الجريمة وكم كانت الأحلام مختلفة عندما تحرك القطار من محطة الإسكندرية» وهؤلاء 
الرجال ألم يرتكب أحدهم جرية! ثرثرة المال والحرب والحظ التى لا تنتهى» ونبوءات 
عن جرائم الغيب» وغفلة تامة عن جرية تدبر تحت أعينهم . 

حوالى العاشرة غادر صابر الاستراحة فحيا عم خليل ومضى إلى الطريق وهو يقول 
لنفسه «غادرت الفندق فى العاشرة ولم أرجع إليه قبل الواحدة صباحا» ألقى نظرة على 
مدخل العمارة المجاورة» كأنه سوق لكثرة الداخلين والخارجين ثم قال لنفسه: «السطح 





مم قرا 
خال» ولايرى من مكان قريب » والظلام ينتشر ابتداء من الخامسة» . فكر فى زيارة إلهام 
بالحريدة ولكنه افتقد التركيز الضرورى للزيارة» وكره محادثتها وهو ينضح بالدم . وماذا 
يقول لها وهو يهجر طريقها إلى الأبد؟ ومر أمام الجريدة وهو حزين حقا. وتخيل مجلس 
إلهام» ونظرتهاء وسؤالها المألوف عن الرحيمى» ولفتاتها الرقيقة» وعجزه عن الارتفاع 
إلى مسئولية حبها. وقتل الوقت بالمشى فى الشوارع » وتناول غداءه فى بقالة الحرية 
بكلوت بك وشرب كأسين . وقال له البقال: 

-الجو ردىء. 

فقال وهو يغادر المحل : 

- أنا مجرم من سلالة مجرمين! 

ومضى وضحكة الرجل تودعه. وصمم فجأة على مقابلة إلهام فى فتركوان ولكنه لم 
يجدهاء وقيل له إنها ذهبت عقب الغداء مباشرة» وأفاق من تصميمه المندفع فجفل من 
فكرة زيارة الجريدة. ولبث فى المحل حتى النامسة ثم مضى إلى شارع الفسقية فوقف 
تحت البواكى فى شبه ظلمة على الجانب المقابل للعمارة المجاورة للفندق . وهو يتفحص 
المكان. وارتفع صوت الشحاذ بالمديح غير بعيد من موقفه فتقزز من المفاجأة» وانتهز 
فرصة انشغال البواب بمساومة بائع خس فعبر الطريق إلى العمارة ودخل . شق سبيله فى 
مدخل مزدحم . ورقى فى سلم مزدحم كذلك وصاخب. بين أبواب مفتوحة على شقق 
مكتظة بالعمال والزبائن. وقد وقعت عليه أعين كثيرة ولكنها لم تره. وجعل يختلس 
النظرات إلى الوجوه ليرى إن كان ثمة أحد يعرفه من نزلاء الفندق» حتى بلغ السطح فى 
أمان» فى الفضاء تبدت الظلمة أقل كثافة فرأى السطح مغطى بالنفايات ولكنه خال من 
الآدميين. اطمأن نوعا ونظر فيما حول سطح العمارة فلم ير مبنى يطل عليه» ثم استقرت 
عيناه على سطح الفندق ف رأى ‏ منتفضا ‏ كريمة وهى تجمع الغسيل . هى تنتظره بلا شك» 
ولعلها رأته وهو يعبر الطريق إلى مدخل العمارة» ويداها مهتمتان بفك المشابك ولكن 
وعيها مركز فى طرف عينها المتجسسة . رأته عند مدخل السطح فأشارت إليه بالاقتراب 
فدلف من السور وقد انحصر وعيه فى تصميمه الجرىء كاسحا وساوسه واضطرابه» 
وظلت مولية ظهرها كأنها لا تشعر به» وسألته: 

-هل رآك أحد يعرفك؟ 

-كلا. . 

- على سريقوس تحت» سأقف عند رأس السلم حتى تعبر السور. 

وذهبت حاملة الغسيل حتى غيبها جدار الشقة الذى يشطر السطح فنظر حوله بحذر 
ثم وثب إلى السور وهبط فوق سطح الفندق وتقدم فى أثرها ثم وقف أمام مدخل الشقة. 
أطل رأسها من وراء باب السطح وهمست: 

1110م 





التلراق با 


-اليباب مفتوح فادفعه وادخل . 
اتجه نحو الباب وضغط عليه براحته فانفتح . شهق بعمق ثم زفرء ودخل فى دهليز 
غارق فى الظلمة فتسمر وراء الباب. وما لبثت أن لحقت به فأغلقت الباب وأضاءت 
المصباح . رآها شاحبة الوجه براقة العينين» ولا أثر هناك لحيوتها الفاتنة» تعانقا بلا 
مقدمات وبعصبية وعنف ولكن بلا روح ولا حس ثم انفصلا وهما يتبادلان نظرة ذاهلة . 
قال: 
أى خطأ سيهلكنا . 
فقالت بنبرة جافة : 
- ثبت قلبك» كل ما حولنا مطمئن» وسينتهى كل شىء كما رسمنا. 
وتقدمته لتريه الشقة الصغيرة» من الدهليز إلى حجرة كبيرة أعدت للنوم» متصلة بباب 
مشترك بحجرة أصغر للسفرة والجلوس » وسوى ذلك لا توجد إلا المرافق . ألقى نظرة على 
أثاث الحجرة الكبيرة فخيل إليه أن للسرير والصوان والكنبة التركية أعينا ترنو إليه ببرود 
وعدم اكتراث» وأوشك أن يفصح عن مشاعره ولكنه خجل من ذلك واكتفى بقوله : 
الحجرة كئيبة . . 
فأجابت وكانت تفيق رويدا رويدا من صدمة اللقاء والتسلل : 
-ربماء المهم أنك ستنتظر هنا فى حجرة النوم» ويجب أن تختبئ تحت السرير بمجرد 
أن تسمع الباب الخارجى وهو يفتح : 
-الأرض خشب؟ 
أجل» ومغطاة بالبساط» البساط يغطى أرض الحجرة كلها. . 
- طبعا سيغلق الباب الخارجى؟ 
- طبعاء الساوى يوصله عادة وخاصة حال غيابى» وهو يغلق الباب بنفسه» وغاليا ما 
يترك المفتاح فى القفل أو يضعه على الترابيزة» وستفتحه وتخرج . . 
- ألا أفاجأً بوجود أحد فوق السطح؟ 
كلاء على سريقوس ينزل بعد توصيل الرجل وهو ينام فى الدور الثالث . 
- سيسألون كيف دخل ال. . ؟ 
- ستكون النوافذ مغلقة» فإما أنه نسى أن يغلق الباب بعد ذهاب الساوى. أو أنه فتح 
لطارق. . 
- هل يعقل أن يفتح لطارق قبل أن يسأله عن هويته؟ 
-لعله سمع صوتا يعرفه! 





١‏ التلراق 


- وتنجه الظنون إلى من يعرفهم فى الفندق؟ 

قالت ببرود: 

- هذا حسنء لن يقع برىء» والمهم أن تنجو أنت. . 

ثم أشارت إلى حقيبتها وقالت: 

-تمت السرقةالمطلوبة» بعض حلى وبضعة جنيهات . وقد فتحت باب الصوان 
بنصل سكين وبعثرت الملابس» هل أتيت بالقفاز؟ 

داتعم . 

حسن جداء وإليك قضيب الحديد. . 

أشارت إلى القضيب فوق الترابيزة وقالت: 

أحضرته من الطقيسى» وكان رجل كرسى ولادة أثرى فلا تمسه إلا بالقفازء احذر 
أن يسقط منك شىء وأنت تحت السرير . 

خيل إليه أن وجهها ذبل تماما من شدة إشعاع عينيها . قالت: 

- يجب أن أذهب . 

وتعانقا كما تعانقا أول مرة ثم قال: 

-ابقى بعض الوقت . . 


ولكن حان وقت الذهاب . 
ثبت قلبك . وتصرف بعقل فى كل خطوة تالية» 25 
-وماذا؟ 


حدجته بنظرة غريبة ثم همست : 

- لاا شىء» ادخل تحت السرير . 

وتعانقا للمرة الثالثة» كأنما يتشبث بهاء ثم مضت إلى الخارج وهى تنادى بأعلى 
صوتها على سريقوس فسارع بالدخول تحت السرير. وعادت كريمة يتبعها الرجل فأمرته 
بأن يغلق النوافذ ويتأكد من إغلاق الأخريات . وانتظرت حتى قام بمهمته وأطفأ النور. ثم 
ذهبا معاء خرج صابر من تحت السريرء ثم وقف بحذر» فى ظلام حالك . الظلام ضرب 
من الاختناق» وضياع وعدم . ولبس القفاز بعناية . وجال بيده متحسسا حتى عثر على 
الترابيزة ثم تناول القضيب وشد عليه بقوة» وارتد إلى موقفه الأول ثم جلس على حافة 
الفراش . اختفت الدنياء لا شىء سوى ملمس الفراش ورائحة الصمت الآخذ فى 
الاستفحال. لا مفر فيجب أن تهوى الضربة بإحكام . والانتصار بضربة واحدة خير من 


1110 





التقراق م 


العناء والصبر . والانتظار العابث» والبحث الضائع . وحب إلهام سحابة شفافة ولكنها 
أشق من القتل . ومديح الشحاذ يترامى فهو لم يأو إلى جحره بعد. نواء ضائع 
كالإعلان» وثروة الأم المصادرة. ومتى تعانق كريمة بحرارة وأمان؟ وذوبان الأعصاب فى 
الظلام محنة ولكن وراءك إرادة من حديد وقلب ينطلق إلى مراده الجهنمى كالشهاب . 

وهذا صوت على سريقوس فوق السطح يغنى: 

أيام بنشرب عسل وأيام بنشرب خل 

ثم لا شىء إلا الظلام وصوت الصمت . 

وأخيرا سمع المفتاح وهويدار فى القفل فهبط إلى الأرض وزحف تحت السرير. 
وسمع وقع أقدام قادمة» ثم فتح باب الحجرة وسطع النور. انكمش فى اضطراب 
وتوثب . ورأى فوق الأرض ست أقدام . وارتفع صوت عم خليل قاتلا : 

- اذهب يا على ولا تنس أن تحضر السباك . 

ذهبت قدمان. وجلس عم خليل على حافة الفراش فاستقرت على بعد ذراع من 
عينيه . وقال: 

- سأقابله غدا ولن أقبل مزيدا من المساومة . 

- هذا هو الرأى . 

-رجل دنىء» رأى الموت أربع مرات بعينيه ولم يتعلم! 

-ربنا يطول عمرك . 

وساد صمت فتساءل محمد الساوى : 

-هل أفوتك بعافية؟ 

تأوه الرجل قائلا: 

كلا ظهرى يؤلمنى وعندى صداع . 

إلى متى يبقيه معه؟ هل يبيت معه ليلته؟ سرت فى جسده رجفة من القلق . وإذا 
بالرجل يقيم الصلاة وهو جالس» ثم يسترسل فى صوت مسموع : 


ا ف - قبلتك 
واترجيت عفوك ورحمتك 


يا أرحم الراحمين أدخلنى جنتك 
وواصل صلاته حتى السلام» ثم قال: 
ساعدنى فى خلع العباءة والحذاء يا محمد. 
وبعد هنيهة قال : 





ا القلرا 


- ناولنى زجاجة المنوم من الدرج . 

أين هذا الدرج يا ترى؟ إن كان فى الصوان فقد انكشفت كذبة السرقة المدبرة . وانتظر 
وكأنه يتوقع انفجار قنبلة وهو يتابع صفيرها. ولكنه سمع الرجل وهو يرشف الماء» ثم 
شعر به وهو يستلقى فوق الفراش . وسمعه يقول: 

-لن أستطيع القيام لإغلاق الباب وراءك» أغلقه من الخارج» وافتحه فى ميعاد 

الصباح » مع السلامة . 

حياه الساوى وأطفأ النور ثم أضاء المصباح السهارى وانصرف» سوف يفتح الباب 
صباحا فيجد صاحبه جثة . كيف دخل القاتل؟ كيف يذهب عقب الجريمة؟ أه العقل 
مشتت . المهم التنفيذ لا تخمين آراء المحققين. ضربات قلبك تشوش عليك أفكارك . 
ورغم الدراسة السابقة يجد فى كل لحظة جديد. هل ينام قبل أن تنفجر أعصابك؟ 

وارتفع الشخير . كشخير أمك فى الليلة الأخيرة. والكفن كعود جاف . وبكاء السماء 
من زجاج الشرفة بالنبى دانيال. قطب فى تصميم طاردا خواطر الأحزان ثم زحف . 
زحف حتى خرج جسمه كله. وقف بحذر شديد قابضا على القضيب . رأى الرجل 
مختفيا من الرأس إلى القدم تحت الغطاء. رأى رأسه المغطى بارزا تحت الوسادة. ارتاح 
جدا لاختفائه وانبعثت فيه جرأة جديدة. اقترب من الفراش خطوة رافعا القضيب إلى 
أقصى ذراعه . وإذا بالرجل يزيح طرف الغطاء عن وجهه ويميله إلى ناحيته . ارتعد صابر 
وتسمر جسمه وذراعه المرفوعة. وفتح الرجل عينيه فالتقيا بعينيه. ولم يبد منه ما يدل 
على أنه رآه أو انذعر . أفاق صابر من الصدمة بجنون . هوى بيده بكل قوة على الرأس 
فوق الطاقية» و ل ا . ند عن الرجل صوت لم يتبيّن حقيقته 
ول احارل اعد ختريدم . . تأوه. . صرخة. . شخير. . حشرجة؟ وانتفض الجسم 

تحت قت الخطاء ابسذا ةعبق 1 لبمار نزخمل :وتدير ع1 حول نه عينيه وانق را على 
النافذة. لم يفكر أبدا فى التأكيد من موته. اقترب من النافذة ثم فتحها. ومرق منها 
معتمدا على ساعديه . ردها وراءه وازدرد ريقا جافا لأول مرة. آه. . هل القضيب ملطخ 
بالدم؟ والسطح المجاور خال كما توقع . كم الساعة يا ترى؟ وعبر السور. لماذا لم يغسل 
القضيب فى الحمام؟ هل يتخلص منه هنا؟ جنون . هل يرميه فى الجهة الخلفية للعمارة؟ 
جنون وسخف وثمة أصوات آدمية آتية من أسفل السلم . أطل من فوق الدرابزين فرأى 
الدور الثالث غارقا فى الظلام» ولكن نورا ينبعث من شقه فى الدور الثانى انعكس على 
الدرابزين والجدار وراءه. ومسح القضيب بفردة القفاز اليسرى. ثم قبض عليه بهاء 
وهبط السلم . مر أمام الشقة المفتوحة لا يلوى على شىء» ثم غادر الشقة رجلان أو ثلاثة 
فنزلوا وراءه فتباطأ حتى أدركوه ثم فاتوه فهبط وراءهم حتى الدهليزء وغادر العمارة كأنه 
واحد منهم وقدلمح البواب جالسا فى حجرته الصغيرة وراء الباب. فى الطريق شهق 


1110م 





القلرا مم 


بعمق ثم زفر. هل عرفه أحد؟ هل رأى أحد القضيب فى يده؟ هل لوث الدم بدلته؟ 
ورأى تاكسى عند الطوار المقابل ولكنه خاف إن عبر الطريق مباشرة أن يراه أحد من 
الفندق» فتوغل فى الشارع» ثم عبرمن بعيد إلى الجانب الآخر فرجع تحت البواكى 
صوب موقف التاكسى . وصادف رجوعه قيام الشحاذ وسيره نحوه متلمسا طريقه 
بعصاهء اضطر أن يقف على بعد مترين من التاكسى حتى يمر الرجل فرآه لأول مرة 
بوضوح على ضوء مصباح . وشد ما أثار اشمئزاز لحد الغثيان. وجه نحيل ضائع اللون 
والمعالم فى لحية متلبدة بالقذارة» وعظام بارزة ووجنتان غائرتان وأنف مجدوع» ورأس 
مغطى بطاقية سوداء يحجب مقدمها حاجبيه» تدمع تحتها عينان دمويتان مشدودتان إلى 
أسفل » فمن أين جاءه الصوت اللطيف الذى يغنى بالمديح؟ كتم أنفاسه كيلا يشم رائحته 
وهو يمضى أمامه. وتقلص وجهه فى تقزز ونفور حتى اختفى عن ناظريه» ثم اندفع نحو 
التاكسى آمرا السائق بالذهاب إلى ناحية من النيل بها مرسى قوارب. أى إنسان يعطف 
على هذا الشحاذ! ولكن هل لمحه أحد وهو يغادر العمارة؟ القفاز والقضيب هل رآهما 
أحد؟ وسائق التاكسى هل ينقلب شاهد إثبات غدا؟ التاكس لا يريد أن ينطلق . السائق 
يزعجه بتعليقات غير مفهومة . 

أليس كذلك؟ 

هه! 

وبدل الجئون أقول لنفسى الصبر طيب . 

ليس أفضل من السكوت إلا الجنون. وشاطئ النيل راقد فى ظلام فمن يرى القضيب 
أو القفاز أوالدم؟ والتجديف فى هذه الساعة من السنة غريب ولكنه سلوك عادى جدا إذا 
قيس بغيره. الآن تتخلص من القضيب والقفاز وتغسل يديك . اغسلهما جيدا فى 
الأمواج الثقيلة النابعة من الليل. وبمجرد التفكير فى الراحة زحف الإعياء كالنوم. وترك 
القارب للتيار. ليس فوق البر من شىء يهم» وثمة لذة غريبة فى إغماض العين 
والاستسلام للتيار. وفى محو التفكير والذاكرة. ولكن التقاء العينين تحت المصباح 
السهارى لا ينسى . والصوت الذى انبعث ما كنهه؟ وما يسيل من عين الشحاذ دم أم 
دمع؟ حتى المطاردة الآن لا تهم . ولكن أين مضى بك التيار؟ 

وفجأة انطبقت السماء على الأرض . وثب من الفزع فتمايل به القارب . وفى اللحظة 
التالية أدرك أنها صفارة قاطرة بحرية انفجرت بغلظها المحطم لأركان الجو. وتتابعت 
أمواج قوية فرقص القارب . وتناول المجدافين وجدف بقوة راجعا إلى المرسى . ولم ير 
فى السماء نجما واحدا فتذكر الشتاء وسرعان ما سرت فى جسده قشعريرة البرد. ومشى 
فى الجزيرة بسرعة وقوة دفعا لبرودة الجو حتى عبر جسر النيل . وعند إشارة المرور للح 
سيارة كبيرة واقفة» ورأى داخلها رجلا جذب انتباهه من النظرة الأولى . كهل فخمء 





ارم التقراق 


ولكن هذا الوجه كم أنه محتمل أن. . !وانفتح الطريق وتحركت السيارة فصاح بأعلى 
صوته : 

- سيد ال رحيمى ! 

وجرى وراء السيارة بأقصى سرعته ولكن المسافة الفاصلة بينهما اتسعت إلى غير نهاية 
وسرعان ما اختفت السيارة. حتى رقمها لم يره. توقف عن الجرى وهو يلهث . هو 
الرحيمى! صاحب الصورة بعد ثلاثين عاما. ولو تقدم خطوات أسرع لأمكنه الوثوب 
على مؤخرة السيارة. ولكنه لم يعرف الرقم ولا الماركة. والحسرة غير مجدية وهى فى 
حالته مضحكة أيضا. وكيف يثق فى عينيه وهو لم يشعر بالبرد فوق سطح النيل! وماذا 
يعنى الرحيمى له بعد ما كان؟ الأمل الوحيد الباقى له هو: كريمة » هى الآن سهرانه 
تفكر . وتربطهما حقيقة واحدة رغم البعد. ومع ذلك كم يحن إلى لقاء إلهام ليعترف لها 
بكل شىء . وأنبأته ساعة الميدان بانتصاف الليل فقرر العودة إلى الفندق فى ميعاده المألوف 
رغم كراهيته للفكرة . ارتعد وهو يمر أمام العمارة. وتذكر الشحاذ بصورته البشعة فتساءل 
عن المأوى الذى يؤويه . ووجد عم محمد الساوى جالسا مكان عم خليل لم يذهب بعد 
للنوم. وتذكر أنه لم يأكل ولم يشرب وأنه كان ينبغى أن يشرب قليلا من الكونياك. 
ورفض فكرة الرجوع خشية ألا يحسن تفسيرها غدا! 

وقال له العجوز: 

- التعب واضح فى وجهك! 

فأجاب بحذر: 

الدنيا برد فى الخارج . . 

فابتسم الرجل قائلا : 

- سألت عنك مرة أخرى . 

-من ؟! 
-أنت أدرى؟ ! 
إلهام! . . خرافة كال رحيمى . 
- ليس وراء بلدكم إلا التعب . 
الحياة كلها تعب» ولكن أما من جديد؟ 
أدرك أنه يسأل عن الرحيمى فقال وهو يمضى محييا : 
- سأبحث عنه غدا فى القرافة! 


11100 





اللراق ررم 
١١‏ 


غادر الفراش فى السادسة صباحا. ترى هل ذاقت النوم عيناه؟ إنه لا يذكر من ليله إلا 
السهاد. ولكن مهلا لقد حلم . 

أجل لا يذكر من الحلم سوى منظر عراك نشب بينه وبين كريمة أمام عم خليل الذى لم 
يكترث لما يجرى أمامه؛ ولكن ذلك دليل كاف على أنه نام ولو بعض الوقت. والجو بارد 
حقا ولكن فلتكن رجلا إلى النهاية وإلا فما معنى مباهاتك بأنك مجرم من سلالة 
مجرمين ! 

وأضاء المصباح فهاله أن يرى فردة القفاز فى يمناه! حملق فيها بذهول وفزع . إذن رمى 
بالقضيب والفردة اليسرى ونسى هذه! عاد بها إلى شاطئ النيل. وسار فى الحزيرة» 
وجرى وراء السيارة الكبيرة» وقطع الشارع» ولوح بها للساوى وهو يحدثه . حملق فيها 
بفزع متزايد. بقعة من الدم انداحت وسط راحتها البنية . ماذا فعلت هذه البقعة! عليك 
أن تختبر كل شىء؛ وتفحص الفراش والغطاء والملاءة» وأرض الغرفة, ثم الحذاء 
والجوارب والبدلة والقميص والمنديل» كل شىء بعناية» ولكنه لم يطمئن لشىء؛ ودار 
رأسه بالوساوس فعيناه لا تريان شيئا أما أعين شياطين الأمن فلن يخفى عليها شىء. 
وقرر أن يتخلص من القفاز فمضى به مع الفوطة والصابونة إلى الحمام؛ مخفيا فى 
جيب البيجاما مقصه الصغيره وراح يقطعه. ويرمى بكل قطعة على حدة ثم يشد 
السيفون . وهو يفعل ذلك سقط منه مرة على الأرض» فالتقطه وواصل عمله. ثم غسل 
وجهه وغادر الحمام, وفى الطرقة رأى على سريقوس أمامه فحياه الرجل قائلا : 

- صباح الخير يا سى صابر» استيقظت اليوم مبكرا. 

اللعنة! ماذا جاء بك إلى طريقى! ساكن الحجرة رقم ١7‏ استيقظ مبكرا على غير 
عادته» هذا الشىء الوحيد غير العادى يا حضرة الضابط . اللعنة. بادرة سوء ولا شك . 
وهل غسل الأرض عند موضع سقوط القفاز؟ اللعين دخل الحمام! ولما دخلت الحمام 
عقب خروجه منه رأيت أثرا يشبه الدم عند البالوعة. ولم يدخل حجرته ولم تفارق عيناه 
باب الحمام . وفتح الباب وخرج على سريقوس فلما رآه بموقفه سأله : 

أى خدمة يا سى صابير؟ 

فذهب إلى الحمام دون أن يلتفت إليهء وتفحص موضع سقوط القفاز جيدا ثم 
غادره» ولما رأى على سريقوس فى الخارج قال كالمعتذر: 

- نسيت الصابونة ! 





1 التقفراق 


فابتسم الرجل قائلا : 

- كانت بيسراك وأنت ذاهب! 

هذه هى عاقبة الاستيقاظ مبكرا قبل أن يشبع الواحد من النوم» زياط ملعون أيقظنى 
بعد الفجر وعبثا حاولت النوم من جديد. . 

ودخل الحجرة وهو يستأنف ضحكته . بداية سيئة ولكن لا داعى للمبالغة فى الخنوف . 
وأعاد تفحص ملابسه وهو يرتديهاء ورفع رأسه نحو السقف متخيلا صورة عم خليل 
فوق فراشه. وقال لنفسه ‏ رغم قشعريرة تقلص بها جسده_إن حوادث القتل تقع فى كل 
يوم وبلا حصرء ومجرد التفكير فى السفر إلى الإسكندرية جنون. ولما انتهى من ارتداء 
بدلته نظر فيما حوله متسائلا ترى هل نسى شيئًا؟ إنه غير مطمئن إلى بدلته رغم إعادة 
الفحص وسوف يكتشف الشياطين فى نسيجها ما لا يخطر ببال. وخطر له أن يرتدى 
أخرى ويذهب بها إلى مصبغة لغسلها بالبخار» ولكن فيم يلفها؟ وألا يلفت ذلك بعض 
الأنظار؟ ألا تصير موقع تحقيق بعد ظهر اليوم؟ وشعر بضيق ويأس وبخاصة لأنه رسم أن 
يغادر الفندق قبل اكتشاف الجريمة. ورأى أن ذلك أهم من البدلة نفسها. وألقى نظرة 
أخرى على الحجرة وهو يقول لها «لا تخونينى» ثم ذهب . رأى عم محمد الساوى وهو 
يصلى الصبح فجلس فى الاستراحة مع نفر قليل من النزلاء . وتناول فطورا خفيفاء وفى 
أثناء ذلك جاءه على سريقوس مسرعا وهو يقول: 

- نسيت هذه يا سى صابر . 

حافظة نقوده! سقطت بلا شك وهو يتفحص الحاكتة» وراجع محتوياتها ثم قال له: 

أشكرك جدايا عم على. . 

ونفحه بعشرة قروش فقال الرجل وهو يمضى عنه : 

وجدتها عند رجل السرير. 

الأخطاء التى اكتشفت كثيرة حقا فما عدد الأخطاء التى لم تكتشف؟ والقوة العمياء 
التى تجردك من ملابسك قطعة وراء قطعة سترمى بك فى النهاية عاريا كما ولدتك أمك . 
وأمك هى القاتل الحقيقى لعم خليل أبو النجاء وما أشبه شخيرها بشخيره فى الليلة 
الأخيرة أما الصوت الذى ند عنه عقب الضربة القاتلة فقد مضى وانقضى . وضبط رجلا 
من الخالسين وهو يدارى ايتسامة ابتسمها لدى ملاحظته فأدرك أن شفتيه تُفحصان أفكاره 
فأربكه الحرج . وكره المكان فغادره. وفى الخارج ترامى إليه الغناء المألوف كل يوم ١طه‏ 
زينة مديحى» فتذكر الصورة البشعة بتقزز ثم قال وهو يتجنب النظر ناحيته «من يدرى 
لعله سعيد بالغناء» . ويصعد عم محمد الساوى إلى السطح ويفتح باب الشقة ثم يطرق 
باب حجرة النوم . . عم خليل استيقظ؟ . . استيقط ياعم خليل . . ويدفع الباب برفق 


11101 





التقران 8 


ويختلس من الداخل نظرة. . عم خليل. . . . رباه. . يا ألطاف الله. أغيثونا. . يا 
على. . يا على. . يا هوه. . عم خليل قتل. . أغيثونا. . بوليس النجدة. قديما اختفت 
أمى فلم يعثر عليها أبى واختفى أبى فلم أعثر عليه . فليكن هذا الاختفاء الموفق نصيبى 
أيضاء وإذا انجابت الغمة وطردها النسيان فتلق كريمة بين ذراعيك ومعها كل ما تعد به 
الحياة السعيدة المطمئنة . سار على غير هدى تقوده الشوارع والمنعطفات . وكلما أجهده 
السير جلس على قهوة ليريح قدميه. لم ير ولم يسمع شيئا. ومرة ارتفع رأسه إلى الأفق 
فوق مبنى القضاء العالى فرأى مظلة كبيرة من السحب ذات أرضية بيضاء صافية تنتشر 
عليها قطعان من السحاب الداكنة فاستيقظ قاتلا : «هذه زفرة من الإسكندرية» وتحرك فى 
القلب الشجن, ثم مضى بالعين التى لا ترى والأذن التى لا تسمع . وطيلة الوقت وهو 
يشعر بحاجة حارة إلى لقاء إلهام» فلما فات النهار منتتصفه مضى إلى فتركوان وهو ينظر 
إلى كل شىء بغرابة. ولدى رؤية الفتاة مقبلة فاضت به رغبة مفاجئة فى الاعتراف . ولما 
رأته ومضت عيناها ثم صافحته وهى ترميه بنظرة زرقاء عاتبة : 

-لماذا أصافحك ما دمت تقاطعنى؟ 

وتفحصته باهتمام ثم استدركت : 

وأيضا لا تتكلم! 

- استغرقتنى المشاغل وكنت وما زلت فى غاية التعب . 

- ولا تليفون؟ 

- ولا تليفون» فلنؤجل حديث ذلك لأشبع شوقى إليك . 

وارتضيا الصمت وهما يتناولان الغداء ولكنه ظل يرنو إليها طيلة الوقت . ردد باطنه 
«طه زينة مديحى ‏ صاحب الوجه المليح» وقال إن تصميمه على هذا اللقاء عجيب. وهو 
يبدو لا معنى له إلا أن يكون ملجأ مؤقتا فى العاصفة . وهى تبتسم رغم أنها صافحت يدا 
ملوثة بالدم. ورهبة الوداع تغرى بالدمع . 


5 
-انت متعس حقا. 


فقال بفتور: 

أمس رأيته! 

فلمعت عيناها باهتمام شديد مدركة من يعنيه : 
-أخوك؟ ! 

- سيد سيد ال رحيمى . 


إذن قد انتهت مهمتك؟ 





م التلراق 


فقص عليها الحكاية فيما يشبه الضجر . فقالت: 

هناك احتمال كبير أن يكون هو. 

-وثمة احتمال أن يكون غيره . 

فتساءلت برجاء : 

- متى تعتبر هذه المسألة منتهية؟ 

-إنى أعتبرها كذلك . 

لكنك متعب حقا؟ 

مضت الأيام الأخيرة فى مقابلات متواصلة ومشاوير معقدة. 
- أناس من طرف والدك؟ 

-تعم. 

وشربا العصيرء ثم تهيأت لنغمة جديدة مهدت لها بابتسامة حيية ثم تساءلت : 
ولا تجد وقتا للتفكير فى . 

- بل أفكر فيك طول الوقت . 

ماذا قال لك التفكير؟ 

متى تعترف لها بكل شىء وتعفى نفسك من الكذب؟ 

أنت لا تتكلم» تحدثنا آخر مرة عن عمل جديد فى القاهرة! 
آه. . أنت لا تفكر إلا فى الاعتراف وعما قليل ستنفجر . 
أجل» لم أنس ذلك لحظة واحدة. 

-رغم مشاغلك؟ 

- رغم مشاغلى كلها . 

- أما أنا فأدرس الموضوع من جميع نواحيه . 

إنها آخر حصن للمقاومة فقال: 

- إلهام أنا أحبك» أحبك من كل قلبى» ولكنى كذبت عليك . 
رمقته بدهشة وهى تسأل : 

- متى وكيف كذبت؟ 

كذبت عليك بدافع حبى نفسه . 

-لا أفهم شيئا . 

- قلت لك إنى أبحث عن أخى والحقيقة أنى أبحث عن أبى؟ 


11101 





التقراق ااام 


- أبوك! 

أجل» أبى هو الذى أبحث عنه . 

- كيف فقدته؟ . . أهى حكاية كحكايتى؟ 

كلاء صدقت طول عمرى أنه ميت» وفى الساعة الأخيرة من حياة أمى اعترفت لى 

بأنه حى» وأن على أن أجده . 

وهى تحدق فى وجهه طول الوقت: 

-على أى حال ليس الأمر بذى بال. 

- لكنى رجل مفلس لا أملك إلا جنيهات » كانت أمى غنية جدا وكنت أعيش عيشة 

الوجهاء. ثم ضاعت ثروة أمى لآخر مليم» لم تترك لى سوى وثيقة زواجها وصورة 

أبى لأثبت بها بنوتى أمامه عندما أجده» وعدا ذلك فإننى لا أصلح لشىء. 

أثقل الوجوم عينيها الصافيتين. كيف كانت تكون حالها لو اعترف لها بسيرة أمه 
وماضيها على حقيقتهما؟ ! 

- أقرأ الانزعاج فى وجهك! 

-كلا ولكنها المفاجأة . 
-أنا غير جدير بك ولن أغفر لنفسى خداعك . 


عثمثا. 

-إنى أفهم جيدا لماذا كذبت على . 
-أبداء مطلقاء أحبك من كل قلبى . 
وهى تتنهد : 

-والحب هو الذى ردك إلى مصارحتى بالحقيقة؟ 
- أجل هو ذلك . 

-إذن فعذرك واضح! 

- ولكنه يطالبنى أيضا بالابتعاد عنك . 
وهى تزدرد ريقها: 

- لكن بالله لماذا؟ 

- مفلس ولا أهل لى» ولا أصلح لشىء. 





2 الققراق 


-الإفلاس لايهم فهو حال مؤقتة» والأهل لا يهمون فما حاجتنا إليهم» ولكنك 
تصلح لأشياء كثيرة . 

- أشك فى ذلك» لا شهادة لى ولا علم ولا خبرة ولا عملء» ولذلك فلا أمل لى إلا 
فى العثور على أبى . 

- وهل يغنى أبوك عن كل شىء؟ 

- أفهمتنى أمى أنه من الوجهاء ومن يشغلون المناصب الخطيرة . 

فترددت لحظات ثم قالت: 

-لكن الإعلان. . والاسم. . ودليل التليفون. . أعنى. . 

أجل» لا أصدق الآن أنه من أصحاب المناصب فهم معروفون» ولامن وجهاء 
القاهرة كذلك, ولكن ذلك لا ينفى أن يكون من وجهاء هذا الإقليم أو ذاك. . 

- ثم إنك لمحته أمس؟ 

ذلك ما خيل إلى» ولكنى لم أعد أثق بشىء . 

- وحتى متى تنتظر؟ 

- يجب ألا أضيع وقتى فى البحث أو الانتظار. 

| 0 

-لا أدرى» السبل مسدودة فى وجهى ١‏ ولكن على أن أرجع إلى بلدى فأبحث عن 
وهى تعض على شفتيها : 

- وتقول إنك تحبنى ! 

-نعم. . بكل قلبى . 

- وتفكر فى الذهاب أو الانتحار؟ 

- السبل مسدودة لحد الاختناق . 

- لكنك تحبنى . . وأنا أيضا أحبك . 

قال بوجه متقلص من الانفعال والحزن : 

-أنا لا أصلح لشىء فكيف أصلح لك؟ 

الصبرء لن أتخلى عنك . 

- لكن ما الفائدة» كنت أحلم بالعثور على أبى ولذلك أدخلتك فى حلمى بلا 
حسات: 

العمل ! هو الذى يحل مشكلتنا . 


11100 





اللظران 3214 


- قلت إننى لا أصلح لشىء . 

- أعطنى فرصة للتفكير وسوف تسير الأمور كما نود. 

والجرية التى ارتكبت! لا يجوز بحال أن تسير الأمور كما تود» يجب أن يكون وقت 
ذلك قد فات. كيف لم يأت الاعتراف بالنتيجة المدمرة! والضحك من الآن إلى نهاية 
العمر لن يكفى . 

-لن تسير الأمور كما نود. 

فقالت بحزم : 

- أمهلنى يوما أو يومين» لا تتخذ أى قرار قبل الرجوع إلى» أنا أعرف ما أريد. . 

قل لها ماذا كانت أمك . قل لها ماذا فعلت أمس . قل لها إنك تزوجت من أخرى 
بوثيقة من دم . قل لها إنك تود أن تصرخ حتى تصدع أركان الأرض . 


١ 


ها هم عساكر البوليس وهاهى اللمة. كما تخيل تماما طيلة النهار. وإذن فقد انتهى 
الرجل واكتشفت الجريمة والبحث دائر عن المجرم» ولا مفر من التقدم فأسكت هذه 
الرعدة وتمالك نفسك حتى الموت . لتنس النظرة الغائبة التى ألقاها عليك الرجل» إلى 
الأبد. ولا تسل عن الصوت الذى ند عنه . والعودة إلى الفندق شاقة مرعبة كالاعتراف . 
حتى الخطة التى نفذت نوقشت من جديد كأن لم تنفذ بعد. كان يجب أن تغادر الفندق 
قبل يوم الجريمة بأسبوع . لم يكن الشيطان نفسه ليفكر فيك ولكنك لن تجنى من الهلوسة 
إلا الحسرات. ومن يصدق أنه حتى فى غمرة هذا الفزع الشامل لا يكف صوت الشحاذ 
عن المديح! وشق طريقه خلال المتطلعين حتى اعترضه عسكرى فقال بدهشة : 

ماذا حدث؟ أنا من نزلاء الفندق . 

وظهر عم محمد الساوى على عتبة الفندق بوجه شاحب استقرت فى صفحته 
صورة دميمة للفزع فأشار إليه قائلا بصوت لا يكاد يسمع : 

-دعه يدخل . 

سأله بلهفة: 

-ماذا حدث يا عم محمد؟ 


فأجاب الرجل ووجهه يتقلص تقلص البكاء : 





م قرا 


- قتل عم خليل! 

دققل! 

- وجد مقتولا فى فراشه لعنة الله على المجرمين . 

رأى فى المدخل عساكر ومخبرين» وفى مكان عم خليل جلس المحقق وإلى يمينه - 
على كرسى كرية المعتاد ‏ رجل آخر . وكان شاغل كرسى عم خليل عاكفا على أوراق بين 
يديه وقد جلس وراء المكتب من الناحية الأخرى أحد النزلاء . وذكره الجالس مكان عم 
خليل بصورة أبيه المتخيلة . وأوشك اهتمام مفاجى أن ينتزعه من دوامة الاضطراب التى 
اجتاحته ولكنه ما لبث أن تبين شباب الرجل النسبى واختلافه عن الصورة عند التحقيق 
فوضح له سخف مخيلته. هل يقف أو يمضى إلى حجرته؟ وبعد تردد قصير شرع فى 
السير إلى الأمام ولكن الجالس مكان كريمة أوقفه بإشارة من يده قائلا : 


انتظر من فضلك فى الاستراحة. 

ذهب إلى الركن الأيمن حيث جلس بعض النزلاء فجلس معهم وهو يسأل : 

ماذا حدث؟ 

وجد عم خليل مقتولا. 

- ولكن كيف؟ 

-من يدرى! وجاء المحققون» وحجزنا جميعا للتحقيق» وحصلت المعاينة كما حصل 
تفتيش شامل . 


وارتفع صوت بكاء مكتوم جذب عينيه إلى ركن الاستراحة الأيسر فرأى كريمة! رآها 
جالسة بين امرأة عجوز فى السبعين ورجل يكبرها بأعوام. كيف لم ينظر صوبها وهو 
داخل؟ وماذا يجدر به أن يفعل؟ وبعد تردد نهض إليها ثم قال بصوت خافت: 

-شدى حيلك. البقية فى حياتك . 

لم تنبس بكلمة وظلت مخفية وجهها بين يديها فرجع إلى مجلسه وهو يهز رأسه 
أسفا. ترى هل أخطأ أو أصاب بهذه الحركة؟ وهل يمكن أن تشبه المرأة العجوز أم بنت 
الأنفوشى؟ وماذا يدور فى أذهان المحققين؟ هل سألوا عن ساكن الحجرة رقم 7١؟‏ هل 
بدأت التحريات عنه؟ هل يفهمون المجرمين كما يفهم هو بنات الليل؟ وكرههم جميعا 
لدرجة الموت . ونظر إلى الجالسين متسائلا : 

-وبعد؟ 

- أنت لم تنتظر إلا دقائق ونحن على هذا الحال منذ الصباح . 

-هل سألوا النزلاء الآخرين؟ 


11100 





القلراق 1 


- نعم» وتركوهم يذهبون» ولم يأت دورنا بعد» وسألوا الزوجة وأمها وخالها. 

- لكنها لم تكن موجوهدة فيما أعلم . . 

وندم على تسرعهء ولكن رجلا قال: 

-ولو! وحصلت مفاجأآت ففى الحجرة رقم 5 ضبطت كمية ضخمة من المخدرات 

فقبض على صاحبهاء وفى الحجرة رقم " عثروا على لص محترف . . 

-آه. . لعله. . 

- هذا جائزء كل شىء يتوقف على سبب الجرية . 

-لاشك أنه السرقة. . 

وندم على تسرعه مرة أخرى» يحسن به أن يتجنب الأخطاء . هل وجدوا دليلا أو شبه 
دليل فى حجرة عم خليل أو فى حجرته؟ 

لا يبدو أن أحدا منهم يهتم به. وكم يود أن يخلو ولو دقائق إلى كريمة . احذر أن تنظر 
نحوها. لديها بلا شك ما يستحق أن تخبره به. ليس الأمر كما تخيل. أجل ليس الأمر 
كما تخيل . اللعنة. . متى يخرس الشحاذ البشع؟ فى مثل هذا الوقت من كل شهر أذهب 
لزيارة أمى . سرقت نقود وحلى . أغلق على سريقوس النوافذ أمام عينى ثم أغلقت الشقة 
بنفسى . . لا. . لا أعرف له أعداء. لماذا ذكرنى هذا الرجل بصورة أبى؟ ! 

وإذا برجل يقول: 

ومع ذلك فنحن أبرياء فكيف يكون اضطراب المذنبين! 

- وأكثر من هذا فمجرد خطأ فى التعبير قد يجلب متاعب لا حد لها . 

ولكن لم يشنق برىء قط . 

-أوووه.. 

ولكن قد ينجو مذنب. أمك والرجل الهارب إلى ليبيا. والعودة إلى الفندق محض 
جئون فخطة أخرى هى ما كان يلزمك . وكالقضاء اعترضت مسعاك الخائب كرية . 
وحاجتك إلى أبيك لم تنقض كما توهمت ولكن الخطر يزيدها إلحاحا. 

واستدعوا تباعا. وأخيرا وجد نفسه جالسا أمام المحقق . 

كرهه من أعماقه ثم صمم على الانتصار عليه . 

صابر سيد سيد الرحيمى . 

وقدم بطاقته فتصفحها الرجل بعناية : 

-نزلت فى هذا الفندق منذ شهر تقريبا وهو مسجل فى الدفتر. 

كلاء لا يشبه الأب فى شىء وإن يكن ذكره به عند النظرة الأولى . 





وم الققراق 


- استيقظت كالعادة فارتديت ملابسى ونزلت إلى الاستراحة ثم تناولت الفطور 
ودهبت . 

- ليس كالعادة تماماء استيقظت مبكرا . 

-لا أستيقظ عادة فى وقت محدد» وقد استيقظت مبكرا أكثر من مرة . 

قال الخادم إنك استيقظت هذا الصباح مبكرا بخلاف عادتك . 

- لعله لم يرنى فى المرات السابقة . 

- ألم تسمع شيئا غير المألوف فى الليل؟ 

-كلاء غغت عقب عودتى فلم أستيقظ إلا فى الصبح . 

- ألم يلفت نظرك شىء عقب استيقاظك؟ 

-كلا. 

-متى رأيت الخادم على سريقوس؟ 

عند خروجى من الحمام مباشرة . 

- ألم تلاحظ عليه شيئا؟ 

كلاء» كان كعادته كل يوم . 

-وأنت ألم يحدث لك ما يستحق الذكر؟ 

-كلا. 

ألم تنس حافظة نقودك؟ 

-بلىء حدث هذا حقاء وأتانى بها على سريقوس فى الاستراحة . 

- وكيف كان وقع ذلك فى نفسك؟ 

-سررت بطبيعة الحال. 

وماذا أيضا؟ 

لشي 

ألم تدهشك أمانته؟ 

-ربماء لا أدرى بالضبط» ولعلى لم أفكر فى ذلك . 

من الطبيعى جدا أن تفكر فى ذلك . 

لعلى دهشت بعض الشىء . 

-بعض الشىء؟ 

- أعنى دهشة عادية . 


11100 





فرق 
-ما رأيك فى مدى أمانته؟ 
- لم ألاحظ عليه ما يسوء. 
- وأين أمضيت الوقت فيما بين ذهابك وإيابك؟ 
أتجول هنا وهناك كيفما اتفق . 
- بلا عمل وهذا مفهوم من البطاقة . ولكن بلا أصدقاء؟ 
- لا أصدقاء لى هنا. 
-وأمس متى غادرت الفندق؟ 
حوالى العاشرة صباحا . 
-ومتى رجعت إليه؟ 
عند منتصف الليل . 
لم ترجع فى أثناء النهار كما فعلت اليوم؟ 
-كلا. 
- وهل سبق لك أن فعلت ذلك؟ 
كيف خرقت مألوف سلوكك أمس خخلافا للخطة؟ ! 
- مرة أو مرتين؟ 
لا يتذكر أحد هنا ذلك . 
- ولكنى أتذكره! 
-مرة أو مرتان؟ 
-الأرجح مرتان! 
- وكيف تقضى هذا اليوم عادة؟ 
-فى التجول وأنا رجل غريب وكل مكان فى المدينة بالنسبة إلى جديد. 
وماذا وجدت عند عودتك؟ 
-قابلت عم محمد الساوى فى هذا المكان» وعلى سريقوس أمام باب حجرتى . 
- كيف وجدته؟ 
- سألنى إن كنت فى حاجة إلى خدمة ثم ذهب . 
ألم يصادفك أحد من النزلاء؟ 
-كلا. 
- وكيف أمضيت أمس من الساعة العاشرة صباحا حتى منتصف الليل؟ 


7 





م اللقرا 


- تجولت فى الشوارع حتى موعد الغداء . 

- وأين تناولت الغداء؟ 

- فى بقالة الحرية بكلوت بك . 

- مكان غريب بعض الشىء لرجل من الأعيان. 

طفح بالكراهية للرجل وهو يقول: 

اهتديت إليه أول عهدى بالمدينة وأنا أتخبط فآنست إليه . 
وبعد ذلك؟ 

- مشيت على شاطىئ النيل . 

-فى هذا الجو؟ 

وهو يضحك: 

أنا إسكندرانى . 

-ثم؟ 

فتركوان. . لاء حتى لا يجر إلهام» وفيلم مترو رأيته فى الإسكندرية. 
دخلت سيئنما مترو. 

-متى؟ 

- من الساعة السادسة . 

- أى فيلم؟ 

داقوك الفيهانت 

وبعد التاسعة؟ 

تجولت كالعادة. . وركبت بص مصر الجديدة إلى نهاية الخط لمجرد قتل الوقت . 
قتل! . . لماذا اخترت هذه الكلمة المرعدة! 

- وأين تناولت العشاء؟ 

آه. . حذار. . 

- فى سينما مترو تناولت شطائر وحلوى . 

ألم تقابل أحدا؟ 

كلا . 

- لم تعرف أحدا فى القاهرة؟ 

-كلا. 


1110 





اللظقراقٌ مومع 


ثم بعد لحظة تردد: 

-اتصلت بمدير الإعلانات بجريدة أبو الهول لعمل لكنها ليست علاقة معرفة بالمعنى 

المفهوم . 

أخطأت؟ . . هل يقحم ذلك إلهام؟ 

-لماذا انتقلت من الإسكندرية إلى القاهرة؟ 

- زيارة سائح. . 

لعل هذا الفندق غير جدير بإقامة سائح من الأعيان؟! 

-هو جدير بالناحية الاقتصادية . 

- يبدو أنك لست من الأغنياء! 

دبل : 

-ولاغاية لك من الزيارة إلا السياحة؟ 

الحلقة تضيق . والكذب غير مجد فى هذه النقطة . وأنت لم تفكر فى هذه الأسئلة عند 
وضع الخطة. 

-ولدى مهمة خاصة. 

أمن الممكن أن آخذ عنها فكرة؟ 

- مهمة عائلية . 

- حدثنى عن أملاكك؟ 

مجرد نقود. . 

لا عقار ولا أطيان؟ 

مجرد نقود. . 

-ومحل إقامتك بالإسكندرية كما هو فى البطاقة أم تغير؟ 

آه. تحريات . النبى دانيال . الكنار الليلى . بسيمة عمران. سوف تطاردك الشبهات 
بالوراثة . 

كما هو بالبطاقة . 

- وأموالك فى أى بنك؟ 

-بنك؟ 

- فى أى بنك تودع أموالك؟ 

- ليست فى أى بنك . . 





1 اللظراق 


-أين تودعها؟ 

- فى. . فى جيبى . 

جيبك؟! ألا تخاف عليها السرقة؟ 

أجاب بيأس وحقد مكتوم : 

- لم يبق منها إلا القليل . 

- ولكن فى بطاقتك ما يدل على أنك من ذوى الأملاك . 

وماذا أعددت لمستقبلك؟ 

لا تتردد طويلا. سأتحداك بالصدق. أو رغم الصدق. 

- كنت أبحث عن أبى » وهذا هو مستقبلى . 

تبحف عن أبيك؟ 

أجل» انفصلت عنه وأنا فى المهد. ولذلك قصة عائلية لا أهمية لذكرهاء ولما 
أفلست لم أجد بدا من البحث عنه. 

- أليس لك أى فكرة عن مكانه؟ 

كلاء والإعلان فى الصحف هو آخر ما عمدت إليه من وسائل البحث . 

- ولعل ذلك هو السبب الحقيقى فى انتقالك إلى القاهرة؟ 
-لعله! 

- وحتى متى تكفيك نقودك؟ 

- شهر على الأكثر ! 
.- 3 

ا 

أعطاه المحفظة بوجه يحمار ويحتقن ثم استردها بوجه عابس . 
- وإذا نفدت نقودك؟ 

-ماهى مؤهلاتك؟ 

- لا مؤهلات! 

- أى نوع من العمل؟ 

- عمل تجارى . 

-هل تظن البحث سهلا؟ 


111 0 





القلرا نا 


-لى أصدقاء فى الإسكندرية» ولن أجد صعوبة فى الحصول على عمل . 
أأنت مدين للفندق؟ 

-كلاء ولقد دفعت أجرة هذا الأسبوع مقدما. 
- وكيف اهتديت إلى هذا الفندق؟ 

- صادفته وأنا أبحث عن فندق رخيص . 

- ألم تكن تعرف فيه أحدا من قبل؟ 

اام ! 

- ولكنك عرفت فيه الكثيرين ولا شك؟ 
-عم محمد الساوى وعلى سريقوس . 

- وعم خليل . . أعنى المرحوم خليل أبو النجا؟ 
طبعا. . 

- ماذا ترك فى نفسك من أثر؟ 

-رجل عجوز جدا وطيب جدا. . 

ومع ذلك فقد وجد من قتله بلا رحمة . 

- أمر محزن جدا. . 

أكنت تعرف أين يقيم؟ 

اللعنة والمقت ولكن حذار من الكذب . 

- فى شقة فوق السطح فيما أظن. . 

- لست متأكدا؟ 

كا 

- كيف عرفت ذلك؟ 

- على سريقوس أخبرنى. . 

-أم أنك أنت الذى سألته؟ 

00 

-ترى لم سألته؟ 

لا أذكر الآن بالضبط ولكن العادة جرت بيئنا بالدردشة كلما جاءنى لخدمة ما. . 
- ألم توجه إليه أسئلة أخرى؟ 


خفق قلبه بعنف أليم وهو يجيب: 





ا التلراق 


-ربماء لا أذكر سؤالا على وجه التحديد» كانت مجرد ثرثرة . 

وشعر بأنه يدفع إلى شر يصعب التخلص من عواقبه ولكن الرجل سأل : 

- حتى متى تبقى فى القاهرة؟ 

-حتى أعثر على أبى أو أجد عملا أو تنفد نقودى . 

أشعل الرجل سيجارة فى صمت معذبء وتفكر ملياء ثم سأله : 

- أليس عندك أقوال أخرى قد تفيد التحقيق؟ 

كلد 

- قد نحتاج إليك فيما بعد فلا تسافر قبل أن تخطرنا. . 

- بكل سروريا فندم. . 

لم تكن خطة كاملة . هى خطة بلهاء . ومحاولة الهرب جنون. وسوف ترصدك عين 
لا تغمض . وعليك أن تستعيد كل سؤال وكل جواب لتعرف حقيقة مركزك . 


١ 7 


مركزك غامض كالموت . غير بعيد أن تكون الآن محور بحث وتحر. وغير بعيد أن 
تكون الآن هدفا لعين أو أكثر. ولن تدرى بما يدور حولك . كعم خليل قبل أن تهوى عليه 
ضربتك . حذار أن تأتى حركة مريبة واحدة. الفندق خير منك فقد استعاد هدوءه. رائحة 
الموت طردت كثيرين من نزلائه ولكن غيرهم يجيئون. والاستراحة باردة برود القبر 
وليس فى الجرائد اليوم من جديد وها أنت تقرأ الجريدة كبقية الناس. هاهم 
يعودون إلى أحاديث القطن والعملة والحرب . والهواء يصفر فى الخارج كالعويل 
والشحاذ يرتفع إنشاده مضجرا سقيما فيا لإلحاح الشحاذين! 

ولفت سمعه وقع أقدام فى مدخل الفندق فرأى عم محمد الساوى واقفا يستقبل 
كرية . انتفض باطنه . وجلست المرأة وأمها العجوز أمام الرجل . أجاءت لتتسلم إدارة 
الفندق؟ هل تلتقى عيناهما الآن أو بعد لحظات؟ حضورها رد إليك روحك الهاربة فمتى 
تغفل عنا العيون؟ سوف تبلغك رسالة بطريقة ما وليست الرحمة ببعيدة . وهى فى السواد 
أشد إثارة وما أحوجك إلى العزاء الساخن . ويدور بينها وبين الرجل حديث ترى ما 
أهميته غير الخافية؟ وسمع عم محمد الساوى وهو يقول: 

- ولا أدرى متى يسمح بدخول الشقة. . 


111 00 





اراق 4 


تود أن تعرف مقرها ولكن من الجنون أن تتبعها . كيف فاتك أن تسألها عن عنوان أمها 
وأتتما تضعان الخطة الكاملة؟ يجب أن تفكر فى الاتصال بك تليفونيا. وأن تذكر 
حاجتك الماسة إلى النقود. 

تليفون يا سى صابر . 

آه. . ماذا يريد التليفون. هل يحسن الرحيمى فن السخرية . تناول السماعة بيسراه 
وهو يمد يمناه إلى المرأة قائلا : 

- أكرر العزاء يا هام . 

تلقت يده شاكرة دون أن ترفع إليه عينيها. وجعل ظهره للساوى وعينيه لها طول 
المحادثة . 

-أنا إلهام . 

لم لم تكن الرحيمى؟ ولم كان هذا الفندق بالذات؟ أجاب : 

-أهلا. 


- أأنت بخير؟ 
“انيرا 


-لم تحضر أمس . 

-آسف» بعض التعب. 

فلنؤجل الحساب ولكنك ستحضر اليوم؟ 

-ليس اليوم» عندما أشفى من الزكام . 

-لن أضايقك» أنت تعرف المكان والزمانء إلى اللقاء . 

-إلى اللقاء . 

وأغلقت الخط ولكنه أبقى السماعة على أذنه كأنما الحديث ما زال متصلا. وظل ينظر 
إلى كريمة حتى صاد عينيها فقال : 

- يجب أن تتصلى بى بأى وسيلة»ء بالتليفون على سبيل المثال. 

حولت عنه عينيها ولكن خيل إليه أنها فهمت لعبته . قال: 

-أريد أن أعرف أشياء كثيرة» لاا شك أنك تدركين موقفى تماماء لا بد من التفاهم 

بوسيلة ماء ولا تنسى أن نقودى تنفد بسرعة. . 

رمقته بنظرة سريعة محذرة فقال : 

- إنى مدرك تماما لجميع المصاعب ولكنك لن تعدمى حيلة ذكية . 

عاد إلى مجلسه مضطربا ولكنه ظفر بشىء من الارتياح . وما لبثت كرية أن ذهبت 





10 اللقراق 


متبوعة بأمها. واقتحمه إحساس غامض بأنها تختفى إلى الأبد. وقال إنه بدونها جرية 
بلاهدف. ولبث فى الاستراحة على أمل أن تتصل به بالتليفون. ومر وقت عقيم . وترك 
اختفاؤها وراءه جحيما من الرعب» وخلت الاستراحة من النزلاء فرأى عم محمد ينظر 
نحوه فتبادلا تحية مجاملة . وسأله الرجل . 

ماذا يبقيك وحدك؟ 

- الزكام! تناولت أسبرينه وسأذهب إذا شعرت بتحسن . 

وهو ينتقل انتقل إلى الكرسى الذى جلست عليه كريمة من قبل . ترى أين يقبع المخبر؟ 
وقال: 

-كم خيب هذا التليفون أملى . 

-آه. . الغائب سره معه. 

فرنا إليه برثاء قائلا : 

الحق أنك تعرضت لتجربة قاسية . 

تقلص وجه العجوز وهو يقول: 

لا أراك الله ما رأيت! 

- لااشكء أنه كان منظرا فظيعاء أنا لم أر ميتا قطء حتى جئة أمى أغمضت عينى وأنا 

أقرأ عليها الفاتحة . . 

ومع ذلك فالميتة شىء والقتل شىء آخر . 

أجل . . القتل. . الدم. . الوحشية. . 

وحشية تستحق اللعنات الأبدية . 

- إن أتساءل أى سبب يبرن الققل ؟ 

- نعم » أى سبب؟ ! 

- والقاتل . . أى إنسان هو؟ 

- من كان يصدق أن يتصورهء رأيت قبل ذلك قاتلا . . صبى بقال. . وطالما ظئنته 

وديعا كالحمام. . 

عجبت حقا! 

- ولكن أين المفر؟ 

- صدقت أين المفر؟ وعما قريب سنسمع بالقبض عليه . 

حدجه العجوز بنظرة حزينة ثم قال: 

- لقد قبض عليه بالفعل . 


1110م 





- من ؟ 

القاتل. 

- القاتل! لم نسمع ولم نقرأ. 

هز رأسه هزة العارف دون أن ينبس : 
- ولكن من هو؟ 

- على سريقوس . 

ذلك الأبله؟ 

دكفين البقال؟ 

لذلك لم أره اليوم ولا مساء الأمس؟ 
دلبرجمد الله 

- وهل علمت بذلك زوجة المرحوم؟ 
مها 

د الإلسان لقو 

ضبطوا عنده نقودا. 

-ربما كانت نقوده؟ 

- لكنه اعترف بالسرقة» لهم وسائلهم . 
واعترف بالقتل؟ 

-لا أدرى. 

لكنك قلت إنهم قبضوا على القاتل! 
-هو ما قالت كرية. 

أيعنى هذا أن السرقة كانت الباعث على القتل؟ 
- أظن ذلك . 

- كان بوسعه أن يسرق دون أن يقتل . 
الراجح أن المرحوم استيقظ فاضطر إلى قتله . 
- كان طيبا لدرجة البلاهة . 

-الإنسان كما قلت لغز. 





6 اللراق 


- أكثر من لغز . 
- أتدرى أن الشحاذ الذى نسمع مديحه النبوى كل ساعة كان فى شبابه فتوة داعرا؟ 
- ذلك الرجل! 
- ثم فقد كل شىء من قوة ومال وبصر فتسول . 
- ولكن على سريقوس عثر على حافظة نقودى صباح الجريمة فأتانى بها . 
لعله أمكر ما نتصور. 
هل تقع المعجزات بهذه السهولة أو هو بنيان من الأوهام يقوم على لا شىء؟ 
أما كان الأجدر به بعد ذلك أن يهرب؟ 
-الهرب اعتراف . 
- وكيف يخفى المسروقات فى حجرته؟ 
- ربما ضبطت فى بيته . 
- تهريبها إلى بيته لا يقل غباء . 
تللق سكية ويفا 
- عندما قابلنى فى الصباح قبل اكتشاف الجريمة كان هادئا لطيفا كعادته . 
- من الناس من يقتل القتيل ثم يمشى فى جنازته . 
الثبات . احذر أن تفضح أطرافك اضطرابك الخفى . قد يوافيك التليفون بضوء . وعاد 
العجوز يقول : 
كنت أول من حقق معه. 
-أنت! 
- طبعاء فأنا آخر من كان معه ليلا وأول من دخل شقته صباحا . 
- ولكن من يتصور. . 
- تلقيت سبيلا من الأسئلة . وكنت أغلقت الباب بيدى» وكانت النوافذ مغلقة» 
ولكن وجدت نافذة مردودة دون إغلاق . 
لعلها نسيت . 
أكدت الزوجة أن جميع النوافذ مغلقة . 
-هل كسرها على سريقوس؟ 
- غير معقول فالكسر حقيق بأن يوقظ النزلاء لا المرحوم فحسب . 
- لعله طرق الباب ففتح له الرجل . 
0 111 





اللياق ع 


- ولماذا يفتح النافذة؟ . . ثم إنه لم يكن بوسع الرجل أن يغادر فراشه» وقد قتل وهو 

ناكم عليه . 

ونظرة عينيه . . وصوت الصمت . 

-ربما تمكن من الاختفاء فى الداخل . 

أبداء لقد غادر الشقة قبلى وأنا من أغلقها . 

-لعله. . 

ماتت بقية الجملة إذ خنقها الرعب . أوشك أن يقول لعله تظاهر بإغلاق النافذة دون 
أن يغلقها. مع أن المفروض أنه لا يعلم بأن على هو الذى أغلق النوافذ. ورغم نحاته فقد 
ثلج من الرعب وتساءل العجوز : 


لعله ماذا؟ 


-ربماء ولكن لم فتح النافذة؟ 

الراجح أنها نسيت مفتوحة. . 

- الله أعلم . 

كانت محنة لك ولكنك رجل طيب . 

- لا أدرى كيف تركونى ولكنهم يحسنون عملهم . 

والجرائد سكتت فجأة. لا كلمة اليوم عن الجرية . 

- الله يرحمك ياعم خليل . لقد عرفته منذ ستين عاما . 

نا 

- جاوز الثمانين. 

- ومتى تزوج؟ 

- منذ عشرة أعوام . 

- لكنه زواج عجيبء أليس كذلك؟ 

- لقد تزوج فى شبابه وأنجب» ثم ماتت أسرته جميعاء ولبث أرمل عمراء حتى تمت 
مشيئة الله»ء وكان يحبها كأب قبل كل شىء . 

هذا هو المعقول. 

- كان رجل جد وعمل» وكان محسناء ساعدنى فى تربية أولادى الله يرحمه . 
- وكيف تزوج منها؟ 





6 القلراق 


- كان يسافر إلى الإسكندرية لبعض الأعمال. 
فقاطعه: 
أهى من الإسكندرية؟ 
-كلاء كان عند كل رحلة يقيم أياما عند صاحب له فى طنطاء وكانت هى 
متزروجة. . 
- متزوجة؟ 
من ابن خالتها شاب بلطجى وضيع . وقد رآها عند صاحبه آه. . لقد تكلمت أكثر 
مما ينبغى . 

- ولكن كيف تزوجها؟ 

طلقت من ابن خالها فتزوجها. 

- وتزوجت من رجل فوق السبعين! 

لم لا؟. . لقد وفر لها الاحترام والطمأنينة . 

فقال بذهول : 

- والسلام! 

وجعل يتذكر كلمات أمه الأخيرة» ثم تساءل: 

- ولكن البلطجى لا يطلق زوجة حسناء فكيف طلقها ابن خالتها؟ 

لكل شتى عالمقه. : 

ورمش الرجل كالنادم على تسرعه . فقال صابر: 

- ذلك ماض قد مضى . . 

- لكنى أتكلم أكثر مما ينبغى» والحق أننى كثيرا ما أهذى مذ رأيت دمه. . أستغفر الله 

العظيم . . 

00 جارية سوقية. وزوجة رجل فانء» مدبرة جريمة رهيبة» خالقة 
لذات جنونية. معذبتك إلى الأبد. ومجرد وهم لا أساس له ساقك إلى فندقها 
الدامى» ثم رمى بى إلى برائن هذه الحيرة القاتلة . كالوهم الذى دفعك تجرى وراء سيارة 
كالمجنون:. 


11100 





١ 


قهوة مضاعفة لتفيق من الأرق . ونظر إلى التليفون خلال سحب الدخان المتصاعدة 
من سجائر النزلاء . وتساءل متى تتكلم كريمة . وهطلت السماء فى الخارج بغزارة دقائق 
معدودة ثم أشرقت السماء ولكن الطريق غشاه الوحل . كريمة صامتة كالموت كأنها لا 
تدرى عذابه . وأنت تشرب أردأ أنواع الأنبذة وتسهد فوق فراشك حتى الفجرء وتحلم 
حتى يخيل إليك أن النزلاء يسمعون صراخك,. وإذا تدهورت صحتك فلن يخفى ذلك 
عن عين الرقيب» أما كريمة فلا يهمها شىء . 

وأستأذن فى الجلوس إلى ترابيزته لازدحام الاستراحة ‏ قادم لعله الوحيد الذى بقى 
من النزلاء الذين عاصروا يوم الجريمة فأذن له وهو كاره يتوجس ثرثرة مزعجة . وصدق 
توجسه إذ قال الرجل : 

- قبضوا على القاتل . 

فقال صابر مخفيا انزعاجه بابتسامة : 

سمعت ذلك . 

- على سريقوس؟ 

- نعم . 

حبك العباءة حول جسده وقال: 

مجرد سرقة لا كما ظننت. 

وماذا ظننت؟ 

-الحق أنى سيئ الظن بالنساء؟ 

حدجه بنظرة مستطلعة فقال الرجل : 

- زوجة جميلة وشابة وسوف ترث تركة لا بأس بها . 

فقال صابر وهو يشد على أعصابه : 

- دار برأسى نفس الخاطر . 

فضحك الرجل قائلا : 

- بعض الظن إثم . 

- ألم يدر ذلك برأس المحقق؟ ولكن كريمة صامتة كالموت . وهذا التليفون لا يحقق 





6 اللري 


رجاء قط . والبرد والمطر والوحل لم تسكت صوت الشحاذ. وناداه محمد الساوى 

وهو يشير إلى السماعة فهرع إلى التليفون بتوسل معذب : 

دالو : 

- صاير؟ 

لم يتخيل يوما أن صوتها بهذه الخيبة : 

- إلهام . . كيف حالك؟ 

أضايقك؟ 

- أبداء سترين أنه المرض وسوف أنتظرك اليوم . 

إن قطعها بلا تمهيد لفوق الطاقة ولكن ما أيسر أن يجعلها هى القاطعة. يجب أن 
يبعدها عن وحل طريقه ولو بجراحة أليمة. وهاهى لا تدرى شيئا عن أفكاره فتبتسم فى 
عتاب وتطالعه بصفاء لا يكدره شىء . آه. : كيف يمكن أن يحبها ذلك الحب العميق 
الصادق! . . وتصافحا بقوة وهى تقول: 

ألا تشعر بالذنب؟ 

وتوقف عن الكلام وهى تنزع قفازها وتجلس قائلة بقلق : 

شد ما أثر فيك الزكام! 

- بل إنفلونزا خبيثة . 

ولا أحد يعنى بك؟ 

لا أحد ألبتة . 

ءال انار طيا؟ 

-كلا. . وقد شفيت من المرض ولم يبق إلا ظله . . 

ومضيا يتناولان الطعام وهى تنظر إليه أكثر الوقت . 

- فكرت أكثر من مرة أن أزورك . 

أحمد الله أنك لم تفعلى. . 

هزت منكبيها ولكنها لم تناقشه ثم قالت بابتهاج : 

- أما أنا فلم أضيع دقيقة واحدة. 

ستسمعك لحنا جميلا بعد أن أصابك الصمم . 

-إنك ملاك . 


1110م 





التلراق ا 


- ألا تصدقنى! إذن فاعلم بأنك ستبدأ حياة جديدة» أو أننا سنبدأ حياة جديدة» ما 
رأيك؟ 
طارد فتوره إكراما لها وقال: 
- رأيى أنك ملاك وأننى حيوان كسيح . 
- رأس المال الذى تحتاجه تحت أمرك! 
- رأس المال! 
-نعم» هو ما اقتصدته للمستقبل » وثمن بعض حلى لا أستعملهاء ليس ضخما 
ولكنه يكفى». استشرت زملاء خبيرين» أؤكد لك أننا سنبدأ فوق أرض ثابتة . 
-آه. . ليس لجنا جميلا فحسب . معجزة أيضا. هل كنت تحلم بذلك! . . رأس مال 
بلا سرقة ولاجريمة. ومعه الحب الحقيقى . إذن رد الحياة إلى عم خليل واستيقظ من 
الكابوس! وتأوه بلا صوت: 
- إلهام. . كلما غمرتنى بنبلك زاد اقتناعى بأننى غير أهل بك . 
-لاوقت للشعر! 
هى فى غاية السعادة والحماس . وإطفاء شعلتها سيكون جريمتك الثانية . لكنها تمد 
يدها لتقطف ثمرة غير موجودة. ولم يجر لك فى بال أنه يمكن حل مشكلتك بهذه 
السهولة. ها هو الحب والحرية والكرامة والسلام فأين أنت! ولماذا لم تقع المعجزة قبل 
الجريمة؟ 
- فيم تفكر؟ توقعت أن تفرح! . . أن تفرح كثيرا! 
لم يبق إلا أن تصدمها بالحقائق لتشفى . قال متنهدا : 
- قلت لك إننى لست أهلا لنبلك فلم تصدقينى . 
- توقعت أن تفرح . 
-فات الوقت . . 
ديازين :انك لاح 
- إلهام. . الأمور معقدة جداء أنا أحببتك من أول نظرة ولكن من أنا؟ 
- لا تحدثنى عن أبيك ولا فقرك ولا عدم صلاحيتك . . 
أنت تعذبينئنى لأنك تشطريننى شطرين . والوسيلة الوحيدة لشفائك أن أصدمك 
بالحقائق . 
- لعلك ما زلت مريضا! . . إنك أمامى ولكننى أتساءل أين صابر؟ 





104 اللظرنن 


- أود ألا تتساءلى اليوم وألا تتكدرى. . 

- إن كنت مريضا. . 

-كلا. . ليس المرض . 

إذن فما هو؟ لماذا قلت فات الوقت؟ 

أقلت ذلك؟ 

- منذ ثوان! 

- أنا أعنى شيئا واحدا بكل إصرار وهو أننى غير أهل لك . 
- أرفض هذا السخف : أنت تعلم أننى أحبك . 
- وهذه هى جريتى» نحن للأسف لا نفر أمام الحب إلا فى الحب فقط . 
ولماذا هى جريمة؟ 

لأنه كان يجب أن أقدم لك نفسى على حقيقتها . 
- فعلت ذلك وقبلتك . . 

د وعدتتلة عن أبى ولكدى ١‏ : 

ثم واصل بمرارة: 

- ولكننى لم أحدثك عن أمى ! 

رمقته بنظرة مستنكرة وهى تقول : 

-أنا أحبك أنت ولا دخل للماضى فى ذلك . 

- يجب أن تصغى إلى . 

- بالله دعها ترقد فى سلام . 

الإسكندرية كلها تعرف ما سأحدثك عنه . 

- لنحذف الإسكندرية من خريطتنا. 


قال وسطلقة فسن بالمراة 

لقد ختمت حياتها فى السجن ! 

حملقت فى وجهه كأغا تنظر إلى مجنون فقال: 
-أرأيت؟ 


ثم وهو يزدرد ريقه: 
-ولذلك صادرت الحكومة أموالهاء وهذا هو سر فقرى بعد الغنى» ولم تترك إلا 
وهما هلكت وأنا أبحث عنه . 


11101 





ارا 3 


بد لب باكر كوس 
- لا يحق لى أن أحب امرأة إلا من النوع الذى كانت تعاشره! كان يجب أن أتجنبك 


إنها لا تستطيع أن تتكلم وهذا حسنء أولا يبقى أمامك إلا أن تعترف لها بما هو 
أدهى . 


هذا ما يعزينى عن خسارة الفرصة التى تهبينها لى» وقد عشت حياتى الماضية عيشة 
العبث بفضل مالها الحرام» ولم يكن بينى وبين الاتجار فى الأعراض إلا خطوة» 
ولعله العمل الوحيد الذى يليق بى. 

اجتزت أشد العقبات . كأنك سعيد! ويا ليت الليل لا يوجد . ولعل المحقق يعلم الآن 

بتفاصيل هذه القصة المخزية . 

وحنى رأسه لها تحية ثم ذهب . 

وفى عصر اليوم التالى دعى إلى التليفون. وشد ما انزعج عندما سمع صو ت إلهام . 

أهلا إلهام! 

قالت بصوت متهدج : 

-صابر. . أردت . . أريد. . أريد أن أقول إن كل ما قلت لى أمس لا يهمنى! 


١6ه‎ 


إلهام. . لست إلا عذابا. أما كريمة فقد جمعت بينكما الجريمة برباط لن ينفصم حتى 
الموت» وحاجتك إليها كالجوع الكافر وإن قذف بك فى أعماق الجحيم . والوقت يمر 
مقطرا العذاب ولكن مروره بلا حدث يهب شيئا من الطمأنينة» وسوف تجد وسيلة أو 
أخرى للاتصال بكريمة . وخير ما تفعلان فيما بعد أن تبيعا الفندق ثم تعيشا فى مدينة 
غريبة . وسوف تعيشان عيشة فطرية تلقائية فهى ليست كإلهام التى تلهبك بصوت التغيير 
والتعذيب . ولكن متى تنوى كريمة الاتصال بك! وما العمل إذا نفدت التنقود الباقية! حتى 
عمل على سريقوس يقبله إذا أبقى له على الأمل فى الاتصال بكريمة يوما ما. . ترى هل 
يشنئق الرجل؟ لقد قتلت رجلا بيدك فما يضيرك أن تقتل الآخر بيد غيرك! لكن متى 
تستيقظ من الكابوس؟ 

وقبل أن يغادر الفندق صباحا طلبته إلهام بالتليفون وسألته : 

-هل ستجدد الإعلان؟ 





56 القراق 


-كلا. . 

فقالت بتودد: 

-رجوت شخصا مهما أن يبحث عن الرقم السرى للرحيمى إن كان له رقم سرى! 

- لم يجد شيئا طبعا؟ 

-لاللأسف.. 

- لا تشغلى بالك . . 

- لنا مراسلون فى الأقاليم وهم يقومون الآن بتحريات هامة. 

لسانى يعجز عن شكرك! 

ألا تفكر فى زيارتنا؟ 

كلا مراعاة لصالحك قبل كل شىء . 

- قلت لك لا يهمنى . . 

- ولكنه يهمنى جدا. : 

انقطع الاتصال بعد ذلك . تألم من جديد حتى حنق عليها من شدة تألله . ما قيمة 
الجمال فى هذا العالم الدامى! ألا تريد عيناها أن تريا إلا هذا الجمال الملعون؟! . . وقبل 
أن يغادر موقفه رأى عم محمد الساوى يتطلع إليه باهتمام فابتسم إليه متوددا فدعاه إلى 
الجلوس . قبل الدعوة بامتنان خفى . وسأله العجوز: 

مستعجل؟ 

أبدا لاغاية لى وراء الذهاب . 

فقال بارتياح : 

أحادثه . . 

وأبناؤك؟ 

لا أحد منهم فى القاهرة . : 

كان الله فى عونك . . 


1110 





4١ التلرا‎ 


لم يبق فى الاستراحة سوى رجلين» وفى الخارج غطت أصوات العمال والعربات 
- أليس هنالك من جديد؟ 

-لى صديق من المخبرين ولعله يدعى من العلم ما ليس له. 
ماذا قال؟ 

- على سريقوس » لم يجدوا أحدا غيره. 

-لعله اعترف. 

-لاأدرى. 

- أغرته سرقة حقيرة . 

-لقد أنكر السرقة . 

- ألم يعترف بها من قبل؟ 

- بلى» ثم عاد فأنكرها . 

- ولكن النقود ضبطت عنده! 

قال إن الزوجة جادت بها عليه . 

خفق قلبه خفقة مؤلمة جدا: 

زوجة المرحوم؟ 

- نعم . 

-ولكن» لماذا؟ 

-على سبيل اللإحسان . 

- وهل كانت تحسن إلى الخدم الآخرين؟ 

-سئل فى ذلك جميع الخدم ولكن ثبت أنه كان الوحيد. 
وهو يزدرد ريقه : 

هذا غريب . 

الأغرب من ذلك أنه رجع فاعترف بالسرقة . 

- قال إنها كانت تجود عليه ببعض النفحات عندما يؤدى لها خدمات فى شقتهاء ثم 
- وذهب ليسرق فقتل! 





:1 التلياق 


أظن هذا. 

-ورأى المحقق؟ 

- من يدرى . . ولكنهم مقتنعون فيما يبدو بأنه القاتل . 

- وربما يكون قد اعترف . 

حاوقها: 

لاشك أن الزوجة كانت تهبه قروشا . 

-ربما. 

- ولكن لماذا أنكر السرقة ثم عاد فاعترف بها؟ 

- من يدرى؟ 

-هل للمسألة وجه آخر؟ 

-آه. . من يقطع بذلك؟ 

اكتشف لأول مرة- وهو ينظر من قريب فى وجه العجوز_أن لون عينيه أخضر 
باهت» وكلما أمعن فيه النظر خيل إليه أنه يرى صورة جديدة لدرجة أنه تعذر عليه 
استحضار الأولى. 

- أتظن أن للمسألة وجها آخر؟ 

دمن أين لى أن أعلي ؟ 

آه. . هكذا سيشعر البشر وهم يقتربون من الجحيم فى الآخرة. 

- أنت تعلم الكثير ولا تقول إلا القليل . 

- أخشى أن يكون العكس هو الصحيح . 

- ألم يسألوا الزوجة من جديد؟ 

- استدعوها للتحقيق أكثر من مرة. . 

ألم يكن لأقوال سريقوس دخل فى ذلك؟ 

-بلى . 

أتثق بالمخبر كل الثقة؟ 

لكنها هى التى قالت لى بنفسها . 

-الزوجة! 


داتعم » جاءت مساء أمس . 


11100 





التقراق 17 


اختارت الوقت الذى لا يوجد فيه بالفندق . وعندما يدك زلزال الأرض دكا فماذا يهم 
التحقيق أو المحقق . وقد يستشف العجوز وراء أسئلتك دافعا أهم من حب الاستطلاع 
ولكن كيف تحذر الحر والنيران أن تشتعل فى ملابسك؟ 

-هل تكلمت عن الإحسان إلى سريقوس . 

مجرد إحسان طبعا. 

ع ذاكر المعقولة: 

-لماذا؟ 

- على سريقوس غير مقنع كرجل . 

أتحيط علما بهذه الأسرار؟ 

-ليس كل رجل يصلح . 

- لكننى عشت أضعاف حياتك . 

- لعلك تشك فى سلوك المرأة؟ 

- لم أقل ذلك . 

- أنت إذن واثق من أمانتها؟ 

غض العجوز بصره فى حزن . وصمت مليا. ثم قال: 

أنا لا أشك فى سلوك المرأة ولكنى متأكد من ذلك! 

انظر كيف تتكشف عوالم من الفزع تحت سطح أملس من التراب : 

-إذن فهى امرأة آثمة؟ 

- نعم ويا للأسف. 

- وعرفت ذلك من قبل مصرع صديقك؟ 

-نعم» ولكن راحة باله كانت أهم عندى من الحقيقة . 

ألم تصرح بآرائك فى التحقيق؟ 

-طيعا. . 

- صرحت بالعلاقة الآثمة التى بينها وبين على سريقوس . 

- على سريقوس ! أنا لا أفكر فى على سريقوس . 

آه. . هل وقع فى مصيدة! 

- كنا نناقش موقفه . 

لكننا تحدثنا بعد ذلك عن المرأة . 





4.1 اراق 


باعتبارها الطرف الآخر؟ 

كلاء هنالك رجل آخر. 

تعال. الجحيم يتسع لأكثر من رجل ! 

-رجل آخر؟ 

- زوجها السابق. 

وهو يسترد روحه : 

الرجل الذى باعها؟ 

- كانت مجرد صفقة لها ما بعدها! 

- ولكن كيف عرفت ذلك؟ 

- رأيته أكثر من مرة يتسلل إلى بيت أمها وهى هنالك . 
ها هو الجحيم يعود أفتك نيرانا . 

وأخفيت الأمر؟ 

- لو أبلغته المرحوم لقتلته. 

- وقد قتل رغم ذلك . 

- نعم ويا للأسف . 

- كيف سمح لها بتلك الزيارات؟ 

-إيغاله فى الشيخوخة أنساه كل شىء حتى سوء الظن . 
- وقلت ذلك فى التحقيق؟ 

قلته. 

مسق اموا 

- ثبت أن الرجل كان خارج القاهرة ليلة الجرية . 
- هذا لا يمنع من أن يكون مدبرها. 

- بلى ولكن التحقيق انتهى بإطلاق سراحهما. 
دعت 

-عندهم الأسباب . 

لعلهما استغلا الخادم يمكر فائق؟ 

- أو أى أحمق سواه. 

وهو يزدرد ريقه : 


11100 





التلراق نل 


- وربما كانت ظنون لا تقوم على أساس . 

-ربما. 

لكنك قلت إنك متأكد. . 

مغالاة بعض الشىء فى التعبير . . 

-عدنا من حيث بدأنا. . 

وهو يهز رأسه فى حزن : 

- قلبى يحدثنى بأن ظنونى صادقة . 

ولعله لا توجد علاقة بين الخيانة وبين الخريمة؟ 

-ربماء وإلا فكيف أطلق سراحهما. . ؟ 

- على أى حال فقد أدى على سريقوس لهما خدمة لا تقدر بثشمن. 

-إذا كان هو القاتل . 

ألا تعتقد أنه القاتل؟ 

- كل شىء محتمل . 

- أحيانا يخيل إلى أنك لا تصدق ذلك؟ 

- لم لا؟. . ألا تذكر حديثى عن صبى البقال؟ 

-لعله القاتل إذن؟ 

تنهد قائلا : 

- أعتقد أن القاتل سيقتل ولو بعد حين. 

لن تذوق النوم حتى تحقق معها بنفسك . امرأة جهنمية لكن ما أغباها إذا حسبت أنها 

يمكن أن تعبث بك . ألم تقتنع بأنك قادر على القتل إذا أردته! ولكن كيف تعرف 
عنوانها؟ وعاد العجوز يقول: 

- زوجها القديم لم يدبر الجريمة وإلالما أطلق سراحه بتلك السهولة, أما الجريمة 
الأخرى . 

-إنه ابن خالتها وليس من الشاذ أن يزور خالته . 

-الحق أننى شككت فى الأمر من قديم » كانت أمها تقيم فى الفجالة غير بعيدة من 
هناء وكان المرحوم يصطحب زوجته إلى بيتها كلما اشتاقت إلى رؤيتهاء وإذا بالأم 
تقرر أن تنتقل إلى شارع الساحل رقم ١‏ ١بالزيتون,‏ لماذا؟ لم أجد لذلك تعليلا إلا أن 
تتخذه الزوجة عذرا للإقامة أياما عند أمها كل شهرء ورغم معارضة المرحوم بادئ 
الآمر فقد انطلت عليه الحيلة فسلم بالواقع. . 





6.25 التلياق 


آه. . لم يتخيل أن يظفر بطلبته بذلك اليسر» ودون بذل أى مجهود من ناحيته» لكن 
الحنون كان يعصف به عصفا. أجل كان الجنون يعصف به عصفا . 


١1 


لولا يقينه من أن عينا من ععيون الأمن تراقبه بطريقة ما لاندفع من فوره إلى الزيتون. 
لا بد إذن من التريث حتى يجد حيلة جهنمية» ولما نزل صباحا من حجرته رأى ظهر 
الساوى وهو منحن فوق مكتبه فخيل إليه لحظة أنه يرى عم خليل أبو النجا. ودهمته 
الحقيقة الغريبة وكأنها تدهمه لأول مرة- وهى أنه أزهق روحا. وتساءل ترى هل يمكن 
أن يتذكره عم خليل بطريقة ما؟ وتمهل قليلا وهو يصبح على العجوز ولكنه رد تحميته 
بعجلة وعاد إلى دفتر الحساب وكأنه نسى تماما حديث الأمس كله. نسى الأسرار الرهيبة 
التى كان سيمضى حياته كلها وهو يجهلها. وتناول فطوره فى الاستراحة برأس ثقيل من 
أثر المنوم . كريمة . . لن أسمح لقوة فى الأرض بأن تجعل منى أبله. ستجديننى قريبا فوق 
رأسك ضربة قاضية . افعلى ما تشائين» خونى وتزوجىء فإن حبل المشنقة فى يدى . لا 
تتوهمى أن حياتى أغلى من كبريائى . أما حديث المال والحرب فلا ينقطع فى الاستراحة 
كإنشاد الشحاذ فى الخارج . ودعته إلهام إلى التليفون. لشد ما يحنق عليها كلما سمع 
صوتها فى أعماق دوامته . 

- ألا تقابلنى اليوم ولو بعض دقائق؟ 

- لا أستطيع . 

اذكر سببا مقئعا . 

- لا أستطيع . 

-حتى لو كان الأمر يتعلق بأبيك؟ 

تساءل يذهول : 

اا 

دتعم.. 

- ولكن كيف؟ 

فلنتقابل اليوم! 

حتى أبوه لا يمكن أن يستحوز على انتباهه فى هذه اللحظة النارية الدامية . 


1110 





قرا ا 
لا أستطيع . 


لكنه أبوك الذى جئت للبحث عنه! 

- ريما فيما بعد. . 

هل أجىء إليك؟ 

فقال بضيق لم يخل من حدة: 

-_كلا. . 

أى جديد جد عن الرحيمى؟ وماذا يهمه الآن؟ الزيتون هى كل شىء . وربما لم يكن 
الآمر كله إلا حيلة لاستدراجه إلى اللقاء . الزيتون الآن هى كل شىء. وهام على وجهه 
معذبا وهويفكر بلا انقطاع . وشرب كثيرا من النبيذ الردىء ثم تخبط فى الشوارع 
مواصلا التفكير حتى آمن بأنه سينتصر على المخبر المجهول الذى يتعقبه . ها هو يصعد 
إلى حجرته لينام ولكنه لن ينام . المخبر هو الذى سينام . وعقب أذان الفجر بقليل غادر 
الحجرة فى حذر شديد ثم نزل على مهل إلى مدخل الفندق . رأى على ضوء المصباح 
السهارى خادما نائما وراء الباب المغلق فشعر بخيبة وغيظ . ولم يفكر فى إيقاظ الخادم 
ليفتح له إذلم يستبعد أن يكون هو المخبر . تراجع حائرا وأنفاسه تتردد فى الصمت 
العميق . وطرأت فكرة لم يدرسها من قبل فبعثت حيويته من جديد فرقى فى السلم حتى 
السطح بلا توقف ولا تردد. وعندما وقع بصره على الشقة المغلقة تحت ضوء النجوم 
سرت فى أطرافه رعدة حتى أغمض عينيه من التأثر . واندفع نحو السور الفاصل بين 
سطح الفندق وسطح العمارة الملاصقة فعبره كالمرة الأولى. آه. . إنه يرتجف ولكن ما 
أحوجه إلى قوة أعصابه. ومضى إلى باب السطح ثم نزل فى ظلام دامس حتى مدخل 
العمارة المضاءة بمصباح سهارى . رأى حجرة البواب مغلقة. والباب الخارجى مغلقا 
كذلك والمفتاح فى القفل . كل شىء معد كأنما بتدبير سابق» دلف من الباب وأدار المفتاح 
ولكنه لم يطاوعه! لماذا؟ وشده بحذر فأخذ ينفتح فأدرك أنه كان مفتوحاء ولماذا أيضا؟ 
أراد أن يخرج ولكن اعترضه شبح رجل سد الفتحة سدا وهو يسأل بصوت جاف: 
ا 

بسرعة جذبه إلى الداخل مجازفا بحياته» وفى اللحظة التالية طعنه بركبته فى بطنه 
فتقوس وهو يئن فهوى على رأسه بقبضته فسقط على وجهه. مرق إلى الخارج يخترق 
البرد والفجر والخلاء . عبر الطريق إلى بواكى الجانب الآخر ثم اتجه نحو الميدان. ولم يكد 
يخطو بضع خطوات حتى اصطدم بشبح فكاد يسقطه على ظهره . وقد تأوه قاتلا : 

-آه. . أنا رجل ضرير. . 

قال متعجلا : 





1 التلراق 


لا مؤاخذة. الظلام شديد تحت البواكى . . 

- ربئنا ينور بصيرتك » دعوة مستجابة بإذن الله من سائل مسكين . 

اقشعر من التقزز. هو الشحاذ دون غيره. حتى فى هذه الساعة من الفجر يسعى » 
وواصل سيره وصوت الرجل يلاحقه : 

حسنة لله تنور طريقك . 

واستقل تاكسى وهو يتنهد» سوف يتتظره المخبر طويلا» وستعمى عيناه من التحديق 
5 

فى قميص النوم مشعثة الشعر خاملة المفاتن. همست : 

جددت؟ ! 

ومالت إلى الحجرة على يمين الداخل معدة للاستقبال. وقفاوجهالوجه تحت ضوء 
مصباح عار: 

وهو يثقبها بعينيه اللتين لم تغمضا: 

درقها..: 

- ألم تفكر فى خطورة الزيارة؟ 

- هو أهون من الانتظار بلا أمل . 

-الانتظار ضرورة» ألا تدرك أن حالى أدق من حالك! 

- وأظل أنتظر حتى الموت؟ 

-حتى يصبح الاتصال مأمونا. . 

-عندك التليفون. 

- صوتى يعرفه عم محمد. 

- أى صبى بقال كان يمكن أن ينوب عنك فى طلبى . 

- حققوا معى أكثر من مرة» ركبنى الخوف ولم يعد فى رأسى عقل! 

- أنت تدبرين جرائم القتل فى أثناء المضاجعة . 

- أليست شريكة لك فى أسرارك؟ 


1100 





مجنون! . . حالتك غريبة! 

- يجب أن أرى حجرة نومك 

حجرة كبقية حجرات البيت. 

- لا تراوغى» يجب أن أرى من ينام فيها! 

اتسعت عيناها وهى تقول : 

ماذا جرى لعقلك؟ 

- ابن خالتك » زوجك السابق» أليس هنالك؟ 

-من قال ذلك؟ لا أحد هنالك», ها هو الخراب يجىء بيدنا لا بيد الآخرين . 

- ليكن» لا بد أن أرى بعينى . 

أزاحها من أمامه وغادر الحجرة. فتح أول باب فرأى العجوز مستغرقة فى النوم . 
وفتح بابا آخر فرأى حجرة نوم» حجرة نومها على الأرجح» وفراشا ينفتح غطاؤه عن 
الشغرة التى انزلقت منها. ودار بالحجرات والمرافق فلم يجد أثرا لأحد. رجعا إلى 
موقفهما بحجرة الاستقبال وهو يقول بحنق : 

- شتت عقلى» فالرجل يجب أن يتتجنبك فى فترة التحقيق . 

- قلبى يحدثنى بأن مخلوقا لثيما أوقع بيننا. 

- ألم يكن ابن خالتك زوجا لك؟ 

-كان. 

- وباعك للزوج الذى دبرت قتله؟ 

- سيقبض علينا اليوم يا مجنون . 


ع 


أجيبينى . . 

- أنت غبى » جازفت بحياتى لأنى أحبك . 

- ألا تفرق بين الصدق والكذب؟ أنسيت ما كان بيننا؟ 

-أى امرأة لا تعجز عن إتقان التمثيل فوق الفراش . 

صدقنى لصالحناء كل ما فى رأسك أكاذيب . 

- تظنين أن خوفى من المشنقة سيضطرنى إلى تركك للرجل . 

- لا رجل فى حياتى غيرك» صدقنى» إن لم تصدقنى فى الحال سيأخذوننا قبل شروق 


0 





6 قرا 


كذابة» ماكرة» حطمت حياتى كلها بكذبة قصيرة . َ 

-صدقنى» أنا أحبكء لم أدبر شيئا إلا من أجلك » صدقنى . 

- حطمت حياتى بكذبة لتفوزى أنت وعشيقك بالثروة واحياة. 

- صدقنى قبل فوات الأوان» أنت حبيبى» ولا أحد غيرك» خرج الرجل من حياتى 

من زمان. : 

دبرت قسمة جهنمية» فلى الجريمة ولك الرجل والثروة . 

لا فائدة» انتهينا » اللعنة رأسك كالحجر» كلمة أخيرة ألا تريد أن تصدقنى؟ 

-كلا.. 

إذن ماذا تريد؟ 

أن أقتلك . . 

- ثم تشئق؟ 

- فى ألف داهية . . 

ودوى طرق على الباب كالقنابل. وطوقت الب لبيت أصوات مهددة وأقدام ثقبٍ ثقيلة» 
صرخت كرية بيأس : 

-جاء البوليس» ألم أقل لك؟ 

انقض عليها كالمجنون» وقبض على عنقها بيدين عصبيتين ثم ضغط بكل قواه» على 
حين اهتز الجو من زلزلة دفع الباب. . 


١ 7ع‎ 


فى السجن وحدك. لايزار من ليس له أهل. وإلهام تخطر كالحلم وهى تعرف الآن 
الحقيقة. شفيت ولااشك من الحب ولعنته. وهاهى الجراتد تعيد القصة. بل ها هى 
تكشف عما خفى عنك من أسرارها. والصور تملأ الصفحات. كريمة وعم خليل ومحمد 
رجب زوج كرية الأول وصورتك والصور الجامعة للأب والأم. حتى إلهام الملائكية» 
وبسيمة عمران.ء الجرائد لا تترك كبيرة ولا صغيرة . فى سجن الموت تتحرر من علاقات 
الحياة كلها فلا تهمك الفضائح . أنت متحرر من الكبرياء والخجل كما كنت وأنت فى 
الرحم . صابر يقبض عليه متلبسا بقتل عشيقته . صابر له قصة. بسيمة عمران إمبراطورة 
الليل بالإسكندرية . عللته عند اليأس والإفلاس بجاه أب مجهول. البحث عن سيد سيد 


1110م 





6١ اللقراق‎ 


الرحيمى المزعوم. الحب. القتل » صابر مثال فريد للجمال والرجولة . غزواتك فى 
الإسكندرية. الحب الأعمى الذى رفعه إلى المشنقة . هو مثال أيضا للقسوة والأنانية 
والدعارة» وكم عجبوا للجانب الخفى الذى كشف عنه حب إلهام . لم يفكر مرة فى 
إغواتها . اعترافاته المتتابعة بين يديها. رفضه استغلالها على أى وجه وتعففه عن أموالها 
وهو مختنق بأزمته الأخيرة. أمه أنشأته على مستوى رفيع من الجاه فلم يكن بد من أن 
يعثر على الأب الوجيه المزعوم أو أن يرتكب أشنع الجرائم وهى القتل. وانظر كيف 
ارتاب المحقق فى أمرك من أول الأمر. ورصدت حركاتك فى الشوارع وبقالة كلوت بك 
وفتركوان. وكيف كلف عم محمد الساوى بأن يحدثك عن خيانة كريمة؟ . أيها العجوز 
الماكر . يا لى من أحمق! والزوج الأول محمد رجب أنكر أى علاقة بالقتيل» ولكن 
العاشق وقع فى الفخ . ترى أأنكر دفعا للشبهات أم أنه قرر الحقيقة بلا زيادة؟ ليس فى 
الصحف ما يقطع باليقين فى هذه المسألة التى ساقتك إلى الهلاك. هل يمكن أن تعرف 
السر بعد الموت؟ وعم محمد الساوى أخطأ وهو ينسج أكاذيبه مما هدد التدبير كله بالفشل 
لولا ذهول العاشق فقد اعترف له بأنه شهد بخيانة الزوجة وفى ذات الوقت أخبره بأنها 
تزوره فظن لحظة أن الشاب قد فطن إلى التناقض الواضح ولكن صدمته بحكاية الخيانة 
أذهلته عن إدراك التناقض الواضح . آه. . هذا حق ويا لى من أحمق . ووصف تسللك 
للذهاب إلى كريمة بإسهاب . كيف عبرت السور إلى العمارة المجاورة وكيف ضبطك 
البواب وهو راجع من صلاة الفجر حتى اضطررت إلى ضربه حتى الإغماء» وكيف انتبه 
المخبر الذى يراقب الفندق تحت البواكى إليك عند اصطدامك بشحاذ ضرير وسماع 
صوتك وأنت تعتذر إليه! . آه. . ذلك الشحاذ الكريه البشع الأعمى . 

الجرائد لا تترك كبيرة ولا صغيرة. إنها تشهر بحماقتك وعماك كما شهرت بأمك . 
وهذا البحث الذى قامت به مجلة الربيع مع نخبة من رجال الفكر. تحدث أستاذ فى 
الجامعة عن الزواج غير المتكافئ بين عم خليل وكرية باعتباره المسئول الأول عن الجرية . 
وقال كاتب يوميات صحيفة . إن المسئول الأول هو الفقرء هو الذى أغرى زوج كريمة 
الأول ببيعها إلى زوجها الثانى» وإن كريمة شهيدة لصراع الطبقات وفوارقها. وناقش 
أستاذ بالخدمة الاجتماعية نشأة صابر فى أحضان تاجرة أعراض ورواسبها فى نفسه. 
وقال أستاذ علم نفس إن صابر مصاب بعقدة حب الأب وأنه يمكن تفسير اندفاعه 
الإجرامى بأمرين مهمين» فهو أولا وجد فى كرية بديلا عن أمه فأحبها. وإن لا شعوره 
أصر على الانتقام فقتل صاحب الفندق كرمز للسلطة وطمع فى مصادرة أمواله كما 
صادرت الحكومة أموال أمه. وقال شيخ من رجال الدين إن المسألة فى جوهرها مسألة 
إيمان مفقودء وإن صابر لو بذل فى البحث عن الله عشر ما بذله فى البحث عن أبيه لكتب 
الله له جميع ما طمع إليه عند أبيه فى الدارين . 





1 التلران 


قرأ صابر تلك التعليقات بفتور وحيرة ثم هز منكبيه استهانة وهو يقول: «لكن أحدا 
لم يعرف إن كانت كريمة صادقة أم كاذبة» ولا إن كان الرحيمى موجودا أم لا». 

ويوما دعى إلى مقابلة محام فى حجرة المقابلات بالسجن . وقد خيل إليه أنه رآه قبل 
ذلك ولكنه لم يتذكر متى أو وأين. وارتاح لوقار شيخوخته فصافحه وهو يتساءل : 

-هل سيادتك المحامى الذى قيل إن الدولة ستختاره لى؟ 


كاذ . 
ثم بصوت منخفض عن الأول تواضعا منه: 

أنا محمد الطنطاوى . 

ولكن صابر وضح جهله بالمحامى الكبير» فسأله بارتباك: 

- من وكل سيادتك عنى؟ 

اعتبرنى متطوعا. . 

فقال بنبرة اعتذار: 

- لا تؤاخذنى إن صارحتك بأننى لا أملك مالا على الإطلاق! 
فابتسم الأستاذ قائلا : 


- أنا الأخ الأكبر لإحسان الطنطاوى مدير إدارة الإعلان بجريدة أبو الهول. 
-آه. . أتعلم أنئى سألت نفسى أين رأيتك من قبل! 

ابتسم الأستاذ فسأله صابر بتأثر : 

-هل سعى لديك لتتولى الدفاع عنى؟ 

-أجلء إذا شئت. . 


هتف صابر بغتة : 


- إلهام؟! 

ابتسم الأستاذ مرة أخرى دون أن ينبس بكلمة فأغمض صابر عينيه مليا ثم فتحهما 
متسائلا : 

والأتعاب؟ 


-المصروفات الضرورية للإجراءات فقط . 
هل يمكن ! كيف تتصور! نفقة جنازة الحب! 
- لكنه جهد ضائع يا أستاذ محمد. 

- مفهوم اليأس لا يوجد فى قاموسنا . 


1101 





قرا ع 


قتل اثنين مع سبق الإصرار» واعترفت . . 

-ولو.. 

لهام مالو ؟ 

- قيل إنه ليس لك أهل فليس بكثير أن تكون لك صديقة . 

- حتى بعد أن عرفت . . ؟ 

تقبل ذلك دون مناقشة . 

جفف عينيه بطرف كمه وهو يقول: 

الدمعة الثانية فى عمرى كله . . 

- لاعيب فى ذلك. ولندخل فى الموضوع . 

- لقد اعترفت كما قلت لحضرتك . 

-هئالك ظروف . 

-النشأة» الحب» الغيرة» سلوكك الأمين تجاه إلهام . 

-لن أجنى من ذلك إلا مزيدا من التشهير. 

-لن نسلم بالياس قبل أن يقع . 

- الحكاية كلها كالحلم؛ جئت من الإسكندرية للبحث عن أبى فوقعت أحداث غريبة 
نسيت فيها مهمتى الأصلية حتى وجدت نفسى أخيرا فى السجن . . 

ثم وهو يتنهد: 

- والآن أكاد أن أنسى كل شىء إلا المهمة الأصلية التى جئت من أجلها. . 

- ولكن لا جدوى من التفكير فيها الآن» ربما أشرت إليها فى مرافعتى باعتبارها أول 
جناية كتبت عليك قبل أن تولد. . 

- ولكن إلهام دعتنى بالتليفون ذات يوم لأمور تتعلق بأبى . 

وماذا قالت لك؟ 

- لم أذهب لمقابلتها محموما بالانتقام من الأخرى . 

أؤكد لك أنها لا تعلم عنه شيئا . 

هز صابر رأسه فى حيرة ثم قال : 

-إن نشر أخبار الجريمة فى الصحف يعتبر إعلانا ضخما من نوع غير معهودء ولعله 
يجىء بالنتيجة التى عجز عنها الإعلان المتواضع بجريدة أبو الهول. 





,4 التقلياق 


- أنا على علم لا بأس به بأخبارك ولكنى على يقين من أنك لن تجنى من الاهتمام 
بأبيك الآن إلا التعب الضائع فإن مجيئه أو عدمه سواء فى موقفك الأخير. 

لا يبعد إن جاء أن تحدث معجزة. . 

-كيف؟ 

- أعنى إذا صح أنه وجيه حمًا وذو نفوذ. 

- فليكن أكبر الوجهاء ولكن كيف يمكن أن يغير قوانين الدولة؟ 

-اسمع يا أستاذ» لقد كانت أمى ذات نفوذ يوما ماء فاستطاعت بنفوذها أن تتحدى 
قوانين الدولة تحت سمع المسئولين وبصرهم! 

- بالله خبرنى عن الأمل الذى يراودك إذا جاء أبوك؟ 

تردد قليلا ثم قال: 

-ربما استطاع أن يسهل لى سبيل الهرب . 

- تماديت فى الخيال ولن تجنى من وراء ذلك إلا تعب القلب. 

فنفخ قائلا : 

- على أى حال أنا شاكر فضلكء وأرجو أن تبلغ امتنانى إلى الآنسة إلهام» وإلى 
الأستاذ إحسانء وسوف تجدنى تحت أمرك فى كل ما تريد» وأما عن أملى المضحك 
فإننى لن أيأس كما تقول أنت إلا إذا وقع اليأس . 

2 2 
وفى السجن دعى إلى مقابلة الأستاذ محمد الطنطاوى . وقابله الأستاذ بعطف 
وشجعه بكلمات مناسبة ثم قال له: 

- لا يزال أمامنا الاستئناف ثم النقض . 

فسأله بحزن: 

-كيف حال إلهام؟ 

- ليست على ما يرام» والظاهر أن مأساتها التى تحدئت عنها الجرائد قد هزت أباها من 
الأعماق فجاء من أسيوط لزيارتها وأصر على أخذها معه بعض الوقت تغييرا للجو 
والعدانا الضيحة: 

فارتفع صوت صابر وهو يقول: 

- إذن استيقظ من جحوده.ء أما أبى. . 

ابتسم المحامى الشيخ قائلا: 

بهذه المناسبة هل تصدق أننى أحمل لك أنباء عن أبيك؟ 


1110م 





التلراق 0 


هتف ذاهلا : 

ا 

دن 

ثم مستطردا بعد وقفة قصيرة : 

- ألم تسمع عن الصحفى الذى كان يوقع عموده اليومى بإمضاء «الصحفى 
المخضرم»؟ طبعا لاء فلقد انقطع عن العمل منذ عشرين عاما. وهو جار لى بمصر 
الجديدة» وكان قديما أستاذى بكلية الحقوق» ومن أفقه من عرفت فى الشريعة» وقد 
جاءت سيرتك على لسانى وأنا مجتمع به أول أمس. ولما قصصت عليه قصة أبيك 
قاطعنى : 

- أتقول سيد سيد الرحيمى» لكننى أعرفه! 

فقلت له لعل المعنى شخص آخرء فقال: 

- سيد سيد الرحيمى الوجيه الغنى الجميل» وقد كان شابا فى الخامسة والعشرين أو 
نحو ذلك من ثلاثين عاما. . 

هتف صابر: 

- ألم ير الصورة فى الصحف؟ 

-إنه الآن لا يعرف الصحف وفضلا عن ذلك فهو ضرير. 

-يا للخسارة! . . ولكن لا يمكن تجاهل التشابه فى الاسم . . والصفات. . والعمر. . 

هذا ملحوظ بطبيعة الحال. 

دوآين يقيو؟ 

-للأسف لا يدرى شيئا عن ذلك . 

ألم يحدثك عن زواجه الأول؟ 

قال المحامى مبتسما: 

- قال إنه لم يكن له من هواية فى هذه الدنيا إلا الحب . 

- لكن أمى هجرته» وتلك حادثة لا يمكن أن تنسى . 

- فى حياة رجل كال رحيمى» تعد فيها النساء بعدد الأيام» لا يمكن أن تعرف من 
الهاجر ومن المهجور. . 

- أمى لم تحدثنى عن ذلك الجانب من حياته . 

-ربما لم تعرفه. 

- ولكن الزواج علاقة لا تخفى . 





25 التلراق 


- قال على برهان ‏ أعنى الصحفى المخضرم إنه كان يتزوج كما كان يرافق» وكان 
يمارس الحب بشتى أنواعه. . الجنسى والعذرى ولا يعتق ناضجة أو مراهقة» أرملة 
أو متزوجة أو مطلقة. فقيرةأوغنية» حتى النادمات وجامعات الأعقاب 
والمتسولات! 

-يا للعجب! 

0 

- ألم يوقعه ذلك فى متاعب؟ 

كان يقهر المتاعب . 

تساءل صابر بعينين حائرتين : 

- ومهنتهء ماذا كانت مهنته؟ 

- كان وما زال مليونيراء لا عمل له إلا الحب» وكلما وقع فى مأزق هاجر من مدينة 
إلى مديئنة» مواصلا ممارسته لهوايته . . 

- ولكن وثيقة زواج أمى ما زالت معى . 

- وربما وجدت وثائق أخرى لا حصر لها. 

- ألم ترفع عليه قضايا شرعية؟ 

- من يدرى» ولكنه طليق وفى هذا ما يكفى . . 

فقال صابر بسخرية مرة: 

- وقوانين الدولة؟ ! 

لكنه لم يقع» وقال الأستاذ برهان إنه غوى مرة عذراء من أسرة كبيرة محافظة ولكنه 
غادر القطر فى اللحظة المناسبة! 

- ومتى رجع؟ 

لم يرجع» تعلق فؤاده بالعالم الكبيرء وراح ينتقل من بلد إلى بلدء بل من قارة إلى 
قارة» معتمدا على ملايينه» جاريا وراء النساء من كل شكل ولون. 

- وكيف عرف صاحبك ذلك؟ 

- كانت تصله منه رسائل على فترات متباعدة جدا . 

- وهل عنده فكرة الآن عن مكانه؟ 

-كلا. كانت الرسائل تجيئه بلا عنوان ليس عليها سوى اسم البلد, إذ إنه لا يحب 
الاستقرار فى مكان أكثر من أيام . 

-لااشك أنه رجل مشهور فى الخارج . 


1110 





اليا ا 


ذلك هو الراجح بالنسبة لأى مليونير وإن قضى الحذر فى مثل حالته باتخاذ أسماء 
وشخصيات شتى 

- متى تسلم صاحبك آخر رسالة منه؟ 

- صاحبى لم يذكر شيئا على وجه التحديد» ولا تنس أنه جاوز التسعين عمراء ولكنه 
يذكر أنه تلقى رسائل منه فى جميع القارات . 

- لكنه يعرف بلا شك كل شىء عن أسرته . 

-لا أسره له فى مصرء كان أبوه مهاجرا من الهند» وقد عرفه صاحبى فى نادى 
الصفوة فتوطدت بينهما أسباب الصداقة» وعن سبيله عرف ابنه الوحيد سيدء وهو 
ابن وحيد لا أخ له ولا أختء. وقد مات الأب منذ أربعين عاما تاركا لوريثه ملايين 
الجنيهات التى اقتناها فى تجارة المشروبات الروحية» فلا أحد له فى مصر إلا الذرية 
التى يحتمل أن يكون أنجحبها فى مغامراته العديدة . 

- مثلى أنا! 

- مثلك أنت إذا كان هو أباك حقا . 

-لا ينبغى أن أشك فى ذلك بعدما عرفت من خصاله! 

ابتسم المحامى ملتزما الصمت . 

- خصاله هى خصالى ولكن بينا يلهو هو فوق الكرة أنزوى أنا فى السجن منتظرا حبل 
المشنقة . 

- لكنه لم يقتل ! 

صاحبك الضرير لا يعرف كل شىء. 

هو على كل حال مليونير. 

الآهم من ذلك أن قوانين الدولة لا تهدده. 

- لكنك كنت تعلم أنك فقير وخاضع لقوانين الدولة. 

وكنت أعرف من يكون أبى . 

- وماذا كانت النهاية؟ 

- أجل للأسف, أمى عرفته خيراً من صاحبك المخضرم فاستطاعت أن تقتنى ثروة 
طائلة وأن تتحدى القانون» ولولا سوء الحظ . . 

دلكته لا يعرف سوء انظ 

- ولم يكن من المعقول أن أرضى بأن أعمل قوادا بعد أن عرفت أصلى . 

-لم تحسن تقليد الأصل . 





8 القسراق 


بحثت عنه . 
- وباعترافك نسيته . 

سيت آمرأة وهو عذر تخليق بأن يقبله! 

لكنه ليس هو حاكمك . 

- لكنه هو الذى نسينى . 

-ربما ظنك فى براعته وأنك غير محتاج إليه؟ 

- لو لم تهجره أمى لكان لى ذلك . 

لكنها هجرته . 

- وما ذنبى أنا؟ 

- لاذنب لك فى ذلك . 

دوذلك كان السب الأول جرع . 

سبب بعيد جذا لا يعتد به عند تحديد المسئولية . 

- ولكنه أخطر من سبب يعرض صدفة مثل مقابلة كرية . 
-سيظل القانون هو القانون. 

تنهد بعمق ثم قال : 

- لعله من اخير ألا أقطع بأنه أبى ! 

- ذلك كان رأيى ولكننى وجدتك متعطيًا لمعرفة أى شىء . 
- وماذا عرفت؟ يخيل إلى أننى لم أعرف شيئا مجديا. 
-بلى للأأسف . 

- وفضلا عن عدم جدواه فما زال بعيدا عن اليقين. 

- وبسبب هذه المعرفة الطارتة أصبح الرجل أعز منالا من الأول. 
-هذا راجح جدا. 

- وقد ضاعت الحرية والكرامة والسلام وإلهام وكريمة! 
فلاذ المحامى بالصمت مرة أخرىء فقال صابر: 

- ولم يبق إلا حبل المشنقة . 

فقال المحامى بنبرة عتاب : 

هنالك النقض . 

وتردد مليا متفكرا ثم قال مبتسما: 


11100 





التلراق 24 
- وثمة خبر آخر حدثنى به الأستاذ برهان . 
-ماهو؟ 
-ما يدرى الأستاذ يوما إلا والرحيمى يطرق بابه! 
هتف صابر : 
-حقا؟ 
كان ذلك فى أكتوبر الماضى ! 
صرخ صابر بلا وعى : 
أكتوبر! 


ع 


- أجل . 

- كنت فى ذلك الوقت أبحث عنه فى الإسكندرية . 

- وقد أمضى فى الإسكندرية ستة أيام . 

-يا للجنون! كنت أسأل مشايخ الحارات ولكننى أجلت فكرة الإعلان فى الصحف 
طالما كنت فى الإسكندرية أن أتعرض لسخرية أعدائى وجها لوجه . 

- ألم تكن المهمة أخطر من سخرية الأعداء؟ 

بلى واحسرتاه! . 

- لا تحزن لعله لم يكن يطلع على الصحف . 

-هيهات أن يهون ذلك من حسرتى . . 

- لا تجعلنى أندم على مكاشفتى لك . 

وجعل ينظر إليه فى حسرته ثم قال محاولا انتزاعه منها : 

- كان فى طريقه إلى الهند وقد أهدى إلى صاحبى كتاب «كيف تحتفظ بشبابك مائة 
عام» كما أهداه صندوقا فاخرا من الخمر المعتقة . 

- لا يبعد أن يكون هو الذى رأيته فى السيارة» وهل وقع على هديته بإمضاته؟ 

- أظن ذلك . 

ألا يمكن أن أرى الكتاب؟ 

- سأتيك به. 

- وإذا أردت الاحتفاظ به المدة الباقية؟ 

- لا أظن صاحبى يرفض طلبك . 

-شكراء وماذا أيضا؟ 





حو القسيق 


- وقال صاحبى إنه ما زال محتفظا بحيوية الشباب وأفكاره وضحكاته وقال: (إنى 
أتجول بين قارة وأخرى كما يتجول إصبعك بين طرفى شاربك» » وقال أيضا ” لا تعد 
نفسك من الأحياء حتى تطوف بأربعة أركان المعمورة وتمارس فيها الحب» . 

ألم يذكر فى الحديث أحدا من أبنائه؟ 

- محتمل أن يكون له فى كل قارة أبناء ولكنه لا يتحدث إلا عن الحب» وقد شرب 
حتى ثمل ثم غنى أغنية غرامية سمعها فى إحدى قبائتل الكنغو. . 

- ويسكر ويغنى ولا يخطر له أن يسأل عن أبنائه؟ 

-ربما تغير مفهوم الأبوه إذا امتدت فوق كثرة غير عادية . 

- لكن الأبناء هم الأبناء قلوا أو كثروا! 

- كشيرا ما تقع متناقضات غريبة إذا تصور أب قوى أبناءه على مثاله . 


-ياله من دفاع! 

- نحن نغتفر لبعض الشواذ هفوات لا نغتفرها لغيرهم فما بالك بشخص غريب 
الأطوار كذلك الرجل! 

-آه رأسى يدور. . 

- لا تجعلنى أندم . . 

- لعله ما زال بمصر. 

- لقد أرسل إليه بطاقة تحية من الخارج . 

- لعله يزورنا قبل الإعدام . 

- لااشىء مستحيل . 


-آه. . كنت أزور إلهام وأخاك الأستاذ إحسان كل أسبوع ولا أدرى أننى بطريقة ما 
قريب منك وأنك جار لبرهان صديق الرحيمى! 

هكذا تقع الأمور عادة. 8 

- كانت هناك فرصة نادرة للبحث . 

-كيف. . أى أمل . 

- أن نستبدل المؤبد بالإعدام . 

-أى أمل؟ 

سنجد عند ذاك فرصة لاستئناف البحث . 


1110 





التقسران 38 

- وإذا تأيد الإعدام؟ 

بسط المحامى راحتيه فى تسليم ثم قبضهما فى وجوم : 

- فى حالة الإعدام يبقى لى من الزمن ما يستنفده النقض ثم الفترة السابقة للتنفيذ, ألا 
تستطيع أن تقدم لى فى تلك المدة خدمة حقيقية بمحاولة الاتصال بالرجل؟ 

-يا بنى القانون هو القانون؛ والرحمة والواجب يقتضياننى ألا أضيع وقتى فيما لا 
طائل وراءه» والأجدى أن أراجع ملف القضية والقانون الجنائى . 

- بالرغم ما سمعت عنه لا تريد أن تقتنع بقوته؟ 

-أنا رجل قانون » وأعلم أن مصيرك بيد القانون وحده. 

- قد يدركنى فى فترة الانتظار أفلا تأخذنى على قد عقلى؟ 

- إن لم يكن حقا كما تتصوره فأهلا به وسهلا ولكن لا سبيل من ناحيتى إليه . 

-إنك رجل ذو خبرة وعلم وجارك يبدو أثيرا لديه . 

- الاتصال به إن لم يكن مستحيلا فهو يستلزم وقتا لن يتسع لك» ولا أملك وسيلة 
بحال» وسوف يتطلب منا الاتصال بجميع سفاراتنا فى الخارج كخطوة أولى» ولا 
يبعد أن ينتقل فى أثناء الاتصال إلى بلد لا تمثيل سياسى لنا فيه للأسباب التى 
تعرفها . 

آه. . الذكرى التى تموت وهى على طرف اللسان . وتشكيلات السحب التى تعبث 

بها الرياح . وعصارة الآلم المنصهرة وراء القضبان . والسؤال الأعمى والجواب الغشوم . 

وقال: 

- يبدو أنه لاجدوى من الاعتماد على الغير. 

فابتسم المحامى فى تسامح وهو يقول : 

- بل هناك جدوى فيما هو معقول . 

فهز منكبيه قائلا : 

فليكن ما يكون . 








قبيل الرحيل 51 الختام 2 


حلم نصف الليل 0 يرن سوق الكانتو ا 55 
قوس قزح خوط حم اك 5481 وجها لوجه 2000 
الصمت ل ةك الهارب من الإعدام ل الا 68 
بيت سيئ السمعة عمو مسوم حقوة سائق القطار 6 
القهوة الخالية ا عا ململ لك 8380 لونابارك 6 
كلمة فى السر ماو حرم مموول كلع موجة حر اا ان 
الخوف ومسو لوو نم 50 عابرو السبيل مو خوط اخ و 017 
الرماد كاسن العامة د و د 51 يوم حافل ماسوو امسو يي 63375 


قبيل الرحيل 


تبق إلا أيام معدودة قبيل الرحيل . لذلك بدت الإسكندرية لطيفة جذابة كما ينبغى 
لها قبيل الرحيل . وهو لا يدرى متى يراها مرة أخرى إذ إنه يمضى عطلته عادة عند الأهل 
فى الريف» ولذلك فالذى كان موطنًا للوحشة والملل انقلب مبعنًا للحنان والأشواق فى 
نظرة الوداع» حتى مجلسه المعتاد منذ أربع سنوات بقهوة سيدى جابر. تجدد للتو شبابه» 
وقال لنفسه وهو يدخن النارجيلة : هيهات أن يجد جوا مناسبا لترطيب التبغ كجو 
الإسكندرية» أما النادل الذى جاء بالقهوة فقد قال بيأسف: 
- ستو حشنا كثيرأ يأ بيه . . 
فابتسم إليه شاكراء وعند ذلك دخلت امرأة. هى. . هى التى تتردد على القهوة من 
شهر لآخرء التى أطلق عليها امرأة سيدى جابر» التى تجاهلها طوال أربعة أعوام» وكانت 


1110م 


مس المح ممع 


اختفت منذ أواخر الصيف . ها هى ذى فى فستان شتوى» مطوقة الوجه بإشارب وردى» 
متلفعة بشال مرصع بالترتر» ملابس توافق الخريف الزاحف وتلك السحب البيضاء التى 
أخفت قرص الشمس وطرحت لونها الهادئ الغامض على الشوارع شبه المقفرة. 
وجلست إلى جانب الرومى صاحب القهوة» وتبادلا كالعادة قليلاً من الكلام وكثيرا من 
الصمتء يغشاهما جو حاد كأنهما رجلان» ومن رجال الأعمال على الأرجح . وذاك 
شأنهما من زمان . ومرة همس النادل فى أذنه : 

- أليست جميلة؟ . . 

رأى عينين واسعتين مقتحمتين» ووجنتتين ريانتين» وإغراء فى هالة من الثقة بالنفس 
والحتكة. فقال وقتذاك دون تردد: 

حالس الطران الدع جزوافقف يننا 

اليوم تبدو مغرية فحسب كالإسكندرية قبيل الرحيل . وقال للنادل : 

- أربعة أعوام عشتها فى الإسكندرية ومع ذلك فلم أزر ولو مرة واحدة- لا حديقة 

الحيوان ولا أنطونيادس ولا الآثار الإغريقية الرومانية ولا هذه المرأة. 

فابتسم النادل قائلا : 

- وأسيوط لن تجد فيها شيئا. . 

وبعث إلى المرأة بنظرة بدائية ولم يكن فى القهوة إلا منهمكان فى النرد» فأجابته 
بعمق . فقال للنادل : 

-أرنى شطارتك . . 

انتقلت إلى جانبه» ثم تبعها النادل بزجاجة بيرة. وراح يؤكد لها أن تعارفهما فرصة 
سعيدة حقاء فقالت بدلال بارد: 

-أنت كشجرة المانجو. . ! 

فرفع حاجبيه مستفهما فقالت : 

تحتاج إلى خدمة طويلة وصبر! 

فهرب من الاعتذار برفع قدحه هامسا «صحتك»» وقضما الزيتون الأخضر وهما 
يترامقان فى صمت حتى قال : 

- البيت على بعد دقائق! 

- جنيهان! . . والآن من فضلك . . 

ودستهما فى حقيبتها وهما يغادران القهوة. وأثنت على الشقة الصغيرة المهندمة فأئنى 





8 ركم 


بدوره على البواب صاحب الفضل . وجاء بطبق فاكهة ووضعه على خوان على كثب من 
الفراش . وسرعان ما تعانقا دون ما كلمة واحدة. وامتلاً الصمت بتعابير غامضة 
وهمسات من عالم آخر. واستحكم ظلام المغيب فى جو الحجرة المغلقة. وارتجت 
مصاريع النوافذ بريح مباغته كما يقع كثيرا فى الخريف . وما لبث لحن المطر أن عزف فوق 
الجدران. ورفع إلى النافذة القريبة نظرة محمومة ثم همس مستسلما: 

- جو متقلب لا أمان له. 

ولكنه استمتع بدفء وراحة عميقة . وانتبه إلى الظلمة الشديدة فمد يده إلى الأباجورة 
فأضاء مصباحها. ولحن المطر ما زال يعزف ولكنه خف جدا موحيا بالختام . ونظر إليها 
فرآها مغمضة العينين كالنائمة . وهاله منظر جفنها الكبير كورقة وردة. ولاحت منه نظرة 
إلى المرآة البيضاوية فرأى صورة لشخصه تستحق الرثاء . وكف المطر عن العزف تماما . 
وسألها: 


4 


نائمة؟ 

فأجابت دون أن تفتح عينيها : 

-لا أنام قبل الفجر. . . 

وقشر موزة ورشقها برفق بين شفتيها الغليظتين فجلست نصف جاسة وتسليا معا 

-قال الخواجا إنك مسافر بعد غد. . . ولكن ما اسمك؟ 

وتذكر وهو يدارى ابتسامة أنهما بدءا بالعناق قبل التعارف . قال إن اسمه بركات» 
موظف منقول إلى أسيوط» فقالت وهى تمسح ظاهر يدها بباطن قشرة الموز : 

-اسمى دثيا. 2 
بالملل يسترده من الحلم حتى حسد المنهمكين فى القهوة. وقصت عن الماضى والمصير 
قصة فقال لنفسه: «قصة واحدة. . لا جديد ألبتة!» . وسألته عن شقته وأثاثها فأجاب : 

- بعتها بكل ما فيها. . . وبعد غد سيحل بها آخر. . 

لم يعد بالحجرة إلا عبير الموز والفتور. ولولا الجنيهان لتقوض المجلس . وفى ذروة 
من ضيقه رآها وهى تمد ذراعها إلى حقيبتها فوق الكنبة» ثم رأها وهى تستخرج منها 
الجنيهين. لحظها بطرف متسائل فإذا بها تميل نحو الناحية الأخرى من الفراش لتودع 
الورقتين فى درج التواليت. ونظرت إليه وهى تبتسم فتلقى نظرتها بعين لم تفهم شيئاء 
وسألها: 

-للمه؟ 


1110 





سل امم 2 


فقالت وهى تسبل جفنيها : 

- نقودك ردت إليك . . 

استيقظ من الفتور ولكنه لم يفهم شيئا فقالت بدلال: 

- أنت فاهم ولكنك تتغابى» هذا كل ما فى الأمر! 

وأقسم لها أنه لا يتغابى أبدا فقالت : 

- لا لزوم للنقود فى هذه الحال. . 

-أى حال؟ 

فطوقت عنقه بذراعها السمراء وهو يضطرب من الانفعال وهمست فى أذنه : 

- الرضا! فهكذا أفعل إذا رضيت نفسى . . 

وغرق فى نشوة فرح لم يجربها من قبل حتى رقصت الجحدران ولكنه هتف فى شىء 
من الحياء : 

الاي لان 

وكتمت احتجاجه بقبلة دسمة فذاب اعتراضه فى فرحة أشمل حتى ود أن ينعم كل 
شىء بالأفراح . واندفع يعد المكان لسهرة طويلة سعيدة فمضى إلى الصالة ففتح 
الراديو» ونادى البواب فأمره بإحضار شراب وشواءء ثم رجع إلى الحجرة وهو يقول: 

- كم من مرة رأيتك فى القهوة طوال أربعة أعوام؟! . . ولكننى أحمق. . 

والرحيل؟! 

فهز رأسه بأسف ثم تمتم : 

- بعد غد! . . من يصدق هذا؟! . . ولكننى أحمق. . 

واستلقى عند قدميها وهو يفرقع بأصابعه مع نغمة راقصة رددها الراديو. واقتنع بأن 
دنيا تتمتع بصحة تحسد عليها. وخطرت له فكرة جديدة فوثب إلى الأرض وهو يتساءل : 


- ما رأيك فى نزهة ليلية؟ ! 

ومضيا إلى ملهى صغير بشارع النبى دانيال. وتغلب بسهولة على حرص مأثور عنه 
فأنفق بسخاء؛ وشربا كثيراء ورقصا مع كل نغمة. وفى فترة استراحة لاحظ أن شابا 
يرمق محبوبته باهتمام فتكدر صفوه وتوثب لمواجهة أى احتمال لا يروقه. وتقدم 
الشاب من دنيا وانحنى تحية ثم طلبها لرقصة مقبلة فنفخ بركات غاضبا حتى همست 
فى أذنه : 

هذا تقليد مألوف لا ضرر منه . 





6 مفيديق المت 


فقال بغلظة : 

-لا أحبه. 

ثم حدج الشاب بنظرة حمراء» وقال له بخشونة : 
-اذهب.. 


ولم يدر بماذا أجاب الشاب ولكنهما التحما فى عراك بسرعة مذهلة . ولم يشعر بما 
تلقى من ضربات ولكنه أصاب خصمه فى بطنه فترنح وكاد يسقط على ظهره لولا أن 
تلقاه النادل بين يديه . وأحدقت بهما الأعين المخمورة فى ذهول ووجوم. وتنقل مدير 
المحل بين الموائد مهدا للخواطر ثم أشار إلى الأوركسترا فانطلق يعزف داعيا إلى رقصة 
جديدة. وجعل بركات يلهث ودنيا تسوى له ربطة عنقه وقد انخلع زرار الجاكتة وتهتك 
الجانب الأيسر من أعلى القميص. أما اللكمة التى أصابت صدره فلم تكن بذات بال» 
وعلى الرغم من ذلك لم يستأثر به الكدر أكثر من دقائق» وسرعان ما عاوده الانسجام» 
وراح يشرب كما يحلو له» ورمقه البعض بحنق فمالت دنيا على أذنه قائلة : 

- نذهب يا عزيزى. . 

وغادرا الملهى وعشرات النظرات تصفعه بازدراء» ولكنه شد على ذراعها بمرح 
وسعادة» وداخله إحساس قوى بالزهو والفخار فقال لها: 

- لا تغتمى يا عزيزتى » هذه متاعب يسيرة» وكثيرا ما تحدث . . 

واستقلا ترام الرمل مع الجمهور المنصرف من السينما. ومد ذراعيه حولها كالسياج 
ليدفع عنها غائلة الزحام ولكن رغم ذلك ضايقها رجل عن قصد أو عن غير قصد. ورماه 
بنظرة وعيد ولكن الآخر كان فى واد آخر فواصل مضايقاته . وانفجر فيه غاضبا من رأس 
دارت به الخمر. وتبادلا كلمات غاية فى القسوة. ثم تبادلا لطمات ولكمات بعنف قبل 
أن يفصل الناس بينهما . وتدخل أولاد الحلال لمنع المضاعفات . ووجد فى وجنته اليمسرى 
ألماء وسال الدم من زاوية شفته السفلى» وجعل يجفف الدم بمنديله طيلة الطريق» ولكن 
الدم الغزير الذى خضب شارب خصمه عند أسفل أنفه الملتهب خفف من شدة انفعاله . 
وعند مغادرة الترام لفحه هواء منعش ثمل بعبير المطر فارتفعت روحه وقال: 

جرحى بسيط لكنه خسر أنفه فيما أعتقد. . 

كدت تقتله» الله يجازيك . . 

وندت عنه ضحكة ثم قص عليها نوادر من معاركه فى الزمان الأول قبل أن تشكمه 
الوظيفة. وكان يروى ذلك بفخار واضح.ء ثم عاوده مرحه كأن شيئًا لم يكن» وهكذا 
رجعا إلى حجرتهما. ووجد الشراب والشواء على الخوان حيث تركهما البواب فقال: 

111 0 





ميق اسمخ 6 


- جميل جدا. ولكن تنقصنا الأزهارء كان يلزمنا باقة ورد ويا للأسف! 

وغسلت له جرحه ودلكت وجتنته وهو يغنى (ما تبطل الشقاوة وتيجى عندنا» . وقالت 
له ضاحكة إن صوته لم يخلق للغناء. فقال إن المهم هو السعادة فعند ذلك يغنى أى 
شىء. ثم تحدث ببلاغة رقيقة عن الحب حتى قال لها : 

- لبمن كمكلة قن 2... 

ثم قال أيضا بعد أن قبلها بامتنان: 

- لا بد من الرجوع إلى الإسكندرية» سنلتقى كثيرا بالرغم من الرحيل . . 

وعندما ساد الصمت ارتفع زئير الهواء خارج النافذة فقهقه بركات قائلا : 

- جو بلادك قلَّب» ولكنه جو سعيد! 

وعندما اختفى كل شىء فى الظلمة اشتد زئير الهواء» وأكثر من مرة نضح شيش 
النافذة بوميض البرق فى موجات قصيرة متتابعة كالدغدغة كشفت عن معالم الحجرة 
الكاسية والعارية» ثم استكن الظلام كأكثف مما كان فتضاعف حنان الشاب واستمتاعه 
بالدفء والأمان. ووجد نفسه يتذكر جو الساحل عندما يكفهر وتنتشر فى تضاعيفه 
تحركات غامضة متوترة تنذر بوشيك المطر . وما لبثت الأمطار أن انهلت فوق النافذة فى 
عربدة صاخبة» فقال لنفسه وهو يستزيد من متعة الأمان والهناء : إن قيام الساعة نفسها 
يطيب فى أحضان الحب . 

واستيقظ عند الضحى . 

وفتح النافذة فدخل هواء بارد وتراءت السماء ملبدة بغيوم فى لون المغيب جامدة غير 
موحية . 

وجلست هى على الكنبة فى تراخ مشعثة الشعر منتفخة العينين فاترة النظرة شبه عابسة 
كأنها لم تعرف اللعب. وخيل إليه أنها كبرت أعواما فسرعان ما شعر بالكبر وبأن كل 
شىء زائل . وتشاءب طويلا بصوت كالأنين» ثم قالت وكان أول ما نطقت به منذ 
استيقاظها: 

- هذا أوان الذهاب . 

فتساءل : 

-لم العجلة؟ 

-انتهت الليلة» ولدى عمل ومواعيد! 

ثم رأى حركة لم يكن يتوقعها. رأها ميل نحو التواليت ثم تفتح الدرج وتسترد 





6 يشي امن 


الجنيهين من مكانهما ثم تعيدهما إلى حقيبتها وقد تشاءبت مرة أخرى . ما معنى هذا؟! . . 
وسألها فى حيرة : 

أأنت فى حاجة إلى نقود؟ ! 

كلاء أخذت ما اتفقنا عليه فقط! 

فتساءل فى دهشة وكابة : 

- أى اتفاق يا عزيزتى؟ ! 

الاتفاق» نسيت؟ 

فضحك ضحكة بلهاء وقال: 

- الظاهر أنك أنت التى تنسين! 

ولم تعن بالرد»ء فقال بجزع : 

دشت عحيت» التقود لاتيم ؛ ولكتك قلت آمس :+ انييف هق ؟! 

وقال لنفسه إما أننى مجنون وإما أنها مجنونة. ثم قال عابسا: 

- ما لك؟ ماذا جرى؟ خبرينى من فضلك؟ ! 

فاشسمت ابتسامة باردة وهى تتساءل: 

- أتريد أن تأخذ دون أن تعطى؟ 

- قلت إنك لا تأخذين عندما ترضين! 

فرمقته بنظرة غريبة ثم قالت: 

أردت أن أهبك ليلة سعيدة» هذا كل ما هنالك . . 

فسألها بصوت متهدج : 

- مجرد حيلة من الحيل؟ ! 

- ولكنها أسعدتك سعادة حقيقية. . 

فقال وغضبه يتراكم كزوبعة فى الأفق : 

كذبة حقيرة . 

- لاتزعلء. كانت السعادة حقيقية» وأنا أستحق شكرك! 

رماها بنظرة قاسية لم تر من وجهها إلا دمامة وحشية» وأصغى فى رجفة إلى حديث 
نفسه الثائرة التى تدعوه إلى خنقها حتى يتفجر دمها الأسود» فنظرت إليه بقلق وحذر 
فصاح بها: 

- شيطانة حقيرة . 


1110 





ا م ع 


فلم تنزع بصرها منه متوثبة للدفاع عند أول حركة فصاح : 

- وحيلة فاشلة ألا تدركين ذلك؟ . . أود أن تدفعبى حياتك ثمنا لها. . 

فلم تنبس وازدادت حذرا فعاد يقول: 

- وما فائدة ذلك يا مغفلة؟ لن تستطيعى أن تكرريها مرتين . 

اطمأنت الآن إلى أن موجة الجنون قد انحسرت عنه فيما بدا وأنه أخذ يسترد شيئا من 
هدوئه الخائب وإن رانت عليه كآبة ثقيلة فقالت: 

- لكنها حيلة لا بأس بها قبيل الرحيل» أليس كذلك؟ 


فقال بازدراء: 
- قلت يا مغفلة إنك لن تستطيعى أن تكرريها مرتين. . 
فتساءلت: 


- ومن قال إننا سنلتقى مرة أخرى؟ ! 


حلم نصف الليل 


أم عباس امرأة جميلة» عرفت فى الحى بجمالهاء ويتطلع إليها أصحاب الأذواق كما 
يتطلع أهل الخلاء إلى عين ماء . وهى إلى ذلك تمتلك عمارة قديمة من أربعة أدوار غير 
ثلائة دكاكين أسفلها ولذلك عدّها الأهالى ‏ وكلهم فقراء ‏ حلما موشى بالذهب. ويوم 
توفى زوجها بائع المسابح والمباسم والأوراد كانت فى حوالى الأربعين» وهى سن يعتبرها 
الحى ذروة النضج ومجلى البضاضة وعطر الأنوثة. وكثيرون سعوا إلى التزوج بهاء 
ولكن القسمة دفعت بها إلى أحضان رجل لم يجر عند الظن على بال. كان حسنين يملك 
عربة كارو ويؤجرها إلى الغير» فى الثلاثين من عمره» قوى الجسم مرهوب الجانب» 
ومعدودا من فتوات الدرجة الثالثة . ولم يكن أحد فى الحى يحبه أو يعجب به فازدادوا له 
مقتاء وعجبوا كيف تقع امرأة كأم عباس فى أحابيله» وقالوا بأسف والغضب والحسد 
يأكلان قلوبهم : 

- مسكينة أم عباس » ومسكين عباس ! 

وعباس ابنها من الزوج الراحل» فى العشرين من عمره» طيب القلب جداء تلوح فى 
عينيه الواسعتين نظرة صامتة» ولعلها ناطقة بلغة مجهولة» يبتسم كالأطفال» ويطاق 
شاربه ولحيته ويحبهما. وهو أمى لم يحصل فى الكتاب حرفا ولذلك فتح له أبوه دكانا 





37 ل المع 


من دكاكين العمارة لبيع الحلوى والفول السودانى واللب فكان يغدق على الأطفال بغير 
حساب . ولما تزوجت أمه من حسنين غاب عن الحى أياما ثم عاد وهو يقول لكل من 
ا ْ 

- لا يصح أن يحل محل الأب رجل آخر. . . 

ورفع رأسه نحو مسكن أمه وصاح بأعلى صوته: 

-يا أم عباس . . . الله يسامحك. . . 

وعندما ينقضى النهار يخلع جلبابه ويلبس بدلة زرقاء فاتحة اللون فهو يحب الألوان 
الفاتحة» ويمشط بعناية شاربه ولحيته» ويغطى رأسه بطربوش متداعى الأركان» ويتناول 
عصاه الخيزران البرتقالية» ثم يغلق الدكان وينطلق فى سبيل طويل» ملقيا بتحياته يمنة 
ويسرة» يلوك فى فيه قطعة من السكر النبات ويبتسم فى سعادة رائعة» وأكثر الليل يرى 
هائما على وجهه. ومذ تزوجت أمه من حسنين اتخذ من دكانه مسكنا فلم تعارضه أمه 
طويلا لعلمها بعناده؛ وكانت لا تخشى شيئا عليه وتقول إن ملائكة الله تحرسه. وسعى 
حسنين يوما إليه متوددا ولكنه صاح فى وجهه : 

-اذهب» أنا لا أعرفك . 

فغضب الرجل قائلا : 

-أنا عمك . . 

وحال أناس بينهما وهم يلاطفون الرجل دفاعا عن الشاب المحبوب. وحزنت أم 
عباس حتى دمعت عيناها الجميلتان. كانت تحب عباس لأنه وحيدها ولأن وجهه صورة 
من وجهها. أجل كان عباس جميلاء ولا يخفى جماله رغم اللحية والشارب والطربوش 
المتداعى الذى يغطى ثلث وجهه. 

ومن عجب أن حسنين ازداد بعد نعمة الزواج من أم عباس فظاظة وانحرافا. 
واستفحل جانب الفتوة من ذاته فاشترى الأعوان وأكثر من العدوان. وكان يسكر حتى 
تلاطمه الجدران» وكان يغنى إذا سكر بصوت تنفر منه الخنافس» وكلما رأى عباس 
الرجل فى حال من أحوال عربدته خرج من دكانه إلى الطريق ورفع رأسه نحو مسكن أمه 
وصاح بأعلى صوته : 

-يا أم عباس . . الله يسامحك . . 

ويوما ترامت حشرجة نبراته الصارخة من وراء الشيش إلى الطريق فى هياج وحشى : 

آنا سيك الببيعة ب آنا سيف الكل 

وتخيل الناس المرأة الجميلة تحت زوبعة الإهانات بأسف. المرأة التى لم تعرف فى 
ماضيها سوى الحب والتكريم . وتساءلوا عن سر ذلك الغضب . وأجاب سكان العمارة 


1110م 





سيق امم 4١‏ 


بأن الإيراد هو سر الغضبء وأن الفتوة اتتصرء وأصبح المحصل الوحيد للإيجار! ولم 
تعد أم عباس تخرج كعادتها لزيارة الجارات والتجول فى التربيعة. لم يعد أحد يراها 
وهى تتبختر فى الملاءة اللف كالمحمل وعيناها المكحولتان ترنوان بنظرة دسمة حول 
عروس البرقع . 

ولم يقنع حسنين باغتصاب دخل الأم فمضى يوما إلى دكان عباس وهتف وهو يترنح 
من السكر حتى طير الأطفال عن ملعبهم : 

-دلنى على مليم واحد ورثته عن أبيك؟ 

وتعلقت عينا عباس بالأطفال وكأنه لايرى الرجل الآخرء فأنذره هذا بسبابته 
صائحا: 

-ادفع الإيجار أو فلتخل الدكان. . 

وسارع إليه بيومى اللبان ليهدئ من ثائرته» وتودد إليه بمعسول الألفاظ حتى مضى به 
بعيدا وحسنين يقول بلسان ملتو ونثار ريقه يرش وجه بيومى رشا: 

معتوه وبلطجى . . . 

وعند المساء انطلق عباس إلى جولته الليلية» يجود حيثئما ذهب ببسمات رائقة وتحيات 
حارة فى سعادة ملائكية . ودبر حسنين حملة إرهابية جديدة ليحمل أم عباس على أن 
تبيع له العمارة بيعا صوريا. واشتد الخلاف بينهما فضجت الحارة بصراخه وتهديداته. 
وشكت المرأة إلى الخارات كربها. وتشاور بعض الطيبين فى السعى لدى حسنين ليعدل 
عن مطالبه» ولكن أحدا منهم لم يجرؤ على اتخاذ خطوة إيجابية خوفا من بطش الرجل 
وبخاصة أنه اعتدى فى ذلك الوقت اعتداء وحشيا على رجل يدعى «كرمللة» عندما 
ضبطه يوصل نقودا من أم عباس إلى ابنها. وارتفع نحيب المرأة ذات ليلة عقب تعنيف 
شديد من الرجل ثم علم أهل الحى أنه ضربها ضربا شديدا وأنها لن تطول مقاومتها. 

وعند الفجر تعالى صراخ فمزق السكون تمزيقا. واستيقظ الناس فزعين وفتحت 
النوافذ وهرع كثيرون إلى مصدر الصراخ» إلى القبو. وعلى ضوء فانوس رأوا بيومى 
اللبان وهو واقف يرتجف . هو أول من يستيقظ فى الحى ليسرح بصفيحة اللبن ولكن ماذا 
دهاه؟ ووجدوه يشير إلى مكان فى الأرض فنظروا حيث يشير فرأوا حسنين سابحا فى 
دمه وقد تكومت جثته أسفل جدار القبو. 

واضطرب الحى اضطرابة عنيفة» وسرعان ما احتلته الشرطة والنيابة ثم اندفع التحقيق 
فى جميع الجهات متعقبا الشبهات كافة. استدعى كرمللة وهو آخر ضحية للقتيل» وأم 
عباس » وبعض سكان العمارة» وبيومى اللبان تنفسه. وعشرات وعشرات من خصوم 
الرجل الذين لا يحصيهم عدء ولكن ثبتت براءتهم جميعا بصورة قاطعة. حتى عباس 





67 ربق امن 


استدعوه للتحقيقء, ولما سثل عن المكان الذى كان فيه وقت ارتكاب الجريمة أجاب 


ولما أراد المحقق أن يعرف من هو الخضر أجاب عباس بدهشة : 
ألا تعرف سيدنا الخضر؟ ! 


ولكن كثيرين كانوا يعرفون تجوال عباس خطوة فخطوة وقد شهدوا نيابة عنه. وهكذا 
بدت الجريمة لغزا لا يريد أن يحل . وعرف من التحقيق أن حسنين قتل بآلة حادة هشمت 
مؤخر رأسه. والحق أن أحدا لم يأسف عليه» ولكنهم تساءلوا كثيرا عن القاتل»ء وظلت 
الجريمة حكاية الحارة المثيرة زمنا طويلا . 

وظن أول الأمر أن عباس سيرجع إلى مسكن أمه ولكنه رفض ذلك بإياء. واعتصرت 
المحنة الأم فغرقت فى الحزن ولكن جمالها قاوم المأساة وخرج منها فى النهاية متألقا 
كماضيه . وعادت تتبختر بين السكة الجديدة والتربيعة وعاد الإعجاب يحوطها كالهالة. 

وإذا برجل يتقدم طالبا يدها. كان فى الحقيقة شابا دون الثلاثين» قصابا أقرب ما 
يكون إلى الفقر ومن أهل الحى المجاورء جميل الصورة» دمث الأخلاق» نظيف الذمة. 
وتساءل الناس : هل تجازف المرأة بقبول التجربة مرة أخرى؟ ! وقبلته المرأة بأسرع مما تخيل 
أحد. ومع أن بعض الطيبين قالوا إن الله قد عوضها خيرا إلا أن كثيرين تهامسوا 
متسائلين : ترى ألهذا الرجل علاقة بالجريمة الغامضة؟ ! أما عباس فقال كعادته : 

- لا يصح أن يحل محل الأب رجل آخر. 

وخرج وسط الطريق ثم رفع رأسه إلى عش العروسين صائحا: 

-يا أم عباس . . الله يسامحك! 

وبلغ التهامس المريب مسامع الحكومة فأجرت تحرياتها عن العريس - وكان يدعى 
عبده واستدعى لسؤاله هو وأم عباس ولكن لم يثبت عليهما شىء وظل اللغز أخرس 
كماكان. وتجلت بالمعاشرة مزايا عبده القيمة» فقد وهب المرأة حبا وعطفا ومعاملة 
كريمة. وعرض مسن بادئ الأمر صداقته على عباس . ومع أن الشاب نهره قائلا: 
«دعنى وشأنى» فإنه حباه بعطفه ورعايته وحث أمه على مده بما هو فى حاجة إليه من 
نقود. وأثبت فى الوقت نفسه أنه ذو عقل راجح فقد اقترح على أم عباس أن تبيع حوشا 
خلفيا للعمارة قائما على ناصيتين لتجدد العمارة بثمنه وتبنى دورا جديدا. وأولته المرأة 
الثقة التى يستحقها فتجددت العمارة وارتفعت وازداد دخل أم عباس زيادة محسوسة 
حتى أعجب به الناس وقالوا: رجل ولا كل الرجال. وقال بيومى اللبان لعباس 
وهذا يتناول عشاءه فى دكانه قبل الانطلاق إلى جولته الليلية : 


1110 





ال رك + 


-أنت لك قلب ملاك فكيف تنفر من رجل طيب كعم عبده؟ 

فمضى عباس فى تناول الزبادى كأنه غير المقصود بالكلام» فتساءل بيومى : 

ألا تحب من يحب الناس ويعمر الخرابات؟ 

وأعاد عباس سلطانية الزبادى فارغة ثم نظر فى عينى بيومى قائلا: 

الوحش . . ألم تره وهو يقطع اللحم فى دكانه؟! 

ووضح فيما تلا ذلك من زمن أن عبده بار كذلك بأهله» فكان كلما خلت شقة فى 
العمارة أسكنها أحد أقاريه . وكان يخفض الإيجار للفقراء منهم بإذن من زوجته . وفى 
ذلك كله لم يجد أحد ما يؤاخذه عليه حتى جاء بأمه وأختين له ليقمن معه فى شقته فعند 
ذلك ردد البعض امثل القائل : ”إن كان حبيبك عسل ما تلحسوش كله» . والحق أن أم 
عباس لم ترتح لذلك» وهى قد فوجئت بالأمر الواقع مفاجأة لم تستطع معها منعه ولكنها 
أدركت أن الزمام قد أفلت من يديها وأنها لم تعد سيدة بيتها بحال بعد أن اضطلعت 
حماتها بالمسئولية فشعرت بالضياع . 

وإذا به يوما يخلى دكانين من دكاكين العمارة الثلاثة ويهدم الجدار القائم بينهما ليقيم 
دكانا كبيرا فخماء ثم انتقل إليه من محله الصغير بالحى المجاورء وعلقت الخراف 
والعجول» وصار أكبر قصاب فى الحى كله . وافتتح المحل الجديد بتلاوة من قارئ حسن 
الصوت. وحمد عبده الله بصوت سمعه الكثيرون على ما فتح به عليه من مال حلال! 

ولأول مرة اختلف الناس فيه؛ فمن قائل إنه مثال للأمانة والبر» ومن قائل إنه حسنين 
آخر حريرى الملمس . وشك أناس فى ذمته وعض الحسد قلوب كثيرين. وتغير عبده 
بعض الشىء فاختفت نظرته الوديعة وحلت محلها نظرة جديدة مليئة بالثقة» وطعم 
دماثته المألوفة بقدر من الحزم والعزم اقتضاهما مركزه المالى ومسئوليته كرجل أعمال . 
ولم يكتف باستعمال حزمه وعزمه فى التجارة فاستعملهما فى البيت أيضا كلما نشب 
نزاع بين أم عباس وأهله» واستعملهما خاصة مع أم عباس . ولما كانت المرأة لم تعهده إلا 
لطيفا مؤانسا فقد كبر الأمر عليها وحزنت حزنا شديدا. وساءت ال حال بينها وبين أهله. 
وأصرت على استرداد ما ضاع من حقوقها فى بيتهاء حتى قالت له يوما: 

- أنا لا أريد أن يشاركنى أحد فى بيتى . 

وإذا بالرجل يقول لها بصوت رهيب: 

- لك ما تشائين فتفضلى بالذهاب . . ! 

ولم تصدق المرأة أذنيها. ثم صاحت: 

- هذا بيتى . . وعلى الآخرين أن يتركوه . 

ووقع اشتباك بالأيدى بين النساء فهاله أن يعتدى على أمه. وانهال على أم عباس 





31 ميق الم 


ضرباء ثم دفعها خارج البيت. وجدت نفسها وحيدة فى الطريق حتى آوتها أسرة فقيرة 
تمت بقربى بعيدة إلى زوجها الأول. وهز الحادث النفوس هزا وهرع عباس إلى ما تحت 
مأواها الجديد وصاح بأعلى صوته : 

-يا أم عباس . . الله يمسامحك. . 

ولم يدر الجيران ماذا يفعلون؛ فلم يكن من اليسير إغضاب الرجل بعد أن كبر نفوذه 
وتعلقت به مصالح كثيرين. وفكر البعض فى رفع الخلاف إلى ساحة القضاء ولكنهم 
كانوا يتهامسون بذلك سرا خوفا على أنفسهم . ولم يجهر بالسخرية منه إلا عباس حتى 
غضب عليه الرجل فمنع عنه مصروفه وهو يقول بأعلى صوته : 

-عبث السفهاء لا يجوز أن يمتد إلى المال. . 

والتفت إلى كثيرين من أهل الحى الذين وقفوا يشاهدون النزاع وقال لهم : 

-أى واحد منكم أحق بالنقود التى يعبث بها هذا الغلام المعتوه . 

ولكنهم كانوا يرمقون الدكان والخراف والعجول ويتساءلون: وهذه الأموال ما 
شأنها؟! أما عباس فلم يكترث لشىء وبدا كأنما يزداد سعادة وسيادة» وكان ينطلق فى 
الليل كأنه وارث الملكوت . وقال الناس : إن أم عباس امرأة تعيسة الحظ وإن قلبها 
الضعيف يدفعها دائما إلى المهالك . وبينما كانت تعيش بفضل إحسان أسرة فقيرة كان 
عبده يتضخم ويشارك فى كل نشاط مالى فى الحى . وسعى بالصلح بينهما أناس طيبون 
حتى أعادوا المرأة إلى بيتها. ولكنها عادت منكسرة النفس لا أمل لها فى حياة كريمة» 
ولم يسمح عبده بإعادة مصروف عباس إليه إلا بشرط أن يشاركه فى دكانه أحد أقربائه هو 
ليصون المال ويدير العمل . 

وأحب عبده الحياة المريحة المترفة فعقد اللاسة الشاهى الفاخرة فوق رأسه وتلفح 
بالعباءة من وبر الجمل» و لبس المركوب الملون من خان الخليلى وتحلى بالخواتم الذهبية» 
وسبقته رائحة المسك حيث ذهب فيقوم له الناس على الجانبين حتى يختفى عن الأعين 
فيتهامسوا : 

الله يرحم أيام زمان. . ! 

وعند الفجر تعالى صراخ فمزق السكون تمزيقا. واستيقظ الناس فزعين وفتحت 
النوافذ» ثم هرع الجميع إلى القبو. رأوا بيومى اللبان وهو يرتجف فنظروا إلى حيث يشير 
فرأوا المعلم عبده مكوما ورأسه غائص فى بركة من الدم . وزلزل الحى زلزالا عنيفا. 
وأطبقت عليه الشرطة والنيابة والمخبرون. واستدعى إلى التحقيق عدد لا حصر له من 
أهل الحى» ولكن لم يقع على أحدهم ظل شبهة من قريب أو بعيد» وقطعت الدلائل بأن 
جريمة عبده ستلحق بجريمة حسنين . وقال أناس وهم يضربون كفا بكف : 


110 





ميك اسمن ع 


-ما أعجب هذا! . . 
فقال آخرون: 
- انتظروا حتى يظهر العريس الجديد. . 
ومضى عباس إلى دكان بيومى ليتناول عشاءه المعتاد قبل الانطلاق لحولته الليلية. 
وجعل بيومى يرمقه بغرابة وهو يأكل الزبادى بأناة وسعادة» وشاربه ولحيته يلتقيان حول 
فيه ويبتعدان فى حركات متتابعة . وتردد بيومى قليلا ثم قال : 
-عباس! أنت أعجب شىء فى حارتنا . . 
فابتسم عباس إليه ممودة إذ كان أحب الناس إلى قلبه» فقال الآخر فيما يشبه 
الهمس: 
- كان عبده ما زال حيا عندما عثرت عليه فى القبو. . 
فتحسس عباس شاربه عند امتداده فوق فيه ليتأكد من جفافه» فقال بيومى : 
- وقد نطق باسم قاتله قبل أن تصعد روحه. . 
فملأ عباس الملعقة بالزبادى ورفعها إلى فيه وهو يركز فيها عينيه» فقال بيومى : 
- وهو بلاشك قاتل حسنين من قبل . . 
لاح فى وجه عباس عناء من يستحضر خيالا لا يرام» فقال بيومى : 
- وعند التحقيق نسيت كل شىء . . وتلك إرادة الله! 
أتى عباس على آخر ما فى السلطانية وتأهب لمغادرة الدكان فتساءل بيومى : 
- من أنت يا عباس؟ ! وماذا يقول لك سيدنا الخضر كل ليلة؟ ! 


قوس قفزح 


اجتمعت الأسرة على هيئة مجلس للشورى . ذلك تقليد جميل متبع من زمن بعيد 
بفضل حكمة الوالدين : حسن دهمان وهو من رجال التربية وعلم النفس» والسيدة نظيرة 
وهى مفتشة كبيرة بوزارة الشئون. والغرض منه تربوى لإشراك الأبناء فى تحمل المسئولية 
وتفهم الحياة فضلا عن أنه يجعل من العقل المحرك الأول لسلوكهم . وقالت الأم : 

- نحن نجتمع لمناقشة مسألة «طاهر» . 

وطاهر هو الابن الأصغر فى المرحلة الثانوية» يحب ابنة زميل لأبيه تقاربه فى السن» 





.6 مر المي 


ولما كانت أسرة الفتاة على وشك الانتقال إلى بلد عربى لعدة سنوات فقد أراد طاهر أن 
يخطب البنت قبل السفر» وقال سمير وهو أكبر الأبناء وطالب بكلية الهندسة : 

أعتقد أن الخطبة بالنسبة لطاهر سابقة لأوانها. . 

وقالت هدى وهى طالبة بكلية الحقوق: 

- طاهر متقلب فى عواطفه» رأيى التريث . . 

والتفت حسن دهمان بوجهه الحاد نحو طاهر وقال : 

- أود أن أسمع رأيك. . ؟ 

وبوجه متجهم, وهو يركز بصره فى تهاويل السجادة تجنبا لالتقاء الأعين» قال طاهر: 


- ما فائدة الكلام ما دام العقل سينتصر فى النهاية؟ 

وطال الأخذ والردء ثم أخذت الأصوات» وانتصر العقل كما تنبأ طاهرء وقال الأب 
معلقا على النتيجة الحكيمة : 

هذا هو عين العقل . . 

هذه الجملة إكليشيه يختم به الرجل مناقشاته وتقريراته الموفقة . ومنها يقف طاهر 
موقفا غير ودى» إذإنه طالما عانى المتاعب باسم العقل . ولكن العقل يؤدى دورا خطيرا 
فى حياة الأسرة كأنه معبود. بفضل توجيهه ساد الأسرة نظام عجيب فهى ساعة دقيقة . 
البيت آية فى الترتيب والأناقة كأنه وجه ذو ملامح أبدية . سقوط عود كبريت أو تزحزح 
مقعد عن موضعه أو ارتفاع فى درجة صوت الراديو عن الحد المرسوم يعد من الحوادث 
المزعجة التى تتطلب علاجا سريعا. أوقات الطعام والاستيقاظ والنوم والعمل والراحة 
تخضع لدقة فلكية. ويقول حسن دهمان عن ذلك كله : 

هذا هو عين العقل . . 

ولكل فرد فى الأسرة دفتر توفيرء ونوع من الكتب يلائمه؛ وحتى الأغانى والبرامج 
الإذاعية والتليفزيونية تتقرر بعد تشاور ونقاش. ولدى مواجهة أى مسألة مهمة ينعقد 
مجلس الأسرة ويدلى كل برأيه» ويفحص هذا الرأى بكل عناية ودقة سواء تعلق بنوع 
الدراسة أم الحب أم الصداقة أم السياسة . أجل لا يفلت من هذا النظام شىء» ثم يقول 
حسن دهمان بكل ارتياح : 

هذا هو عين العقل . . 

وعقارب الساعة آيات فى الدقة إلا العقرب الصغير فهو مصدر قلق لوالديه . 

- ألا تخجل من نفسك يا طاهر؟ 


1110 





ار 5 


لكنه ينظر بغرابة إلى ما حوله. لا يريد أن يتحمس لشىء. ويحضر مجلس الأسرة 
وهو كاره. ويتحفز للمعارضة بسبب وبلا سبب . نشاز فى أوركسترا العائلة. ويغالب 
ضحكة مريرة فى أحايين كثيرة . وبلغ به الاستهتار مرة أن اقتحم المطبخ وتناول غداءه قبل 
موعده المحدد بنصف ساعة . 

وقال له والده: 

- ولكن هذا شذوذ لا مبرر له يا بنى. . ! 

ولما لم يجد منه استجابة من أى نوع سأله : 

- أما زلت تفكر فى الخطبة؟ 

فأجاب ببساطة . 

-كلا. الجوع هذه المرة لا الحب . . ! 

ولما ذهب همست نظيرة هانم فى أذن زوجها: 

-آخر العنقود يا عزيزى . . 

فتساءل الرجل مغضبا: 

هل نرضى بالهزية؟ 

-كلاء ولكن الأمر يتطلب عناية مضاعفة . . 

وآمن طاهر بأن مقولة «هذا هو عين العقل» تطارده حيث ذهب . إنها تطوقه فى الظاهر 
والباطن. إنه غريق فى نسيجها المحكم . حتى الحب والطرب والحزن. وسمع لجريان 
الدم فى أطرافه صوتا فأيقن أن شيئا سيحدث . وشاركه إحساسه من يعيشون حوله ولكن 
فى صمت متبادل . ويوما وهو فى الفراندا المطلة على الحديقة الصغيرة حدث شىء . كان 
موسم الامتحانات يقترب وسمير وهدى مكبان على المذاكرة. وكان الأب يكتب بحثا 
والأم تقرأ مجلة أمريكية. وبكى طاهر . كان فى الفراندا يذاكر. وشعر بآن الحمل فاق 
احتماله وأن الدنيا لاشىء. وترك الكتاب فوق الترابيزة وراح ينظر فى لا شىء. وحزن 
حزنا عميقا. ثم انصهرت الكآبة فذابت دموعا. وكتم أول الأمر أن يسمعه أحد. ثم 
تدافعت الدموع بغزارة مذهلة فنشج ثم نحب . وغلبه ذلك فاستسلم للنحيب حتى هرع 
إليه الجميع . وقفوا مبهوتين. وجاءت أمه بماء فغسلت وجهه. وظل يبكى بحركات بلا 
صوت وبلا دموع . وأسند رأسه إلى صدر أمه فتلقته بحنان وهى تتساءل بقلق : ترى هل 
جاوزت الحد «المعقول» فى إظهار الحنان الذى يعتمل فى صدرها؟ ثم هدأ طاهر تماما 
فجلس واجما ولم يبق من الانفعال الغريب إلا نظرة حزينة بكل معانى الكلمة. وساد 
الصمت وارتسمت الأسئلة فى الأعين القلقة . وسألته أمه: 

- مالك يا طاهر؟ 





4 مي المع 


أجاب دون أن ينظر إلى أحد: 
ا د 
ارتسمت الدهشة والاحتجاج مكان الأسئلة» وقال له سمير: 
- خبرنا يما يحزنك . . ! 
وقالت هدى بحرارة : 
- يجب أن نعرف ذلك . . 
ولكن الأب أشار إليهما بالخروج فخرجا ثم سأله برقة: 
- ماذا بك يا بنى؟ 
حقلت لأشى:! 
أيام الامتحانات أيام مرهقة للأعصاب . . ؟ 
دكلة كل شىذطييه : 
وغادر الأب الحجرة ليمنح الأم فرصة أطيب» ولكن طاهر لم يقل شيئا. ولم يكن 
يعرف أكثر مما قال» ولذلك لم يستخلص أحد منه جديدا لا فى تلك الليلة ولا فى الأيام 
التالية. ونصحه والده بالتريض فى الشوارع المحيطة بمسكنهم ساعة كل يوم قبل أن 
يجلس للمذاكرة. واعتبر الحادث عرضا من أعراض الإرهاق العصبى . ولم يعد أحد 
يذكره» ثم نسوه تماما. 
ويوما قال حسن دهمان باهتمام : 
دعوت مديرنا الجديد إلى سهرة لطيفة فى حديقتنا الصغيرة . . 
وخاطبت الأم الأبناء قائلة : 
- يجب أن نظهر بالمظهر اللائق وأن تمكثوا معنا قليلا ثم تنصرفوا للمذاكرة» وسيتوقف 
على لباقتكم نجاح الحفلة . . 
وتساءل طاهر: 
- أهو صديقك يا بابا؟ 
فتفكر الرجل مليا ثم قال: 
الصداقة نعمة كبيرة وعلينا أن نستزيد منها كلما وسعنا ذلك . والمدير العام مجرد 
زميل أكبر ولكنه سيكون غدا صديقاء والحياة الاجتماعية تطالبنا بواجبات نافعة 
لابد منها. 
وقال طاهر لنفسه: «هذا هو عين العقل». وكان المدير الجديد قصيرا بدينا ضخم 
الوجه والرأس أصلع ويتكلم ببطء شديد. وأنعم طاهر فيه النظر وهو يقاوم رغبة شريرة 


11100 





رليك اسمن 6 


فى الضحك . وأعجبه منظر أمه وهدى وهما فى كامل زينتهماء وتابع أحاديث أسرته 
الطلية بدهشة . وسمع والده يستشهد بالشعر أكثر من مرة وسمع أمه وهى تعلق على 
شكوى المدير من كثرة نسيانه قائلة : 

تلك آية العبقرية يا سعادة البيه. . 

وانسحب سمير وهدى فى الوقت المناسب. ولكن طاهر لم يبرح مجلسه. ورغم 
إشارات أمه الخفية لم يبرح مجلسه. ولما لاحظ أبوه تطلعه إلى المدير قال له : 

-آن لك أن تذهب يا طاهر. 

فتساءل طاهر : 

ألا أقول شعرا يا بابا؟ 

وقطب الأب على حين سأله المدير: 

أأنت شاعر؟ 

كلا ولكنى أحفظ الشعر. . 

-إذن أسمعنى لأعرف ذوقك . . 

فقال طاهر بانتصار: 

- علو فى الحياة وفى الممات. . 

-شعر مشهور . . 

- قيل لمناسبة شنئق رجل ! 

فضحك المدير قائلا : 

-شعر جميل» أما المناسبة فسيئة جدا! 

عند ذاك ضحك طاهر . شعر بأن الحمل فاق احتماله وأن الدنيا لا شىء وراح ينظر فى 
لاشىء. وحزن حزنا عميقا. ثم انفجر ضاحكا. بادره أبوه فأخذه من يده ومضى به 
خارجا. وعند نهاية السهرة ناقش الوالدان مشكلة طاهر طويلا فاتفق رأياهما على أنها 
بحاجة إلى علاج حقيقى » ولكنهما رأيا أن الأوفق تأجيل ذلك إلى ما بعد الامتحان. 

ويوما ارتفع صوت هدى فى البيت وهى تنادى فى شبه استغاثة صائحة : «ماما.. 
تعالى انظرى ماذا فعل طاهر!». وهرع إلى حجرة الشاب كل من سمع النداء . رأوا 
الحجرة فى أغرب منظر . منظر لا يخطر على بال إنسان. حشية السرير قد طرحت فوق 
المكتب. والكتب والأوراق قد صفت فوق خشب السرير . والصوان انعكس وضعه 
فالتصق بابه بالجدار. وقلبت المقاعد على ظهورها. وطويت السجادة الصغيرة ثم علقت 
بدوبارة بسلك المصباح الكهربائى . وندت عن الأم صرخة رثاء وهتف الأب: 





0 لك مو 
16 نيدي لمع 


د كارثة : ., كارثة وونيى! 

وسألوه جميعا عما فعل. وكان يقف وسط الحجرة هادئا وباسما فلم يزد على أن 
تساءل بدوره: 

حولي لأ؟ 

وصاحت الأم : 

- أنت تمزق قلبى . . 

فقال برقة : 

- آسف على إزعاجكم . 

فقال الأب بحسرة: 

دير معقول:. . غير مغقول: . 

- لم لايا بابا؟! كنت أقوم بتجربة» ولو أمهلتمونى لكان ذلك عين العقل. . 

وغادر الحجرة إلى الفراندا» وتبعه والده فوجده واقفا ينظر إلى السماء باهتمام بالغ . 
ونظر الرجل حيث ينظر فلم ير شيئا فازداد انقباضا ثم سأله برقة : 

- أتعبت رقبتك» لم تنظر هكذا إلى السماء؟ 

وأهملة طاهر حق كرو هر الممر وو ثم قال بضجر: 

- إنى أحسدها على ما تنعم به من حرية! 

فقال الأب محذرا: 

لكنها مستقر أدق نظام فى الوجود.ء النظام الذى لا يخطى. . 

فانزعج طاهر وخفض عينيه غاضبا. . 

- ألا تحب النظام يا طاهر؟ 

فقال بحدة : 

-لا أحب لشىء أن يتكرر مرتين. . ! 

لكنها الفوضى يا بنى . . ! 

فهتف الشاب : 

-ما أجمل هذا! 

وتشاور الوالدان فأجمعا على وجوب البدء فى العلاج دون إبطاء ولو ضاع العام 
الدراسى . واتفقا على أن يستشيرا طبيبا باطنيا أول الأمرء على أن يذهبا بعد ذلك إلى 
طبيب أعصاب إن نصح الباطنى بذلك» ثم إلى طبيب نفسانى إن لزم الحال. 


110 





60١ ار‎ 


وكان الوالدان فى الحديقة يستقبلان بعض الضيوف. وسمير وهدى يذاكران» عندما 
سمع الجميع ضجة فى الطريق وتدافع أقدام فى الداخل وصراخ الخادمين . 

وتبين أن النار مشتعلة فى الطابق العلوى . وانطلقوا جميعا إلى الطريق وأحد الخادمين 
يحمل طاهر بين يديه . وجاءت المطافئ فأخمدت النار قبل أن تستفحل . وقال طاهر فى 
التحقيق ببساطة مذهلة : 

- نعم» أنا الذى سكبت البترول وأشعلت النيران. 

ولما سكل عن السبب أجاب بالبساطة نفسها: 

-لا أتذكر. . 

ثم لاذ بالصمت . 

وانطلقت سيارة المستشفى . جلس طاهر مقيد اليدين والقدمين بين والديه» على حين 
جلس أمامهم مندوب المستشفى : 

- كم رأينا من حالات أشد من هذه ثم عاد أصحابها كأعقل ما يكون. 

وأراد الأب أن يقول: «إن ذهاب العقل كارثة لا تعادلها كارثة» ولكنه لم ينبس . 
وساءل نفسه: «١ما‏ معنى هذا؟! وهل ثمة خطأ؟». كان بيته-وما زال معبدا للعقل 
وللنظام فكيف تسلل إليه الفساد؟ وحز الألم فى نفسه حتى تتابعت تأوهاته الباطنية 
وحتى حسد زوجته على سخاء عينيها فعض على شفته . 

وتطوع المندوب للتخفيف من كاآبة الجو فقال: 

المستشفى خير مكان له فلا تحزنا لذلك الإجراء الذى لابد منه . . 

ولم تكن لدى حسن دهمان رغبة فى الكلام ولكنه أراد أن يجامل الرجل بقدر ما 
يستطيع فتمتم وهو من الحزن فى غاية : 

- صدقت يا سيدى» هذا هو عين العمل . 


الصمعت 


ما أفظع هذه الحجرة. كميدان قتال. لا ترى العين فى أى موضع منها إلا سلاحًا 
يقشعر منه البدن. وهو لا يعرف إلا المقص ولكن المعرض حافل بما يشبه السكاكين 
والخناجر والدبابيس من الأشكال والأحجام كافة. وثمة أوعية ملوثة بالدم تحت الموائد 
المعدنية . قطن وشاش.ء ورائحة أثيرية نافذة كنذير من عالم مجهولء وثلاثة أطباء . 





401 ا 


الطبيب المولد وطبيب القلب وطبيب التخدير» وممرضة بدينة لكنها فى خفة النحلة ولا 
تمسك عن الحركة . لم ير الأشياء إلا خطفا على حين تركزت عيناه فوق السرير المرتفع 
حيث ترقد زوجته مطحونة بالصراع» مرفوعة الساقين فوق حاجز قائم فى نهاية السرير 
وقف وراءه المولد فى معطفه الأبيض» لا يبدو منه إلا نصفه» ويشى أعلى ذراعه بحركة 
يده المختفية . وراحت زوجته تقلب رأسها يمنة ويسرة كاشفة كل مرة عن عارض من 
وجهها المنقبض من الألم» الذى استقرت فى صفحته زرقة مغبرة. آه. . حتام يطول 
الصراع؟ متى يجود بالراحة الرحمن؟ ويد الطبيب لا تكف عن الحركة» وهو ينظر نحوه 
أكثر الوقت» فى بساطة واستهانة ويبتسم ولا ينقطع عن الكلام. . 

- ما أعظم الفارق بين صورتك الحقيقية وصورتك على الشاشة! 

هز رأسه وهو ينتزع من شفتيه الجافتين ابتسامة مجامل» واضطر فى الوقت ذاته أن 
ينزع عينه من الوجه المعذب ليبادل الطبيب نظرة على سبيل المجاملة أيضا . 

-ما أبدع الفن! وفن التمثيل هو سيد الفنون فى نظرى! إنك تضحكنى من أعماق 

قلبى» لا أحد يضحكنى هكذا ولا الأمريكيون أنفسهم» ودور الباشكاتب فى 

فيلمك الأخير دور عجيب حقاء تفوقت فيه على نفسك! 

لاحت فى أعين الطبيبين الأخرين ابتسامة» واسترقت المعرضة إليبه نظرة باسمة 
كذلك. تحية لدور الباشكاتب. ونظر الأستاذ صقر نحو زوجته على أمل أن يكون 
الحديث قد لطف من كربها ولكنه وجدها غارقة فى دنياها الخفية» فساءل نفسه : متى 
ينتهى عذابها؟ ومتى يرحمه الطبيب فيتركه لنفسه؟ وإذا بالطبيب يخاطبها قائلاً: 

- ساعديئى ! يجب أن تساعدينى كما قلت لك مراراء» شد حيلك وأرينى شطارتك! 

وهمست بصوت هو الأنين: 

-لاقوة لدى.. 

- بل لديك قوة عظيمة» ولن تتم الولادة إلا بمساعدتك, افهمى ذلك جيداء أنا فى 

انتظار صوتك! 

استجمعت قواها الخائرة» تتابع الصراخ فى قوة لا بأس بها ولكنه سرعان ما وهن 
فتقهقر إلى أنين مبحوح . وزادت يد الطبيب حركة. وعاد يقول: 

والفيلم فى جملته ممتاز أيضاء قرأت مرة فى مجلة أنك تشترط قبل التعاقد على دور 

أن تطلع على السيناريو. . ؟ 

انتزع عينيه من زوجته مرة أخرى وقال : 

داتعم . 

لكن ما معنى السيناريو؟ 


1110 








مين المع 0ع 


يا للعذاب! 

-هو إعداد القصة للسينما. . 

- أنا أقرك على موقفك» يجب أن تقرأ السيناريو أولاً حتى تضمن لموهبتك فيلما 
يناسبها. : 

دشكرا :+ شكر ا 


وتأوهت المرأة تأوهات متقطعة فقال الطبيب معاتيًا : 
-لا. . لا. . ليس هذا ما أريد؛ الست هى التى تولد نفسها! ومال الأستاذ صقر فوق 


أذنها هامسا : 
- شيئًا من التعب يا عزيزتى كى يسجىء ربنا بالفرج ! 
فقال الدكتور ضاحكًا : 


أطيعى كلام هذا الرجل المسئول! . . (ثم ملتفتا نحوه) لم أعرف أنها كانت زميلة لك 

فى المسرح إلا عن طريق إحدى المجلات» أما أنا فلم أرك فى المسرح ولم أرها 

كذلك لأننى لست من رواد المسرح . 

ثم بعد هنيهة صمت : 

د أن لدت مع ! 

فانتبه صقر قائلاً وقد تكائف عذابه : 

معك يا دكتور! 

- خبرنى ما أحب أدوارك إليك؟ 

رباه إنها لا تجد قوة للطلق» ولكن ينبغى أن يكون الخطر بعيدا وإلاما استرسل 
الدكتور الذى لا يرحم فى استجوابه : 

- ماذا قلت؟! أحب الأدوار إليك! 

لعله دور العسكرى! 

تعنى فيلم حريقة بلا نار؟ . . لا. . لا.. 

وانفجر صراخ من الأعماق» تصاعد حارا مليئًا كأنما يقذف بفتات الصدر والحلق . 
واستحثها الطبيب على المزيد وهو يتركز فى حركة يده الآخذة فى السرعة . وأعقب ذلك 
تأوه عريض مرتفع ما لبث أن هبط إلى درجة الأنين ثم انداح فى الصمت . . ونقل صقر 
بصره من الوجه الأزرق المغبر إلى الساقين إلى وجه الطبيب وتساءل: ترى أهو الختام 
المريح؟! واقترب طبيب القلب فجس النبض . أما المولد فتراجع خطوة ثم خلع معطفه 
والقفاز ودار حول السرير حتى وقف أمامه باسما. همس صقر: 





3 يكن الم 


-الحمد لله؟ 

-الحمد لله داتما . . تعال. . 

ومضى إلى حجرة داخلية فتبعه» وهناك قال الطبيب: 

-ضاعت الجولة هباء. ولن يعاودها الطلق قبل أربع ساعات على الأقل . ٠‏ ثم وهو 


يهز رأسه : 
- وإذا لم تتيسر الولادة بحال طبيعية فلابد من جراحة . : 
1 


- لم لا؟ القلب سليم» وليس بها أمراض» ألم أنصحك آخر مرة بتجنب الحمل؟ ! 

بهت صقر. ومضى إلى الصالون فجلس بين أعضاء الأسرة التى تلقت الخبر بانزعاج 
حقيقى . وذهبوا إلى حجرة الزوجة فوجدوها تغط فى نوم عميق فعادوا إلى مجلسهم . 
وضاق صقر بالجلسة وشعر بحاجة ملحة إلى الحركة . استقل سيارته الدودج إلى قهوة 
الشمسء قهوة الزملاء» وإن لم يأمل فى العثور على أحدهم فى تلك الساعة من 
الصباح . وعند مدخل القهوة ناداه صوت قوى فمضى إلى صاحبه وجلس إلى جانبه فى 
الممر المكشوف تحت سماء مجللة بسحب الخريف . تربع جميل الزيادى فى مجلسه 
تحوطه هالة من الفخامة مصدرها بدانته المتناسقة» وهو زميل قديم لصقر من عهد المدرسة 
الابتدائية» أما اليوم فهو من الأعيان وعشاق المسرح . وكان صقر فى حاجة حقيقة إلى 
المشاركة الوجدانية فقال : 

اطلب لى فنجال قهوة فإنى فى حالة إغماء! 

فطلب له القهوة وهو يتساءل: 

- مالك كفى الله الشر؟ 

وأعاد على سمعه ما قال الطبيب فلم يبد عليه أنه اهتز أقل اهتزاز لكلمة «الجراحة» 
وقال ببساطة : 

- سليمة بإذن الله » والنساء يلدن من عهد حواء فلا تخفا. . 

- المسكينة تتألم بدرجة فظيعة» ويقولون إن الجراحة خطيرة. . 

فتناول الرجل شُويّة فول سودانى من طبق فنجال ممتلىئ وهو يدعوه إلى مشاركته ثم 
قال : 

- إشاعات يروجها الأطباء ليبرروا مطالبهم» المطالب هى الخطيرة حم . . 

وضحك لذكرى وردت للمناسبة وقال قبل أن يفتح صقر فاه : 

- عند مولد ابنى إسماعيل» أتعلم ماذا حدث؟ 


1110م 





يني لمن 37 


حنق صقر على مولد إسماعيل الذى اقتحم عليه عذابه وأجل عزاءه المأمول لوقت لا 
يعرف مذاه! 
ولدته أمه فى ثمانى عشرة ساعة! جاءها الطلق الساعة السادسة صباحًا وأدركها 
الفرج عند منتتصف الليل! أى عذاب تتخيله؟ ومع ذلك كله فقد ولدت فى البيت 
وبوساطة حكيمة لا دكتور ولا دياولو! 
فهز صقر رأسه كأنما يتذوق عبرة حقيقية» ثم تساءل: 
- لكن ماذا تعرف عن جراحة الو لادة؟ 
- تهويش أطباء» هذا مدى علمى» هل عندها ضغط أو زلال أو سكر؟ 
-كلا. . 
- إذن فهى لا شىء» وقد قالوا لنا عند مولد ابنتى عزيزة إنه لابد من جراحة! لماذا؟ 
الحكاية أن الولادة طالت أكثر من المتوقع فاستعانت الحكيمة بدكتور فنصح بنقلها 
إلى المستشفى لإجراء جراحة عاجلة» وقبل أن يبتعد مترا عن بيتنا جاء الفرج ! 
تابعه بنظرة مغيظة وهو يطحن الفول السودانى بتلذذ عجيبء وإذا به يقول مسترسلاً 
فى ذكرياته : 
الولادة العسيرة حقًا كانت ولادة سوسن ابئة أختى ! 
نظر صقر إلى الأرض ليخفى كربه فواصل الآخر حديثه : 
- كانت ضعيفة القلب» وأجمعوا على إجراء جراحة؛ واستكتبوا زوجها إقرارا 
بالموافقة» وشقوا بطن البنت. . 
-شقوا البطن؟! 
فضحك جميل قائلاً : 
-هى الآن بفضل الله كمفتشات الرياضة البدنية! 
وخيل إليه أنه سيدخل فى حديث ولادة أخرى» فقام إلى التليفون وسأل عن الحال 
فجاءه الجواب بأنها نائمة فى هدوء تام . وعاد إلى مجلسه كارها فقال له جميل : 
- يجب أن تعود إلى المسرح» أنا لا أحب السينماء وإن شئت فاعمل فى الاثنين ولكن 
لا تنقطع للسينما! 
فتمتم بفتور: 
- أنا هجرت المسرح منذ أكثر من عشرين سنة! 
-ولو! هذا رأى الأستاذ سمير عبد العليم أيضاء وعلى فكرة قابلته قبل مجيئى إلى 
القهوة مباشرة وكان يسأل عنك. والظاهر أنه اتصل بك فى المنزل حينما كنت فى 
المستشفى . . 





0ك ميدي امن 


-ماذا يريد؟ . . ألم يقل لك؟ 

-أبداء مطالبه لا تنتهى كما تعلم ولكنه ظريف وابن حلال. . 

استقل سيارته إلى مجلة «كلام الناس) حيث وجد صديقه الناقد سمير عبد العليم 
يكاد أن يختفى وراء الأوراق المكدسة فوق مكتبه . تعانقا وسمير يقول: 

بحثت عنك فى كل مكان» أين كنت؟ 

فجلس وهو يقول مرحبًا بالفرصة التى واتته لإعلان أحزانه : 

- كنت فى المستشفى » راضية فى حالة ولادة! 

هنأه بصوت خطابى وهو ينكب على الأوراق باحثًّا عن شىء مهم فيما بداء فقال 
صقر : 

ولادة خطيرة يخشى ألا تتم إلا بجراحة! 

والظاهر أن سمير لم يسمعه لشدة انهماكه فى البحثء غير أنه قال بمرح : 

- نحن نطالب بولى عهد للمسرح الكوميدى ! 

فرفع صقر صوته قائلا: 

- ولادة خطيرة يخشى ألا تتم يلا بجراحة! 

انتبه سمير إليه وقد كف عن البحث لحظة فأعاد صقر على مسمعه أقوال الطبيب فقال 
الناقد: 

- ربنا يكتب لها السلامة» الطب تقدم وانقضى عهد الجراحات المخطيرة. . 

ثم انهمك فى البحث مرة أخرى وهو يقول: 

- أنا نفسى جئت إلى هذه الدنيا بجراحة» وفى زمان كان الطب فيه كالطب عند قدماء 

المصريين» يا سلام على الفنانين وأعصابهم المرهفة . 

وندتث عنه آهة ارتياح لعثوره على الأوراق العى كان يجد فى البحث 
عنهاء وأخذ يرتبها بعناية وهو يقول بنبرة جديدة دلت على أنه نسى الحديث الأول 
تما 


5 


- اتفقت مع صوت العرب على برنامج جديد أسبوعى باسم «أهل الفن» واخترت أن 
أبدأ بك . . 
لكن يقولون إن جراحة الولادة خطيرة يا سمير؟ 
- لاشىء خطير ألبتة» وستضحك غدا من قلقك هذا بملء فيك . المهم أن هذا 
البرنامج يقتضى تسجيل مناظر من مسرحياتك القديمة» الأفلام أمرها سهل ويمكن 
تسجيلها فى أى وقت أو طبع نسخ جديدة من الفصول التى يتفق عليهاء ولكن 
11100 





ميدي اعنم ادع 


المسرحيات كيف نسجلها؟ كيف نجمع الممثلين القدامى؟ ومن يحل محل الذى مات 
منهم؟ . . هذه المشكلات ومثيلاتها تشغلنى طيلة الوقت. . 

أوشك أن يغضب ولكنه استسخف نفسه فانزوى فى وحدة حالكة . 

- ما رأيك فى هذا النظام؟ سأبدأ يمقدمة عنك ألقيها بنفسى» يعقب ذلك حوار بينى 
وبينك أنا أسأل وأنت تجيب» يتخلل ذلك مناظر من المسرحيات ومواقف من 
الأفلام؛ ثم جلسة عائلية فى بيتك» ولكن آه. . راضية ستكون متوعكة ربنا 

آمين» ماذا تعرف عن جراحة الولادة؟ 

-كل خخير» لا تصدق الأطباء. الصعوبة الحقيقية فى تسجيل المسرحيات القديمة» 
اتصلت بكثيرين من الممثلين ولكن هل لديك أصول المسرحيات؟ ! 

ولالو سن 7السفير: 

-أنت لست معى ! 

معك» عندى الأصولء عن إذنك التليفون. . 

وكرر السؤال عنها فتلقى الجواب نفسه»ء وأعاد السماعة مغمغمًا: «يارب». وقال 


مهبر 


تعال لمقابلتى فى الإذاعة مساء الأحد. 

-ربنا يطمئننى أولا. . 

- إن شاء الله» لا تكن خوافًا هكذاء ألا ترى أنك تذكرنى بدور الباشكاتب الذى 
عاد إلى قهوة الشمس فوجد أن مجلس الزملاء قد انعقد كشأنه ظهر كل يوم. وصمم 
على ألا يعلن شكواه لأحد فجاراهم فى أحاديثهم بقلب غائب واشترك أحيانًا فى 
قهقهاتهم التى ترج القهوة فى تلك الساعة من النهار. وعند الواحدة قاموا ليتناولوا الغداء 
فى المقطم . دعوه للذهاب معهم فاعتذر فمضوا إلا واحداهو حيدر الدرمللى؛ وهو 
زميل قديم عمل فى مسرحه ملقنا ويشتغل اليوم مدير إنتاج فى شركة سينمائية . ولم يدر 
بالسبب الذى جعل حيدر يتخلف عنهم حتى قال هذا بقلق : 

- ظهرت نتيجة تحليل الدم وهى ليست على ما يرام . 

تذكر أنه شكا إليه مرضًا ألم به منذ عشرين يومًا فى أحد الإستديوهات فقال له 
معتذرا: 

-آه نسيت أن أسأل عن صحتك بسبب زياط إخواننا وتهريجهم» آسف يا حيدرء أنا 
شخصيا فى كرب عظيم ! 





40 يكن المع 


واضطر حيدر إلى تأجيل الكلام عن تحليل الدم إلى حين وسأله : 
- لم والعياذ بالله؟ 
فحدثه عن حال زوجته حتى قال حيدر: 
أسأل الله لها السلامة» ولعل الولادة تتم دون جراحة؛ ولكن خبرنى ماذا تعلم عن 
زيادة كريات الدم البيضاء؟ 
-لا أدرى» وعلى أى حال فالطب تقدم جداء فوق ما تتنصورء ولكن. . ولكن أنا 
المسفول! 
-أنت؟! 
- نعم » كان يجب أن أحتاط فلا أسمح بالحمل مهما تكن الظروف . . 
هز حيدر رأسه فى امتعاض وهو يتكلف الاهتمام بكلام الآخر تكلمًا ولكنه لم ينبس 
بكلمة» فقال صقر : 
- ولما وقع المحذور كان على أن أجهضها بأى ثمن» وهاك نتيجة الإهمال. 
فتبسم حيدر وهو يجول فى المكان بنظرة ذاهلة : 
-دنيا! يعنى أنا كان مالى ومال الكريات البيضاء! 
-على رأيك! وهل تدرى ماذا تعنى جراحة الولادة؟ شق البطن! 
- ربنا لطيف بالعباد» وهل تدرى أنت أن مرضى يجهله أطباؤنا ويقفون حياله 
حيارى؟ 
- لا تتشاءم» ربنا لطيف بالعباد كما تقول» وإلا فمن لأم تتعذب هذا العذاب وهى 
تهب الدنيا مولودا جديدًا؟! 
وأجهدهما الكلام فيما بدا فلاذا بالصمت» واندفن كل فى ذاته فاجتر أحزانه وحده. 
ونظر صقر فى الساعة ثم طلب القهوة الرابعة مذ غادر المستشفى وأشعل السيجارة 
العاشرة وتساءل عما يخبئه له اليوم! وتجنب صاحبه كما تجنبه صاحبه فقام بينهما سد. 
وقال صقر وكأنما يخاطب نفسه: 
-إنى أعجب كيف أنى أكرس حياتى لإضحاك الآخرين! 
فتساءل حيدر بنيرة باردة : 
- ألا يدفعون ثمن ذلك بسخاء؟ 
ولم يناقشه رغم ما بدا له من إمكان ذلك . وعاد ينظر فى الساعة ويتساءل عما يخبئه 
له اليوم . 
وأغمض عينيه فشعر بشىء من الراحة ولكن ضوضاء الطريق ضايقته كما لم تضايقه 
من قبل فود لو يغرق كل شىء فى الصمت . 


1110 





مييق المت 61 


كان مئهمكًا فى عمله عندما استأذنت سيدة فى مقابلته: :وجلست وهى تقول: 

- صباح الخير يا أستاذ أحمد. . 

سيدة واضحة الكهولة» مقعرة الخدين من ذبول» بارزة الفم» تعكس عيناها نظرة 
متعبة» وتضفى عليها ملابس الحداد تجهما وكآبة. وسرعان ما أدرك من مطلع حديثها 
أنها قصدته بأمل أن يسهل لها الإجراءات الخاصة بمعاشها. وهم بتحويلها إلى مدير 
المعاشات مشفوعة بتوصية» غير أن لمحة فى نظرة عينيها المتعبتين استرعت انتباهه . خيل 
إليه أنها ترمقه بنظرة خاصة تراوح بين الارتباك والخجل . ما سر ذلك يا ترى؟ هل تعرفه؟ 
وفى الحال ومضت فى ذاكرته ومضة أضاءت غياهب الماضى فهتف فى ذهول : 

حضرتك . . ؟ 

قالت وهى تغض بصرها فى حياء وتأثر : 

- نعم » ومن حسن الحظ أنى عرفت أن حضرتك مراقب عام المستخدمين! 

ولم يكن تذكر اسمهاء ولكن وثب إلى ذهنه اسم التدليل الذى عرفت به: «ميمى» . 
إن منظرها أكبر من عمرها. وعمرها لا يمكن أن يجاوز النمسين . ولعله من الذوق أن 
يختلق سببًا لعدم معرفتها بالسرعة التى ‏ لا شك توقعتها. قال: 

- كنت مشغولاً جد فنظرت إليك بعينين غائبتين فلم أعرفك . . 

فابتسمت عن طاقم نضيد وقالت: 

- أنا تغيرت أيضاء الضغط ربنا يكفيك شرهء والحياة أنهكت أعصابىء لى بنتان 

متزوجتان» وثالثة فى بعثة» وعندما وصلنا إلى بر الأمان توفى المرحوم زوجى. . 

وتبادلا السؤال عن الآسرتين فتردد ذكر من تزوج ومن مات ومن يقيم فى القاهرة 
ومن انتقل إلى الأقاليم» وكان فى أثناء ذلك يحاول أن يستحضر صورة ميمى القديمة 
بصعوبة لا تكاد تقهر» فاحتج مرات على قسوة العبث . وأخيرا كتب لها توصية إلى مدير 
المعاشات وانتهت المقابلة . 

عاد إلى مجلسه ‏ بعد أن أوصلها إلى الباب ‏ وهو يعيش فى حلم . وبحث فى ضباب 
الحلم عن عام. أى عام يا ترى؟ ١4705‏ . عام ملىء بالأحداث التاريخية ولكن ميمى 
كانت أهم من تلك الأحداث جميعاء ميمى وبيتها العجيب» ومنشية البكرى القديمة 
الراقدة فى صحراء البنديرة» شارع الملوانى» والبيوت الصغيرة ذات الدور أو الاثنين 





5 كل المع 


تصطف على جانبيه» ومن أعالى الأبواب الخارجية تتدلى مصابيح للإضاءة ليلاً. كل 
بيت ينطوى على نفسه كالسر. النساء عورة والحب حرام» والزواج إجراء من اختصاص 
الرجال» والعروس آخر من يعلم . غير أن بيت آل حلاوة خرق العقل والمعقول وقام 
وحده ككلمة متحدية. عرف بالبيت السيى السمعة وأحيط بسياج من الرهبة . ومجرد 
جريانه على لسان صبى أو بنت كان جريرة يستحق من أجلها الزجر. وضربت حوله 
المقاطعة كأنه وباء. وحتى اليوم لا يذكر إلا مصحوبًا بسوء الظن وبذلك تحدد فى 
التاريخ . آه. . كيف كان ذلك؟! 

كانت ربة البيبت - وهى زوج لموظف كبير ‏ امرأة متبرجة . تتبدى فى الطريق فى كامل 
وكانت أول امرأة فى الحى ترى سافرة فلا برقع أبيض ولا أسود. وقد تصطحب معها 
قبل خطبتها. وكن يذهبن مرة فى الأسبوع_مع الزوج أو دونه إلى سينما 
كوزموجراف, وقد يسهرن فى مسرح من المسارح فلا يرجعن قبل الواحدة صباحا. أى 
امرأة وأى رجل وأى بنات؟! والأدهى من ذلك كله أنه كان للأسرة يوم زيارة تستقبل فيه 
بعض الأسر بكامل هيئتها فيختلط الجنسان بلا حرج . وكان شبان الحى يسيرون جماعات 
تحت حجرة الاستقبال المتلألئة بالأنوار» يصغون إلى الضحكات المتصاعدة. وعزف 
البيان» والغناء. وكلما ظهر فى النافذة طربوش تبادلوا الغمزات والنكات وذهبوا فى 
التأويل كل مذهب وتتخيلوا أعجب المواقف . لذلك كله لم يكن غريبًا أن يذكر بيت 
حلاوة مقرونا بلفظة «دعارة» دون مناقشة. وكانت الأسرة على علم بآراء الجيران 
ومشاعرهم ولكنها لم تكترث لذلك أدنى اكتراث» وترفعت الها عن الجميع وسارت 
فى طريقها شامخة الأنف كأنها من سلالة غير سلالة الحى جميعه . 

وكانت ميمى ترى كثيرا فى الطريق أو فى دكان الحلوى . ترى وحيدة. وكانت 
صغرى البنات وفى الخامسة عشرة وكانت جميلة كأخواتها وأمها وإن لم يعد يذكر من آى 
ملاحتها إلا شعرها الأسود المتجمع فى ضفيرتين ريانتين وعينين خضراوين وغمازة فى 
الذقن. وكان يسترق إليها نظرات دهشة متسائلة مليئة بحب الاستطلاع» ولم تخل أول 
الأمر من ازدراء وسخرية ثم حل محلها إعجاب وافتتان» فكان يقول لنفسه محزونًا : «يا 
للخسارة!». وشغف بها وكان يكبرها بعام أو اثنين» واحتفظ بسره لنفسه قطعا للألسنة . 
وكان البعض يغازلها طمعًا فيها باعتبارها صيد سهلاً ولكنه لم يكن عرف الاستغلال 
قلبه. وذات مساء وهبته نظرة على غير انتظار. كانا واقفين بدكان الحلوى فوهبته نظرة 
غير قصيرة أثملته فترنح بعيدا عن تيار الزمان وأفعمت قلبه بهجة ظافرة . فاض قلبه 
بسعادة مشرقة اقتلعت منه الوساوس فلم يعد يشترك فى الأحاديث البهيمية عن البيت 


11101 





65١ اسمن‎ 


السيى السمعة. وآمن بأن شعور قلبه الأصيل أخطر من جميع ما يقال. وفى ليالى 
رمضان راح يلاعبها من بعيد بكبريت الهوا فيشعله فى الطريق فتشعله بدورها فى 
النافذة. وتواعدا على اللقاء عند صحراء البنديرة . ووجد نفسه عند اللقاء مرتبكا حقًا 
ولكنها بادلته التحية دون تلعثم وبشجاعة ردت إليه روحه الضائعة . وقالت: 

-أنت فى البدلة أرشق مما تظهر فى الحلباب وأنا أحب الرشاقة! 

وكل كلمة جادت بها كانت كشمًا جديدا وجرأة مذهلة . وكانا صغيرين جد بالقياس 
إلى خلفية الصحراء المترامية وراءهما ورغم ذلك قال فى حذر: 

قد يرانا أحد! 

فتساءلت : 

-مثل من؟! 

من الأهل أو الجيران. 

فهزت منكبيها استهانة وهواء الصيف المنعش يهفو بضفيرتيها ثم سألته : 

-ما رأيك فى حديقة الحيوان؟ 

وامتنع عن تقبيلها تأدبًا رغم سنوح الفرص . وأعطته رقم التليفون ليتفقا فى الوقت 
المناسب ولعله ما يزال مسجلا فى دفتر المذكرات القديم . وسألته : 

-هل نذهب إلى الحديقة معًا؟ 

فقال برجاء : 

نلتقى هناك ونفترق هناك! 

وتلاقيا عند باب الحديقة» وكان يوم سعيد. سارا من ممشى إلى تمشى بيدين 
مشتبكتين . واستمد من مسها تيار من الحرارة والبهجة والرضاء وسألها كأنما ليطمئن 
عليها: 

-ماذا قلت لماما؟ 

فأجابت ببساطة : 

- قلت إنى ذاهبة إلى حديقة الحيوان! 

فتساءل أحمد ذاهلاً: 

-وحدك؟! 

فهزت رأسها نفياء وقالت بالبساطة نفسها: 

-معك. . 

فضحك معلنا عدم تصديقه . ولما وجدها جادة جدا سألها: 





3 ملق المح 


- وهل وافقت؟ 

-نعم! ولكن دون حماس . . 

لم يدر كيف يصدق هذا كله. أما هى فاستطردت : 

-قالت لى ابتعدى عن هذا الولد» إنه كالآخرين» وأهله كبقية الجيران. . 

وشعر بأنه مطارد. ووقف طرفه الجائر عند رأس نعامة سارحة فى الفضاء من فوق 
الحاجز الحديدى . 

ثم قال بقلق : 

- إذن هى تعلم أننا هنا معًا. . ؟! 

- وراهنتنى على أنك ستخيب رجائى . : 

حكبك؟ 

- من أدرانى؟ 

بل هى تدرى ولكنها تظاهرت بالاهتمام بالقرود. ثم وقفت فوق قنطرة تتأمل الماء 
المسقوف بأوراق الشجر» واقترحت أن يعدوا حتى الجبلاية » ولكنه شد على يدها قائلاً: 

خبرينى ! 

فنظرت فى عينيه بجرأة وقالت: 

أنت لا تصدق أنها تعرف أننا هنا ولكنك تعلم بزواج أخيك الأكبر من ثلاث فى 

وقت واحد! 

فاحمر وجهه وقال: 

هو حر. : 

وداخله حزن. الواقع فاق ما تخيله . إنهما من عالمين بعيدين . ورغم ذلك ازداد بها 
هياما . 

- وكيف وافقت على هذا اللقاء؟ 

لم لا؟ هو عيب؟! 

ولم ينبس فسألته بسخرية خفيفة : 

- ولم وافقت عليه أنت؟ 


1110 





ار ع 


- أيجب أن نفترق؟ ! 

فاستعطفها بحرارة لتعود إلى الرضا وقال معتذرا : 

- لا تغضبى» أنا أخطى كثيراً وعذرى أنى أقابل بنتا لأول مرة! 

فرمقته بتوجس وتساءلت : 

- وماذا تظن بى أنا؟ 

فبادرها تجنبا للمضاعفات : 

كل ختير» أنا ... أنا أحبك يا ميمى. 

وابنتسمت. ومضت به إلى أريكة تند أمامها هضبة معشوشبة تناثرت فى جنباتها 
مجموعات من البشر فجلسا جنبا إلى جنب صامتين» حتى قطعت الصمت قائلة : 

وتحدث عن مستقبل مشرق من خلال كلية الحقوق وإن يكن أوشك أن يختم حياته 
مراقبًا للمستخدمين لا مستشارا فى النقض كما حلم . فقالت : 

هذا جميل حقاء ولكن ماذا عنى أنا؟ 

ووجد نفسه فى القفص كال حيوانات التى تحيط به من كل جانب» فقال فى اقتضاب 
شديد حددته الرهبة : 

-الزواج. . 

فابتسمت وهى تحول وجهها عنه مادة بصرها إلى قمة الهضبة الخضراء وقد غابت عن 
مسمعه ضجة الأصوات الآدمية والحيوانية. ثم قالت وهى ما تزال تنظر إلى بعيد: 

- ولكن أمامنا أعوامًا طويلة! . . كيف. . . ؟ 

فقال وهو يتلمس متنفسا : 

- لابد من الانتظار حتى أنتهى من الدراسة . . 

- سأنتظر بكل سرورء ولكنى فى حاجة إلى شىء يبرر انتظارى أمام الآخرين» أى 

شىء» ارتباط من أى نوع؟! 

تخيل طلبه الارتباط ببنت من البيت السيئ السمعة بتعاسة ورعب» وانعقد لسانه فلم 

-ماذا قلت؟ 

- من العسير حقًا أن أطلب ذلك الآن. . 

-ألا تقدم على هذه الخطوة من أجلى؟ 





634 ري المع 


فتنهد بصوت مسموع وهو يشعر بأنه جرى مرحلة طويلة من التاريخ دون توقف. 
فقالت بحدة : 

-أنت لا تريد» ليس عندك الشجاعة الكافية» أبيتنا مخيف إلى هذه الدرجة؟ 

-لا. . الأمر وما فيه. . 

-لا تكذب. أنا أعرف كل شىء» وماما لم تخطى» وشارعنا كله سخافة فى سخافة» 

ونحن أشرف من الجميع» يجب أن تعرف ذلك . . 

فهتف متألما : 

-إنك تسيئين بى الظن » أنا فى حاجة . . أرجو أن تقدرى موقفى» أعطينى . . 

- لا داعى لهذا الارتباك كله» لتنس كل ما قيل» كله سخيف من أوله إلى آخره. . 

- لكننى أحبك» ليكن الأمر سرا بيننا حتى . . 

دت لافدب الثر! 

- حتى أقف على قدمى! 

-لن تقف على قدميك أبدا. . 

ثم وهى تكاد تمزق منديلها الصغير من الانفعال: 

- أعوذ بالله! أنا لا أحترم أحدا فى شارعنا! . . بلا استثناء . . بلا استثناء . . 

هكذا انفصلا إلى الأبد. 

وكان يستقبل سيل الذكريات وهو ينظر إلى الكرسى الذى طالعته منه بوجه لم يحفظ 
من ماضيه إلا أضعف الأثر. أرملة أضناها التعب والحداد ولكنها معتزة باتتصارات 
حقيقية. وحومت حوله الذكريات كأسراب من البنفسج . تذكر كيف تزوجت بنات 
البيت السيئ السمعة واحدة بعد أخرى رغم ما سمع مراراً وتكرارا بأنهن بنات لم يخلقن 
للزواج ولن يسعى إلى الزواج بهن أحد. وكلما جاءه نبأ عن توفيقهن فى زواجهن ذهل 
واختلت موازينه . . ! 

ومضى إلى بيته بعد ميعاد انتهاء العمل الرسمى فتغدى ونام ليستعد لسهرة فى الأوبرا 
دعى إليها هو وزوجته وبناته الثنلاث . وكان الداعى زميلاً لكبرى بناته الموظفة فى إدارة 
الترجمة بالوزارة وقد قبل الدعوة على الرغم من أن الداعى لم يرتبط بكريمته بأى ارتباط 
بعد! وعند المساء خلا إلى نفسه فى حجرة مكتبه على حين نشطت الزوجة والبنات 
للاستعداد لسهرة الباليه المتتظرة» عما قليل يتبدين فى صورة كاملة من الزينة والأناقة ثم 
يتقدمنه تحت الأضواء والأنظار ترمقهن بإعجاب! ولم يكن غريبًا أن يستخرج دفتر 
مذكراته القديم من الدرج الخاص بالأوراق الثمينة كعقد ملكية الأرض وبوليصة التأمين. 


111010 





مركي المع 6_3 


وكان اعتاد على عهد المراهقة ‏ وهو عهد كان يحلم فيه بعرش الزجل  !‏ أن يسجل أحداثه 
العاطفية والاجتماعية يوما بعد يوم. وفر صفحاته ليرجع إلى عام ١475‏ وما حواليه 
حتى رقم التليفون وجده. وبدافع لم يعرف كنهه امتدت يده إلى قرص التليفون فأدارت 
الرقم القديم . وجاءه صوت: 

-آلو! 

فسأله وهو يبتسم فى عبث : 

بيت حلاوة؟ 

فأجاب الصوت بخشونة: 


-لايا سيدى . . هنا محل الطمبلى لبيع الخيش . . 


قال محمد الرشيدى بنبرة أرعشها الحزن والانفعال: 
- إلى رحمة الله الرحيم» إلى جوار ربك الكريم يا زاهية يا رفيقة عمرى» إلى رحمة 
الله . 
وانتحب باكيا وهو ينحنى فوق الجثة المسجاة على الفراش» معتمدا بيمناه على 
الوسادة من شدة الإعياء» حتى رحمته الخادم العجوز فربتت يده برقة ثم أخذته منها إلى 
حجرة الجلوس فأسلم نفسه إلى مقعد كبير وهو يتنهد بصوت مسموع . ومد ساقيه وهو 
يتأوه ثم غمغم : 
- أنا الآن وحدىء بلا رفيق . لم تركتنى يا زاهية؟ وبعد عشرة أربعين عامًا! لم سبقتنى 
يا زاهية؟ 
وعزته الخادم بعبارات محفوظة غير أن منظر شيخ فى التسعين وهو يبكى منظر محزن 
حقّاء وقد التمعت أخاديد خديه وحفر أنفه بالدموع» فغادرت الخادم الحجرة وهى تجهش 
فى البكاء. وأغمض عينيه اللتين لم يبق فى أشفارهما إلا أحاد من الرموش . وراح 
يقول : 
دمتذ أربعينغاما تووجتك وأنت فى العشرين ... زبيتك على يدى + وكنا ستعداء جد 
برغم فارق العمرء وكنت خير رفيق» يا طيبة يا إنسانة» فإلى رحمة الله. . 
وكان ذا صحة جيدة إذا قيس بعمره» طويلاً نحيلاً. واختفى أديم وجهه تمامًا تحت 
التجاعيد والأخاديد» وبرزت عظامه وتحددت كأنها جمجمة؛. وفى عينيه غارت نظرة 





153 ملي المع 


تحت غشاوة باهتة لا تنعكس عليها مرئيات هذا العالم . وأمٌ الجنازة خلق كثيرون لم يكن 
فيهم واحد من أصحابه أو معارفه . جاءوا يعزون ابنه أو إكراما لزوج ابنته الموظف بإحدى 
السفارات فى الخارج . أما هو فلم يبق من أصحابه على قيد ا الحياة أحد . وجعل يستقبل 
الوجوه التى لا يعرفها ويتساءل أين رعيل المربين الأول؟! أين الساسة الحقيقيون على 
عهد مصطفى وفريد؟ ! 

وعندما انفض المأتم حوالى منتصف الليل سأله ابنه صابر: 

- ماذا نويت أن تفعل يا أبى؟ 

وقالت له زوجة ابنه : 

ولا يجوز أن تبقى هنا وحدك . . 

أدرك الشيخ ما يقصدان فتشكى قائلاً : 

دكانت زاهية كل شىء لى » كانت عقلى ويدن. 

فقال صابر: 

-بيتى هو بيتك » وستحل بحلولك بنا البركة . وستجىء خادمتك مباركة لخدمتك . 

أجل لا يمكن أن يقيم فى هذا االسكن وحده . ورغم ما يبدى ابنه وزوجته من شعور 
طيب فهو يؤمن بأنه ‏ بانتقاله سينيد كرا من حره وسوادته ولك نااطيلة؟ اوداك في 
شبابه ورجولته وكهولته شخصا صلباء ومازال يحتفظ بوقاره ومهابته» وكم خرج من 
أجيال من المربين والشخصيات الفذة» ولكن ما الحيلة؟! وبطرف واجم شهد الرجل 
تصفية مسكنه . رأى أركانه وهى تتقوض كما رأى احتضار زوجته من قبل فلم يبقوا إلا 
على ملابسه وفراشه وصوان كتبه التى لم يعد يمد لها يدا وبعض التحف وصور لأعضاء 
الأسرة ولبعض الرجال كمصطفى كامل ومحمد فريد والمويلحى وحافظ إبراهيم 
وعبد الحى حلمى . وغادر بيته إلى مصر الجديدة فى سيارة ابنه» وهنالك أعدت حجرة 
لنومه وتأهبت مباركة العجوز لخدمته . وقال له ابنه: 

- نحن جميعا رهن إشارتك . . 

وابتسمت منيرة زوجة صابر ابتسامة ترحاب . روح طيبة حقًا ولكنه لا بيت له. ذلك 
كان الشعور الذى اجتاحه. وجلس على مقعده الكبير يبادلها النظرات فيما يشبه الحياء . 
وقال لنفسه لعله لو كانت سميرة ابنته فى مصر لوجد فى بيتها أنسا ألصق بالقلب. وظهر 
توتو عند عتبة الباب . ردد عينيه بين أبويه ثم جرى حتى لبد بين ساقى والده. ونظر إلى 
جده بتأمل فابتسم الشيخ قاتلا : 

أهلا توتو. . تعال. . 

ونادرا ما كان توتو يزور جده مع والده. وأحبه الشيخ كثيراً ولم يقتصد فى مداعبته 


1110 





فرشي اسمن 0 


كلما وسعه ذلك» ولكن توتو كان حادا فى مداعباته» فهو يحب الوثب على من يداعبه 
ويهدد عينيه وأنفه بأظافره» فسرعان ما تجنبه الشيخ بلطف مؤثرا أن يحبه من بعيد. وأشار 
توتو إلى طربوش جده الطويل وقال: 

-رأسك! 

يعنى أن يخلع طربوشه ليرى صلعته البرتقالية المستطيلة المنحدرة التى جذبت انتباهه 
وتساؤله من أول نظرة. ولا لم تتحقق رغبته راح يشير إلى أخاديد الوجه وحفر الأنف» 
وتتابعت أسئلته رغم محاولات والده لإسكاته . وقال الشيخ لنفسه إن الطفل العزيز لن 
يعتقه من المتاعب وإنه سيحتاج إلى حماية . . ولكن أين زاهية؟ وساعته ومنشته وسجائره 
كيف يحفظها من عبثه؟ وحاول توتو أن يذهب إلى جده ليحقق رغائبه بنفسه ولكن والده 
أمسك به ودعا خادمته فحملته إلى الخارج وهو يصرخ محتجا . وقال صابر: 

-إنى أفرغ من عملى مساء ثم أذهب إلى النادى أنا ومنيرة» فهل تأتى معنا؟ 

فقال الشيخ : 

- لا تشغل نفسك بى ودع الأمور تجرى على طبيعتها. . 

وذهب صابر ومنيرة فرحب بالوحدة ليستجم» ولكن الوحدة ثقلت عليه بأسرع ما 
تصور. وألقى نظرة غير مكترثة على الحجرة ثم طوقته الوحشة. متى يعتاد المكان 
الجديد؟ ومتى يعتاد الحياة بلا زاهية؟ أربعون عامًا لم تخل يوم من زاهية . منذ زفت إليه 
فى الحلمية ورقصت أمامهما الصرافية» والبيت بفضل يدها ينعم بنظام ونظافة وعبير 
بخور زكى . وما قيمة رمضان والأعياد بدونها؟ وخلت المنازة من أجيال وأجيال من 
تلاميذه فهل لم يعد أحد يذكره؟ ! 

ولم يكن كذلك حال الأصدقاء الذين ذهبوا. ولكنهم ذهبوا وكأنا يراهم فردا فردا 
كيوم احتشدت بهم جنازة مصطفى كامل . ورغم أنه لم يعرف الأمراض الخطيرة قط فقد 
امتحنت المسكينة بالدن والتيفود والأنفلونزا وأخيرا ماتت بالقلب» وتركته متعلقًا بالحياة 
كما كان دائمًا. وقام إلى نافذة فرأى منها بستانًا كبيرا يتوسط مربعا من العمارات مكان 
الجامع الكبير الذى كان يطالعه من نافذة حجرته بالمزيرة . ولفحته نسمة هواء جافة دافئة . 
وعجب للصمت المريح ولكنه أكد له وحدته. ويوم احتل الإنجليز القاهرة ظفر بجواد 
ضال ولكن والده خشى العاقبة فضربه ومضى بالجواد ليلا إلى الخليج ثم أطلقه وكانت 
المدينة ترتجف من الخنوف والحزن . 

ورجع إلى مجلسه فرأى عند أسفل المقعد قطة صغيرة . بيضاء ناصعة البياض غزيرة 
الشعر وفى جبينها خصلة سوداء فأنس فى نظرة عينيها الرماديتين استعدادا للتفاهم . 
وزاهية طالما عطفت على القطط . وارتاح إلى نظرتها ثم تابعها وهى تدور حول رجل 





1:54 ملكي لمعم 


المقعد وربت ظهرها فتمسحت بقدمه وعند ذاك ابتسم . ومسح على ظهرها فاستجابت 
لراحته وخفق ظهرها صعودا وهبوطًا فبشر ذلك بمودة. وابتسم مرة أخرى عن أنياب 
بانت أصولها الطحلبية وشملت القطة حركة متموجة من المرح. وتزحزح قليلاً إلى 
الويساز ليوسع لها مكانًا. ولكن صوت توتو المتهدج بالجرى ارتفع وهو يقتحم الحجرة 
صائحا: 
- قطتى . . 

فقال الشيخ مسلَّما : 

-هاهى ذى قطتك . . 

وسأله متوددًا عن اسمها فقال بحدة : 

داتوس : 

وقبض بشدة على قفاها ثم جرى بها خارجا والشيخ يهتف به مستعطفا : 

مساسية .سكا سيا 

وإذابه قد ذهل! عجب ماذا حصل؟ وتبين أن شيئًا أصاب جبينه . وقطب مستاء 
فارتفئعت ضحكة توتو عند الباب وهو يلتقط الكرة الصغيرة المرتدة. وتحسس الشيخ 
النظارة ليطمئن عليها ثم نادى مباركة فجاءت بسرعة وحملت الطفل مبتعدة به قبل أن 
يعيد رمى الكرة . وقال الشيخ: 

هذا الطفل العزيز مزعج وقاس» من للقطة المسكينة؟ ! 

منذ خمس سنوات فقدت سميرة ابتته طفلاً فى سن توتو فعزاها باكيّا وهو يقول: 

كان الأجدر أن أموت أنا. . 

وخيل إليه وهو فى المأتم أن الأعين ترمق شيخوخته بدهشة مستحضرة التناقض 
الصارخ بين بقائه هو وذهاب حفيده فى الثالثة . وليلتها قال لزاهية ممتعضا : 

مكار العير لسلةب., 

ولكن ما أرقها إذ قالت له : «كلنا فداك. . أنت الخير والبركة» . 

وعند الأصيل عاد صابر من عمله فقال لآبيه : 

ما دمت لا تريد أن تذهب معنا إلى النادى» فاختر مقهى فى مصر الجديدة» مقاهى 

مدينتنا جميلة وقريبة من البيت. . 

قديكون هذا هو المعقول ولكنه يحب قهوة متاتيا. إنها مجلسه المختار طيلة دهر 
طويل. ومضى إلى محطة الأوتوبيس» وهو يسير إذا سار وئيدا ولكن بقامة مرتفعة 
ويستعمل العصا ولكنه لا يتوكأ عليهاء وكثيرون هم الذين يتطلعون إليه فى دهشة مقرونة 


11100 





لبش اسمخ 654 


بإعجاب . واتخذ مجلسه بالقهوة تحت البواكى وهو يقول لنفسه فيما يشبه المداعبة : «ما 
بال القهوة خالية؟!» ولم تكن القهوة خالية . ولا كان بها من الترابيزات الخالية إلا عدد 
محدود. ولكنها خلت من الأصحاب والمعارف . ومن عادته أن يرنو إلى الكراسى التى 
حملت قديًا الأعزاء الراحلين فيتخيل وجوههم وحركاتهم» والمناقشات حول أخبار 
المقطم. ومباريات النرد الحامية» والسياسة. قضى الله أن يشيعهم واحدا بعد آخر وأن 
يبكيهم جميعا . وجاء زمن لم يجد فيه من رفيق سوى واحد هو على باشا مهران. وهذا 
الكرسى كان مجلسه . يجلس عليه قصيرا نحيلاً مكومًا فوق عصاه وحافة طربوشه تماس 
حاجبيه الأشيبين النافرين» ويرمقه بنظرة هشة شبه دامعة من نظارة كحلية ثم يتساءل : 

من منايا ترى سيسبق صاحبه؟ 

ثم يغرق فى الضحك. وكانت يداه قد استوطنتهما رعشة الكبر رغم أنه كان يصغره 
بعامين. ولما مات فى الخامسة والثمانين حزن عليه طويلاً» ومن بعده لت الدنيا وخلت 
القهوة. وها هى ذى العتبة الخضراء تدور كعادتها أمام عينيه الكليلتين ولكنها ميدان 
جديد. ومتاتيا نفسها لم يبق من أصلها إلا الموضع » ولكن أين صاحبها الرومى الودود» 
وأين النادل ذو الشوارب البلقانية؟ والكراسى المتينة البنيان والترابيزات الرخامية الناصعة 
والمرايا المصقولة والبوفيه العامر بالمشروبات والنراجيل أين؟ وفى ليلة شم النسيم من عام 
أحيل إلى المعاش . وسهر ليلتها فى مسرح الأزبكية هو ومجموعة من الأصدقاء 
حيث جلجل صوت الطرب. أما النهار فقد قضوه فى القناطر الخيرية محتفلين بوداعه 
وألقى الشيخ إبراهيم زناتى قصيدة. وليلتها شرب من الكونياك حتى ثمل وهو يطرب 
للصوت المنشد «يا عشرة الماضى الجميل» . ولا نام آخر الليل حلم بأنه يلعب فى الجنة . 
ودعا له إبراهيم زناتى مفتش اللغة العربية بماكة عام من العمر المديد فى قصيدته . والدعوة 
يبدو أنها ستستجاب . ولكن القهوة خالية . والشيخ زناتى نفسه رحل وهو ما يزال فى 
الخدمة. واقترب النادل منه ليأخذ الصينية ولكنه تراجع كالمعتذر. فذكره بفنجال القهوة 
المنسى الذى لم يمسه. 

وعندما رجع إلى البيت وجده راقداً فى السكون» وصاحبه لم يعد من النادى . ووجد 
عشاءه من الزيادى على خوان . وغير ملابسه فى بطء وجهد ودون معاونة أحد. وجلس 
لتناول العشاء فتذكر نرجس . لو تشاركه القطة الصغيرة عشاءه؟! ما ألطف أن يوثق 
علاقته بها فهى ستكون أنيسه الحقيقى فى هذا البيت المشغول بنفسه . لعلها فى موضع ما 
بالصالة. ومال نحو الباب قليلا وهتف: «بس. . بس». وقام فمضى إلى الخارج 
وصاح: «نرجس » بس . . بس . .2. فجاءه النواء من وراء الباب التالى الحجرته حيث 
ينام توتو وخادمته. وتفكر قليلاً ثم اقترب من الباب ففتحه برفق فمرقت منه نرجس 
رافعة ذيلها الدسم كالعلم . 





ارتاح الشيخ فعاد نحو حجرته وهى تتبعه» ولكن صرخة توتودوت غاضبة . وقال 
الشيخ لنفسه باسما إن الصغير لم يكن استغرق فى النوم . وجاء توتو جريا فانقض على 
القطة ثم قبض على قفاها بشدة . وربت جده رأسه قائلاً برقة : 

خفف يدك يا توتو. . 

ولكن الآخر ضاعف ضغطه حتى خيل إلى الشيخ أن نرجس ستختنق» فقال برجاء : 

اذهب أنت وسأحملها إلى فراشك . 

ولكن توتو لم يسمع له فمال الشيخ نحوه وخلصها من يده وهو يقول : 

- سأطعمها ثم أعيدها إليك . 

اندفع توتو غاضبًا ثم دفع جده فى ركبته . ترنح الشيخ» ثم تراجع خطوة مضطربة» 
ثم تهاوى فكاد يسقط على الأرض لولا أن تلقاه الجدار» والقطة لم تزل فوق ساعده. 
ولبث فى هذا الوضع المائل» لم يستطع أن يقيم نفسه. ودار رأسه قليلاء وضغط على 
الأرض بقدمه وعلى الجدار بكتفه لينهض ولكنه عجز. وزحفت القطة فوق ساعده حتى 
استقرت على كتفه المرتفع » ورغم دوار رأسه الخفيف أدرك مدى الخطر الذى يتهدد 
عظامه بالكسر. وصاح بما تبقى لديه من قوة: «يا مباركة» . وكان توتو يصرخ وينذر توثبه 
بهجمة جديدة. ويئس الشيخ من إنقاذ نفسه. ازداد خورا ولم يستطع تكرير النداء . 
وتحفز توتو للوثوب إلى ملاذ القطة فاندفع بكل قوته ولكن يد خادمته أحاطت بوسطه 
وقد اندفعت من الحجرة بعينين ذاهلتين من أثر النوم . ثم جاءت مباركة أخيراً بعد أن 
أيقظها الزياط فجرت نحو سيدها مستعيذة بالله واحتضنته من خلف وأقامته برفق وهو 
يتأوه حتى وقف كالتمثال دون حراك» على حين وثبت نرجس إلى الأرض وفرت إلى 
حجرته. وبصعوية شديدة ر- جع الشيخ إلى مقعده الكبير معتمد] على ذراع مباركة. 
ومضت فترة وهو صامت والمرأة لا تكف عن السؤال عن صحته . وأشار لها بيده 
يطمئنهاء ثم أسند رأسه إلى ظهر الكرسى ومد ساقيه متنهدا . وأغمض عينيه ليستجم . 

ال ل 0 

5 ار ل ا 
لعي لم . إنه واثق من أنه سيتذكره. وكم أنه مذهل أنه نسيه. 
ع نسي يي ريات سي اه 
وارتفع نواء القطط». وبكت كل عين» حتى الأطفال ترامى صراخها. ومال الصديق 
نحوه مرة أخرى وقال . . وتأكد من أنه سيظفر بالذكريات جميعا . 

وسرعان ما استغرق فى النوم. . 


11100 





مليديى الم ١ع‏ 


كلمة فى السر 


فؤاد أبو كبير موظف قديم أوشك أن يستوفى مدة خدمته» وهو مثل حسن للموظف» 
مثال فى اتزانه فهو محترم حقاء ودءوب على العمل فهو حمار شغل» ولم تزايله هذه 
الصفة يوما منذ التحق بالخدمة بالكفاءة وهو ابن عشرين . وقد انطبع بالروتين حتى تغلغل 
فى روحه وسرى فى سلوكه حتى السلوك غير الرسمى . فهو يرجع إلى بيته كل يوم 
حوالى الثالثة» يتغدى وينام حتى الخامسة؛ ثم يمضى إلى القهوة حوالى السادسة فيدخن 
النارجيلة ويتكلم فى الكادر والسياسة. ثم يلعب النردء وأخيرا يعود إلى بيته عند الحادية 
عشرة فيتعشى عشاء خفيفًا ويصلى ثم ينام . 

وهو زوج منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامّاء وزوجه التى تزوجها عن قرابة وحب 
دراي سورت ا موا حص لاه رادا جد شرع و اكور ميس 
والجميع م متمتعون بلعمة الحياة الزوجية الموفقة 

والرفقة فى الوظيقة» اسار رهن لروساء وول الدرجة إفافة الاب لاعن 
توفيقه فى الذرية» كان يخاف العين» ويتقى شرها بالدعاء والصلاة» ولكنه كان بصفة 
عامة رجلاً سعيداء وحتى ما أصابه من ضغط لم يستطع أن يفسد عليه حياته وإن فرض 
عليه مضايقات فى العلاج وحرمانا من بعض الأطعمة الشهية. 

وذات يوم شعر بنشاط غريب طارئ . نشاط غريب كأيام زمان . رباه. . نشاط 
غريب انقطع العهد به من سنين» كأيام زمان تماما ؛ فما الذى حدث؟! وابتسم الرجل 
وهو يهز رأسه. ابتسم عن طاقم نضيد وهز رأسًا أبيض ناصعاء وعابثه النشاط فى 
أويقات متفرقة وبخاصة عند اليقظة الباكرة. وإذن فهى وثبة حقيقية لا وهم» وابتسم 
الرجل وأوشك أن يضحك عاليًا ل 
وقال لنفسه إن هذا أمر غير معقول. وغير مصدقء. ألم ين ينقض العمر؟! 

ونتيجة لذلك وجد نفسه تتابع ا موظفات باهتمام لم يؤثر عنها من قبل . نظرة جديدة 
غير نظرة الأبوة السابقة» وكأنه كان يراهن لأول مرة. وخلال أسبوع رأى فيهن مالم 
ير طيلة عام أو أعوام» ومجرد مرور إحداهن فى مجال بصره أصبح كافيا لقلقلة حواسه 
وزلزلة قلبه فراح يقول لنفسه فى ذهول : «اللهم لطفك ورحمتك. ماذا جرى؟ !2 . 

وخطر له وهو متربع على الكنبة قبل النوم أن يتناول زوجته بنظرة. كانت الولية 
تستمع إلى الراديو بغير اهتمام» وجسمها مدفون فى جلباب بيتى فضفاض . ومنديل رأسها 





6 ا كر 


معقود بإهمال سمح لخنصلات بيضاء مشعثة أن تبرز فوق الحاجب والأذن بصورة تستحق 
الرثاء» وفى عينيها استكنت نظرة خاملة لا تنشد إلا السلامة» ووشى شدقاها بالفراغ , 
فضلا عن أن الآلام الروماتزمية المنتقطعة قد طبعت على وجهها علامات ثابتة كالذعر. 
رمقها بيأس ثم رفع عينيه إلى صورة تذكارية من شهر العسل» صورة نصفية لهما ملونة» 
تمثلهما جنبًا إلى جنب فى احتشام محبب لا كعرسان هذه الأيام . آه. . فوزية كانت جميلة 
حقاء وكم كان هو بدينا فخما! وقال لها دون تمهيد وبلهجة لم تخل من احتجاج : 

- قلت لك مائة مرة ركبى طاقم أسنان! 

وضحت فى عينيها دهشة تنبئ بالحقيقة التى لا يجهلهاء وهى أنه لم يطلب منها ذلك 
ولامرةواحدة. وغمغمت والدهشة لم تفارقها: 

طاقم أسئان؟ ! 

وحقيقة أخرى لا يجهلها أيضًا وهى أن الأيام قصرت علاقتهما على الزمالة 
والصداقة منذ بضع سنين» فكيف يمكن لهذا الوضع أن يتغير فجأة؟! وكانت 
تجلس على نفس الكنبة على بعد ذراع منه» وفيما بين أوقات الاستماع إلى الراديو 
تنلو آية الكرسى بصوت خافت وبعض السور القصار التى تقيم بها صلواتها 
الخمس . ولفه إحساس بالغربة ولكن قلقه الطارئ العجيب كان أقوى من الغربة فقال: 

- قلت ذلك مائة مرة! ومالك تهملين نفسك إلى هذه الدرجة؟ ! 

فأوقفت التلاوة لتقول له: 

أمرك عجيب . . 

ياله من موقف! لعنة الله على المرض . وعلى الجنون. لكنك تسب الحنون بلسانك 
فقط . هذا واضح . يا لها من مهزلة. ومد ذراعه على مسند الكنبة على ما وراء ظهرهاء 
ثم ربت قفاها ضاحكًا فهزت رأسها متمتعة: 


- أمرك عجيب . ٠.‏ 

فهمس بعد جهد غير يسير : 

- كأيام زمان! 

فانتكمشت المرأة. . تزحزحت حتى طرف الكنبة وهى تغمغم : 
-يا عيب الشوم! 


ولمارآها مقوسة على خجلها أدرك مدى سخفه. وواصل اكتشافاته فى الوزارة 
والطريق والقهوة حتى احترقت عيناه. وارتدت الأعوام الماضية بحرارتها الاستوائية. 
وهام على وجهه فى مظان الهوى فى الحدائق وحفلات السينما الصباحية» وراح يقول 
لنفسه: «ما أعجب هذا!. . وما أبهجه!». وشعر بأنه مطارد وأنه يوشك أن يضبط 


11100 





نيفيك لمن ع 


متلبساء وأنه لا يستطيع أن ينسى عمرا كاملا من الوقار والاستقامة وحسن السمعة. 
ولكنه لم يتوقف. بل ولم يعد يقنع بالمغامرات النظرية. وذكر أبناءه وأحفاده» وتوهم أى 
فضيحة كان يرعش أطرافه ويثلجها. وهل يمكن أن تعالج الأمور بالصبر؟ وما جدوى 
الصبر وهو من صلب فلاح تزوج فى الحلقة السابعة؟! وما جدواه وهو يشم أريج الحب 
فى كل مكان؟ ! وما عسى أن يفعل؟ وبعد تردد ثقيل فاتح أحد أقرانه فى القهوة بمتاعبه 
ولكن ماذا كانت النتيجة؟ ضحك الرجل وقال: 

- الظاهر أنك بحكم العمر انقلبت للإيمان بالخرافات . 

فقال بحدة : 

- ولكن ما أخبرتك به حقيقة لاشك فيها! 

فرفع الرجل يديه بالدعاء قائلاً : 

- اللهم بارك فى عقل فؤاد أبو كبير! 

كلا لا فائدة ترجى من هؤلاء الفانين! وعاد يتساءل عما عسى أن يفعل؟ ست آمنة . 
وثب الاسم من الظلمات كالشهاب . ست آمنة جارته القديمة بروض الفرج قبل أن ينتقل 
بأسرته إلى المسكن الحالى بالسيدة. وهى صاحبة الشقة التحتانية» أرملة» وقد حاولت 
كثيرا أن تصادق زوجته ولكن فوزية لم تستخف ظلها. ولعلها فى الأربعين أو فوق ذلك 
بقليل» ولا تخلو من وسامة» أما تأنقها المبالغ فيه فيقطع بحبها الحياة! وفى عهد الجوار 
سنحت بينهما وقائع ولكنه حسمها باستقامته فوئدت ولم يعلم بها أحد. كانت تحبيه عند 
خروجه إذا تصادف وجودها فى النافذة» وماأكثر المصادفات. وأكثر من مرة 
وهو راجع كان يراها من خلال الباب المفتوح وهى تخطر فى قميص بيتى ! ورغم ارتياحه 
الباطن الذى كان باعثه الزهو لا الرغبة فإنه لم يشجعها قط زاهدا ومشفقًا فى الوقت نفسه 
من فضيحة تهز مكانته المرموقة فى أسرته وفى العمارة. ومرة تعرضت له أمام شقتها 
فحيته ثم قالت: 

- تسمح دقيقة واحدة يا فؤاد أفندى؟ 

وارتبك الرجل بشكل واضح فقالت: 

- لدى مشكلة أود أن أعرضها عليك! 

وقع فى لخمة دلت على ذهوله» ثم قال بجهد: 

- تفضلى بزيارتنا وستجديننى تحت أمرك . 

ومن وقتها تجاهلته تجاهلاً كاملاً» وكان ذلك قبيل انتقاله إلى السيدة الذى مضى عليه ما 
يقارب العام . اليوم تدور أفكاره حول ست آمنة» ويستعيد ذكرياتها بحرارة بلغت حد الهوس . 

انصهرت تلك الأفكار والذكريات فى رأسه وهو ماض إلى روض الفرج. أجل 





21 مييق المي 


بلغ مسكنه القديم فى الوقت الذى كان ينتظر فيه أن يكون فى القهوة . وضغط على جرس 
الباب وقلبه يغوص فى الأعماق. وكم ذهلت ست آمنة عندما رأته أمامها كآخر شىء 
كانت تتوقعه . . 

فؤاد أفندى! 

حرك رأسه بالإيجاب دون أن ينبس . 

- خير إن شاء الله! 

ثم تنحت عن الباب وهى تدعوه إلى الدخول . وجد نفسه فى حجرة استقبال صغيرة 
يعبق بها عبير ورد فى زهرية على قائم معدنى طويل فى الركن. وغابت عنه وقتا ثم 
عادت آخذة زيتتها ملتفة فى روب أبيض يذكر بفستان العرس . ولم تقتصد فى إعلان 
اهتمامها بالزيارة مرددة: «خير إن شاء الله . فطار من دماغه جميع ما أعده من قول» 
ولكنه شعر بأنه مطالب بتفسير حضوره فقال: 

كنت مارا من هنا فقلت يجب أن أزور ست آمنة! 

ابتسمت المرأة وهى تتمتم اخطوة عزيزة»» ثم وهى تضحك : 

- ولكنك لم تكن تحب زيارتنا. ؟! 

فاحمر وجهه وقال كالمعتذر: 

- الواقع أن الظروف. . 

وتوقف لا يدرى ماذا يقول. ثم ابتسم ابتسامة دلت على أنه يسترد توازنه» وقال: 

- قلت مرة إن لديك مشكلة . . 

فضحكت المرأة ضحكة عالية . وتبادلا نظرات باسمة فواتته شجاعة عظيمة فنهض 
ليجلس إلى جانبها على كنبة واحدة. ومد يده إلى يدها ولكنها سحبتها برقة وهى 
تقول : 

الظاهر أنك لم تفهمنى على حقيقتى يا فؤاد أفندى . 

لهجة جادة صدمت قلبه فانكمش . وعادث تقول : 

- لست كما تتصوره أنت قلت لنفسك آمنة أرملة» وقد دعتنى مرة إلى شقتهاء لابد 

أن تكون. . 

وهتف بحماس يغطى به فتوره وفشله : 

- معاذ الله . . معاذ الله . 

فحدجته بنظرة جريئة وسألته : 


011001 





وليك الم هع 


إذن ماذا تريد؟ 

آه. . لم يتوقع هذا. خاب سعيك حقا؟ 

- يجب أن تعلم أننى امرأة شريفة» وتصرف بعد ذلك كما يحلو لك! 

رجع وهو يقول لنفسه إن الأمر ليس بالبساطة التى حلم بها. ومع ذلك فقد شدت 
على يده وهى تودعه وأعربت له عن مشاعر طيبة جدا . وقالت إنها تتتظر زيارة أخرى بل 
وثالثة ورابعة! واضح جدا ما تريد. وحن بكل قواه إلى عبير الورد» ثم اعترف بأنه فقد 
عقله. ووجد فوزية تعانى أزمة من أزمات مرضها فتضاعف همه . وتذكر الأبناء 
والأحفاد فتكدر لحد المرارة. وتوكد لديه أنه لن يستطيع مواصلة الحياة فى هذه الدوامة . 

وفى خلال شهر من الزيارة الغريبة تزوج فؤاد أبو كبير من ست آمنة فى تكتم تام . 

ولم يستطع بعد ذلك أن يواجه أسرته بالحقيقة فكتب إلى ابنه الدكتور خطابًا مسهبًا 
أشبه بالاعتراف» مؤكدا فيه أنه لن يتخلى عن واجباته نحو أمه. وأقام فى مسكن آمنة فى 
بيته القديم . وتوقع أن يتصل به ابنه أو إحدى بناته ولكن شيئًا من هذا لم يحدث حتى 
خيل إليه أنه انتقل إلى عالم آخر» وجعل يتخيل وقع المفاجأة فى أسرته بذهول» ولكنه 
طرح كل شىء جانيًا وسلم نفسه للحب . 

وبعد مرور ستة أشهر كتب فؤاد أبو كبير خطابًا آخر إلى ابنه الدكتور. أخبره فيه بأنه 
مريض ودعاه إلى مقابلته . وهال الدكتور أن يجد أباه طريح الفراش . هيكلاً عظميًا 
مكسوا بجلد ذابل» ونظرة ال موت تطل من محجريه . هاله المنظر حقًا فبهت» ولا رآه أبوه 
اغرورقت عيناه فانكب الشاب على يده المعروقة التى ضرب لونها إلى السواد يقبلها 
ويبكى . وجلست آمنة صامتة طيلة العناق والبكاء» ثم قالت: 

- زاره ثلاثة أطباء ! 

ولكن الرجل قال : 

أريد أن أرقد هناك . . 

فقالت المرأة وهى تحول وجهها جانبا : 

-علم الله أنى لم أقصر فى خدمته» ولكن المهم هو راحته فإذا شاء ذهب. . 

عاد فؤاد أبو كبير إلى فراشه القديم هيكلاً عظميا مكسوا بجلد ذابل ونظرة الموت تطل 
من محجريه. وأحاطت به أسرته ولكنه استغرق فى النوم أكثر الوقت. وفى لحظات 
اليقظة كان ينقل بينهم عينيه صامئًا أو ينادى اسم بلسان ثقيل وصوت شخص آخر. ولم 
يتحسن» ولكنه دخل طوراً جديدا يتسم بالغرابة. ومرة فتح عينيه وكان ابنه جالسًا بجوار 
الغفراش وحده فتساءل باهتمام : 


-ماذا حدث؟ 





3/5 ميتي المع 


فسأله الشاب عن حاله فتأوه قائلاً: 

الظاهر أنى ضعيف جد . . ولكنى لا أدرى . . 

فسأله بقلق : 

-لا تدرى ماذا؟ 

ماذا؟! نعم ماذا؟ ولكن لم؟ هذه هى النقطة . . 

وساد الصمت مليا ثم استدرك قائلاً : 

- لذلك لا أستطيع أن أقطع برأى» شقى أم سعيد؟ ! 

وأشار إليه كأما سيفضى إليه بسر لا يريد أن يطلع عليه أحد فقرب الشاب وجهه منه 
فقال: 

- عرفت كل شىء» كل شىء» حتى الهدف ال حقيقى . 

ثم بدرجة أدنى من الانخفاض : 

- ورغم التصميم على عدم النسيان نسيت حقائق مذهلة» ولكن ما هى؟! 

وألح ابنه عليه أن يستريح ولكنه عاد يقول: 

حقائق هائلة مذهلة» ولكنها ضاعت جميعا . . 

وأغمض عينيه إعياء ثم غمغم : 

- كم أود أن أتذكر ولو قليلاًكى أموت مطمئنا. . ! 


الككقلوف 


فى تلك الفترة من أوائل القرن كان أهل الفرغانة أتعس الأحياء. كانت عطفتهم تقع 
بين حارة دعبس من ناحية وحارة الحلوجى من ناحية أخرى» وكانت الحارتان متنافستين 
متعاديتين لا يهدأ بينهما نزاع؛ وقد عرف سكانهما بالشراسة والغلظة والعدوان» 
وتسليتهم الأولى كانت العبث بالقوانين والناس . 

وعلى عهد جعران فتوة الحلوجى والأعور فتوة دعبس اشتدت بين الحارتين العداوة 

وتساءل أهل الفرغانة فى جزع : وما ذثبنا ونحن لاامن دعبس ولا من الحلوجى؟ ! 
ذلك أنه ما إن تنشب معركة فى أى مكان حتى يعصف بهم الذعر فيتوارى كل بما يملك أو 
بنفسه وراء الأبواب. ولم يكن من النادر أن يشتبك المخنصمان فوق أرض الفرغانة 


11100 





يتاسمل /الاع 


نفسهاء وهناك ينعق غراب الخراب فتنقلب العربات وتتحطم السلاسل وينفجر الصوات 
ويصاب الأبرياء بلا حساب» حتى أمست الحياة فى العطفة شرا لا يطاق وفاقت 
خسائرهم أصحاب النزاع أنفسهم وكره الحياة منهم حتى السعداء. ويوما استغاثوا برجال 
الدين فبذل هؤلاء أطيب ما عندهم من مسعى حتى اتفق العدوان على تجنيب الفرغانة 
ويلات معاركهم . وكان يوم عظيم أرخت به الفرغانة لطمأنينتهاء ولكن أى طمأنينة؟ . . 
لقد كلفتهم ما يطيقون وما لا يطيقون من حسن السلوك وطيب المجاملة والخرص على 
الحياد فى المعاملة حتى ضاعت فى ذلك أموال وابتذلت كرامات. وكلما فاض بهم الهم 
فأوشكوا على التمرد ذكروا الزمان الأول بمآسيه فازدردوا الألم صابرين» ولكنهم رغم 
ذلك كله نعموا بفترة سلام نسبى لم يعرفوها من قبل . 

حتى نزلت إلى الحارة نعيمة بنت عم الليثى بياع الكبدة. 

فعندما ضعف بصر العجوز حتى لم يعد يفرق بين النكلة والمليم اصطحب معه نعيمة 
لتعاونه فى عمله . نزلت إلى العطفة وهى فى مطلع سن الزواج. وتصدت للمعاملة فى 
جلباب غطاها من العنق إلى الكعبين ولكنه وشى بقوام معتدل ونمت التصاقاته العفوية 
بأجزاء الجسد عن بضاضة. إلى امتياز الوجه باستدارة ريانة فى لون الدوم الرائق » وعينين 
لوزيتين فى لون الشهد المصفى تعبث فى نظرتهما حيوية شباب مستجيبة فى سذاجة 
للإعجاب . ورمقتها عيون الشباب باهتمام» وانجذبوا إلى فرن الكبدة القائمة فوق عربة 
اليد كما ينجذب الذباب إلى السكر . وما لبث عم الليثى العجوز أن قرأ الفاتحة مع شاب 
بياع بطاطة يدعى الحملى . وانتظر الناس الأفراح ولكنهم عندما اجتمعوا مساء يوم بقهوة 
التوتة ‏ وقد سميت كذلك لوقوعها تحت أفرع شجرة توت قرءوا الكدر واضحا فى وجه 
الرجل الذابل . وسأله صاحب القهوة : 


- مالك يا ليئى كفى الله الشر؟ 

فأجاب العجوز متنهدا : 

المنحوس يجد العظم فى الكبدة! 

تطلعت إليه الرءوس من فوق الجوز وأقداح القرفة والشاى» فقال باقتتضاب ذى 
معني : 

السة 1 ! 


-مالها؟. . حصل من الحملى عيب؟ 
فهز الرجل رأسه المعمم بلاسة منقطة وقال: 





6 زيفين اسمن 


- لا دخل للحملى فى همى ولكن قابلنى الأعور فتوة دعبس بلطف غريب ثم قال لى 
إنه يطلب القرب فى نعيمة! 

تجلى الاهتمام فى الأعين مشوبًا بانزعاج ثم سأله سائق كارو : 

وماذا قلت له؟ 

-ارتبكت. 1 وبكل صعوبة قلت إن فاتحتها مقروءة مع الحملى. فصاح: الأعور 
يجيئك بنفسه تقول له الحملى؟! الحقيقة أنا انذعرت . . 

دنو؟! 

- مددت يدى وأنا لا أدرى وقرأت معه الفاتحة! 

وفاتحة الحملى؟ 

تبادلوا النظرات فى صمت ارتفعت فى رحابه قرقرة الجوز فقرر صاحب القهوة أن 

يخفف عن العجوز الألم فقال بأريحية : 

-لالوم عليكء» أى واحد منا فى مكانك يتصرف كما تصرفت» صل على الهادى 
وهون عليك! 

فضرب العجوز حجره بقبضته هاتفا : 

- ولكن المصيبة لم تقف عند هذا الحد! 

فتساءل صاحب القهوة ذاهلا : 

- وهل يوجد ما هو شرمن ذلك؟ ! 

بعد فاتحة الأعور بساعتين وجدت جعران فتوة الحلوجى أمامى! 

-يا ساتر يا ربء وماذا أراد؟ 

- نعيمة أيضنًا! 

وضرب صاحب القهوة كفا بكف ثم رفع رأسه إلى سقف القهوة يخاطب السماء 
اعترض سبيلى كالقضاء والقدرء لم أدر ماذا أقول ولا كيف أتصرف» ثم اضطررت 
إلى أن أعترف له بفاتحة الأعور! 

-يا أرض احفظى ما عليك . . 

- قال لى يا مخرف . . يا أعمى . . أقول لك جعران تقول لى الأعور؟ ! 


1110 





مييق لمن 34 
وفاتحة الأعور؟ 
فقال العجوز فى انهيار تام : 
- هذه هى المصيبة فأغيثونى . . 
وسرعان ما أدركوا أن المصيبة إنما هى مصيبة الفرغانة وأن الخراب عاد يهدد عطفتهم . 
وبحثوا جميعا عن حل حتى قال قارئ أعمى : 
- لا يمكن أن تتزوج من الاثنين فهذا محال» ولا يمكن أن تتزوج من واحد دون الآخر 


فهذا هوالموت. 

ثم خلع العمامة وحك رأسه طويلاً دون أن يوفق إلى اقتراح حل» فقال بياع الترمس : 
- فلتتزوج سرا من الحملى . 

فقال كثيرون فى وقت واحد: 


- ولا أبو زيد الهلالى نفسه يمكن أن يتزوجها الآن. . 

ولما أجهد التفكير رءوسهم عبثًا قال القارئ: 

ادعوا معى : يا كريم الألطاف نجنا مما نخاف. . 

وانتبه الناس فى الصباح على حركة غريبة فى وكالة مهجورة بالعطفة. . رأوا جماعة 
من البنائين والنجارين والعمال يعملون بهمة فى الوكالة ليعدوها لحياة جديدة . وثبتت 
فوق المدخل لافتة كبيرة بعنوان «نقطة الفرغانة». وجاء عساكر وضابط فشغلوا المكان 
الجديد» وتجمهر الناس أمام النقطة» فقال لهم عسكرى عجوز: 

الحكمدارية غضبانة . . ولابد أن تنتهى الفتونة! 

وقال البعض إن الله قد استجاب لدعائهم» ولكن الطمأنينة لم تدخل قلوبهم . كل ما 
أحاط بهم أقنعهم بأن الفتونة أقوى من الحكومة. لم يروا طوال حياتهم شرطيا يتتحدى 
فتوة على حين أن الفتوات يتحدون القانون فى كل ساعة من نهار أو من ليل. ولم ينس 
أحد كيف أن مأمور قسم الظاهر استعان يوما يجعران فتوة الحلوجى على تاجر مخدرات 
يونانى متمتع بالحماية الفرنسية عندما علم المأمور بأن اليونانى يهدده بالقتل. كيف يتأتى 
بعد ذلك لهذه النقطة البوليسية الصغيرة أن تقضى على الفتونة؟ ! 

وخرج الضابط الشاب بنجمتيه المذهبتين وشريطه الأحمر. وجلس على كرسى 
خيزران جنب مدخل النقطة» ثم أرسل شرطيا إلى قهوة التوتة ليأتى له بنارجيلة . كان فى 
الخامسة والعشرين . رشيق القوام غليظ القسماتء. ليس فيه ما يلفت النظر إليه سوى 
رأس كبير مفلفل الشعر كأنه كتلة صوانية مصفحة. نظر إلى المتجمهرين وقال ببساطة 
غريبة: 





2 يكن المع 


محسوبكم عثمان الجلالى. . لا تخافوا. . الحكومة معكم. . 

فتوددوا إليه بابتسامة بلهاء ولم ينبس أحد بكلمة فعاد يقول وهو يتناول خرطوم 
النارجيلة : 

- عيب أن يعيش الرجال كالنسوان.ء لا تمكنوا أحدا منكم. . . 

ولمالم يجد بادرة تشجيع واحدة قال بشىء من الحدة دل على نفاد صبره : 

- ومن يتستر على مجرم سأعامله كمجرم. . 

ورمشت أعينهم فى ارتباك ثم تفرقوا تباعاء كل يلوذ بالسلامة . وتجول الضابط فى 
الحى مستطلعًا يتبعه بعض العساكر . طاف بدعبس كما طاف بالحلوجى. وطوقته 
الأبصار حيثما ذهبء. من النوافذ والمقاهى والأركان. ارتطمت به نظرات التوجس 
والسخرية والحنق. ومر بالأعور فتجاهله. ومر بجعران فتجاهله ثم أطلق ضحكة 
مجلجلة. ولبث عثمان هادئًا طيلة الوقت. . 

وأدرك الجميع أنه يستعرض هيبة الحكومة فعزم جعران على أن يدهمه بالردٌ الحاسم . 
وعند أصيل اليوم نفسه نشب عراك دام بين الحلوجى ودعبس فى خلاء الدراسة انتشرت 
أنباؤه كاللهب فى وكالة خشب . وارتعد قلب الليئى الضعيف وسابت مفاصل الفرغانة . 
ونصح كثيرون الأب بأن يزوج ابنته من جعران فهو الأقوى على أى حال وخراب أهون 
من خراب . 

وفى صباح اليوم التالى ظهر الضابط فى الحارة مرتديًا جلبابًا كسائر أهل العطفة! لم 
يصدق الناس أعينهم أول الأمر ولكن هويته تأكدت بصوته المعروف حين ارتفع قائلاً : 

-من كان يخشى البدلة فقد خلعتهاء والآن فليأت إلى الفتوات إن كانوا حقًا رجالاً! 

وابتعد عن النقطة وحده دون أن يسمح لعسكرى واحد بأن يتبعه ولكن تبعه الذاهلون 
من الرجال والنساء والصبية. ومضى إلى الحلوجى بثبات لم يعرف عن أحد قبله حتى 
وقف أمام قهوة بندق حيث يوجد جعران بين صحبه وتابعيه. وقال عثمان بهدوء ولكن 
بوجه تتطاير من عبوسته النذر: 

- أمس تحديتم الحكومة» ها أنا ذا بيتكم وحدى أطالب بنصيبى من التحدى . . فالجدع 
منكم يتقدم . . ! 

ورقص شاب يدعى عنبة ببطئه فى وقاحة مزرية وهو على بعد أذرع من الضابط»ء 
فمال هذا نحوه بغتة ولكمه فى بطئه لكمة شديدة سقط على أثرها بلا حراك. وذهل 
الجميع لجرأة لم يتوقعها أحد على حين تراجع المتفرجون عن منطقة الزلازل. واستقرت 
الأبصار على جعران وهو متربع على أريكة متلفعا بعباءته . ولأول مرة نظر جعران فى 
وجه الضابط عثمان» ثم قال: 


1110م 





مر شيي ناسملت 4 


- أنت غدرت بصاحب لى بلا سبب . 
فصاح عثمان: 
- استحق التأديب فأدبته وسيأتى دورك فى الحال. . 
قال جعران بوجه مشوه بالندوب : 
-أنت شباب . . اذهب من أجل خاطر أهلك . . ! 
فصاح عثمان: 
- قم إن كنت رجلا وتقدم. . . 
ولم يتحرك جعران استهزاء» فاقترب عثمان منه خطوات وسرعان ما تكتل الأعوان 
حول رجلهم وأمامه؛ فقال الضابط ساخرا : 
-أرأيت أنك تختبى وراء جدار من الأنذال؟ 
وهتف جعران فى رجاله : 
-ابعدوا.. 
فتفرقوا بسرعة كالحمام فى أعقاب طلقة. ووثب جعران إلى الأرض وكان ربعة 
مدمج الجسد غليظ الرقبة» ثم تساءل : 
-أين عساكركم؟ 
فقال الضابط يحنق : 
- سأضربكم بالطريقة التى تضربون بها الناس. . 
وبمفاجأة صاعقة لطم جعران لطمة مهينة» فصرخ هذا من الغضب وانقض عليه 
فاشتبكا فى صراع مميت . تلك كانت لحظة مذهلة لم تنسها الحارة حتى اليوم» كالصراع 
الذى يروى عن الفيل والنمر» وكانت فاصلة فى تاريخها كله فتغير مجراه إلى الأبد. 
وقرأ كل فتوة من أعوان جعران بل ومن رجال الأعور مصيره فيها . 
وأراد جعران بكل وحشية فى دمه أن يعصر عثمان بين ذراعيه الحديديتين» ولكن 
الضابط اعتمد على خفة الحركة واللكمات وهو فن لم يعرفه جعران أبدا. وأصابت 
اللكمات فكى عدوه وصدره وبطنه وأنفه المعوج. فصرخ فى جنون الغضب:. 
ملعون الجحيم إن لم أشرب من دمك! 
وصاح الرجال الذين منعتهم تقاليدهم من الاشتراك فى المعركة : 
-الموت. . الموت . . يا معلم. 
وارتفع الصياح والصراخ والصوات. وتجمهر الحى كله تحت القبو الفاصل بين 
الحلوجى والفرغانة . ووقفت نعيمة ترتجف من الانفعال» قابضة على يد أبيها بعصبية» 
وهى تصف له ما يقع ما عجزت عيناه الكليلتان عن رؤيته . 





1 ميق لمن 


ودار رأس جعران بالضربات المنهالة فبطؤت حركته وتراخت ذراعاه وشخصت عينئاه 
وقع الوحش على ركبتيه. . 


أجل قد وقع . ثم سجد حتى انغرز رأسه فى التراب فتقوس كالدبء ثم تهاوى على 
جنبه . . وارتفعت عشرات النبابيت» فهتف عثمان وهو من التعب فى نهاية : 

دراسوان! 

فتراجعوا خجلين وبعضهم يصيح فى وجهه : 

- قريبًا سيقرءون على روحك الفاتحة. . ! 

وجعل الضابط يتجول فى الأحياء بجلبابه البلدى وأسطورته الغريبة تفرش له الرمل 
حيث ذهب . وكلما صادف فتوة كبيراً أو صغيرً اعترض سبيله وطالبه بأن يقول على 
مسمع من الناس «أنا مرة»» فإن تردد انقض عليه وسوى به الأرض . وفى كل يوم كانت 
له معارك يخوضها متحديا ويخرج منها منتتصرا . ولم تمض أشهر قلائل حتى رحل 
الفتوات عن دعبس والحلوجى فلم يبق إلا الشيوخ والنساء والصغار أو من غض الطرف 
وتبرأ من الفتونة. وشعر الضعفاء بأنهم يولدون من جديد» ورمقوا الضابط بعين الإكبار 
والمحبة . 

ومرض عم الليثى وفقد بصره تمامًا فقعد فى فراشه؛ وسرحت نعيمة بعربة الكبدة 
وحدها. وازدادت مع الأيام ملاحة ونضجا إلى ما كسبت من صيت لتنافس جعران 
والأعور عليها فى الماضى القريب . وبين لحظة وأخرى انتظرت العطفة أن تزف إلى 
عريس مناسب . وإذا بصبى القهوة «(حندس» يهمس ذات ليلة للساهرين : 

- أرأيتم كيف ينظر الضابط إلى نعيمة؟ 

ولم يكن أحد لاحظ شيئًا فعاد يقول: 

-إنه يأكلها بعينيه . . 

ومضى كل يتابع نعيمة من زاويته» انتبهوا إلى أنها تعسكر بعربتها عند الجدار المقابل 
للنقطة . وأن عثمان يسترق إليها النظرات باهتمام لا يخفى على راء . وأن عينيه ترتادان 
مواضع الحسن فى وجهها وجسدها . وأن نعيمة تلون نبراتها عند النداء ‏ بالدلال. وفى 
لفتاتها وسكناتها عند المعاملة جرت مناورات الأنوثة المنتصدية لرجل يستحق الاهتمام . 
وقال قائل منهم فى سهرة تالية : 

- هو يأكلها وهى تود أن تؤكل . . 

فتمتم صاحب القهوة: 

1110 





ناسملت ع 


- وعم الليثى المسكين؟ ! 
فقال بياع الترمس : 
عافن يدزى؟ 1 رمعا طلة مق العتجوز القرت! 
فقال القارئ الأعمى : 
دالبسن فى ع علق الله كتين : 
ولكن نطقت أعينهم بمدى يأسهم . وقال شاب : 
-هو أقوى من جعران والأعور معا ويا ويل من يقول بم! 
ووقفت نعيمة فى ضوء القمر وهى تراجع حساب اليوم وتغنى : 
- أنا قبله . . كنت هبله 
ولكن تجنبها الشبان حبًا فى السلامة» وقالوا لا تغنى بنت هكذا إلا للعشق! ولم تمض 
ليال حتى عاد حندس يقول: 
- كل شىء وضحء رأيتهما أمس عند خلاء شبرا! 
فصاح به صاحب القهوة : 
-اتق الله! 
الحمد لله! كانت واقفة أمام العربة وكان الضابط يأكل الكبدة كالوحش . . 
فقال القارئ: 
- شىء طبيعى ! كما يحدث للجميع ! 
فهتف حندس : 
- ولكن عند خلاء شبراء ألا تسمع يا سيدنا؟ وترحمت على عم الليثى. . 
ونفذ الحزن إلى الأعماق. ثم قال صاحب القهوة : 
أبوها عاجز» ولكنه شرف الحارة كلها! 
فقال بياع الترمس : 
الحارة أعجز من أن تدافع عن شرفها . 
وتجهمت الوجوه بالخزى » وعجبوا كيف يجىء ذلك من الرجل الذى وهبهم السلام» 
ولم يذوقوا للزنجبيل ولا للتبغ طعما. وتساءل شاب: 
- والعمل؟ 
فقال القارئ الأعمى : 


قل «أنا مرة)! 





4ك ا ا 


وانتبهت نعيمة إلى الصمت الذى يطوقها والازدراء» وجعلت تتودد إلى هذا وذاك 
لتختبر شكوكها فارتطمت بجدار من الحنق . ولم تخش اعتداء عليها وفتوة الفتوات قائم 
بمجلسه أمام النقطة ولكنها عانت وحدة غريبة . ورفعت رأسها فى استكبار ولكن نظرة 
عينيها العسليتين خلت من الروح كورقة ذابلة . ولأقل احتكاك عابر كانت تنفجر غاضبة 
وتمسك بالتلابيب. وتسب وتلعن وتصيح فى وجه ضحيتها: «أنا أشرف من أمك». 
وتربع الضابط على الكرسى الخيزران يدخن النارجيلة ويمد ساقيه حتى منتصف الطريق 
وقد امتلأ جسمه وانتفخ كرشه وتجلت فى عينيه نظرة متعالية ولكن خمد حماسه حتى بدا 
أن نعيمة نفسها لم تعد توقظ مشاعره. . والذين لم ينسوا فضله رغم كل شىء تنهدوا 
قائلين : 

-المكتوب . . مكتوب! 

ولم تعد نعيمة تمكث فى العطفة إلا أقصر وقت ممكن ثم تسرح فى الأحياء ولا تعود 
إلا مع الليل. ولأنها ممتعضة دائمًا مكفهرة ومتوثبة للشجار دائمًا فقد قست ملامحها 
وبردت نظرتها وطبعت بطابع الجفاف فركضت الشيخوخة نحوها بلا رحمة. . 

وحتى سحرها الذى أطاح برأس الضابط قد بطل أو هذا ما بدا للأعين المستطلعة 
فتهامست به أركان التوتة. . 

وفى لحظات الصمت ترتفع قرقرة النارجيلة فى العطفة الخابية الضوء كسلسلة من 
الضحكات الساخرة . . 


الرم اد 


حسن السماوى شخص يثير الحنق. ولا يشذ عن هذا الرأى فيه أحد فى إدارة 
الحسابات بشركتنا. وهو قصير القامة كصبى ولكنه عريض الصدر كمصارعء ولونه 
أسمر داكن مشوب بصفرة» ومن عينيه الصغيرتين تطل نظرة غير مأمونة» وفضلاً عن 
ذلك فهو قريب المدير العام . وطبيعى أن نشعر بأنه عين عليناء وألا نرتاح إليه لخشونة 
طبعه» وأن نضيق به لتمتعه بجميع أنواع المكافآت التشجيعية بلا جدارة» غير أنه يحظى 
بالمجاملات فى خير أحوالها. وكان مولعا بسحر الكاتبة على الآلة الكاتبة . ظريف جذا 
أن ترى جلفًا وهو يحب. أن يجود وجهه المنفر بابشسامة رقيقة» أن يرق صوته الغليظ 
وهو يهمس لها بكتابة ميزان الصرف اليومى . وكنا نتابع ذلك باهتمام ما بعده اهتمام . 
ومع أننا تمنينا أن يعذبه الحب لعله يهذبه فإننا أشفقنا من أن يفوز حقًا بسحرهء الجميلة 


111 0 





شيك المع 1 


الرقيقة الواعدة بكل خير فى مجالى الأنوثة والعمل . وثمة لحظات لا يكون بينهما حديث 
مما يمليه العمل فيسترق إليها نظرات حمراء من فوق استمارات الصرف» وقد يتصبب 
عرقّاء أو يئال منه الإعياء فيرتد عنها بنظرة خامدة . ويومًا همس جارى فى أذنى بنبرة 
ذات مغزى : 

-آه لو رأيت سحر وهى تبتسم خفية؟ 

خطفت نظرة من سحر وهى عاكفة على الآلة الكاتبة وأصابعها المخضوبة الأظافر 
تعزف عليها بنشاط» ثم قلت متأسمًا : 

-نعمة لا يستحقها! 

فهز رأسه نفيًا وقال: 

- ليس هذاء ولكنه برهان! 

وعجبت . برهان موظف جديد التحق بالخدمة منذ أسبوعين فقط. شاب ممتاز حقّاء 
ولكن كيف أحرز هذا النجاح فى هذه الفترة القصيرة؟! ورحت أراقبهما فى لحظات 
الفراغ حتى لمحت ابتسامة يتبادلانها. لااشك فى معناها. وتوقعت أحدانًا. وانتقل الخبر 
فى سرية تامة من شخص لآخر حتى استقر عند رئيسنا الكهل الذى يدنو من سن المعاش . 
ولم يعد الأمر تسلية» فحسن السماوى ليس جلفا فقطء ولا قريبًا للمدير فحسب» 
ولكنه أيضا من أقاصى الصعيدء من أرض عرفت بأنها ترتوى بدماء البشر» فذهبنا فى 
التخمين كل مذهب . 

ومرة اهتزت الإدارة بصوت حسن السماوى وهو يرتفع بحدة كأسنان المنشار قائلاً : 

الحكاية أن عقلك ليس فى رأسك ! 

واتجهت صوبه الأنظار من جميع الأركان فإذا به متحفز فوق مقعده يرمى بنظرة حاقدة 
برهان الواقف أمام مكتبه. 

وقال الأخير بصوت المعتذر: 

-هفوة لا خطورة لهاء والاستمارة لم ترسل بعد إلى المراجعة! 

فصاح السماوى: 

- هفوة أو جرية هذا تقديرى أنا لا أنت» الحقيقة أن عقلك ليس فى رأسك ! 
ورمى بالاستمارة بصورة تدعو إلى الاستفزاز» ثم صاح بالشاب وهو راجع إلى 
مكتبه : 

هنا شركة لا تكية! 

اصفر وجه برهان من التأثر ومضى يعيد تحرير الاستمارة لكن أثر الهجمة الحاقدة 





4/5 ملكي تمع 


انعكس على سحر بدرجة أشد فيما خيل إلى . وضح تمامًا أن سرعتها المألوفة فى الكتابة 
تعثرت» وأنها تمعن النظر فى الكلمات ولكنها لا تقرأ شيئًا. ووضح كذلك أن السماوى 
رأى شيئًا رابه أو حطم آماله. ولعله ضبطه قبيل انفجاره بثوان» فهو لا يكتم انفعالاً» 
ولكن هل يظن أنه بالغ مراده بالقوة؟! وأخذ يطاردها فى الطريق كما قال الرواة. ورئى 
وهو يحادثها فى محطة الأوتوبيس. ولم ندر بطبيعة الحال كيف ينتهى عناده . وتعلقنا 
جميعاً بأمل واحد آمنا بأن به وحده تتحقق العدالة الإلهية فى إدارتنا . وقال جارى : 

ألم تعلم؟» لقد قابل عمها وهو ولى أمرها ليطلب يدها. . 

سألته بلهفة: 

- والنتيجة؟ 

-الاعتذار. 

ثم مستدركًا بفرحة غير خافية : 

- فشل فى البيت بعد فشل فى الطريق . . ؟ 

وبات غرام السماوى مشكلة إدارتنا. وزاد طبعه سوءًا على سوء . عامل برهان معاملة 
شاذة اتسمت بالاستفزاز والتحدى والتربص حتى آمن الشاب بأنه لا مستقبل له فى 
شركتنا. أما معاملته لسحر فجرت على أسلوب مضطرب مذبذب» فتارة يعاملها بفظاظة 
ويغلظ لها فى القول» وتارة يستميلها برقة وعطف. ثم يعود إلى الأولى» ولا يستقر 
بحال على حال. وكلما زاملت الصبر أحرقه الحقد وخنقه اليأس . وقال مرة دون مناسبة 
أذكرها : 

عندنا تعامل المرأة كالحيوان» ولذلك يقال عنا إننا خير من يفهم النساء! 

ولم تسكت سحر فقالت بسخرية : 

- هذا عندكم! 

وضحكنا جميعا حتى هو ابتسم ابتسامة صفراء ولكنه عاد يقول : 

صدقونى إثنا نعاملها ما تستحق! 

وعرف أن برهان يسعى إلى الانتقال إلى شركة أخرى وأنه من غير المستبعد أن تحضى 
سحر فى أثره. وذات صباح لاحظنا أن برهان لم يحضر. ومضى النهار دون أن نتلقى 
بلاغا باعتذاره كالمتبع . وكذلك مضى اليوم الثانى . وفى اليوم الثالث جاءتنا رسالة تنبئنا 
بوجوده فى المستشفى للعلاج حيث وقع عليه اعتداء أثيم . وزرناه جميعا . وجدناه فى 
جناح المراحة مجبس الذراع والساق ملفوقًا بالأربطة البيضاء لا يبدو منه إلا عينان 
خابيتان. وسرعان ما أمرنا بمغادرة الحجرة فلبثنا مع شقيقه فى الاستراحة وقد تملكنا 
شعور بالرهبة والخطورة . 


1100 





مركي اسمخ 5 


ولم يكن أدلى بأقواله بعد ولكن شقيقه أخبرنا بأن مجهولين اعتدوا عليه بالعصى وهو 
راجع إلى بيته ليلاً» ثم لاذوا بالفرار دون أن يتعرف على شخصياتهم أحد. والراجح 
أنهم كانوا من حملة الجلابيب» وأن الاعتداء والهرب كانا مفاجأة صاعقة» وأن الظلام 
كان كثيمًا آخر الليل. هكذا قرر الشهود القلائل . ومع أن أفكارنا تلاقت عند ظن واحد 
إلا أن أحدا لم يجهر به بسبب وجود حسن السماوى بيننا. وقد علق على ما سمع قائلاً: 

ثم سأل شقيق برهان: 

أله أعداء؟ 

فنفى الرجل أنه يعرف له أعداء وأمل فى مزيد من الوضوح عندما يستطيع برهان أن 
يدلى بأقواله. وعدنا جميعًا واجمين وقد احمرت من البكاء عينا سحر. 

ولما أدلى برهان بأقواله استدعى حسن السماوى إلى التحقيق . وبدا أنه استبشع التهمة 
بكل قوة . واستمرت التحريات طويلاً ولكنها لم تسفر عن شىء ادا 
فى :ف شدي طلة لتيرية أو اكت ,او الى تجار عمف 

-ما جدوى هذه الحياة؟ 

وحل بإدارتنا وجوم كئيب مشحون بالسخط الصامت» أكده باستمرار وجود سحر 
بيننا. وبطريقة أو بأخرى أعلنت وجوهنا وألوان سلوكنا عن باطنناء ولم نخرج فى 
معاملته عن حد الأدب والمجاملة ولكن تجهم أرواحنا حاصره بغضب بشرى رهيب . 
ونزل عن كبريائه فجعل يباسطنا فى الحديث أو يضاحكنا لأوهى مناسبة كأنما لسبر مدى 
ظنونه ومخاوفه فكنا نجاريه فى تكلف وسرعان ما يسيطر الصمت . ولم يعد يتحملنا 
فهتف مرة دون مناسبة ظاهرة : 

أنا لا أخشى أحدا ولكنكم مخطئون! 

وتساءل رئيسنا فى دهشة : 

ماذا تقصد يا سيد حسن؟ ! 

فقال بعصبية : 

- أنت تعلم وهم يعلمون ولكنى لا أخشى أحدا! 

وتضاعف حنقنا عليه وتمنى بعضنا أن يراه جثة هامدة. وبدوره قاطعنا ولكنه كان إذا 
اشتبك معنا فى حديث بسبب العمل تحدانا بجده أو بسخريته. وبمرور الوقت بدا كأنه 
قدر على تجاهل عواطفنا. بل وعاد إلى التقرب من سحر بالابتسامة الكريهة أو الكلمة 
رغم أنها كانت تتصدى له فى نفور متصلب كالديك المتحفز مرح في امكلالك زعام ريه 
وجرت حياته بصورة طبيعية شهدت له بقوة الأعصاب. . وأخبرنى جارى - نقلاً عن 





2 شين المع 


سحر نفسها_ أنه قال لها إنه برىء ثما تظن» وإن نقطة ضعفه الوحيدة أنه يحبها وأنه 
مصمم على أن يتزوج منها! والظاهر أنه لم يظفر بأى استجابة إذ صبحنا يوم بأن سألنا: 

-هل قرأتم الحكاية؟ 

وراح يقرأ فى الجريدة نبأ حادثة وقعت فى المنيرة إذ قتل شاب جارته بعد أن يئس من 
حبها! وكنا قرأنا الخبر ولكن إعادته على أسماعنا بلهجته الصعيدية المتشفية أثارتنا إلى 
أبعد الحدود . أدركنا أن إفلاته من التهمة زاده على عكس المتوقع فجوراً. وأنه من طبيعة 
شرسة لا تقف عند حد. ماذا يقصد بتلاوته؟ ومتى تدركه العدالة التى لا نتصور أن تهمل 
أحدا من الطغاة؟ 

وقلت معلقًا على الحادثة : 

أهلك الفتاة وأهلك نفسه! 

وقال رئيسنا الكهل : 

-إنى أعجب كيف يزهق إنسان روحا بشريا؟ ! 

فأجاب السماوى متهكما : 

- ذلك أنك لم تعرف الحب . . ! 

واسترقت إلى سحر نظرة فرأيتها منكبة على العمل ولكن بوجه مكفهر. وكأنى 
أدركت للصواعق والزلازل والبراكين معنى جديدًا لأول مرة. ورفع الغطاء عن وجه 
زميلنا برهان معلنًا عن منظر لا ينسى . تحطم عرنين الأنف». واختفت قطعة من شفته 
السفلى عند الثنيتين. وتركت الخياطة الطبية بوجنته اليسرى طابعًا كأثر الاحتراق. وفى 
كلمة ضاع بها شبابه كأن لم يكن. وعاد إلى عمله محطم النفس فملاً قلوبنا بالشجن. 
وماعتم أن غادرنا إلى عمل آخر. ولبث حسن مصرا على هدفه لا يثنيه عنه صد أو 
يأس . وكثيرا ما كانت سحر تضيق بملاطفاته حتى صاحت به مرة وهى تتسلم منه رسائل 
ومذكرات: 

-لا تحدثنى هكذا من فضلك! 

والتفتنا نحوهما بوجوه غير متسامحة» فتراجع قائلاً: 

آسف. أنت لا تفهمين قصدى ! 

فمضت عنه وهى تقول بتحد: 

أنا لا أخحشاك. . لا أخشى شيئا! 

ولكن شيئًا لم يكن ليصرفه عن التعلق بها. وتساءلنا بقلق: هل نفاجاً بما ليس فى 
الحسبان؟ وناقشنا الموضوع حول مائدة الغداء بمنزل رئيسنا الكهل . سألت: 


1110 





ميق المع ,ع 


-هل يقدم على قتل الفتاة؟ 

فأجاب جارى : 

-إنه لا يتورع عن شىء. . 

وإذا بزميل يقول: 

أخشى أن ينتهى بها النضال إلى القبول! 

د القنول؟! 

- لم لا؟ إنه لا يريد أن ينهزم والمرأة كما يقولون لغز! 

وسألت رئيسنا عن رأيه فأجاب : 

-إنى أومن بالله ويتجدد إيمانى به عند كل صلاة . . 

فسألته : 

- وهذه الفوضى؟ 

فكان جوابه أن ابتسم دون أن ينبس» ثم قدم لى تفاحة! 

وبدا حسن السماوى فيما تلا ذلك من أيام هادنّاء أو راضيّاء أو مستسلماء كأنا قد 
انتهى من نضاله إلى خاتمة . ويوما قال لنا: 

حضراتكم مدعوون لحفل خطوبتى ! 

ودق قلبى. ولااشك فى أن سؤالاً واحدًا محيراً دار برءوس الجميع . وجعلا تكدلين 
النظرات إلى سحر ونعانى حزنًا كاليأس من مصير الإنسان. والتفت السماوى نحو سحر 
أيضاء وابتسم» ثم هز رأسه كالمتسائل» فابتسمت بدورها وقالت: 

- بكل سرور ولكن أرجو أن تدعو برهان أيضًا ليوصلنى عند نهاية الحفل إلى 

البيت. . 

وتنهدت قلوبنا فى ارتياح عميق . . 

واختلست منه نظرة بعد أن تحولت عنه الأعين فرأيت الوجه الأسمر الداكن يقطر يأسا 
كالموت . . 


الخخختام 


علام يسرى ‏ مراقب عام الوزارة ‏ فى غاية من السعادة . استدعاه الوزير وقال له: 
اتخذ فور إجراءات تعيينك وكيلاً مساعدا للوزارة. . 





1 نكن المع 
وقام من مجلسه أمام مكتب الوزير فانحنى امتنانًا ورأسه يدور من الذهول ثم قال: 
-ما أعجزنى عن الشكر ولكن أرجو أن أكون عند حسن الظن بى . . 
فقال الوزير: 
- أنت رجل كفء, أما سمعتك الطيبة فحقيقة أجمع الناس عليها. . 
ووجد علام يسرى نفسه فى غاية من السعادة» فامتلاً حبا لكل شىء ورضا عن كل 
شىء . وكانت له ابنة وحيدة فى العشرين من عمرها ومن خريجات الجزويت» وقد تقدم 
لخطبتها أخيراً قاض شاب, وبذلك وضح تمامًا أن رسالته فى الحياة تتم على أكمل وجه 
يحلم به إنسان. وجاءه مدير مكتبه بأوراق العرض ثم قال عندما هم بمغادرة الحجرة : 
- عبد الفتاح حمام ما زال يلح فى طلب المقابلة! 
فقطب المراقب العام قائلاً: 
- وقتى ضيق كما ترى» اسأله عما يريد» وإن كان لديه طلب فحوله إلى جهة 
الاختصاص. . 
- ولكنه يلح فى طلب المقابلة دون ذكر أسباب» وقد طردته أكثر من مرة من مكتبى. 
ولكنه يعود بإصرار» ويكرر أن لديه ما يقوله لسيادتك شخصيا . . 
واضطر إلى أن يحدد له وقنًا للمقابلة وهو كاره. وجاء عبد الفتاح حمام يسير فى 
خطوات متهيبة وهو غاض البصرء وانحنى بإجلال وهو يقول: 
صبحك الله بالسعادة يا سيادة المراقب . . 
واسترعى نظر المراقب بقصر قامته وبروز صدره بروز غير طبيعى ولونه الشاحب 
وشعر رأسه الأسود الغزير. وسأله وهو يدارى غيظه: 
-لماذا نتصر على تضييع وقتى؟ 
وتهيأ عبد الفتاح للكلام فأضاع ثوانى بارتباكه» فهتف المراقب العام : 
- متى تجود يا ترى بالكلام؟ 
فاشتد ارتباك الشاب كما تجلى فى احمرار وجهه. وقال بعجلة واندفاع كأنه يقذف 
بنفسه فى الماء فى أول تدريب يخوضه : 
-أنا موظف ملفات الخدمة بالمستخدمين» وقد رجعت إلى ملف سعادتك لمناسبة 
إعداد البيان التمهيدى للتعبين الجديد» مبارك يا فندم! الموقف أنسانى ما كان يجب 
أن أبدأ به. . 
وازدرد ريقه متوقمًا عن الكلام فتساءل المراقب العام : 
ألهذا تطلب مقابلتى؟ ! 


11100 





ميتي المع 44١‏ 


كلا يا فندم. ولكنى بالرجوع إلى ملف سيادتك اطلعت على شهادة الميلاد. . 

آه. شهادة الميلاد! . وانتزعه الماضى من حاضره بجذبة واحدة قاسية ولكنه لم 
يصدق. وتساءل ببرود: 

0 32 

حو 

اطلعت عليها فوجدت بها شيئًا غير طبيعى . . 

إذن هو ذلك !لا يمكن أن يصدق . ولكنه حقيقى كجثة مطمورة اكتشفت فجأة . وقاوم 

ماذا تقصد؟ 

فقال عبد الفتاح بشىء من الهدوء لأول مرة: 

-يوجد «تحوير» فى الشهادة! 

-لا أفهم! لعله تصحيح أو شىء من هذا القبيل؟! 

- من يدقق النظر لا يشك فى أنه . . 

وخرقت أذنه الكلمة غير المنطوقة . وشعر بيأس كالموت . أما الآخر فقال: 

-رأيت أن أرجع إلى سيادتكم قبل أن أكتب مذكرة عن الموضوع لمدير المستخدمين! 
وأن يتجلد فمن يدرى؟! واكتظ قلبه بالكراهية» ولكن ما الحيلة؟ واليوم موعد اجتماع 
لجنة الميزانية ويجب أن يبدو كل شىء طبيعيا . وسأله : 

-هل دققت النظر؟ 

-نعم! كان يمكن أن أكتفى بمراجعة صحيفة الأحوال ولكن إخلاصا منى لعملى 

أراجع الوثائق الأصلية» ولا أدرى كيف وقع بصرى على . . . 

آه إنه لايدرى كيف! وفاض قلبه باليأس والكراهية, لولا الترقية المنتظرة لرقدت 
الشهادة فى أمان حتى نهاية الرحلة الوشيكة . على أى حال لا يجوز أن ينهار أمام عينى 
00 

وسأله: 

وبعد؟ 

- قلت أرجع أولاً إلى سيادة المراقب العام! 

-إنى أشكر لك تصرفك» ولوأن. : 

ودق جرس التليفون فإذا بوكيل الوزارة يطلبه فنهض منزعجًا خشية أن يخونه صفاء 
الذهن الضرورى للمقابلة . وقال من خلال عالم مقوض الأركان: 





.1 ال ل 


- اسمع يا بنى» أنا الآن مشغول جدا فلنؤجل الحديث» وعندى لجحنة ميزانية بعد الظهر 

فموعدنا الغد. إن أقوالك غريبة وغير مفهومة لى ألبتة فلنؤجل مناقشتها إلى غد. . 

وفى الطريق إلى مكتب الوكيل غاب تمامًًا عما حوله. وتطلع إلى الأمام بنظرة ذاهلة 
منقبًا عن القوة المدمرة الساخرة. متى يغمض له جفن؟ وتمنى أن يتغيب عن لخحنة الميزانية 
ليصفى حسابه مع معذبه ولكنه جفل من مجرد التفكير فى ذلك . إنه اعتراف خطير 
سيعجل بالقضاء عليه . ولكن هل انتهى حقًا؟ ! 

وغادر الوزارة عقب مقابلة الوكيل . استقل سيارته الأوبل التى يسوقها بنفسه. وعند 
خروجه من باب الوزارة لمح عبد الفتاح حمام واقفًا أمام محل صغير لبيع الفول يتناول 
سندويتش . التقت عيناهما لحظة ريثئما انعطف إلى الطريق . وقد خفق قلبه فى رعب 
حقيقى ثم اشتعل بالكراهية . لعله ينتظره! لعله مجرم محترف . لقد انتهى حما . 

وفى البيت كان حديث الأفراح يتردد فى أكثر الأوقات عن العريس والحفل . 
يتكلمون عن الحلى والملابس والجهاز. لا ينقطع الحديث . ومنى سعيدة جدا ومثلها أمها 
وسرعان ما ينخرط فى همومهم الممتعة ويدلى برأيه فى كل شىء. ولكنه حصن نفسه 
هذه المرة بقوله 

- الظاهر أنى متوعك اليوم» أعفونى من الكلام ومن الطعام. . ! 

بذلك حصن نفسه ضد الأعين اللتفحصة» وشرب كوبا من البرتقال ثم آوى إلى 
فراشه. وسعادة منى المنجلية لم تبرح مخيلته فعذبته عذابًا أليما. وقال لنفسه بأنه لن 
يسمح لقوة بالغدر بهذه السعادة. واستعرض فى لحظات حياة طويلة طابعها الجد 
والأمانة والاستقامة . 

علام يسرى مثال طيب حمًا فى وسط ملعون. وذلك الخطأ الذى ارتكبه منذ خمسة 
وثلاثين عاما ينفجر على غير انتظار كلغم منسي . وقد ارتكبه ليقبل فى المعهد وحتى لا 
تضيع آماله هباء . ولم يكن مغامراً ولا مستهترا بالمبادئ ولكن اغتاله الضعف والأمل . 
كان موقفًا رهيبًا عندما قدم أوراقه فنظرة مدققة من عين المسجل كانت كفيلة بنيذه من 
المجتمع . وآمن بأن جريته قد دفنت فى الملف إلى الأبد ولكنه لم ينس أنه سيغتال 
الحكومة فى عامين من مدة خدمته . ولم يرحه ما قدم من عمل مجد واستقامة فعزم على 
طلب الإحالة إلى المعاش عندما يحل موعده الحقيقى الذى لا يعلم به أحد سواه. أجل 
طالما ذكر نفسه بذلك ولعل مرض القلب الذى انتابه منذ أعوام كان نتيجة لحدة شعوره 
بالشوكة الخفية المنغرزة فى ضميره . وقد تسلل عبد الفتاح حمام إلى حجرته ليقوض 
بنيانه بلطمة واحدة وجعل يتطلع إلى فراغ الغرفة منقبا فى ذهول عن القوة المدمرة 
الساخرة! 


111 0 





كرام ع 


وذهب إلى مكتبه مبكرا فى اليوم التالى ثم استدعى الشاب إلى مقابلته . وبمجرد أن 
رآه وهو يقترب من مكتبه فى أدب كاذب وثبت فى باطنه رغبة جنونية فى الانتقضاض 
على رقبته الغائرة بين كتفيه وخنقه . غير أنه رمقه بنظرة طبيعية هادئة كأنما لم يؤرقه ليلة 
كاملة وقال: 

- لنعد إلى حديثك الغريب» الحق أنه يهمنى أن أعرف كل شىء . 

وجلس عبد الفتاح فى خضوع وأعاد على مسمعه خلاصة ما قاله أمس . 

فسأله : 

ألا يجوز أن تكون واهما؟ 

فأجاب بهدوء معذب : 

- الواقع أننى لم أصدق عينى بادئ الأمرء دققت النظر طويلا» ولكى أقطع الشك 

باليقين رجعت إلى شهادة المعاملة الخاصة بالإعفاء من التجنيد فتأكد لدى أن ثمة 

فارقًا فى العمر بين الشهادتين مقداره عامان . 

وساد صمت أليم غض المراقب عينيه فى استسلام نهائى وهو يتأذى بنظرة خصمه 
على صفحة وجهه. إنه يطالبه بثمن السكوت . وعندما ينطق الصمت بما يضمره سيتردى 
فى هوة الجريمة وهو فى كامل وعيه بما يصنع هذه المرة . سيخطو الخطوة الأولى فى طريق 
قذرة لا نهاية لها. أجل لا نهاية لها. وأسر لا قرار له . آه أما من وسيلة لدفنه؟ ! وسأله: 

-وبعد؟ 

ارتبك الشاب قليلاً ثم قال : 

- قلت يجب أن أخبر سيادتك أولا . 

وثانيًا؟ 

إنه ينظر فى الأرض ليخفى انفعالاته الشريرة. إنه لا يريد أن يموت ولا أن يختفى 
كخيع ‏ 

- ألا تريد أن تتكلم؟ 


ولمالم يسمع منه جوابًا سأله بصوت غريب فى نبرته : 


ماذا تريد؟ 
وبصوت ضعيف أجاب : 
-لااشىء إلا مايرضيك» لم أقصد إلا أن أؤدى خدمة لك ألك رعكل تسيل ؛ 


تكلم أرجوك. . 





]ع مشيق الم 


أنا آسف جذا لموقفى هذاء ولكنها. . ولكنها فرصتى الوحيدة. . 


-وهى؟ 
قال بضبط نفس أكثر . 


يا سيادة المراقب أنت أدرى . . 
قال وهو يشعر بذل لم يشعر بمثله من قبل : 


- ما ترتيبك فى الأقدمية؟ 

دلا آمل لى فى ثرقيةبالأقدمية» على أن النظر حجن سنتوات ::: 
-وإذن؟ 

فقال بجرأة أوضح : 


- هنالك أكثر من طريق . . 

فقال المراقب بلا وعى تقريبًا : 

- هذا يورطنى فى تصرفات طالما عففت عنها. . 

وتبادلا نظرة انكسر لها قلب الرجل . تألم بلا حدود. إنه يسخر من تعففه ومن حياته 

ولم يعد يطيق رؤيته فقام ماذا له يده. تصافحا ثم غادر الشاب الحجرة دون أن ينال 
وعدا صريحًا ولكنه بدا مطمئنا كل الاطمئنان. وارتمى على مقعده وهو يقول لنفسه إنى 
مريض . ما بى هو مرض بكل معنى الكلمة . وعندما غادر الوزارة بسيارته لمح عبد الفتاح 
بموقف الأمس أمام محل الفول. وانعطف بالسيارة دون أن ينظر نحوه. غدًا سيتبعه كظله 
وسيقع هو تحت رحمته. ودفع السيارة نحو أطراف المدينة بلا هدف . وكان تلفن إلى 
أسرته بأنه لن يعود قبل المساء . يجب أن يخلو إلى نفسه وأن يبت فى أمره بلا تردد ودون 
إبطاء . أيسقط فى الهاوية أم لا؟ هل يسلم نفسه أسيراً مدى العمر أو يرى حلا آخر؟ 
وكان ينطلق بسرعة غير عادية ويحاور الشاب طوال الوقت . أتحسب أنك ملكت كل 
شىء؟ أنا أقول لاء فما أنت صانع؟ أجل نحن فى الخلاء حقّاء كورنيش النيل» ألا تحب 
هذا المنظر الخلاب؟ لعلك خائف. أرأيت» كان ينبغى أن أكون أنا الخائف لا أنت» أليس 
كذلك؟ لا. . لن يفيدك الصراخ . مت كحشرة. وشدت قبضته على عجلة القيادة بقوة 
فظيعة . ستطرح هنا وحيدا بلا أدنى أمل . ولكن ما أسخف التخيلات! . . سيلقاك عبد 
الفتاح غدا ليسمع رأيك الأخير. وزاد من السرعة فى شبه خلاء تام. رأيك الأخير. 
بالقبول مع الأسر أو الرفض مع الفضيحة . وفى الحالين لا يمكن أن تنسى كرامتك . ومن 
غير الله يمكن أن ينتشلك من مأزقك الخانق؟ ودعا ربه طويلاً حتى اغرورقت عيناه . 


11101 





ميدي المع و 


ووقع حادث أسيف فى طريق الكورنيش . . ! 
وقال المحزونون: جرى القضاء عليه وهو يترقب سعادتين : ترقيته وزواج 
كريمته. . 


غاص حسونة فى سوق الكانتو متأبطا لفافة كبيرة من الورق. كانت شمس الصيف 
الحامية تلهب الجموع الحاشدة وقد اصطفت على الجانبين عشرات من عربات اليد مثقلة 
بالملابس والأوعية والأوانى والأدوات القديمة . قصد حسونة عربة رمضان ولكن منعه من 
الوصول إليها سياج من الجلابيب والملاءات اللف. ولم يجد صياحه فى اختراق هدير 
صاخب من أصوات النداءات والمساومة والسب. ورصده حتى التفت ناحيته فصرخ 
بأعلى صوته : 

-يا معلم رمضان! 

انتبه الرجل إلى مصدر الصوت فلوح له حسونة بذراعه صائحا : 

معى هدية! 

وشق رمضان طريقه إليه بجهد قاس حتى بلغه ثم سأله : 

- بيع أم شراء؟ 

فضحك حسونة عن أنياب كالأسياخ وقال: 

ربنا لا يقطع لنا عادة. . 


-ما معك؟ 
جاكتة . . 
وضح الاهتمام فى وجه رمضان فتناول اللفافة ثم استخرج الجاكتة ليتفحصها. جاكتة 
رمادية فى حالة جيدة كبيرة الحجم حتى لتصلح معطمًا الحسونة. وسأله بلهجة ذات 
مصئى. 


عش اب 9 
فأجابه وهو يغمز بعين حمراء : 


-اطمئن. . 





6.45 سبالم 


ودس رمضان فى يذه ورقة من ذات الخمسة والعشرين» وهم بالرجوع ولكن حسونة 
تعلق بذراعه وهو يقول: 

- عملى ليس نزهة» ليس نزهة. . 

وبعد دفع وجذب رمى له بخمسة قروش بحركة نهائية قاطعة» ثم شق طريقه مرة 
أخرى إلى عربته . 

وجال حسونة فى أطراف السوق فابتاع أربع سجائر ورغيفًا ولحمة رأس ثم مضى إلى 
جدار المرحاض العمومى فجلس فى ظله» وراح يدخن سيجارة بهدوء مؤجلاً الأكل إلى 
حين . شنكل ! تخيل وجهه القاسى ورأسه المشوه بالندوب . وارتعد جسمه الضئيل . لو 
شك فى لحظة واحدة انتهيت . 

وتناول طعامه ولكن وجه شنكل سد حلقه . 

وفى الليل لبد عند المنور يتنصت . وسمع صوت شنكل وهو يسأل بغلظة : 

أين الجاكتة يا ولية؟ 

فأجابت المرأة : 

- لم تلمسها يدى. . 

-زارك أحد؟ 

-أبدا. . 

خرجت؟ 

-أبدا. . 

عفريت أخذها؟ 

- ربنا يعلم . . 

وترامت إليه دمدمة عراك فارتعد فى مكمنه . 

-يا مجنون . . يا وحش . . 

- تعضيننى يا كلبة؟ 

-يعنى أموت وأنا ساكتة؟ . . ما قيمة جاكتة؟ 

-يا خرابى » فيها ما يساوى تعب عمر يأ مجرمة. . 

ابتتعد حسونة عن المنور وهو يغمغم فى ذهول : «تعب عمر» . انتقل من سطح الربع 
الذى يسكنه شنكل إلى السطح الملاصق له قاصدا غرفته الخشبية . تعب العمر؟! ولكن 
كيف! لقد فتش الجيوب جيبًا جيبًا فلم يعثر على شىء! البطانة؟ ! أجل البطانة . ولكن 
كيف كان له أن يتخيل ذلك ! يجب أن يعثر على رمضان بأى ثمن . ولكن هل يرتاب 


11101 





ليشي اسمخ ا 


شنكل فى أمره؟ هل يتصور أن خروفًا يجرؤ على اقتحام عرين الأسد؟ إن عمره يعد 
بالدقائق إذا لم يحصل على تعب العمر ويرحل عن البلد. 

وغادر ربعه للبحث عن رمضان . وجد سوق الكانتو خاليًا إلا من شعاع خافت ينبعث 
من مصباح عمومى فى أقصى طرفه الشمالى . ولم يعثر له على أثر فى قهوة الجوهرى» 
ولافى مجلسه بسوق الخضار ولا فى غرزة أم الغلام . أتراه يعد النقود فى بيته؟ ! ولما لم 
يكن يدرى أين مسكنه» فقد رجع إلى سوق الكانتو عازمًا على قضاء الليل فوق الطوار 
ليكون أول مستقبل له فى الصباح . 

وجلس القرفصاء أقرب ما يكون إلى المصباح . ضيعت ثروة يا حسونة الكلب. ولكن 
من كان يصدق أن شنكل يترك ثروة فى باطن جاكتة مسروقة؟! وسمع وقع أقدام تقترب 
فنظر نحو الظلام فرأى شبحا قادمًا. وعندما دخل القادم مجال الشعاع وضحت معالمه 
بعض الشىء فإذا به شنكل ! ملأه الرعب فانتتر واقمًا بلا وعى فعرفه الرجل ورماه بنظرة 


عاجرا مع 

- مالك مكوما كالزبالة؟ ! 

- رأسى ثقيل فقلت أنام فى الهواء . . 

وصفعه كأنما يجود عليه بإحسان وسار فى طريقه . لم يصدق عينيه . وتبعه بنظره حتى 
اختفى وهو لا يصدق عينيه . كلا إنه لا يشك فيه وإلا ما أعلن عطفه بتلك الصفعة! ما 
أعمى الخوف! أليس هذا بطريقه الذى يخترقه كل ليلة إلى سوق النضار؟ ! وتنهد فى 


إعياء ثم تداعى على الأرض . 
واستيقظ مبكراً والحياة تدب فى السوق. وما لبث أن رأى رمضان قادمًا يدفع عربته» 
هرع إليه بلا تدبير وقال بلا تمهيد: 


-يا معلم رمضانء أين الحاكتة؟ 

رمقه الرجل بازدراء وهو يتمتم : يا فتاح يا عليم». لما كرر الآخر سؤاله بلهفة أحد» 
سأله : 

-لم تسأل عن شىء لا يخصك؟ 

الحاكتة يا رمضان؟ 

- عليك عفريت اسمه جاكتة!» بعتها. . 





44 مييق اسمن 


- بعتها؟!» يا خبر أسودء بعتها يا رمضان؟. لمن؟ 

أجاب بارتياب : 

-عطية الحلوانى. . 

-يا خبر أسود يا رمضان. 

وضاق به فزعق: 

-انطق! 

سأله بعينين مجنونتين : 

ماذا وجدت فيها؟ 

فصفعه إعرابيًا عن حسرته وهو يسأله بكراهية : 

ماذا كان فيها؟ 

- تعب عمر! 

دفو ددا 

ككل ! 

ارتعد الرجل فهتف : 

يشكلا نيم إلى عصيية؟! 

- ولكن مصيبة بيعها أكبر. 

- صحيح إنك نحس ! 

- البطانة يا رمضان. . 

فكر رمضان يائسا ثم قال متنهداً : 

- لا فائدة من النواح . انتظر الليل حتى يرجع الحلوانى من حلوان. . 

وقطع الكلام عندما رأى زبونا واقفا ينتظر لم يدر متى ولا كيف جاء. وتفحص 
حسونة الزبون باهتمام وقلق» ثم ابتعد. 

وعند المساء ذهبا معًا إلى قهوة الجوهرى فوجدا عطية الحلوانى منهمكًا فى عشرة 
دومينو. فصافحه رمضان وقدم له حسونة ثم اشتركا فى اللعب . وغادروا القهوة معا 
لوتمام السهرة فى حجرة الحلوانى فمشوا جنبا إلى جنب فى شارع الموسكى فى شبه ظلام 
تتخلله أنوار متباعدة خافتة . وجعلا يحاوران الشاب بجهد متكلف وهما يفكران فى 
شىء واحد . ودون مناسبة قال رمضان : 

- إن شاء الله تكون الجاكتة موفقة . . 


11100 





ا 1 


فقال الحلوانى وهو يتثاءب : 
- طبعًاء ولكنها تحتاج إلى تضييق (ثم وهو يلكزه ضاحكًا) وتغيير لون» سلمتها أمس 
إلى عبدون الرفاء . . 

وماتت رغبتهما فى مصاحبته» ولكنهما لم يجدا بدا من الذهاب. وغادروا الحجرة 
قبيل الفجر وهما يترنحان فقال حسونة متأوها: 

-فاز عبدون بتعب العمر. . 

فهتف به: 

- سنرى» أنت من يوم مولدك نحس . . 

أنا فى حاجة إلى النقود لأهرب. . 

فقبض على قفاه وهو يسأله : 

- وأنا؟ ! سيظننى شريكك . . 

فتخلص من يده قائلاً: 

دإنه لايدرى :كا عه عيلاقتها د 

وفى الصباح ذهبا معًا إلى دكان عبدون الرفاء وهو يتأهب للعمل . وعانقه رمضان 
معانقة الخلان ثم جلس ثلاثتهم على أريكة فى نهاية الدكان التى كانت أشبه بدهليز ضيق 
غائص فى الجدار. 

ومال رمضان على أذن عبدون رغم أنه لم يكن معهم رابع وهمس : 

-لا أحب أن أشغلك عن عملك فى ساعة الصبح ولكنا جئنا بخصوص الجحاكتة التى 

سلمها لك عطية الحلوانى. . 

فسأله عبدون بدهشة : 

-مالها؟ 

-هل قمت بالمطلوب لها؟ 

- لم أمسها بعد. . 

تنهد رمضان وحسونة بارتياح وقال رمضان: 

- تلزمنا بعض الوقت» دقائق لا أكثر. . 

فقال الرجل بقلق : 

-حد الله! . . إنها أمانة . . 


عيب يا عبدون » ستكون عندك بعد دقائق . . 





لمكن ب ل 


نكل اهيا راسم روا حسعون ارعس قو عسو ابسعاداسيره قن لين إلى كوي 
من الملابس المعلقة فى الجدار ففرها بسرعة حتى استقرت يده على الجاكتة الرمادية فنزعها 


وراح يتتحسسها باهتمام حتى استكنت يده فوق أسفل البطانة . وحدج رمضان بنظرة 
ساخرة فقال الرجل : 


هز عبدون منكبيه استهانة» ورمى الطريق بنظرة حذرة» ثم رجع إلى الأريكة ويده 
تفك البطانة بخفة» ثم استخرج رزمة من الأوراق المالية. ند عن حسونة صوت 
كالشهقة. وقلق رمضان فى مجلسه .» أما عبدون فبدا نهما مصمما. وقال رمضان بلهفة : 


عند ذاك اخمتفى النور الهادئ الوارد من الطريق ولكنهم لم يتتبهوا لذلك. وارتفع 
صوت كالخوار يقول بقسوة: 


عفارم عليكم . 4 

تحولت الرءوس فى فزع نحو الباب. وجدوا أمامهم شنكل . شنكل بكل ما أوتى من 
طول وعرض وكريه منظر يسد الباب سدا. صاح عبدون: 

أنا عبد مأمور. ولا دخل لى فى شىء ! 

وصاح رمضان: 

- على الطلاق ما أعرف صاحبها! 

-هل ظننت أن عينى غفلت عنك دقيقة واحدة؟ 

فتح الرجل فاه ولكن شنكل لطمه بيد كالمطرقة فاندلق من ركن الأريكة فوق الأرض 
وهو يتأوه وكأنه يتقايأ. وقال له بهدوء مخيف : 

اختف إن كنت تحب الحياة. . 

واستدار ليغادر المكان» ولكن صفارة انطلقت . وطوق باب الدكان فى ثوان 
بالمخبرين . 

ودخل الضابط شاهراً مسدسه وهو يقول بلهجة آمرة : 

كل واحد فى مكانه . : 

وانقض عليهم المخبرون قبل أن يفيقوا من ذهولهم . وقال الضابط يخاطب شنكل : 


11101 





مورل كل المج امه 


أتعبتنا أسبوعا كاملا الله يتعبك . . 

وعند الظهر وقفت سيارة مرسيدس أمام القسم وغادرها رجل ربعة بدين ذو لغد 
هائل . قابل ضابط المباحث فصافحه ثم جلس وهو يقول: 

جئت بناء على إشارتك . . 

فقال الضابط : 

- قبض على سارق جاكتتك» ووجدت نقودك كاملة لم تهمس». وسوف تتسلمها فى 

الوقت المناسب», ولكن ينبغى أن نبقى لإتمام بعض الإجراءات . 

رمق الوجيه على سيف الضابط بنظرة امتنان وتمتم : 

-همة عظيمة حقًا! 

فقال الضابط بلهجة ساخرة وهو يتفحصه بنظرة ذات معنى : 

- أرجو أن تكون فى موضعها! 

وقلق الوجيه وتأكدت ظئون طالما ساورته» ولكنه كان شديد الحذر» وعليه أن يستزيد 
من هذا الحذر مستقبلاً. واستطرد الضابط قائلاً بلهجته الساخرة : 

- مبارك عليك! امال الحلال لا يضيع . . ! 


وجهالوجه 


فى أقصى مكان بالحديقة جلسا شبه منفردين. وطيلة الوقت تبادلا نظرة مفعمة 
بالتطلع والهناء وهما يحسوان الليمونادة: 

- ستكون سهرة طيبة بسينما ركس . 

والفيلم عن قصة غرامية مشهورة فهو يناسبنا جدا . 

ابتسمت لتعليقه . وكان الفانوس الأنيق يبعث ضوءا هادئًا فأضفى عليهما غموضا 
فاتنا. وسطعت رائحة الياسمين المطل من ثغرات التكعيبة المطوقة للحديقة الصغيرة» ولم 
يكن بطرفها الآخر إلا زوجان مثلهما غارقان فى التهامس . ونسمة لطيفة مشحونة برطوبة 
أغسطس ترددت من آن لآن. 

وقال حامد: 

كالحلم» كثيرا ما قلت ذلك لنفسى . 

- هو كذلك» لكنه حلم جميل . 





.0 مشي اسمخ 


منذ رآها فى رأس البر فى يوليو الماضى وهو يردد ذلك . بعد اختفاء خمسة عشر عام 
رآها عند اللسان ساعة القيلولة . والتقت عيناهما فى نظرة تذكر وعرفان. وابتسما بلا 
خطة . تقدم منها مادا يده فصافحته . أتذكرين مصر الجديدة؟ . نعم . . شارع الزقازيق. . 
منذ ذلك الوقت لم أرك . 

بلى» متزوجة وخارج القاهرة أكثر الوقت. وتقابلا فى الصباح التالى فعلم أنها 
مطلقة من عام وأن ابنها الوحيد قد ضم إلى حضانة أبيه. وغادرا المصيف فى يومين 
متعاقبين وهما على تفاهم وميعاد. . 

- هانحن أولاء الآن نفكر فيما كان يجب أن نفكر فيه منذ خمسة عشر عامًا! 

فابتسمت سهام قائلة : 

- القسمة والنصيب. 

- وكنت أراك كل يوم تقريبًا . 

أذكر ذلك . 

وكنت معجيبا بك! 

ولكنك . . أعنى لم تفصح بأى سبيل عن ذلك الإعجاب . 

قال بنبرة المعتذر : 

- كنت وقتذاك مترجما صغيرا بالخارجية ومرشحا لبعثة. 

- والعواطف أكانت محرمة على صغار المترجمين؟ 

فضحك ضحكة مقتضبة ثم قال : 

- ليس من السهل التحدث عن خيال الشباب! 

أما أنا فقد انتظرت حتى ضقت بالصمت . 

- وبلغت أنا الأربعين ولم أتزوج . 

بعل تردد وهى تبتسم : 

-لماذا؟ . . . مجرد سؤال لا يتضمن أى اعتراض بطبيعة الحال . 

- سرقنى الوقت» كثيرون يمضون هكذا. . 

اتجهت عيناها لحظات إلى العاشقين فى الطرف الآخر للحديقة . ناضجة تماما وهو من 
حسن الحظ يفضل ناضجات نصف العمر. 

- وعندما قابلتك بعد خمسة عشر عامًا من الاختفاء وجدتك مطلقة وحزينة الحرمانك 

من ابنك» فتذكرت بقوة غير متوقعة أننى بلغت الأربعين دون زواج وقلت لنفسى 

لعل هذا اللقاء قدتم ليصحح أكثر من خطأ . 

1110م 





ليشي لمن .0 


وترامت نشرة أخبار الثامنة والنصف من مقهى بالسوق وراء محل بيجل فاقتحمت 
مجلسهما الهادئ الذى يعبق به الياسمين . وتساءل حامد: 

-هل الحرب حقا وشيكة الوقوع؟ 

فقالت باستهانة : 

- هكذا يقولون منذ أن تولى هتلر الحكم . 

- صدقت» المهم أن نتزوج فى أقرب وقت ممكن . 

عكست عيناها نظرتين متعاقبتين» الأولى مشرقة والأخرى غامضة دارتها بابتسامة. 
فقال: 

-لاشك فى أنك فكرت فى ابنك . 

-أنت تقرؤنى جيدا ولكنى على الحالين لن أراه إلا نادرا . 

- يمكن الاتفاق على ذلك مع زوجك . 

-لن يذعن» إنها العداوة العمياء . 

طالعها بنظرة إنكار فاستطردت : 

أكثر أعوام المعاشرة احترقت بنار العداوة. واستمرت بفضل تعلقى بابنى» حتى 

أفركق لياس 

سينسى الرجل العداوة مع الزمن. 

- ليس هو بالرجل الذى ينسى . 

- أمر مؤسف حقا. 

-المهم أن تفكر طويلاً قبل. . . 

- فكرت طويلا ثم اخترتك عن اقتناع وحب . 

قالت برضا: 

-الواقع أنى أشعر بغربة شديدة فى بيت أختى بالرغم من أن حالتى المالية لا بأس بها . 

-إنى أدرك ذلك يا عزيزيتى» لكن أتسمعين؟ ! هل حمًا ستقع الحرب؟ 

ابتسمت ابتسامة دارت بها ضيقها بقطع تيار الحديث الأول وقالت: 

- لم تعد الأقوال تنطلى على ! 

- الحالة أحرج مما تظنين. 

- أهى تزعجك لهذا الحد؟ 

- إيطاليا رابضة فى ليبيا . 





0 يكن المع 


رنت إليه بنظرة هادئة فاستطرد : 

دوهى رابضة أيضا فى الحبشةء أتدركين معتى ذلك؟ 

دولك الاشلية:.. 

الإنجليز» إما أنهم ضعفاء كما يؤكد موسولينى وإما أنهم أقوياء كما يدعون. وفى 


الحالين سنتعرض لأهوال الغزو. 

- أنت منزعج كما لو أن الحرب ستعلن عليك أنت! بالله خبرنى لماذا ترى أن يتم الأمر 
فى أقرب وقت ممكن؟ ! 

-آه. نعم يجب أن يتم الزواج فى أقرب فرصة لأننى عرضة للنقل إلى الخارج فى أول 


- عندك فكرة عن المكان المحتمل أن تنقل إليه؟ 

- فرنسا. تصورى أن غغضى شهر العسل فى باريس! 

-يا له من خيال! ولو أن ابنى سيبقى فى كفر الشيخ . 

- سوف ترينه يوما وهو رجل كاملء أما إذا قامت الحرب . . 
-لن يتم النقل . هذا كل ما هنالك . 

-لن يمكن التكهن بشىء. 

- سنبقى هنا غالبا وليس فى هذا ما يضير. 

-آه يا عزيزتى هل تدركين معنى ضرب بلد كبلدنا بقنابل الطيارات؟ 
-لماذا يضربوننا؟ ! لسنا أعداء لأحد. 

- سوف يتداعى كل قائم للخراب . 

- لا أصدق هذا. 

-لماذا؟ 

- قلبى مطمئن فى صدرى . 

-ما أجمل أن يطمئن إنسان فى هذه الظروف! 


ضحكت فى رقة بالغة وسألته: 
- هل عرفتنى فى رأس البر من النظرة الأولى؟ 
طبعا . 


-إذت لم أتخير كثيرا؟ 
-أنت أجمل ما كنت إن يكن ذلك ممكنا . 


1110 





وسكي عن هى 
نيك اسمن 66 


- لا تبالغ» ألم تترك سن المبالغات؟ 

-الحب لا يعترف بالزمن . 

- أنا لم أسافر إلى الخارج من قبل . 

دباريس ا عووس الذثياء صدفيى: 

- فرنسيتى ليست على ما أود» ربا التحقت بمعهد مناسب . 

- أما إذا قامت الحرب ونحن فى باريس؟ 

_الحرب أيضًا! ! 

- لتقم الآن إذا كانت تنوى ذلك . 

- فى باريس يمكن أن نرحل إلى بلد محايد كسويسرا . 

- كل شىء يتوقف على ما يصيب وطننا هنا. 

- أنا مطمئنة كما قلت لك» ولكن لماذا تقوم الحروب؟ 

العداوات» الألمان يستعدون لهذا اليوم منذ أكثر من عشرين سنة . 

- عشرون سنة! إذن كيف يمكن أن تنسى عداوة؟ 

وهو يضحك: 

- الناس لا ينسون العداوات ولكن من حسن الحظ أنهم يتزوجون رغم ذلك! 

غادرا الحديقة وهى تتأبط ذراعه. وشقا سبيلهما بين الموائد فى محل بيجل الداخلى 
حتى انتهيا إلى شارع سليمان. ورغم الحرارة المرتفعة جرت نسمة الليل وومضت فى 
السماء مئات النجوم فوق هامات العمارات الشاهقة . واقتربافى طريقهما من قهوة 
ليجولك: كان يقف عند مدخلها ماسح أحذية مائلا إلى الجدار فى تراخ » يقبض بيد على 
صندوقه ويعبث بالأخرى بشارب ثائر غليظ كأن شعيراته قدت من أسلاك حديدية . ربعة 
ملىء» يرتدى فوق جلبابه سترة محلاة ببطاقة خضراء تحمل اسم القهوة بأحرف بيضاء . 
وظهر عند رأس عطفة جانبية ملاصقة لجدار القهوة رجلان مجلببان. نادى أحدهما 
ماسح الأحذية قائلاً : 

استقام الرجل فى وقفته ثم اتجه نحو الرجلين اللذين وقفا داخل العطفة بعيدا عن أنوار 
الشارع . وبلغ ماسح الأحذية موقف الرجلين عندما كان حامد وسهام يسيران بحذائه . 
وبغتة رفع الرجل الذى ناداه يده بهراوة إلى أقصى الذراع ثم هوى بها بكل قوة فوق 
رأسه. صرخ الرجل متراجعًا إلى الشارع وقد سقط الصندوق من يده. وتشبثت سهام 
بذراع حامد وهى ترتعد. وفى الوقت نفسه رفع الرجل الآخريده بهراوته وهوى بها 
فوق رأس الرجل المترنح فوقع على ركبتيه متأوها : 





2 مييق المع 


-آه. . أنجدونى. . 

تتابعت الضربات من الرجلين بسرعة فى قسوة وعنف وإصرار حتى تهشم الرأس 
وغرق فى بحيرة من دماء. وحملقت سهام فى المنظر الدموى بلا إرادة ثم شهقت 
وتداعت مغمى عليها فتلقاها حامد بين ذراعيه . وارتفع الصياح» وهرع الناس إلى المكان 
من جميع الجبهات» وهب الجالسون على الطوار من رواد القهوة وقوفا يتطلعون» ثم قدم 
شرطى جريا وهو يصفر. 

لم يجر القاتلان. لم يحاولا الهرب قط . وظل كلاهما قابضا على هراوته الملطخة 
بالدماء وعيناهما تعكسان نظرات وحشية متحجرة . وقال أكبرهما: 

- نحن تحت أمر الشاويش ولكن حذار أن يقترب منكم أحد. 

حمل حامد سهام بين ذراعيه ومضى بها إلى مشرب عصير قريب من القهوة. أجلسها 
على مقعد فى أقصى المحل وراح يربت خديها برفق . 

وسأله صاحب المحل : 

أطلب الإسعاف؟ 

فأجاب وهو يبلل منديله بالماء : 

- انتظر الحظة من فضلك. رما أفاقت دون حاجة إلى مساعدة . . 

وجعل يمسح بالمنديل المبلل وجهها وعنقها حتى عجن البودرة بالأحمر بالكحل» هذا 
والضجة فى الخارج تتزايد وسباب يتبادل بلا حساب . وفتحت سهام عينيها. رنت بهما 
إلى وجهه فى ذهول . وقلبتهما فى الوجوه بدهشة» ثم غمغمت: 

- أنا تعبانة . . 

فقال لها وهو يواصل مسح وجهها ليزيل عنه الأصباغ تماما : 

- ساتيك بكوب عصير. . 

شربت قليلاً فيما يشبه التقزز وغمغمت مرة أخرى : 

- منظر فظيع لا يمكن أن ينسى . 

- سينسى كل شىء حتما . 

- ووقع الضربات على الرأس. . آه. . 

- شدى حيلك» يجب أن نذهب . 

وإذا بصرخة تفلت منها وهى تشير إلى قميصه بعصبية منذعرة. نظر فى مرآة فرأى 
رشاشا من الدم قد لوث أعلى قميصه فتقلص وجهه ورأى مثله فوق صفحة حقيبتها 
البيضاء وثنية شالها. بل منديله للمرة الرابعة وراح يزيل آثار الدم عن القميص والحقيبة 
والشال فهتفت: 


1110 





مييق المع /اءه 


- هل لوثنى أيض؟ 

- لم يعد هناك شىء» انظرى بنفسك . 

عاودتها الرعدة فقال بجزع : 

- لاشىء خطير ألبتة» لسنا أطفالاً على أى حال . 

لا تترك نقطة واحدة. 

طعا طبعا : امتريسى واهدضق: 

أغمضت عينيها فى إعياء واستسلام» ورجع أناس من مكان الحادث إلى مقاعدهم 
وهم يتبادلون التعليقات فسأل صاحب المحل الذى لم يستطع مغادرته : 

- كيف حال جاد الله؟ 

مات وشبع مونًا. . 

- مسكين, لكنه رجل طيب ولا أعداء له؟ 

-القاتلان ليسا من البلد» صعيديان من أبنوب! 

- ماله وأبنوب؟ . . عرفته هنا منذ عشرين عاما. 

-ثأر قديم» هذا مؤكد. 


وقال رجل بلهجة تلخيصية : 
- لعله جاء من بلده هاربّاء ثم عثروا عليه فانتهى عمره الليلة» حكاية لم تعد تدهش 
أحدا. . 

الهارب من الإعلام 


غزا الجيش الألمانى الأراضى البولندية. . 

انطلق الخبر من راديو مثبت فى كوة بجدار الحجرة الوحيدة القائمة فى الخرابة» 
وترامى خارج الأسوار فى أرض الخفير الواسعة» وصاح دحروج بحدة: 

هس .. اسمع أنت وهى. . 

سكت عن الزياط الولد وأخواته الشلاث . ولما رأوا الجد فى وجه أبيهم تسللوا بين 
أكوام الخردة وإطارات السيارات وقطع الغيار إلى الطرف القصى من الخرابة» وهناك 
واصلوا لعبهم فى أمان. وتوقفت آمنة عن نشر الغسيل رافعة رأسها فوق ال حبل المعلق ما 


بين قضيب بنافذة الحجرة وسقف لورى قديم» وصاحت بزوجها محتجة : 





2.4 كن لمع 


- أفزعت العيال» ملعون الراديو وأخباره! 

تجاهلها دحروج فى غير ما غضب وأخذ النفس الأخير من عقب سيجارة ممسك بأغليه 
ثم قال: 

-إذن هى الحرب! 

أدرك سلامة أن الكلام موجه إليه فرفع رأسه عن عجلة كان يعالج إطارها وحدج 
الرجل بعينين تلتمعان وسط لحية سوداء غزيرة تكتنف الوجه وتسترسل حتى الرقبة ثم 
قال باستهانة : 

- نعم» أخيراً صدقوا. 

وانتهز سلامة فرصة تحول رأس دحروج نحو الصوت فاسترق إلى المرأة نظرة استقرت 
فوق وجهها المشرئب ثم انحدرت إلى جسمها الممشوق الريان الصدر. ولمحته المرأة قبل 
أن يستردها كأما توقعتهاء وسرعان ما ولته ظهرها. انحنى الرجل فوق العجلة وهو يقول 
لنفسه ما أفظع الحرب فى حرارة أغسطس! ما أفظع الحرارة! . والتفت دحروج نحوه وهو 
يقول: 

طالما تنبئوا بأنها ستخرب العالم» ماذا عنا نحن؟ 

أجاب السنى باسما: 

- نحن بعيدون» فليأكل بعضهم بعضا. . 
وضع رجلاً على رجل وهو يجلس على صفيحة مقلوبة ونظر إلى بعيد نظرة حالمة ثم 


قال: 
سمعنا الأعاجيب عن الحرب الماضية . 
فقالت آمنة ضاحكة : 
أصلك عجوز! 
فضحك دحروج عن أسنان سود قاتلا بسخرية : 
- أنت لا تهتمين إلا ببطنك . . 


وقال سلامة وكان رغم تجاوزه الشباب يصغر صاحبه بعشر سنوات على الأقل : 

-حقاء سمعنا الأعاجيب. 

الأسيوطى من هو؟ كان قبل الحرب شيالاً! 

ورجع العيال ناسين الوعيد فرجعت الضوضاء» وجرى محمود ابن السابعة ‏ وهو 
البكرى ‏ وهن فى ذيله فرمقه أبوه بإعجاب وصاح به: 

-ولديا محمود شد حيلك» الحرب قامت! 


110 





كي لمن 24 


وعند الأصيل جلس دحروج وسلامة على خيشة متجاورين خارج سور الخرابة. 
ترامت أمامهما الصحراء حتى سفح الجبل» منطفئة الرمال تحت الظل» وانداحت فى 
السماء الصافية صفرة باهتة هى بقية أنفاس القيظ المختنقة . وثمة شعاع وان من الشمس 
المائلة يتسلق هامة الجبل فى عجلة » على أن الصحراء تزفر هواء منعشا باقتراب المساء . 
وراح دحروج يعد القروش والسنى مسند الرأس إلى جدار السور سارح البصر فى 
الأفق. وجاءت آمنة بالشاى وجرى العيال إلى النلاء حفاة نصف عرايا. ورشف 
دحروج قليلاً من الشاى الساخن وهو يقول: 

- قلبى يحدثنى يا سلامة بأن الشغل سيضحك عاليا . 

- ليصدق قلبك يا أبا محمود. 

- ليتنى أستطيع أن أعتمد عليك . 

- صديقك . . وأسير شهامتك . . ولكن لا يمكن أن أبرح الخرابة! 

تفكر دحروج قليلاً ثم تساءل: 

- هل يعرفك أحد فى المدينة الكبيرة خلف هذه اللحية؟ 

-إنهم يعرفون الجن . 

- وهل ينقضى عمرك فى الخرابة؟ 

-هى خير من حبل المشئقة يا أبا محمود! 

أطلق دحروج ضحكة عالية ثم قال: 

-يحق لى أن أضحك كلما تذكرت حكاية هربك من بين حارسين! 

خير الهرب ما وقع حيث لا يننظر. 

فقالت آمنة وهى واقفة مستقبلة الخلاء وقد انحسر شالها عن نصف رأسها الفاحم : 

- وانعدم الرجل بلا دية! 

فقال سلامة بنبرة غاضبة : 

- كان قاتلاً ابن قاتل» وقد تقدم به العمر حتى خفت أن يسبقنى الموت إليه؛ ولم يكن 

الأهل يكفون عن مطالبتى بالثأر. 

فقهقه دحروج عاليًا ثم قال: 

- وهربت والأوراق محمولة إلى المفتى. . 

شد سلامة على ذراعه بامتنان قائلاً: 

- ووجدت نفسى ضائعا فقلت ليس لى إلا دحروج صديق صباى فآويتنى يا شهم 

الرجال. 





0٠‏ زرك المج 


نحن رجال يا سلامة . 

على أى حال فالمخزن هنا فى حاجة إلى رجل وإنى رجله . 

وقطع حديثهم ظهور جنازة فى الآفق قادمة من ناحية العمران. مضت تتقدم نحو 
الطريق المحاذى لسور الخرابة الغربى المفضى فى نهايته إلى قرافة الخفير . ووضح النعش 
مسجى بغطاء من الحرير الأبيض فتمتمت آمنة : 

- شابة صغيرة يا حسرة عليها. 

فقال سلامة : 

-المكان هنا جميل وآمن فلا عيب فيه إلا أنه فى طريق القرافة . 

فتساءل دحروج وهو يضحك : 

- أليس طريقنا جميعًا؟ ! 

لم يطرأ على الخلاء تغير يذكر مذ أعلنت الحرب . ظل ملعبًا للشمس من الشروق إلى 
الغروب» ومعبر للنعوش ومعسكراً للصمت . وأطلقت زمارات إنذار فى تجارب غارات 
وهمية. وارتفعت أهمية الراديو القديم الباهت إلى القمة حتى بات فى وسع دحروج أن 
يحصى القنابل المتبادلة بين سيجفريد وماجيئو. وكلما استقبلت حواس سلامة صونًا 
منغومًا أو حركة لاعبة أو نظرة ولو غير مقصودة احترق باطنه بنار شرهة وغضب فى 
الوقت ذاته على نفسه بلا رحمة. وقال دحروج فى ضجر: 

-الحال لم تتغير فأين ما سمعنا عن الحرب؟ ! 

- صبرك» ألا تذكر ما قال عميلك اليهودى؟ 

نظر دحروج نحو أكوام الحديد التى ملا بها المكان عملاً بنصيحة عميله ثم قال : 

فلتسرع الأيام . . 

- فلتسرع» ولتلتهم خمسة عشر عامًا من الزمن! 

- خمسة عشر عاما؟ ! 

-فى آخرها تسقط عنى العقوبة! 

-يا له من عمر! سوف نكون على حافة حرب ثالثة! 

وراح يغنى بصوت محشرج غريب «يا بهية خبرينى) ثم هتف : 

- معلم دحروج . . لن يبقى من أهلى أحد إلا النساء! 

وقال إن آمنة تلعب بعقله وهى لا تدرى» أو وهى تدرى وأنه سيدخل الجحيم قبل أن 
يدركه ا موت . ولم تكن الحرب تهمه فى شىء ولكنه سمع بين فواصل من الأغانى أنباء 
اجتياح هولندا وبلجيكا وسقوط باريس . وتتابعت أمام العين طوابير اللاجئين» وامتلأً 
الفراغ بالتنهدات والدموع. ثم إذا بإيطاليا تعلن الحرب . وقال دحروج بقلق : 

11100 





يكن امن 01١‏ 


-هاهى ذى تدق الأبواب! 

فال سلامة بعدم اكتراث : 

- لا علينا ولا لنا. 

وتمتمت أمنة وهى تتابع لعب العيال العرايا حول برميل ملىء بالماء : 

- ربنا كبير. 

ولأول مرة انطلقت زمارة إنذار بغارة حقيقية . استيقظ دحروج وأسرته كما استيقظ 
سلامة فى مرقده باللورى . وأعلنت آمنة عن خوفها على العيال وقالت إن المخبأ بعيد 
فقال دحروج: 

-ابقى فى الحجرة فلن يضربوا الخلاء أو القرافة. . 

ورفع سلامة رأسه نحو البدر الذى يحدق فيهم بهدوئه الأبدى, ثم قال: 

-لا أرى إلا أنوارا مجنونة . 

ومن نافذة اللورى مد بصره إلى الحجرة المغلقة . قائمة لصق السور على يسار المدخل 
بسقف مائل نحو الباب وجدار لا لون له مطلية بضوء القمر طاوية جوانحها على قلوب 
مفعمة بالقلق» ككوخ مهجور فتخيل أنه جن الليل والخلاء . والغارة تنقض فتهدم كل 
قائم فى المدينة وتطيح بالقانون والمفتى والقاضى والسجان وحبل المشنقة . ويتفجر باطن 
الأرض وتجتاح كل شىء حتى الشهامة تختنق أنفاسها. وينهض من بين الأتقاض رجل 
عار وامرأة ممزقة الثياب وقد قتل الرقباء . 

وتلاحقت الغارات ليلة بعد أخرى. غارات صامتة كالخلاء أو تتخللها مدافع مضادة. 
واعتاد دحروج فى أثناء الغارة أن يذهب إلى سلامة فى اللورى ليشاهد السماء ويتحادثا : 

- ليست الغارات كما سمعنا! 

- الطليان ليسوا كالألمان. 

وضحك دحروج وقبض على لحية سلامة قاتلا : 

-أنت مغالط عزرائيل فى عمرك! 

- نعم» كان ينبغى أن أكون فى القبر منذ عام ونصف عام على الأقل . 

- ولذلك فأنت لا تخاف الموت؟ ! 

- بل أخافه منذ أن شممت رائحته وهم يحملونه إلى المفتى ! 

- تصور كيف كان يكون شكلك الآن؟ 

أحمد الله الذى أمهلنى حتى أرى الأنوار الكاشفة والمدافع المضادة. . 

ودب نشاط جديد فى الخرابة ثم تضخم بحال لم يحلم بها دحروج من قبل . ومضى 





01١‏ مييق المع 


يغيب عن المكان ساعات كل يوم ثم استغرقت الأعمال الخارجية نهاره كله. وعمل 
سلامة فى الخرابة بكل همة كحارس وكخزان. وفى أوقات الفراغ يجلس على إطار من 
المطاط مسند الظهر إلى رفرف اللورى الخلفى» يدخن سيجارة أو يمشط لحيته» وعيناه 
الحادتان تذعنان فى مطاوعة متزايدة لرغباته الجامحة. وقال إنها تتجاهل عينيه ولكنها 
شديدة الإحساس بهما طوال الوقت» وإن نظرته الثاقبة تسيطر على حركاتها وسكناتها 
كأنما تلعب بهما بخيط خفى . ونظر إلى السماء يتابع حدأة تجول جولة الوداع عند 
الأصيل» ثم نظر أمامه فرآها واقفة على مبعدة أمتار منه تجاه الصنبور الذى تدفق منه الماء 
إلى صفيحة . وقال: 

دكات يونا قبديد اخزارة + 

هزت رأسها بالإيجاب» ونظرت إلى عينيه المحدقتين ثم غضت بصرها وهى تدارى 
ايتسامة . اكتسحت الابتسامة وازع الشهامة فى صدره فاجتاحه إعصار. وتنهد بصوت 
مسموع فزجرت المرأة محمود الذى جذب أخته من ضفيرتها عند الباب . وسألته : 

-أعد لك الشاى؟ 

فقال بنبرة تمردت على سيطرته : 

- من المنتظر أن يسافر قريبًا إلى الشرقية! 

ورجع دحروج مع المساء. بدا متعبًا معفرا ولكن النجاح تألق فى عينيه . وضحك 


عاليا وهويقول لسلامة: 
وأعطى آمنة لفافة لحم كبيرة قائلاً : 


- أسرعى» لم أذق اليوم لقمة واحدة. 

ومن داخل الحجرة وهو يغير ملابسه ارتفع صوته : 

دساسافر غذا إن الكترقية:» 

غاب يومين» وعند أصيل اليوم الثالث انتظره سلامة فوق الخنيشة خارج السور. 
جلس هادنًا ثقيل الجفنين» يتخلل لحيته بأصابعه. يحصى الحدأ المتخلفة ويبادل الخلاء 
فتورا واستسلاما . وترامى إليه من الداخل صوت آمنة وهى تنهر العيال بصوت هزه المرح 
فرنا إلى ذيل الشمس الآخذة فى الانحسار عن قمة الجبل وقال إن الليل لن يلبث أن 
يجثم . ولفته صوت من الغرب فرأى تاكسى قادمًا حتى وقف عند نهاية السور ثم غادره 
دحروج. اقترب الرجل وهو يضرب الأرض بقدم ثقيلة ثابتة ورأسه مرفوع . استقبله 
واقمًا قتصافحا ثم لكمه الرجل فى صدره وهو يضحك قائلاً : 

دسلامة يابن زيتبء الإتحليز رجال! 


11100 





ينيك المع 01 

رمقه مستطلعا فاستطرد الآخر فى مباهاة : 

- وأصلهم من الصعيد. . ! 

فدعا له بالمزيد من التوفيق . ودخل الرجل الخرابة صائحا بفرح كالأطفال: 

دولة ا ميو 

وراح يغنى اسلم على) وهو يفرقع بأصابعه راقصا . 

وعوت الزمارة قبيل الفجر فمضى دحروج وسلامة إلى الخلاء خارج السور كما تعودا 
أن يفعلا أخيرا . 

وقال دحروج. 

- لم تعد الزمارة تخيف أحدا . 

انسابت الصحراء تحت ضوء القمر مرتعا للأحلام. وضحك دحروج طويلاً حتى 
سأله سلامة عما يضحكه فأجاب وهو يومئ بكوعه إلى الحجرة : 

- شهدت هذه الليلة عمك دحروج كما كانت تشهده ليالى الشباب! 

وحل صمت قصير مسقوف بأنوار الكشافات» ثم عاد دحروج يقول بلهجة جادة 


وأخوية معًا. 
- سلامة . ليس اليوم كالأمس» سيجىء كثيرون من العملاء الجددء أخشى عليك! 
سأله سلامة واجمًا : 
-هل ينبغى أن أذهب؟ 


- نعم » سأهربك إلى فلسطين» وستعمل هناك لحسابى» ما رأيك؟ 

-الرأى رأيك . . 

قال بثقة: 

- كل شىء مرسوم يا بن زينب! 

وفجأة ارتجت الأرض بزلزال ودوى انفجار شل خفقان القلب. شد دحروج على 
ساعد سلامة بعصبية : 

-ماهذا؟ 

أجاب سلامة ووجهه يشحب فى ضوء القمر: 

- قنبلة! . . أسرع إلى الحجرة. . 

وارتفعت صرخة آمنة فصاح بها دحروج : 

مكانك . . مكانك يا آمنة. . 





01 مي لمن 


وإذا بالضرب يتتابع بلا توقف. جرى الرجلان نحو الخرابة. وفى اللحظة التالية ندت 
صرخة عن دحروج ثم سقط على وجهه . هتف سلامة : 

-معلم! 

وانحنى فوقه ليساعده على القيام ولكنه لم يستطع شيئمًا. وانطرح فوقه بلا إرادة. 
وانغرزت جبهته فى الرمال. وهبطت الأرض . وارتفع جناح الصحراء صوب السماء. 
وشىء كثيف حجب وجه القمر. 

ماذا بك يا دحروج؟ 

ونادى صوت ثم ابتلع الظلام كل صوت وكل لون. 

وأراد سلامة أن يقول لصاحبه : سامحنى لقد غلبنى النوم. . 

ولكنه لم ينبس بكلمة واحدة. 


ساك تق القطار 


كل شىء يجرى إلى الوراء. الصفصاف وأعمدة البرق تجرى بسرعة فائقة. أما 
الأسلاك فتسبح بلا توقف هابطة صاعدة. وعلى مدى البصر تغمر الشمس غير المرئية 
الحقول والجداول وقطعان البقر والجاموس وأبناء الأرض . ود أن يستسلم لتيار المناظر 
ولكن حناجر الجيران المزعجة أبت عليه ذلك . ما بالهم محتدين؟ لماذا يغطى صخبهم 
على صوت الديزل؟! وحول عينيه إلى الداخل فرأى إلى يمينه رجلا بدينا ذكرته هيئته 
بدب» وعلى المقعد المزدوج أمامه جلس رجل له وجه صقر وامرأة حسناء تابعت 
حديثهما الصاخب بضيق وحرج واضحين . وقال الصقر مخاطبا الدب بحدة وانفعال: 

- لا تحاول عبثا . . ! 

واشتد بريق عينيه الحاحظتين» وتجمع فى ركنى فيه زبد أبيض وسرت تقلصات عصبية 
فى شاربه المقوس كهلال مقلوب» وبدت الحسناء وادعة كحمامة ولكنها فى خلال 
المناقشة الحامية هجرت فوق الرف» ثم تطوعت لتلطيف الجو فخاطبت الصقر قائلة 
بصوت ناعم : 

أعطه فرصة. . اسمع رأيه. . 

فصاح بها: 

-لا تتدخلى. . أنا هو أنا. . 


1110 





ليقن الم 66 


تراجعت بجمالها ونعومتها ويأسها. وفى أثناء ذلك التقت عيناها بعينى الغريب 
الجالس إلى جوار النافذة وكأنما آلمها أن تعامل أمامه كطفلة. وبقدر ما أسف الغريب 
لحالها بقدر ما بهره جمال عينيها وهما ينفذان فى عينيه . وقال الدب فى هدوء نسبى 
ولكن بصوت ذى رنين منفر: 

على أى حال فالناس للناس . . 

-هراء! أنا أتعامل مع جميع أنواع الحيوان» أما ذلك الإنسان. . 

ولوى بوزه بازدراء لا حد له فسأله الآخر: 

-هل علمت بما جرى له فى الفترة الأخيرة؟ 

- سنجد فى النهاية أن يدك اليمنى تضرب اليسرى . 

فلوح بيده غاضبا وهو يقول: 

-إننا لا نتردد عن بتر اليد أو الساق عند الضرورة! 

آه. . . لا سبيل إلى الاستمتاع بالمناظر الخلابة فى الخارج . ومهما تتجاهل المعركة 
السخيفة التى انحصرت فى مجالها فسوف تلاحقك كضربات المطرقة . 

لن تنسى الزبد المقرف» وحتى رنوة العين الصافية لن تدعك فى سلام! وللحال تؤكد 
أن احتدام المعركة لن ينقطع كدوى عجلات الديزل المتواصل فى روتين مسقم» ومين 
ثمة مقعد خال فى العربة يمكن الهروب إليه . 

وطرح رأسه على مسند المقعد وأغمض عينيه . وكأن الله استجاب لدعاء خفى 
فأخذت المناقشة تستهلك نفسها بنفسها فخفتت الأصوات» ثم حل صمت عجيب 
مريح» وقد خلا كل إلى تياره. بديع كحلم. واللعنة على الرجل العنيد وعلى كل 
خصام . وفتح عينيه ربع فتحة مسترقا نظرة من الوجه الرائق فرآه منبسطا قد زايله الحرج 
والخجل وشعور المذلة. وعلى حين راح الدب يشخر انهمك الصقر فى مطالعة جريدة» 
وتجلت فى عينى الحسناء نظرة هادئة كأول إشراقة للصبا ح» متمادية فى الحلم لا تنظر إلى 
شىء بالذات . وفتح عينيه نصف فتحة فالتفتت عيناها إليه مستجيبة فيما بدا لإحساس 
خفى . وقال لها فى باطنه كم أحب منظرك» فحولت عنه عينيها فى شبه رضا حتى 
عجب لقوته السحرية . 

وانتبه إلى ما حوله أقصى انتباه. ولما اطمأن إلى غفلة الصقر ونوم الدب ملا عينيه منها 
بنهم . فرأى فيما رأى خاتم الزواج فى يسراها المستكنة على يمناها فوق بطنها. وما لبث 
الصقر أن نحى الجريدة جانبا ومال برأسه إلى الوراء ثم استغرق فى النوم. وتولاه شعور 
بالأمان عجيب كأن الدنيا قد خلت بعد نوم الرجلين خلوا تاما. وانبعثت من أعماقه 





1ه يكن المع 


جسارة واستهانة فواصل حديثه الباطنى بعينيه إلى أبعد مدى . وقامت المرأة وهى تبتسم 
ابتسامة لا ترى عادة إلا بالقلب ومضت نحو مدخل العربة. وباندفاع لا روية فيه قام ثم 
تبعها على الأثر. ولم يكن بالمدخل أحد سواهاء ولم تدخل دورة المياه كما توقع ولكنها 
وقفت وراء الباب المحكم الإغلاق رانية إلى الحقول. ولما سمعت وقع قدميه التفتت 
نحوه عفوا فانتهز الفرصة وحياها بهزة قصيرة من رأسه . أعادت رأسها إلى موضعه 
الأول دون رد ودون اعتراض كذلك» فقال متشجعا: 

- لاحظت بأسف شديد التنافر الواضح بين طبعك الهادئ والجلسة المزعجة! 

وافقت على رأيه بمزيد من الصمت الراضى.» فضحك ضحكة قصيرة خافتة وهو 
يهمس : 

- الوقوف هنا أجمل . 

عند ذاك تمتمت: 

أظننا أزعجناك أكثر ما يحتمل . 

ولشعوره بقصر الفرصة المتاحة سألها: 

حضرتك من القاهرة؟ 

هزت رأسها بالنفى . وبعد وقفة قصيرة قالت: 

-من طنطاء وحضرثك؟ 

هزه السؤال الإيجابى حتى الأعماق فقال من دون تردد: 

أنا من القاهرة» أيمكن أن أعرف عنوانك؟ 

لا فائدة» نحن نقيم فى العزبة. . 

- ربما سافرت إلى القاهرة فخذى رقم التليفون. . 

-لافائدة. . 

وبعد أن ألقى نظرة على الباب المغلق قال بحرارة : 

- إن مابى هو الجنون بعينه» لا يمكن أن نسلم بالفراق دون مقاومة» أنت تفهمين 

ذلك؟ 

داتعم . 

ارتفعت حرارة حماسه إلى القمة وهو يقول: 

-يخيل إلى أنك غير سعيدة . . 

-نعم» جميع ما حولى مرعب مقززء أود أن أطير بعيدا. . 

-إذن طيرى . 

111 00 





ا 01 


حدجته بنظرة متسائلة تروم أملا فقال: 

- نغادر الديزل فى دمنهور. 

أهرب؟! 

-نعمء لا وقت للتردد: 

وبعد ذلك؟ 

دعى الباقى لى . 

-ربما استيقظ قبل ذلك» هو أو الآخر. . 

- سوف يظنك بدورة المياه. . 

-ولكن. . 

- لالكن» سنحاول» هى فرصتنا على أى حال . 

لكن لا أحد منا يعرف الآخر! 

-ما عرفناه حتى الآن أهم بكثير ما لمن نعرفه بعد! 

وفتح الباب قيراطا لينظر إلى داخل العربة» ولما وجد كل شىء هادئا أغلقه. ثم نظر 
فى الساعة وقال: 

- لدينا دقائق قبل دمنهور» سآتى بحقيبتى الصغيرة . 

ورجع بعينين ملتمعتين ووجه شديد الإصرارء» فقال بقلق: 


القطار لم يهدئ من سرعته! 

فنظر فى الساعة مرة أخرى وقال: 

-لعلى أخطأت فى التقدير . 

العكس حصل» إذ زادت سرعة الديزل زيادة محسوسة غير متوقعة وما لبثت المرأة أن 
ع م« 


خانفاز :| 


وإذا بباب العربة يفتح» ورجل يندفع منه نحو باب العربة التالية وهو يصيح بأعلى 
صوته : 


-السائق جن! . . . و 2 سيهلكنا جميعا! 
استدارت المرأة فى ذهول وتبادلت مع الرجل نظرة حائرة. وترك الرجل حقيبتة ثم 





014 ليلق اسمخ 


فتح باب العربة ناظرا إلى الداخل فرأى جميع الركاب واقفين فى حال من الاضطراب 
والذعر لا توصف . وقد فتحت النوافذ جميعا واخمتلطت الأصوات وارتفعت فى 
هلوسة؛ ورأى الصقر وهو يصرخ غاضبا وفى الوقت ذاته ينظر حواليه باحثا - فيما أعتقد 
-عن المرأة» فأراد أن يحذرها ولكنه سرعان ما نسى ذلك واندفع نحو الداخل سائلا عما 
هنالك فلم يسمع صوته فشق سبيله بعسر شديد نحو العربة التالية صائحا: 

- أين المفتش؟ . . . أين رجال القطار. . ؟! 

ومد يده ليفتح الباب فانفتح قبل أن يلمسه وهرول إلى الداخل رجل صائحا : 

السائق اعتدى على مساعده وقذف به خارج حجرته! 

فسأله بأعلى صوته : 

- قبضوا عليه؟ 

- أغلق بابه دونهم ودفع القاطرة إلى آخر سرعة. . 

وارتطم الصياح بالصوات . ورغم الضجة المدوية سمع صوتا يقول: 

- ستنفجر القاطرة أو يقع اصطدام قاتل . 

-والعمل؟! 

-سيهلك الجميع . . 

اندفع من الباب مخترقا البوفيه إلى المدخل المتصل بحجرة السائق المغلقة فرأى المفتش 
ورجال القطار وثفرا من الركاب» وسمع أحدهم يسأل: 

-ما العمل؟ 

فأجاب المفتش : 

- نحن نفكر فى كل شىء . 

- وهل ثمة أمل؟ 

تجاهل المفتش السؤال ثم رفع يده داعيا الجميع إلى السكوت فأطبق الصمت,ء ثم راح 
يطرق الباب المغلق بيده هاتفا : 

عبد الغفار أصغ إلى. . . 

فجاء من الداخل صوت كالرعد: 

دلا اول غيكا : : 

فصاح المفتش : 

- يجب أن تسمع لنا. . لا شأن للناس بمشكلاتك الخاصة . 

أنا هو أنا! 


1110 





مييق المع 014 
-عبد الغفار. . ما ذنب الناس؟ معك رجال ونساء وأطفال. . كلهم أبرياء! 
-هراء! 
ارجع إلى عقلك قبل فوات الفرصة . 
-هراء! 
تذكر ربك» ألا تخشى لقاءه؟ 
-هراء! 
ارتفعت درجات الذعر إلى غير حد» وتفشى الاضطراب فى كل موضع . 
وبذلت محاولات يائسة لذفع الباب أو تحطيمه ولكنها سرعان ما توقفت عندما هدد 
السائق بتفجير القاطرة . وأغمى على كثرة من النساء وبعض الرجال . 
وفقد شاب أعصابه فرمى بنفسه من إحدى النوافذ مودعا الحياة بعواء ظل صداه يتردد 
طويلا. ونشبت معارك غريبة لم يعن أحد بفضها أو معرفة بواعثها. 
واقترب الرجل من كبير المفتشين وزعق به: 
- أليس هنالك من حيلة؟ 
فأجاب الرجل بصوت لا يقل عنه درجة واحدة : 
جربنا كل حيلة! 
- أيعنى هذا أن نفنى جميعا لا لسبب إلا 00 
وشعر بذراعين تطوقانه من خلف قبل أن يتم جملته» فالتفت فى ذعر واضح فرأى 
المرأة تطالعه بوجه مخطوف وبصر زائغ فصاح بها بغيظ لم يحاول إخفاءه: 
تشددى . . لاوقت لهذا.. 
فقالت بصوت مخنوق: 
- أين أنت؟ !جن زوجى فخنق أخى ثم راح يضرب رأسه فى الجدار. . 
قال بضيق وكأنه لم يسمع شيئا : 
نحن نجرى بسرعة جنونية نحو الفناء . 
ارتمت بين يديه مغمى عليها فقطب فى حنق» ثم مضى يجررها إلى ركن المكان فأنامها 
على الأرض بسرعة آلية باردة. ولما عاد إلى المفتش وجده يصرخ ويشد شاربه ويبكى! 
ودق الرجل الباب بقبضتين مجنونتين هاتفا : 
-يا عبد الغفار. . يا عبد الغفار. . 
فجاءته الإجابة كطوبة : 





0 ينيك تملع 


-أنا لا أعرفك . . 

ولكنك ستقتلنى . 5 

- هذا شأنى ولا علاقة له بيك! 

- أنا لم أسى إليك» لا أنا ولا الآخرون. 

- لكنكم ركبتم قطارى . 

-قل قولا معقولا. . 

أنتم المجانين! 

أليس لك أبناء؟ 

كلا . 

ألا تحب الحياة؟ 

كلا . 

أليس فى قلبك رحمة؟ 

-كلا. 

- خيرنى ما ذنينا؟ 

-أنتم تحبون الديزل؟ 

اطلب ما تشاء . 

ها أنا ذا آخذ ما أريد بغير طلب. 

حراعد لقلا ريا مسرم بااواقيع زاغلاو اوسن 

وقرر الرجل أن يمضى إلى نافذة ليرمى بنفسه منها وليكن ما يكون ا حوس 
موقفه وقعت عيناه على المرأة المستلقية فى غيبوبة فقال: : ما أسعدها فى غيبوبتها! وجدد 
الركاب متكتلين يسدون المنافذ. توحدوا فى ذهول ورعب وارتجاف . عبثا حاول أن ينفذ 
من بينهم . ولما يئس رمى بنفسه عليهم » وسرعان ما تلقته الأيدى بالضرب فانهال عليهم 
بدوره ضربا حتى لفهم الجنون جميعا. 

وإذا بالواقعة تقع. وقعت الصدمة المتوقعة كأنها ارتطام كونى. اندفع الناس بقوة 
جهنمية فحطمت الرءوس» وطحنت الجدران الأجساد. صرخ الرجل بأعلى حنجرته 
ورأى النجوم تتهاوى من حوله وصرخته تدور فى فراغ أحمر. 

عينيه ودوى صرخته يجعجع فى أذنه ! 
آه. . . إنه لا يصدق . اعتدل فى جلسته وهو يظن صرخته قد مزقت الآذان. ولبث 


1110 





مفرلى الم 0١‏ 


هنيهة لا يجرؤ على النظر إلى أحد. ثم أخذ يسترق النظر فى حذر شديد فلم ير أحدا 
شاعرا له بوجود. تنهد من الأعماق. وما لبث أن تنبه إلى استمرار النقاش الحاد بين 
الصمّر والدب. 

ورأى المرأة نصف مغمضة العينين غارقة فى الضجر . اللعنة . . اللعنة. 

وكان الصمّر يتحدى صاحبه قائلا : 

-دعك من ضرب الأمثال العقيمة» لا تضيع وقتى سدىء أنت تعلم أن أنا هو أنا. . ! 


تحرك ببطء فى طابور طويل طاويا تذكرة الدخول فى يده. تذكرة أهداها إليه أبوه 
وكانت فى الأصل ضمن الهدايا التى توزع باسم مدير لونا بارك. تحرك فى عالم غريب 
مكتظ بالبشرء فتلقى فى وقت واحد فيضا لا نهاية له من الأصوات والأضواء والروائح 
العطرية والعرق وضغط الأجساد. ومضى يتزحزح خطوة فخطوة فى المدخل الممتد على 
هيئة بوق حتى يخرج من فوهته وقد زهقت منه الأنفاس . وجد نفسه فى ساحة يطوف بها 
نسيم رقيق وتطوف بجناحيها أشجار متوسطة مغروسة فى أصص كبيرة» فاتجه نحو 
طريق ضيقة تقوم على جانبيها دكاكين الأطعمة فأفضت به إلى الملعب الكبير . فى الفرج 
الذى جاء بعد الضيق شعر بأنه ولد من جديد . وهكذا بدأ رحلته. وصمم على تجربة كل 
لعبة» فإنه لم يتكبد مشقة المجىء ليبقى متفرجا. وصادفه مربع الأراجيح» وكان أكثر 
رواده من الأطفال ولكنه لم يخل من مغامر شابء وإذا به يتتخذ موقفه فى القارب 
الحديدى قابضا بيديه على العمودين» ويدفعه بحركة ذاتية فيصعد به ويهبط محييا 
ذكريات جميلة . وغادرها وهو راض عن نفسه تماما فابتاع بسكويتة دندرمة» ومضى فى 
رحلته . 

وللحال جذب انتباهه فرقعة وهتاف» وصوت الداعى «جرب قوة عضلاتك» . ورأى 
مدفع القوةيندفع فوق القضيبين الصاعدين نحو الهدف وقد ازدحم وراء الحاجز 
المتفرجون والمنتظرون لدورهم. 

توثبت عضلاته للنضال. وسرعان ما اتخذ مكانه بين المنتظرين وهو يبتسم فى ثقة. 
ولما جاء دوره تقدم من قاعدة المدفع وتناول مقبضه الصلب» وراح يدفعه دفعات قصيرة 
ليختبر ثقله وسرعته فينطلق إلى مدى قريب صاعدا ثم يتقهقر هابطا فيتلقاه من مقبضه 
مرة أخرى» ثم شد على عضلاته ودفعه بأقصى قوته فاندفع طاويا القضيبين بسرعة حتى 





0 مني المت 


ارتطم بالهدف الفولاذى وفرقعت الكبسولة فى مقدمته . تحول عن موقفه والهتاف 
يدوى» ولكنه ذاب فى زحمة أكبر كما ذاب الهتاف فى ضوضاء حلقت فوق المكان كله . 
وشق سبيله مبهور العينين بأضواء المصابيح الملونة المتدلية من غصون الشجر حتى استقر 
أمام كشك لبيع البيرة المثلجة. ومال برأسه إلى الوراء وهو يرفع القدح فرأى القمر فى 
الأفق منخفضا عن البالونات المنطلقة من صارى الملعب» ولا تميز لنوره فى وهج 
الأضواء الساطعة ولا عبرة لخلاله فى الضوضاء المكتسحة الصاحبة. شرب حتى ارتوى 
واستمع قليلا إلى أغنية تنهال من مكبر صوت وهو ينظر من بعيد إلى مضمار السيارات 
المكهرية . 

ومضى إلى المضمار بنشاط متجدد. استقل سيارة فبدأ الرحلة المكهربة . اندفعت 
السيارة بقوتها الذاتية ولم يكن عليه إلا أن يوجهها بعجلة القيادة متفاديا إذا شاء السيارات 
التى تجول حوله كالكواكب» ووقعت ارتطاما عن قصد أو عن عجزء فاستمتع بالهجوم 
وبالهروب على السواء» حتى رأى سيارة تحمل فتاة قد تكالبت عليها السيارات ناطحة 
والفتاة لا تنى تضحك . عند ذاك دب فيه حماس جديد فاستجد لحولته معنى» وطارد 
سيارة الفتاة والشرر يتطاير من عجلات سيارته . وبدا عسيرا أن يستخلصها لنفسه من 
المتنافسين ولكنه احتك بها مرة» والتحم بها أخرى فى عناد فدارا معا حول أنفسهما حتى 
ألقت به سيارة متحدية بعيدا. وكان عليه أن يدور دورة كبيرة قبل أن يتمكن من استرداد 
مافقده. غير أن الجرس رن معلنا انتهاء الدورة. ورأى الفتاة تغادر سيارتها فغادر 
سيارته. تبعها محاذرا حتى يبعد عن مجال الأعين التى توقع تجسسها عليه» ثم أخذ 
يقترب منها. سمعت وقع أقدامه فنظرت وراءها لحظة فداخلته طمأنينة إلى النجاح . 
وأبطأت عند سياج مطرز بالياسمين والبنفسج يحيط بمطعم كباب مترام فى الهواء الطلق 
ففغمتهما رائحة الشواء الدسمة ممتزجة بعبير الأزهار. همس : 

-أنت سائقة ماهرة! 

فابتسمت» فقال لنفسه إنها جاءت لذلك . وقدم لها ذراعه فترددت قليلا ثم تأبطتها . 

ودعاها إلى قدحين من البيرة. اسمى حسن واسمى سعاد. ودمعت الأعين والشراب 
البارد ينساب إلى الأعماق. وسكب مكبر الصوت ألف ليلة» أما القمر فقد ارتفع فوق 
الصارى نائيا بنفسه عن برج الأضواء وصخب الهاتفين. 

- ليلة بديعة ولكن أجمل ما فيها هو أنت . 

- أنت ظريف جدا . 

-هل يعجبك القطار؟ 

- ولو أنه مرعب أحيانا! 


11100 





مشي اللخ 0 


جلسا جنبا إلى جنب فى المقعد الأخير من العربة الأخيرة» ولحظ ابتسامتها وهو يختار 
المكان المنعزل فتوترت أعصابه» وتناول يدها فى يده والقطار يتحرك . سار القطار على 
مهل حتى اعترضته هضبة فاندفع صاعدا وضاعف اندفاعه وهو يهبط . وجرى بسرعة 
فوق متتابعات من المرتفعات والمنخفضات فطوقها بذراعه. ودار حول منعطف فى تمهل 
ماكر وراح يرتقى جبلا فى صمت ينذر بالخطرء ثم انحط من عل كأنها يهوى فى فراغ 
وارتفع الصراخ . شد على خاصرتها فمال رأسها إلى ذراعه فطبع على شفتيها قبلة 
طويلة. لم يكد ينتبه بعد ذلك إلى معاكسات القطار حتى رجع إلى المحطة . وقال لها 
وشروعات اللي تاكن فى 'راسة: 

- خير ما نفعل الآن أن نستريح فى مشرب . 

وتبادلا (اصحتك» مرة أخرى . وتحرك دبيب النشوة فى قلبه. ونظر فى مرآة مكللة 
بورد من البلاستيك فوق الطاولة فأعجبه شاربه الأسود وخداه الموردان. وحدثها عن 
الليل فأحنت رأسها بالإيجاب» ولما غنى الصوت الملائكى سألها : 

شين القكاء؟ 

فأجابت بحماس : 

-والرقص . 

- وأى لعبة تودين؟ 

-الحظ. 

وجد حلقة الحظ كثيرة الزحام فبلغا سياجها بعد مشقة. وتناول كل منهما حلقاته 
الخشبية الخفيفة وهو يتفحص الأهداف المنشورة فى تقارب معجز للصائد . سددا نحوها 
الحلقات فطاشت جميعها. وابتاعا مجموعة ثانية وثالثة من الحلقات وهو يحلم طيلة 
الوقت بعلبة فضية لا يدرى شيئًا عما بداخلهاء على حين ركزت هى على زجاجة فلير 
دامور. وبعد الجهد والبذل أصاب زجاجة نبيذ وكسبت هى عروسا عارية . وذهبا وهو 
يفض سدادة الزجاجة ثم تناول منها شربة بعد أحرى . وركبا فى أثناء ذلك الساقية 
فارتفعت بهما إلى جبين القمرء ثم رقصا فوق سطح الغربال؛ ودارت الخمر برأسه 
فأفرط فى مداعبتها حتى همست فى أذنه : 

حذار أن تلفت لنا الأنظار. 

فقرصها فى ساعدها البضء فقالت بشىء من الحدة : 

-لا. 

وانتزعت منه الزجاجة فأحكمت سدها ووضعتها فى الصندوق الكرتونى لصق 





01 مولي المح 


العروس . واستقلا تروللى غابة الأشباح فالقارب المتزحلق» ثم وجدا نفسيهما أمام وادى 
التيه المعروف بحجرة جحا . هتف بسرور: 

-عز المطلوب: 

لكنها قالت يفتور: 

لا أحبهاء سنتيه فى سراديبها حتى نفقد الصبر. 

فتناول يدها ضاحكا ثم دخلا . قطعا أمتارا فى مدخل مربع ينتهى بسد فى الأمام» 
وعن اليمين وعن اليسار نفقان يستديران إلى الداخل . ولاحظت تردده بين النفقين فقالت 
محتجة : 

من أولها حيرة! 

فمال إلى اليمين قائلا: «لنكن من أهل اليمين» . سارا فى نفق مستقيم مضاء بفانوس 
يتدلى من السقف. فانتهيا إلى حجرة مستطيلة بها منفذان غير المنفذ الذى دخلا منه» 
ووجدا بها بضعة أفراد وكان أحدهم يقول: 

دهلكضنن السب 

فصاح آخر : 

الظاهر أننا لن نخرج إلى سطح الأرض مرة أخرى! 

اتجه بها نحو المنفذ الأيمن فسارا فى ممر بدأ ضيقا ثم أخذ فى الاتساع حتى اعترضته 
ثلاثة أبواب . 

قلب عينيه بينها فق رأ على أوسطها بالقلم الرصاص «ادخل من هنا فإنه معجرب» . 
فتمتم : 

دعابة ماكرة لأحد اللاعبين» على اللاعب هنا أن يعتمد على نفسه . 

- لم تختار بابا دون آخر؟ 

- العبرة بالتجربة . 

ولكن سنيدد وقت الفسحة . 

- أليست حجرة جحا ضمن الفسحة؟ 

مرقا من الباب الأيمن إلى مر قصير أوصلهما إلى ميدان مسقوف تتعدد الأبواب على 
محيط دائرته» وتكتظ ساحته بالنساء والرجال. قهقه البعض وعبست وجوه فى نرفزة 
حقيقية . وقال رجل : 

-لو أن أحدنا أصابه مكروه فهل يترك حتى يموت؟ 

- لم لا يوجد مندوبون عن الإدارة لتقديم المساعدة عند الضرورة؟ 


11100 





ميتي المع 03 


-هل ننادى أحد المسئولين؟ 

-نادى كثيرون ولا مجيب. 

دخل حسن من أحد الأبواب فتخبطا طويلا من حجرة إلى مر ومن ممر إلى سرداب 
ومن سرداب إلى نفق» وتيار الحائرين يصادفهم فى شتى الاتجاهات . 

ولم ينقطع الحظة واحدة عن الضحك أو الغضب أو التعليقات . وتوقفت سعاد وهى 
تقول فى رجاء : 

-لترجع . 

فضحك قائلا : 

- ماذا يعنى الرجوع؟ أو ماذا يعنى التقدم؟. . نحن نسير فحسب! 

د الاتذكرهن أين أنيت؟ 

-كلا . 

- وطبعا لا تدرى أين تذهب! 

-هذا واضح . 

وهى تتنهد : 

تعبت وضجرت . 

- نحن معا وفى هذا ما يكفى . 

- ألا تسمع أصوات الغيظ؟ 

وأصوات الضحك؟ 

- سنتخبط حتى موعد الإغلاق . 

- سر اللعبة لا يمكن أن يعرف فى أول جولة فليس أمامنا إلا أن نجرب حظنا . 

واستأنفا السير والتخبط» وتجربة أبواب لا حصر لها وأنفاق وسراديب لا تنتهى . 
واشتكت أصابع قدميها فحذرته من الاضطرار إلى حملها بين ذراعيه . وزادت جزعا 
عندما رأت رجلا قد اقتعد الأرض ياتسا فى انتظار أن ينتشله رجل من الإدارة عند موعد 
الإغلاق. وطال بهما اللف والدوران والتخبط حتى تجهم الوقت ثم دفعا بابا بحركة 
روتينية ميكانيكية فإذا يباب الخروج يطالعهما! 

قام الباب على مبعدة ثلاثة أمتار بهيجا رقيقا مضيئا محبوباء وتبدت ساحة لونابارك 
من خلاله سابحة فى الأنوار والأنغام. غادرا حجرة جحا وهما يتصببان عرقاء فذهبا إلى 
حديقة مشرب الجعة وطلبا بيرة. 

وضعت صندوق العروس على كرسى جنب حقيبتها وسلتت قدميها من الحذاء 





07 ينيك سمط 


الشراب فى بطنه دار رأسه وتفاعل النبيذ والبيرة بحال غير ودية . 


قالت: 
- أنت عنيد أكثر ما ظننت . 


هكذا يجب أن تكون الفسحة فى لونابارك . 
- توجد ألعاب لطيفة وأخرى سخيفة . 
الأفضل أن نجربها جميعا 
نتعشت بالشراب فطلب قدحين جديدين وهو يقول: 
-لم تبق إلا لعبة الموتوسيكل . 
تقصد لعبة الموت؟ 
-لم تسمى بلعبة الموت رغم أنه لا يموت بها أحد؟! 
-لا يسرنى أن أرى راكب الموتوسيكل الذى يبدأ دورانه فوق الأرض ثم ينتهى وهو 
يدور حول السقف! 
هى اللعبة الوحيدة التى لم نشترك فيها بعد. 
عالا 1د 
- لم لا؟ ألا ترين أنها أشد إثارة من جميع سابقاتها؟ 
دلو #تضمليا أعصابى؟ ولا معنى لها. 
- بغيرها ستظل فسحتنا ناقصة! 
فلتبق ناقصة فهذا أفضل . 
-ما دمنا قد جئنا فعلينا أن نجرب كل لعبة . 
- لا تجعلنى أندم على معرفتك . 
أذعنت إزاء عناده وهى متبرمة. وشربا للمرة الشالثة ثم دست قدميها فى الحذاء 
وتأبطت ذراعه مرة أخرى . سارا على مهل اضطرارى فوق سيقان مسترخية من الجهد. 
ثقل رأسه بالخمار وعاود الألم أصابع قدميها. والزياط من حولهما يشتد وأفواج جديدة 
من الناس تقدم رغم انتصاف الليل . 
وتوسط القمر السماء»ء سماء صافية إلا من سحائتب رقيقة متباعدة عبرت سطحه 
كأنفاس حارة فى جو رطيب . 


11100 





ميش لمن 1ه 


وترامى إليهما أزيز الموتوسيكل وهما يقتربان من زحمة المنتظرين أمام الباب. 


ضغطت ذراعه قائلة : 
- كم أنك عنيد! 
فقال وهو يهز رأسه: 
-المؤسف حا أن الفسحة ستنتهى . 


منعقدة» ولم يكف حتى منحته ابتسامة غير سعيدة . 


المدينة الكبيرة تنفض النعاس فى صمت السحر . وقبيل الشروق تخضب الأفق بحمرة 
قانية . وقطرت السماء الباهتة زمتة فسطعت أنفاس دافئة . استند عسكرى الداورية بجسر 
الجلاء إلى جذع شجرة رافعا رأسه إلى الأفق عبر النيل» وبصقء ثم تمتم : 

-يوم نكد حتى قبل أن تشرق الشمس ! 


وذابت الحمرة القانية فى وهج الشمسء وانهالت الأشعة على الكائنات. وسعى فوق 
الأرض باعة وعمال» وسرعان ما التمعت الحياة بقطرات العرق وأكثر من صوت قال: 


واشترى أحمد علبة البلمونت ثم مال إلى التليفون على طاولة الدكان فأدار القرص: 
-نادرة؟ . . صباح الخير. 
-كلاء لم أذهب إلى المصلحة بعدء أنا أكلمك من دكان السجائر . 
- فعلاء والطريق أشد حرارة» ولكنه جو مناسب لنزهة مسائية على شاطئ النيل؟ 
حسن » السابعة مساء عند جسر الجلاء . 
ارتفعت الشمس وسط هالة ناصعة قاسية. واستكن الهواء فى كينونة ثقيلة متخلفة» 
وقرص الذباب الخدود فى بلادة وتكتل كالسخام فوق صناديق القمامة. ونشرت 





0508 ا 
- الفول يغلى فى بطنى ! 


فأجابه الآخر: 

-إذن فكيف تكون الظهيرة؟ ! 

وخلف المحطة مباشرة تبدت جباه العمال العاكفة على صف ال حروف من نوافذ بدروم 
المطبعة» وترامت أصوات الآلات بلا انقطاع . 

وشابت القبة الباهتة صفرة كئيبة ضاربة فى حواشيها إلى الاحمرار. ونزت الأرض 
رطوبة ساخنة . أما الهواء فاختئق برائحة كريهة كأنا يتنفس دخانا. وفى إدارة الحسابات 
أغلقوا النوافذ ورشوا الأرض النشبية الكالحة بالماء» وأضاءوا مصباحا واحداء 
واستعملت الأضابير فى التهوية؛ واتبعت نصيحة مجرب باحتساء الشاى الساخن ! وقال 
المراجع الكهل : 

- صدقونى لم تعرف البلاد حرا كهذا الحر! 

مؤكد أن الحرارة جاوزت الأربعين. 

- أو الخمسين» نحن نحترق فى الواقع . 

ورفع المدير عينيه المظلمتين من هبوط القلب وقلب فى الوجوه نظرة خابية حاقدة 
وقال: 

-ستعود الإدارة بعد الظهر لإنجاز الميزانية . . 

أطبق الصمت فلم يناقشه أحد. وهمس كاتب: 

-الحقود وجد فرصة للانتقام! 

- صبرك» لن يمتد به الأجل حتى منتصف النهار! 

وفى الميدان ارتطم مقدم تاكسى بمؤخرة آخر عند إشارة المرور. وغادر السائق المتقدم 
مكانه ليعاين أثر الارتطام . مال فوق الفانوس الخلفى يسبقه شعر صدره المتلبد البارز بين 
شقى قميصه وهو يجفف جبينه بكمه» ثم رمى السائق الآخر الذى لحق به بنظرة ملتهبة 
تمت الآخر: 

- وقف التاكسى فجأة فلم. . 

فقاطعه بحدة : 

حطمت الفانوس . 

فراح يجفف وجهه بمنديل ضارب إلى السواد وهو يقول: 

التواءة بسيطة ليس إلا . . 

صاح به مطاردا بلسعة الشمس: 


11101 





اسمن 0530 


-أنت أعمى ! 

وتماسكا بشدة ثم انهالت اللكمات . وجاء عسكرى المرور جريا وهو يسب ويلعن. 

وتربعت الشمس فى كبد السماء كرة من نار تقذف حمما. وانتشرت الصفرة الكئيبة 
الضاربة إلى الاحمرار لطخات متفرقة فى الأديم الضارى . ونفثت الأرض أطنانا من 
الحرارة اللافحة المركزة بالبخار» وانطلقت الباصات مائلة إلى الجانب الأيمن من ثقل 
حمولتهاء وتلاصقت الأجسام البشرية حتى انصهرت فى جسد واحد هائل متعدد 
الألوان والتقطيبات متوحد العناء والعذاب» واستقرت فى الأعين المتطلعة إلى الطريق 
نظرة خاملة مستسلمة متقززة متألمة متصبرة . 

- العرق يتجمع ويهبط فى خطوط كالحشرات ثم يستقر فى الحذاء . 

- يوم من أيام الجحيم . 

-إذن كيف يعيش الناس فى السعودية؟ 

ولسبب ما انفجر السائق فى غضب قاذفا بسيل من اللعنات الفاحشة فصكت آذان 
السيدات والأوانس وكأنهن لم يسمعن ألبتة» وواصلن وجومهن بلا مبالاة. 

وأخذ مرسى صاحبه إلى قهوة وبار آسيا وهو يقول: 

-لن تعرف حقيقة اليوم إلا من جرائد الغد. كم تظن درجة الحرارة؟ 

-فى الظل؟ 

ضحك مرسى عاليا وهو يصفق مناديا الجرسون ثم قال: 

-هاك طريقتى المقتبسة عن الإنجليز الذين يعيشون فى المناطق الاستوائية» أن أشرب 

حتى تلطسنى النمر» هناك لن أفرق بين ديسمبر وبين أغسطس . 

وقنع عساف وزوجه من الغذاء بأكلة جبن وبطيخ وتجرد من ملابسه ثم استلقى ‏ كما 
ولدته أمه فوق الكنبة» وفعلت حرمه مثله فوق الفراش . على ذلك لم يهنأ بالنوم 
لتسرب العرق المالح من جفنيه وانحداره أحيانا إلى فيه الفاغر . استيقظ مرات ليجفف 
وجهه ثم يستغرق فى النوم» ولكنه صحا أخيرا على ضوضاء وزياط منزعجا حقا. نهض 
متسخطا فجفف جسلده بالفوطة ومضى إلى الشيش لينظر ماذا يجرى» فرأى الغلمان 
يلعبون الكرة فى الطريق تحت قذائف الشمس وخلف الهدف مباشرة نام سائقو الكارو 
على الطوار فى ظل الجدران . لعن النسل والتناسل ثم رجع إلى الكنبة يبتسم ساخرا: 

- يلزمنا جهاز تكييف هوا .. 

فتردد شخير زوجه عاليا. 

وانداحت الصفرة الضاربة إلى الحمرة وانبئقت منها إشعاعات تحمل رسائل من الكابة 





0 الم 


والضجر. وتصاعد التثاؤب والتأوه. ونفد صبر ست عليات زوج بياع الثلج فوضعت 
ربع لوح ثلج فوق رأسهاء ثم مسحت به عنقهاء ثم أرسته فوق صدرها طويلاء ولم 
تمض ساعة حتى ظهرت عليها أعراض الحمى . 

وأمام قهوة الحرية سقط عبد الرحيم القاضى المصاب بضغط الدم على جنبه» 
وصدرت عنه تموجات تشنجية» وانكمش جانب فيه وسالت منه رغوة» ثم فاضت 
روحه. 

وحتى العصر لم يطرأ تغير يذكر. خف توهج النهار قليلا. وبهتت الصفرة الكئيبة 
المنداحة فى السماء . ومالت الشمس ولكنها ظلت تصب النيران صبا. وانعقدت الرطوبة 
حول الأجساد مادة لزجة ذات كثافة ملموسة. ومع أن الشعر هو أحب القراءات إلى 
حسن الزفتاوى» فإنه قال بفتور: 

كلمات . . كلمات» لا توحى بشىء» أين ذهب الشعر؟ 

فأجابه صديقه حمدى مغمض العينين ملصقا زجاجا الإسباتس بجبينه : 

- عبثا تبحث عن شىء له قيمة فى هذا اليوم . 

- حتى الحب مات! 

وحتى الجنس فقد نكهته الحيوانية الحريفة! 

وصادف عسكرى الدورية بحى الطبلية عربة خيار يدفعها صاحبها فى تراخ» فثار 
غضبه ثم انقض على العربة فنزع مقبضيها من يد البياع ورفعها إلى أقصى ذراعه حتى 
اندلق الخيار على الأرض وصاح : 

- ألف مرة قلنا تمنوع مرور العربيات! 

وصرخ البياع وتجمهر الناس . وانتبه العسكرى المنقول حديثا من قسم قصر النيل إلى 
قسم الجمالية إلى أن التعليمات المطبقة على منطقة قصر النيل لا تنطبق على حى الطبلية» 
فشعر بحرج مركزه» ولكنه أبى أن ينهزم أو أن يعترف بخطئه فصاح مستزيدا من 
الغضب: 

- كيف تسب الدين يا جاحد؟! . . تسب الدين؟! 

وأقسم الرجل بالطلاق ولكن أكثر من قسم بالطلاق ترامت من الأركان والنوافذ. 
وتابع الحادثة بفتور الواقفون حول مشرب السوبياء يلهثون ويشربون ويتصببون عرقاء 
والذباب يتلاطم فوق رءوسهم. 

واستقرت أشعة الشمس المائلة فوق الجانب الغربى لعمارة النجمة بجاردن سيتى حيث 
يقيم إبراهيم سمهان المستشار. واستيقظ المستشار من قيلولته ليجد نفسه غارقا فى بحيرة 
من العرق. هز رأسه فى ذهول ونظر طويلا إلى صورة جسده المنطبعة فوق الفراش . 


11100 





رشي اسمخ م0 


كيف حدث هذا؟ وماذا يصنع إذن جهاز التكييف؟ انزلق إلى الأرض وهو يترنح فى 
جلبابه الفضفاض» ومضى إلى الجهاز» فتبين أنه متوقف. فسد الجهاز أم انقطعت 
الكهرباء؟ وأدار المفتاح الكهربائى فوجد الكهرباء منقطعة . لاا شك فى أنها انقطعت 
بسبب ارتفاع الحرارة. وهذا يعنى أن الفريجيدير أيضا متعطلة» فى هذا اليوم الملعون. 
وهو وحيد فى القاهرة فى حين تصيف الأسرة فى الإسكندرية» ولولا اجتماع مجلس 
إدارة المئؤسسة المنتدب إليها لما جرى عليه هذا الحظ التعس . وذهب إلى الحمام وفتح 
الفريجيدير ليبل ريقه الجاف ولو بشربة فاترة ولكنه رأى صرصورا لابدا فى عنق القارورة 
الوحيدة التى ملأها بنفسه قبل النوم! تحول عنها غاضبا عابسا إلى صنبور الماء وفقتحه 
ولكنه لم يقطر نقطة واحدة. رباه. . غاض الماء من الأدوار العالية كما يحدث كثيرا 
فى الأيام القائظة . أى جنون؟ ! ضائع فى صحراء . كم أنه ظمآن» وكم أنه متلهف على 
دش بارد! وغادر شقته فى الدور الثامن إلى الطرقة الخارجية . المصعد متوقف طبعا. كل 
شىء متوقف خرب فى هذا اليوم الجهنمى . ونظر من فوق الدرابزين وصاح بأعلى 
صوته: 

لا مجيب . وكرر النداء دون جدوى. رباه ما العمل؟ ظمآن وحران ولابد أن يذهب 
إلى المرحاض أيضا . وإذا به يرى خادم الشقة التالية له وهو يصعد خطوة فخطوة» ينوء 
بحمل صفيحة مملوءة بالماء. وأنزل الخادم الصفيحة على أرض الطرقة حتى يسترد 
أنفاسه . وقف شاحب الوجه بصدر يعلو وينخفض . ونظر المستشار ناحيته فتبادلا نظرة 
طويلة وهما صامتان. وضِمّن المستشار نظرته رجاء مستحيلا فتجاهله الخادم وأرخى 
جفنيه زائغا ما قطع بأنه تلقى الرسالة ورفضها. له حق فليس فى الإمكان أن يكرر عمله 
الفدائى مرتين» ولكن ما العمل؟ ونظر المستشار إلى الماء المترجرج فى الصفيحة الناصعة 
فازدرد ريقه الجاف بصعوبة» ثم همس وهو يبتسم متوددا: 

- تسمح لى بملء كوب؟ 

فقال الخادم باستحياء : 

- تفضل يا بيه! 

وهرع إلى الداخل ثم رجع بكوب فملآه؛ وصبه فى جوفه دفعة واحدة! وجعل 
يستشعر الماء وهو يرشح من مسامه» ثم تتم : 

ماء دافى . 

- ينصب من الحنفية كالنار. 

وتذكر مطالبه الضرورية الأخرى فاستأذن فى ملء الكوب مرة أخرى فأذن له الخادم 





لاه رامخ 


بتسليم لا حيلة فيه . ورجع إلى الشقة وهو يقول ساخطا: «بلد غير مستعد للحر مع أن 
ثلاثة أرباع عامه صيف!» . 

وتوارت الشمس فى المغيب وراء ستار دموى ولكن الجو لم يتحرر من قمقمه 
المنصهر . وأذاع الراديو أنباء الموجة وتفسيراتها الفلكية والدرجة الثامنة والأربعين التى 
بلغتها فى الظل . ورقدت المدينة فى همود تحت العذاب الأغبر . وانتظر أحمد عند جسر 
الحلاء حتى وافته إليه نادرة فى فستان رمادى عارية الذراعين والساقين. 

ماذا فعلت اليوم؟ 

فأجابت وهى ترعش راحتها المبسوطة فى استفظاع : 

- أوة ٠‏ .يوم لن يتسى» . 

ذهبا إلى مجلسهما المعهود بالكورنيش ولكن الشاطئ كان مكتظا بالبشر لا موضع فيه 
لإنسان. اقترح أن يمضيا سهرة فى سينما مكشوفة ثم يعودا إلى النيل بعد منتصف الليل . 
ولما رجعا لم يكن الشاطئ قد خلا ولكن كان ثمة موضع . وافترشا الحشائش بعد أن أزالا 
عنها قشر الفول ومزقا من الورق» ولم يكن فى الجو نسمة واحدة. 

مات الهواء؟! 

فأجاب بضيق : 

-شىء أثمن منه مات فينا . 

-لن نحتمل يوما آخر كاليوم . 

ومضى المكان يخلو بسرعة نسبية حتى وجدا نفسيهما منفردين . أخيرا. ولف ذراعه 
حولها فشعر فى جنبه بسخونة وفغمت أنفه رائحة عرق فاتر. وانعكست أضواء الفوانيس 
على ماء ساكن راكد لا يلعب ولا يبهج : 

-إذن متى تنكسر حدة الحرارة؟ 

-آه. . متى ؟ 

وخميل إليه أن حرارة الحب تزدرد حرارة الجو بسرعة لم يتوقعهاء غير أن قدما ثقيلة 
دقت الأرض فى الظلام الصامت. ومن الظلمة المضاعفة التى تلقيها شجرة وارفة مر 
شبح العسكرى فى ضوء المصباح . تعلق به رأساهما ثم همست : 

- لا يوجد أحد غيرنا. . 

فشبك راحتيه حول ركبته وغمغم حانقا: 

-يوجد الخحر. . 

- لا تعط له فرصة للتحرش. . 


11100 





ديك لتم 0 


مر العسكرى أمامهما وهو يرميهما من عل بنظرة غامضة . ابتعد حتى أوشك أن 
يختفى ولكنه توقف . وتنحنح . ثم استدار راجعا حتى وقف على مبعدة مترين أو ثلاثة . 
لبث واقفا فى عناد كأنه الحر دون أن ينبس . توقعا أن يقترب أكثر أو أن يتكلم ولكنه لم 
يفعل . ولكزته بكوعها هامسة : «هيا» . قاما معاء وألقيا نظرة أخيرة على الماء الراكد» ثم 
ذهيا. 

وشىء غريب كريه زحم اللجو. ذو رائحة مريضة وشخصية مبهمة. وقد انعقد حول 
مصابيح الطريق كالضباب» وانتشر تحت النجوم فتراءت خابية . وتحرك العسكرى ببطء 
شديدء وبصق» ثم تمتم : 


عابرو السبيل 


اندمج الشارع الكبير فى حياة هؤلاء الناس . شارع قصر النيل . ما بين السابعة والثامنة 
صباحا يقطعونه ثم يتفرقون إلى أماكن أعمالهم . وتتكرر الرحلة فى نظام فلكى على مر 
الأعوام. بدأها كثيرون وهم فى ريعان الشباب والفتوة وواصلوها حتى أدركتهم 
الشيخوخة وتخايلت لأعينهم النهاية . ومنهم من ينقطع دون سبب معروف للآخرين إذ 
إنهم يترافقون فى الطريق ولكنهم لا يتعارفون. والعين تلقى نظرة عابرة فلا تكاد ترى» 
كأن الآخر شجرة مغروزة فى الطوار» وربما استيقظت لسبب ما فترى بدهشة العوالم 
الغريبة الماضية فى سبيلهاء كل عالم وحدة من الأسرار والأفراح والأتراح لا تدرى شيئا 
عن الآخرين» ولا تجد وقتا للتعرف إلى ذاتها وتجهل كل الجهل مصيرهاء عند ذاك تتفجر 
الألسنة فى غزارة ولكن تشح الأجوبة حتى الإرهاق» وتشمخ السماء بصفحتها ‏ الصافية 
أو الملبدة تبعا للفصول فلا تشفى غليلا ولا تبدد حيرة . 

ثابر على تلك الرحلة ثلاثة أأشخاص : رجلان مصريان وامرأة إفرنجية. بدأها 
الرجلان حوالى عام ١975‏ ثم ظهرت المرأة بعد ذلك ببضعة أعوام» وكانوا فى ذلك 
شابين وشابة . وكان أحدهما طويلا نحيلا يتميز بعينين حادتين وسمرة غامقة وحركات 
عصبية» أما الآخر فكان معتدل الطول والقد هادئ الطبع . وبدت الفتاة متعة للبصر 
بعينيها الزرقاوين وشعرها الفاحم وبشرتها الحليبية وجسمها الرشيق. وكانت ‏ كذلك 
الشاب الطويل ‏ يسيران فى اتجاه ميدان الأوبراء أما الشاب الآخر فيتجه نحو ميدان 
سليمان باشاء ويتقابلون عادة فى منتصف الطريق أو نحو ذلك» ولم يترك أحدهما 
فرصة للقاء إلا ويملاً من الفتاة عينيه» المعتدل يرمقها بحياء وبلا غاية إلا إبهاج الروح 





لان مليدي منت 


والحواس . أما الآخر فيلتهمها بنظرة حادة» ليست نظرة ولكنها كلام وفعل وعربدة» 
ورئى مرة وهو يحييها وهى تتجنبه مبتعدة عنه مسرعة» ذلك أنها كانت فيما بدا فتاة جادة 
نشيطة تنطلق بجدية وعزم العاملات» لا تكاد تنظر إلى غير الطريق» وإذا التقت عينها 
بعين الشاب المعتدل فبالقدر الذى يحتمه حب الاستطلاع أو ملابسات المشى فى حدها 
الأدنى. 

وجعل الشاب المعتدل يسترق النظر إلى الآخر بامتعاض» ويتابع مناوراته بحنق 
وإشفاق متوقعا أن يراه ذات صباح والجميلة تتأبط ذراعه . وبقدر ما كان يلعن قحته بقدر 
مااكان يعجب بها على نحو خفى» ويتمنى فى أعماقه بعضا منها. وأحزنه جدا أن يتفق 
اتجاههما فى الطريق على خلاف اتجاهه . 

ومضت الكواكب الثلاثة فى مداراتها دون أدنى تغير فى علاقتها المشتركة» أما عن كل 
فى ذاته فقد تنابع ظهور خواتيم الزواج فى أيدهم. سبق المعتدل وتبعه فى نهاية العام 
الطويل وأخيرا لحقت بهما الحسناء . ورغم ذلك فلم يقل الشغف بها كثيرا وإن بدا أن 
الطويل قد تخلى بصفة شبه نهائية عن أحلام المغامرة . 

ولم يتغير شىء مما بين الثلاثة عندما قامت الحرب العالمية الثانية وإن تكن الدنيا قد 
اندفعت بجنون نحو التغيرات الفادحة. زخرفت الصحف بعناوين المعارك الجحمراء» 
وتناقل المارة الأنباء المثيرة» وظهر الإنجليز المدنيون والعسكريون بكثرة حتى فى تلك 
الساعة المبكرة» وفتحت ثلاثة بارات فى الشارع العتيد» وانتقلت عدوى التغيير إلى الفتاة 
نفسها أسوة بالدنيا من حولهاء فثقلت مشيتها وشحب لونها ثم تكور بطنها وانداح تحت 
الفستان التقليدى المسترسل بلا حزام. أجل لقد حبلت العروس الفاتنة. وتفحصها 
الطويل بعين صقر وبشىء من الغيظ متذكرا امرأته ولكن امتلأت عيناه بالعطف والشرود 
الغامض . وحبلت المرأة مرة ثانية قبيل انتهاء الحرب» وثالثة أيام حرب فلسطين . 

ولعل أحدا من الثلاثة لم يكن يفطن حقا إلى الزمن إلا عندما يقع بصره على الآخر. 
امتلاً عود الحسناء وتوارى فى الذاكرة القد الرشيق الملمشوقء وأحدقت بالعينين 
الزرقاوين أنصاف دوائر خفيفة لم تعد تخفى» واستقرت بهما نظرة رزيئنة » رزانة الإعياء 
لا رزانة الدلال والصدود التى عرفاها قديما. واشتد نحول الرجل الطويل وجرى المشيب 
فى سوالفه وشاربه وبرزت عظام وجنتيه. ومع أن المعتدل لم ير من تغير ذاته سوى 
شعيرات بيضاء» فإنه لم يشك فى مدى تغيره الحقيقى كلما نظر إلى رفيقه فانطوى صدره 
على توتر غامض كأنه صدى بعيد جدا لم يقع حوله فى التاريخ والطريق . 

واستمر دوران الكواكب الثلاثة خلال أحداث جديدة» فقد نشب فى القناة قتال 
مريرء واندلع حريق القاهرة ثم انفجرت ثورة يوليو. تزلزل المجتمع من جذوره وانهار 


ل نت 





ا ار 0 


البنيان المتداعى وأخذ نظام جديد فى التبلور. وإذا بالاعتداء الثلاثى يعترض الطريق كثور 
أعمى . وفى أتون حرب العدوان قدر لأولئك الثلاثة أن يجتمعوا فى مكان واحد لأول 
مرة. فقد انطلقت زمارة الإنذار وفرقعت المدافع وهم يسيرون أمام مشرب لاجيون. لحأ 
ثلاثتهم إلى المشرب باندفاع عفوى فوجدوا به خادما واحدا يغسل أرضيته» ومائدة 
واحدة صالحة لاستقبالهم فى أقصاه. شقوا سبيلهم إليها خلال قوائم من الكراسى 
المتراصة بعضها فوق بعضء ثم وقفوا مترددين قلقين» ثم جلسوا- بدعوة من الخادم- 
حول المائدة المنفردة. وكلما ترامى انفجار تبادلوا نظرة باهتة دون أن ينبس أحدهم 
بكلمة . وكان الطويل أجرأهم على خرق جدار الصمت فقال : 

-ولا أيام الحرب العالمية. . 

فقال الآخر بحنق : 

المجرمون! . . سرعان ما نسوا هوانهم تحت أقدام هتلر! 
وتواصل التعليق دون أن تشترك المرأة فيه» ثم خف الضرب درجات فعاد الطويل 
يقول: 

- لا مدعاة للخوف فهم يضربون الأهداف . 

وحدجته المرأة بنظرة جائعة للتصديق فابتسم إليها. تبدت عن قرب معتلية ذروة 
النضج الأنثوى وإن شارف حسنها الوداع . وقال الطويل مدفوعا بأريحية طاركة : 


- خير ما نفعل أن نتناسى ما يقع فى الخارج . 

ثم وهو يبتسم عن طاقم نضيد: 

تفكر الآخر مليا ثم قال : 

فالتفت الطويل نحو المدام وقال: 

-المدام ظهرت بعد ذلك؟ 

انتزعت نفسها من التركيز المفعم بالقلق فى الخارج وهزت رأسها بالإيجاب . 
-عمر طويل مر دون أن نتبادل كلمة واحدة . 

وضحك ثم استطرد: 

وساءلت المرأة نفسها بتوتر: 


متى ينتهى الضرب؟ 





0 مرش المع 


فقال بلهجة ودية جدا: 

- لا تخافى يا مدام» سينتهى الضرب عاجلا ويذهب كل منا إلى طريقه» ولكنى أود 
أن أنتهز هذه الفرصة لأحقق فكرة جميلة خطرت لى الآن فقط! 

نظر إليه المعتدل مستطلعا فى غير حماس على حين نظرت المرأة فى ساعة يدها . 
-سوف أحال إلى المعاش بعد شهر واحد» أى أننى سأنقطع عن رؤيتكما بعد تلك 
العشرة الطويلة العزيزة. . 

فقال الآخر: 

- وأنا أيضا سأحال إلى المعاش فى نهاية هذا العام . 

- هذا أدعى إلى تحقيق الفكرة» وهى أن نحتفل بذكرى لقائنا الطويل على مدى أكثر 
من ثلاثين عاما! 

وقلب وجهه بينهما فى حماس وقد أخذ الهدوء يخيم فى الخارج رويدا وإن لم تطلق 

بعد زمارة الأمان» ثم قال: 
- أود أن أدعوكما إلى عشاء بسيط بمطعم كريسنتم بالهرم» ما رأيك يا أستاذ؟ 


فقال الآخر بنبرة سلبية : 
- بكل سرور إن سمح الوقت! 


- ستقبل الدعوة حتما خصوصا إذا قبلتها المدام» ما رأيك يا مدام؟ 
انتزعت المدام نفسها من قلقها مرة أخرى وتمتمت: 


- لكين 

-لا لكن البتة» إنه سلوك لا عيب فيه عندكم » ودعوتى واضحة البراءة. ورفضها غير 
إنساب . . 

الاي 


ايتسمت ابسامة خفيفة عدها الرجل قبولاء قبادر يقول: 

- شكراء سنتفق على الميعاد فى صباح قريب . 

اتفقوا على الميعاد صباح اليوم الثالث لوقف القتال . وتقابلوا فى ميدان التحرير ثم 
استقلوا تاكسيا إلى كريسنتم فبلغوه قبيل الغروب . وفى أثناء ذلك تم التعارف بينهم فقدم 
الطويل نفسه قائلا: «على بركة» مترجم»» وقال الآخر: «سيد عزتء مدير حسابات»» 
وقالت المدام «مدام ماتياس» خياطة فى ماى ستار» . وجلسوا فى حجرة خاصة يحجبها 
عن بقية المحل باب موارب يقوم خلفه برافان. وأوصى على بركة على عشاء حمام وكبد 
وأمر بكونياك . ونظر إلى سيد عزت ورفع كأسه قائلا: 

- لنشرب نخب شباب عام 1475 » أما أنت يا مدام فما زلت شابة! 


11101 





ا لان 





فقالت ضاحكة: 

-لا. . لا. . لاا فائدة من الكذبء. أنت تعرف وهو يعرف. 

وما كادت الكئوس تفرغ حتى طلب غيرها وهو يقول : 

- لا ترفضاء دعونا نشرب» لن نسكر على أى حال» وهى ليلة العمر. 

ومضت الألفة تحل محل التحفظ» ويشيع الدفء بتأثير الكونياك ولباقة على بركة 

وحيويته . وراح يقول: 

- كان يجب أن نكون أصدقاء حميمين» يتبادلون المودة والأسرارء ولكن فات الوقت 
للأسف. فلم يبق لنا إلا أن نذكر شيئا من الأمور الجوهرية جدا لتمام التعارف» 
أسعد حادث فى حياتنا مثلا أو أبقاه أثرا فى نفوسنا؟ ! 

رحب سيد عزت بالاقتراح لا لشىء إلا لأنه يجد ما يقول» فقال: 

- لعل أسعد حادث صادفنى هو نجاح ابنى الأكبر فى الثقافة العامة بعد ما يشبه 


اماس د 
ونظر الرجل إلى المدام مستطلعا كأنما كانت هى الهدف الحقيقى لاقتراحه» فابتسمت 
قائلة : 


- زواج ابنتى الكبرى» ولكن الحادث الذى لا أنساه هو وفاة زوجى منذ أربعة أعوام . 

كاد التهلل للخبر يفلت من أساريره لولا أن تداركه بتقطيبة مصطنعة ثم هز رأسه فى 
رثاء. واتتهز فرصة الصمت الذى تلا ذلك فطلب الكونياك لشالث مرة» ثم ضحك 
مفتتحا صفحة جديدة وقال: 

أحدائى أنا لا تخلو من غرابة» فأسعدها كان وفاة قريب آلت إلى تركته» وأتعسها 
جاءنى منك أنت يا مدام! 

أنا؟ ! 

- أجل وأنت تعرفين السبب . 

فقالت متشجعة بفعل الكونياك الخفى . 

- تعنى مطارداتك لى فى الشارع؟ 

- أعنى إعراضك عنى حتى قبل الزواج . 

-يا عزيزى» أنت لم تكن جادا. . 

- كيف عرفت؟ 

-أنا أفهم» أنت لم تكن جادا. . 

وقال سيد عزت وهو يفرغ ثمالة كأسه: 


01 ميدي نط 


-أنا موافق . 

-أنت أيضا؟ ! هل اختفت نواياى الطيبة إلى ذلك الحد؟ 
- لم تكن هناك أى نية طيبة! 

-وأنت؟! كنت تأكلها أكلا وتأكل نفسك! 

فقال سيد عزت بتسليم : 


لاأكر ذلك! 

ضحك الرجل فى شماتة أمام مدام ماتياس فقالت: 
-لا أصدق. 

-لماذا؟ 


وجاء العشاء مع جديد من الكونياك فأقبلوا على الطعام والسؤال معلق والاهتمام به 
يعمق إلى غير نهاية . وقالت مدام ماتياس وقد احمرت أذناها من الشراب : 

-لى معك حكاية . 

أنا؟ ! 

- كنت تنظر بقوة» كل صباح» قلت لنفسى حتما سيكلمنى يوما ما! 

حسبتك لم تلحظى شيئا ألبتة! 

-هه! قلت سيكلمنى » وما أخره إلا أنه مؤدب أكثر من اللازم على خلاف. . 

قاطعها على بركة بضحكة عالية هاتفا: 

- على خلاف الآخر قليل الأدب! 

وهى تضحك أيضا: 

-لا. لا. . معذرة. . ( ثم ملتفتة نحو سيد ). . واعتبرت المسألة مفروغا منها لدرجة 

أننى فاتحت ماما فى الموضوع ولكنها رفضت بشدة فكرة زواجى من مصرى! 

صاح سيد عزت الذى أفقدته لذة الحديث لذة الطعام : 

-الزواج؟! 

-نعم» وبسببك زعلت من ماما فأقمت مدة عند خالتى . . 

ابتسم سيد فى ارتباكه حياء وسرورا كما كان ينبغى أن يفعل عام 2197١‏ وإذا بعلى 
بركة يلكزه فى ذراعه قائلا : 

ضعيت على فرصة دون أن تنتفع بهاء صدق من قال إن رجال الحسابات معقدون 

إلى النهاية ! 

تمتم سيد عزت : 


11100 





مدي امن 0 


- لم أكن أعرف! كنت يا مدام جادة جدا بصورة غير مشجعة . 
هكذا نصحتنى زميلة لى فى ذلك الوقت يماى ستار. كانت يهودية مولودة فى 
مصرء قالت لى إن المصريين يعشقون المرأة اللعوب ولكنهم لا يتزوجون إلا 


المتحفظة ! 


- نعم النصائح اليهودية ! 
فخاطبت المدام سيد عزت قائلة : 


لكنك لم تتكلمء حتى لم تحاول الكلام . 


قال بارتياب : 
- كنت دائما أخاف من الإفرخ! 
تخاف؟ ! 

الخوف لسانى . 


على بركة وهو يضحك فى تهكم : 

-مفهوم. . مفهوم. . اللائحة المالية لا تسمح بحب بين مصرى وإفرنجية ! 

- وكان مرتبى محدوداء وكانت فكرتى عن الحب أنه باهظ التكاليف! 

قالت المدام وهى تهز منكبيها : 

- اتتظرت حتى جلت من نفسى» ثم كان أن تعرف بى مسيو ماتياس . 

فقال على بركة معاتبا: 

- انتظرت الصامت وصددت المتكلم الفصيح! 

انتتهى العشاء ولكن الشراب لم ينته. وتجلت آثاره فى الخندود والأعين والألسن 
وارتفع الضحك . 

وهتف على بركة بنبرة الظافر باقتراح سعيد : 

عندى فكرة! 

فنظرا إليه مستطلعين فقال: 

0200 

قال سيد عزت : 

-لا أعرف الرقص . 





ع0 سن المع 


وقالت المدام : 

- ولا توجد موسيقى . 

قال: «لايهم». وقدم لها ساعده فقامت ملبية» وأحاط خاصرتها بذراعه وراحا 
يرقصان. وإذا به يضمها إليه حتى التصقا تماما. حاولت أن تتخلض منه عبثا . وتساءل 
سيد عزت فى ذهول : 

- من فضلك . . عن إذنك . . 

تمادى الرجل فى فعله وانعقدت فى عينيه نظرة مخيفة فصاح سيد عزت : 

خذ بالك! . . المدام تعبانة . . 

فقال بحدة : 

- نحن هنا لا يدرى بنا أحد! 

-ابعد. . دعنى . . 

وقام سيد عزت . وبقيامه تأكد من أنه ثمل حقا. وضع يده على كتف الكهل الطويل 
وقال برجاء: 

- على بيه اعقل. لا تفضحنا! 

فصاح به وهو يزيح يده بحركة من كتفه : 

-اعقل أنت» سيأتى دورك يا غبى! 

وتأوهت المرأة متأللة» فهتف سيد بغضب : 

-دعها: أقول لك دعها. . ألا تفهم؟ 

وأمسك بذراعيه محاولا فكهما. جذبهما بأقصى ما استطاع من قوة. 

انضغطت المرأة بينهما حتى استشعر بضاضتها . تراجع خطوة وهو يضاعف من قوة 

-ابعد وإلا. . 

ستوقعنا فى فضيحة ! 

ودار سيد عزت حولهما حتى وقف وراءه فقبض على عنقه وشده منه بلا رحمة حتى 


111 00 





يي المع 0١‏ 


كاد أن يختنق فتراجع إلى الوراء كالمتهاوى . وترنحت المدام ثم انحطت فوق الكرسى 
مغمضة العينين. ولم يعد يسمع إلا لهاثهم . خلا كل إلى نفسه يضمد جروح روحه. 
المدام كالنائمة وعلى بركة مائل إلى الجدار وسيد متقلص الوجه من الغثئيان. وقال على 
بركة بحقد: 

-لن أدفع حساب أحد! 

مدت المدام يدها إلى حقيبتهاء ولكن سيد عزت أمسك بها بحنو وهو يقول له: 

-لن يدفع لنا أحد. 

ورجعوا إلى الصمت والإعياء. ثم خطرت لسيد فكرة فنادى الجرسون وقال له: 
«كأسان من فضلك» . وقبل أن يختفى الرجل وراء البرافان قال له على بركة : «ثلاثة من 
فضلك». وشربوا هذه المرة وكأنهم يتداوون» فى صمت وبلا مرح . وراح على بركة 
يقطع الحجرة ذهابا وجيئة . ثم غادر الحجرة فغاب دقائق ثم عاد بوجه مغسول وأسارير 
هادتة . ونقل بصره بينهما ثم قال: 

دفعت الحساب» كله. . 

فاحتج سيد عزت قائلا : 

-لا! 

-دفع وانتهى الأمر. 

ثم بنبرة أرق : 

- لننس ما كان» هذا خير ما نفعل . 

وابتسم فيما يشبه الاعتذار. واقترب من سيد قائلا: «هات رأسك». ولثم جبينه قبل 
أن يفطن الآخر إلى ما يريد وتحول إلى المدام مغمضا: «وهاتى رأسك». ثم لثم جبينها 
دون مقاومة من ناحيتها: وقال ووجهه لم يزل فى مستوى وجهها: 

- آسف يا مدام. . الصلح خير! 

وفجأة لثم فاها. ثم استقام متراجعا وهو يقول: 

قبلة الصلح» وتحية للحلم القديم» حلم تراءى لى قبل موت سعد زغلول! 

على ذلك غادروا المحل . وأمسك بيسراها داعيا الآخر للإمساك بيمناها وسار ثلاثتهم 
فى جو مائل للبرودة . والقمر متوار وراء سحابة مفضضة . وتراءى الخلاء فى ظلام حتى 
الأنوار المتباعدة الباهتة فوق المقطم كعقد من النجوم. وضحك الرجل وقال: 

- فلنتذكر أغنية جميلة يعرفها ثلاثتنا لنغنيها معا! 





للا.. 

قالها بحدة وهو يقطب, ثم رشف رشفة من قدح الشاى. وركز عينيه فى القدح 
ليتجنب عينى زوجته ولكنها قالت محتجة : 

كنت متوقعة هذا الرد! 

- حسن » لم لم تعفى نفسك منه؟ ! 

-لأن المرأة مسكينة حقا. 

قال وهو يهز رأسه هزة الخبير بالعالم والناس : 

- شياطين خبثاء . 

-اقرأ العريضة لعلك تقتنع بأنها مظلومة حقا. 

قلت شياطين نخبثاء . 

- أنت تعلم أن زوجها وهب الوزارة عمره كله فلأسرته حق فى المساعدة التى يجيزها 

القانون. 

- وهب الوزارة عمره! . . اعلمى أن تسعين فى المائة من موظفى الحكومة نباتات 

طفيلية تتغذى بدون وجه حق . 

متى تغير بالله من طبعك؟ ! 

رمقها بنظرة باسمة باردة لا يمكن أن تنبت أملا فحل صمت غير قصير» ثم سألها بنبرة 
جديدة وهو يقوم عن المائدة : 

- كيف حال الولد؟ 

فلم تجب احتجاجاء ولما كرر السؤال قالت باستياء: 

- نام ليلة أمس نوما هادئا ولكن الحرارة ما زالت مرتفعة. 

واستقل بسيارته وهو يأمر السائق قائلا (جروبى» . انطلقت السيارة تقطع الكورنيش 
مخلفة وراءها المعادى . وفتح الجريدة فتصفح العناوين الكبيرة بسرعة حتى استقر بصره 
فوق صفحة الوفيات. طالع أسماء الراحلين. أما الأقارب فسككرتيره الخاص يتولى 
أمرهم . متى يطالعك اسم على كامل بالخط العريض؟ . . سوف تشيع جنازته بكل 
إجلال وتؤدى له جميع الواجبات» ولكن متى؟ ذلك الرجل العنيد المصاب بتصلب 


110 





ميش المع مه 


الشرايين. وهو يعاندك ويتوهم أنه يحافظ على كرامته وكأنه لا يخشى قوتك التى يعمل 
لها كل إنسان ألف حساب» فمتى؟ كما قرأت يوما اسم حسن سويلم فى مثل هذه 
الجلسة فى نفس السيارة فى نفس الطريق . يومها بدأت بالنظر فى صفحة الوفيات فكان 
اسمه أول ما وقع عليه بصرك. البقاء لله. . حسن سويلم . . مراقب عام الإيرادات. . 
متى يا على كامل؟ 

-انظر أمامك! 

صاح بالسائق بعنف فحول الرجل عينيه بسرعة عن أسراب حمام تطير فوق سطح 
النيل كسحابة بيضاء . واكفهر وجهه لحظات ثم انبسطت صفحته رويدا. آخر مشاحنة 
جرت بينك وبين المرحوم حسن قبل وفاته بشهر. يا حسن بك . أنا الذى يقرر متى يجب 
تقديم مشروع الميزانية . ولكن ذلك من صميم اختصاصى يا كريم بك. آه. . لا تضطرنى 
إلى سحب العمل من يديك. . أنت تعرفنى جيدا. إذن اسمح لى أن أحتج على هذه 
المعاملة» فلست أنا بالموظف الصغير . . لو امتد به الأجل لكان اليوم منافسك الأول دون 
منازع . ولكن الجسم الفاسد لا يخلو من دمامل . ها هو ذا على كامل ذو الشرايين 
المتصلبة» ماذا يريد؟ 

وقفت السيارة أمام جروبى فغادرها ثم دخل المحل . أجال بصره فى أنحاء المكان حتى 
رأى الأستاذ على فمضى إليه ثم صافحه بحرارة قائلا : 

صباح الخير» تهانى على مقالتك الأخيرة . 

أعجبتك حمقًا؟ 

كرر إعجابه وهو يجلس . وطلب قهوة وهو يبتسم ابتسامة ذات معنى» فقال الأستاذ: 


دس يده فى جيبه الداخلى فأخرج مظروفا سلمه للأستاذ وهو يقول: 


- قنبلة العام! 

حمنا؟ 

- سوف تنفجر تحت أقدام نسيم البحيرى المأفون المغرور . 
- أنت متأكد من صحتها؟ 

- وثائق لا يرتقى إليها شك . 


- لا أريد أن أعرض الجريدة لقضية خاسرة! 
الله يعلم كم كلفنى الحصول عليها من حيلة ومال. 
- إن لم تقض على البحيرى فستقضى على ! 





055 كر 


ستقضى على البحيرى وحده. 

تبادلا نظرة طويلة» ثم قال كريم : 

-سيكون نصرا للجريدة! 

- ولك أنت. 

ضحك كريم ضحكة أضخم بكثير من جسمه النحيل الدقيق فتمتم الصحفى باسما: 

-أنت رجل مستقيم ونظيف فلا يهمنى أن أرمى بعد ذلك بالقسوة . 

وقرأ فى عينى الصحفى نظرة لم يفهمها تماما فقال: 

أنت أيضا تكرهه. 

- سأنشر الوثائق للمصلحة العامة ولا ددخل لعواطفى فى ذلك . 

حسن وأنا أخدم المصلحة العامة بطريقتى كذلك . 

وقام ماذا له يده فصافحه وهو يسأله عن صحة ابنه فقال وهو يمضى عنه : 

لا بأس به ولكن الحرارة ما زالت مرتفعة» شكرا لسؤالك عنه. . 

استقل سيارته إلى مكتب الأستاذ يوسف عبد الرحمن المحامى الذى استقبله بترحاب 
وهويقول: 

- مبارك يا كريم بك» قرأت اسمك أمس بين المرشحين . 

- شكرايا عزيزى» خبرنى عن جلسة أمس . 

-تأجيل لتقديم مذكرات . 

وماذا ضع مرك نا؟ 

-عال جداء أنا مطمئن كل الاطمئنان. 

إذن سيركع فهيم الدسوقى؟ 

أجل» ولكن ثمة جديد. 

-ماهو؟ 

قال المحامى بصوت أخفض درجة : 

- تلويح بالصلح! 

- صلح؟! 

لفظها كذبابة فقال المحامى : 

-سوف تحترم شروطك بطبيعة الحال. 

-ولو! 


11100 





يشي الم هع 


- وهو على أى حال ابن عمك . 
هذا مبرر للعداوة. 
أهذا هو رأيك الأخير؟ 
حتى النهاية . 
وذهب إلى مكتبه بالوزارة» ثم طلب فى التليفون رقما. 
-آلو. . على؟ . . صباح الخير. 
-عندى لك خبر مهم جدا. . 
اقرأ غدا صحيفة الكوكب . 
-نسيم البحيرى قضى عليه إلى الأبد. 

وضحك طويلا حتى ارتجت لضحكه أركان الحجرة الكبيرة الصامتة . واستقبل مدير 
مكتبه الذى عرض عليه البريد وبعض الموضوعات العاجلة . وجاء على أثره على كامل 
فتبادلا الآراء فى مسائل شتى ووجهاهما يعكسان برودا سافرا. وعندما وقف على كامل 
استعدادا للذهاب سأله كريم بدافع شيطانى مباغت : 

- كيف الصحة؟ 

فأجاب الآخر فيما يشبه التحدى : 

- لم تكن شرايينى فى وقت من الأوقات خيرا مما هى الآن . 

عنيد مكابر كذاب. وجهك الشاحب المتغضن يفضحك . وعما قليل ستعتذر عن 
تخلفك الاضطرارى عن اجتماعات المساء . على كامل» البحيرى. الدسوقى» 
وعشرات غيرهم . كائنات نخرها السوس فلم يبق منها إلأعلى عناد وحقد. أنت بحاجة 
إلى مدفع سريع الطلقات لتطهر منهم الحياة. وسوف تنتصر كما انتتصرت دواما. حياتك 
سلسلة من المعارك متوجة بالاتتصار. فى ذلك متعتك وكرامتك فى الحكومة أو النادى أو 
القرية. منذ نشأتك الأولى وأنت مناضل كأنك تعيش فى حلبة ملاكمة . النضال هو روح 
الحياة وسرهاء أما القيم المعسولة الخرعة فهى آفات الحياة . والرجال يضمرون لك إعجابا 
لاحدلهء وإن رددت ألسنتهم خلاف ذلك فعن خوف أو حسد. حتى الوزير نفسه 
استدعاه يوما وقال له: 

-يا سيد كريم لماذا تثير الزوابع دائما؟ 





05 كل الم 


فتساءل بأدب واعتزاز معا: 

- سيدى الوزير هل أنا رجل صالح للعمل؟ 

- لم أطعن فى ذلك أبدا. 

- ونظافتى؟ 

على خير ما يرجى . 

وعند الخلاف مع الآخرين أين تجد سيادتكم الحق؟ 

- ولكنك تغالى فى العنف حتى لينقلب الوضع فكأن الحق مع خصمك . 

هكذا خلقنى الله! 

فقال الرجل بنبرة لم تخل من ضجر: 

حتى العنف فى الحق يجب أن يقف عند حد . 

وعند الظهر رأس اللجنة المالية . وتفانى فى العمل كعادته فلم يبال بالوقت. ومرت 
ساعتان عقب وقت الغداء وهو يختلس من حين لآخر النظر إلى الوجوه المتعبة المتألمة. 
ويتربص بكلمة تذمر أو شكوى. وفى صدره لعبت عواطف ماكرة كشقاوة الأطفال. ولما 
أشبع طاقته فى العمل والتعذيب فض الجلسة . واتصل بزوجته بالتليفون فسألها عن 
الولد: 

- لا بأس به ولكنى استدعيت الطبيب لأن الحرارة لا تريد أن تدخفض . 

بخير إن شاء الله» لن أعود قبل العاشرة مساء بسبب العمل ! 

وفكر فى مسألة مرض الأطفال وهو يتناول غداءه بالنادى . قال إن الأطفال ما كان 
يجب أن يمرضوا على الإطلاق . المرض-إذا لم يكن منه بد فهو ظاهرة تطرأ على الجهاز 
البشرى عقب طعونه فى السن» أما الطفل فلا يمرض إلا لخلل فى الكون. وقد كان هو 
سليما عند الزواج كما كانت كذلك درية زوجته» وولد رمزى أية فى الصحة والجمال» 
فما معنى المرض إذن؟ 

ومضى إلى حجرة التليفون فانبسطت أساريره لأول مرة. لأول مرة سرت ابتسامة فى 
غضون الوجه الصارم الكالح : 

-آلو. . هنومة؟ . . كيف الحال؟ 


-عال» هذا يعنى أنه لن يعود اليوم؟ 


- إذن نتقابل فى السابعة؟ 


1110 





مييق الم 1ه 
- اعملى حسابك على ساعتين على الأقل» إلى اللقاء يا محبوبة! 
واستقل السيارة وهو يقول للسائق "بار الأنجلو». سيمكث هناك ساعة ثم يمضى إلى 
هنومة . امرأة مثالية فى غرامياتها. وزوجها البدين يتوهم أن البدانة يمكن أن تجعل من 
رجل زوجا موفقاء وهو يجىء إلى بار الأنجلو فينهمك فى لعب الطاولة مقامرا بمبالغ 
ضخمة. ومرة قاوم إغراء غريبا بصفعة على قفاه. أما البحيرى فموعده الغد. سوف 
يصعق عند مطالعة الجريدة» وإذا اتتحر فسيثبت بانتحاره أن سوء ظنه به لم يكن صوابا 
على طول الخط . واضطر السائق إلى ركن السيارة ليتم طريقه مشيا على الأقدام. سار 
فوق الطوار بجسمه النحيل الدقيق يطالع الدنيا بوجه صارم شبه متقزز. ومر بمحل لبيع 
التحف اليابانية فدخله دون سابق تفكير لابتياع هدية لهنومة . اختار شبشبا مناسبا تماما 
للاستعمال فى مسكنهما السرى بالهرم . وواصل مسيره نحو البار. وعند أول منعطف 
قبل المقهى. وعقب نزوله من الطوار مباشرة؛ وجد نفسه مدفوعا نحو غلام يبول» 
فتراجع بسرعة هاتفا «يا ولديا كلب». كان الغلام يبول فى علانية استعراضية» وشقاوة 
وشت بسروره بما يفعل. وقد انطلق البول متلألئا تحت أشعة الشمس فى هيئة قوس 
والغلام يدفعه بحركاته الذاتية إلى أقصى مدى يستطيعه . تراجع كريم بك فى شبه فزع 
فزلت قدمه فهوى على ظهره فارتطم مؤخر رأسه بحافة الطوار. ذعر الغلام فولى هاربا . 
ووقف المارة القريبون ليشاهدوا الحدث الغريب وهم بين الرثاء والابتسام» ولكن كريم 
بك استلقى فى إغماء لا شك فيه. وهرع إليه بعض ذوى النجدة ليسعفوه. وارتفع من 
بينهم صوت هاتفا: 
يا لطف الله . . الرجل جثة هامدة! 








سحائب ناصعة البياض تسبح فى محيط أزرق» تُظلل خضرة تغطى سطح الأرض 
فى استواء وامتداد. وأبقار ترعى تعكس أعينها طمأنينة راسخة» ولا علامة تدل على 
وطن من الأوطان» وفى أسفل طفل يمتطى جوادًا خشبيا ويتطلع إلى الأفق عارضا جنب 
وجهه الأيسر وفى عينيه شبه بسمة غامضة . لمن اللوحة الكبيرة يا ترى؟ ولم يكن بحجرة 
الانتظار أحد سواه. وعما قريب يأزف ميعاد الطبيب الذى ارتبط به منذ عشرة أيام . 
وفوق المنضدة فى وسط الحجرة جرائد ومجلات مبعثرة» وتدلت من الحافة صورة المرأة 
المنهمة بسرقة الأطفال. رجع يتسلى بلوحة المرعى . الطفل والأبقار والأفق. رغم أنها 
صورة زينة رخيصة القيمة ولا وزن إلا لإطارها المذهب المزخرف بتهاويل بارزة . وأحب 
الطفل اللاعب المستطلع والأبقار المطمئنة ولكن ازدادت شكواه من ثقل جفونه وتكاسل 
دقات قلبه. وها هو الطفل ينظر إلى الأفق ينطبق على الأرض . دائما ينطبق على اللأرض 
من أى موقف ترصده. فيا له من سجن لا نهائى! وما شأن هذا الجواد الخشبى؟ ولم تمتلئ 
الأبقار بالطمأنينة؟! ولفت سمعه فى الخارج حركة أقدام ثابتة» ثم ظهر التمرجى عند 
الباب قائلا : 

- تفضل . 

ترى هل يتذكر رغم مرور ربع قرن من الزمان؟ ها هى حجرة استقبال الطبيب 
الخطيرء وها هويقف وسط حجرته باسماء بقامته المتوسطة النحيلة والوجه الغامق 
السمرة والعينين البراقتين والشعر القصير المفلفل . لم يكد يتغير عما كان فى حوش 
المدرسة . وما زالت زاوية فمه تنحرف فى سخرية مذكرة بمرحه المطبوع الذى كان يضاهى 
تفوقه الحاسم . 

أهلا عمر» تغيرت حقا ولكن إلى أحسن! 

- حسبتك لن تذكرنى ! 


11100 


الثمتاذ :2 


وتصافحا بحرارة. 

- ولكنك عملاق بكل معنى الكلمة» كنت طويلا جدا وبالامتلاء صرت عملاقا. . 

وكان يرفع رأسه إليه وهو يحادثه فابتسم عمر فى سرور وردد: 

- حسبتك لن تذكرنى! 

أنا لا أنسى أحدا فكيف أنساك أنت؟ ! 

تحية كريمة من طبيب خطير . وكثيرون يسمعون عن الطبيب الناجح ولكن هل يعرف 
المحامى الفذ إلا أصحاب القضايا؟ ! 

وضحك الطبيب وهو يتفحصه وقال : 

- لكنك سمنت جدا. كأنك مدير شركة من العهد الخالى ولا ينقصك إلا السيجار. 

ضحكت أسارير الوجه الأسمر المستطيل الممتلئ. وفى شىء من الارتباك ثبت نظارته 
فوق عينيه وهو يرفع حاجبيه الكثيفين . 

-إنى سعيد بلقياك يا دكتور. 

- وأنا كذلك وإن تكن مناسبة رؤيتى ليست بالسارة عادة . 

وتقهقر إلى مكتبه المختفى تحت أطلال من الكتب والأوراق والأدوات المكتبية النفيسة 
ثم جلس وهو يشير إليه بالجلوس : 

فلنؤجل حديث الذكريات حتى نطمئن عليك . 

وفتح دفترا وأمسك بالقلم : 

-الاسم عمر الحمزاوى» محام» والسن؟ 

وضحك الطبيب عاليا وهو يقول مستدركا: 

لاا تخف. الحال من بعضه! 

56 عاما. 

-على أيام المدرسة كان الشهر يعتبر فارقا فى العمر له خطورته أما الآن فيا قلبى لا 

تحزن» هل من أمراض خاصة فى الأسرة؟ 

-كلاء إلا إذا اعتبرت الضغط بعد الستين مرضا خاصا. 

وشبك الطبيب ذراعيه وقال بجدية : 

هات ما عندك . . 

مسح عمر على شعره الغزير الأسود الذى لا ترى شعيرات سوالفه البيضاء إلا بحد 
البصر وقال: 





هم 2 |إ* 
دوه ايتاذ 


- لا أعتقد أنى مريض با معنى المألوف . 

فازداد اهتمام الطبيب وهو يمعن فيه النظر باستمرار. 

- أعنى أنى لا أشكو عرضا من الأعراض المرضية المألوفة . 

نعم . 

- ولكنى أشعر بخمود غريب. . 

أهذا كل ما هنالك؟ 

أظن هذا. 

- لعله من الإجهاد المستمر. 

-ربماء ولكنى غير مقتنع تماما. . 

د ظبعا والآما شرفتن . . 

الحق أنه نتيجة لذلك الخمود ماتت رغبتى فى العمل بحال لا تصدق . . 

استمر. . 

- ليس تعبا بالمعنى المألوف» يخيل إلى أنى ما زلت قادرا على العمل ولكنى لا أرغب 
فيه» لم تعد لى رغبة فيه على الإطلاق» تركته للمحامى المساعد فى مكتبى» وكل 
القضايا تؤجل عندى منذ شهر. . 

- ألم تفكر فى القيام بإجازة؟ 


فواصل حديثه وكأنه لم يسمعه: 
وكثيرا ما أضيق بالدنياء بالناس» بالأسرة نفسهاء فاقتنعت بأن الحال أخطر من أن 
- إِذْن فالمسألة ليست. . 


-المسألة خطيرة مائة فى المائة» لا أريد أن أفكر أو أن أشعر أو أن أتحرك» كل شىء 

يتمزق ويموت» فخطر لى على سبيل الأمل أننى سأجد لذلك سببا عضويا. 

قال الطبيب باسما: 

-ما أجمل أن تحل مشاكلنا الخطيرة بحبة بعد الأأكل أو ملعقة قبل النوم! 

مضى به إلى حجرة الكشف . وأخذت عينة من البول ثم خلع عمر ملابسه ورقد على 
السرير الطبى . وتتابعت الأوامر فأبرز لسانه» وفتح بشد الجفنين عينيه» ونقرت الأصابع 
الرشيقة على مواضع فى الصدر والظهرء وضغطت بشدة على أماكن فى البطن» 
واستعملت السماعة ومقياس الضغط» وتنفس بعمق» وسعل» وهتف : آه من الحلق مرة 
ومن الأعماق مرة أخرى . وجعل يختلس النظرات إلى وجهه ولكنه لم يقرأ شيئا. وفرغ 


1100 





اتاد امه 


الرجل من كشفه فسبقه إلى مكتبه وما لبث أن لحق به. واطلع الطبيب على نتيجة التحليل 
ثم فرك يديه وابتسم ابتسامة عريضة وقال: 

تحرك جناحا أنفه الطويل الحاد وازداد وجهه توردا: 

ألبتة؟ ! 

ألبتة! 

- أخشى أن يكون الأمر أخطر مما تتصور! 

- ليست قضية أهولها لمضاعفة الأجر! 

حسن» إذن فاعلم أنه لاشىء. 5 


فتساءل عمر فى قلق : 

اهل يقضى على بآن ]سجن فى غيادات :الك النانس؟ 
- لا نفسى ولا دياولو! 

حقًا؟ 


أجل» إنه مرض برجوازى إن جاز لى أن أستعير اصطلاحا حديثا ما يستعمل فى 
جرائدناء ليس بك من مرض . . 

- ولكنى أرى فى الأعماق مقدمات لأكثر من مرضء. والحق أنك جئت فى الوقت 
المناسب» متى ألح عليك الخمود؟ 

- منذ شهرين وربما أكثر قليلا ولكن الشهر الأخير كان محزنًا حقا . 

- دعنى أصف لك حياتك كما أستنبطها من الكشف. أنت رجل ناجح ثرى» نسيت 
المشى أو كدت, تأكل فاخر الطعام وتشرب الخمور الجيدة. وترهق نفسك بالعمل 
لحدالإرهاق» ودماغك دائما مشغول بقضايا الناس وأملاكك». وأخذ القلق 
يساورك على مستقبل عملك ومصير أموالك . 

ضحك عمر بفتور وقال: 

صورة صادقة فى جملتها ولكنى لم أعد أهتم بشىء. 

حسن» لاا شىء بك» ولكن العدو رابض على الحدود. 





605 تاذ 


-كإسرائيل؟ 

- وعند الإهمال سيدهمنا الخطر الحقيقى . 

دخلنا الحد! 

اعتدل فى الطعام . . قلل من الشراب . . التزم برياضة منتظمة كالمشى . . فلن تلقى 
ماتخشاه. 

وانتظر وهو يفكر ولكن الدكتور لم يحرك ساكنا فسأله : 

الى تكسن ىراه 

-كلاء لست قرويا لأقنعك بأهميتى بدواء لا يضر ولا يفيد» الدواء الحقيقى بيدك 
أنت وحدك . . 

- وهل أعود كما كنت؟ 


وأحسن.ء أنا رغم إرهاقى بالعمل ما بين الكلية والمستشفى والعيادة أمشى كل يوم 

نصف ساعة على الأقل» وأتبع نظاما مناسبا فى الغذاء . 

- لم أشعر يوما أنى تقدمت فى السن . 

- الكبر مرضء ولن تشعر به ما دمت تدفعه بحسن السلوكء هنالك شبان فوق 

الستين» المهم أن نفهم حياتنا . 

- أن نفهم حياتنا؟ ! 

-أنا لا أتفلسف طبعا. 

- ولكنك تداوينى بنوع من الفلسفة» ألم يخطر لك يوما أن تتساءل عن معنى حياتك؟ 

فضحك الدكتور عاليا ثم قال: 

- لاوقت عندى لذلك» وما دمت أؤدى خدمة كل ساعة لإنسان هو فى حاجة ماسة 

إليها فما يكون معنى السؤال؟ ! 

ثم بجدية ودود: 

- قم فى إجازة . 

إجازتى متقطعة عادة كأنها ويك إند يستمر طيلة شهور الصيف . 

لاء خذ إجازة طويلة بالمعنى» ومارس نظام معيشتك الجديدة» وسوف تبدأ بعد ذلك 

متجددا. 

- هذا مكن . 

- توكل على الله . ليس بك إلا نذير من الطبيعة فاستمع إليه» وعليك أن تنقص وزنك 

عشرين كيلو ولكن على مهل ودون عنف . 
11100 





من 


غم أذ *“مه 


ضرب على ركبتيه وانحنى انحناءة خفيفة تؤذن بالتأهب للقيام ولكن الدكتور بادره: 

-مهلاء أنت آخر زوار اليوم فلنجلس قليلا معا. 

اعتدل فى جلسته باسما. دكتور حامد صبرى إنى أعرف ما تريد. تريد طى ربع قرن 
الزمان. وأن تضحك من أعماق قلبك مرة أخرى . 

-ما أجمل أيام زمان! 

الحقيقة يا دكتور ما أجمل كل زمان باستثناء «الآن) . 

صدقت» التذكر شىء والمعاناة شىء آخر . 

- ثم يتبدد كل شىء بلا معنى . 

لكننا نحب الحياة» هذا هو المعنى . 

شد ما كرهتها فى الأيام الأخيرة! 

- وها أنت تبحث عن الحب المفقودء خبرنى أما زلت تذكر أيام السياسة والإضراب 
والمدينة الفاضلة؟ 

طيعاء وقد ولت جميعا» ولم يبق إلا سوء السمعة. 

- ومع ذلك فقد تحقق حلم كبير» أعنى الدولة الاشتراكية . 

- نعم . 

الدكتور وهو يبتسم : 

- وكنت تظهر لنا بأكثر من وجه» الاشتراكى المتطرف. المحامى الكبير» ولكن وجها 
منك رسخ فى ذاكرتى أقوى من أى سواه. هو عمر الشاعر! 

ابتسم ابتسامة عصبية ليدارى امتعاضا مباغتا وتمتم : 


-يا لسوء الحظ! 

هجرت الشعر؟ 

طبعا. 

- ولكنك طبعت ديوانا فيما أذكر . 


فخفض عينيه حتى لا يقرأ فيهما توتره وضيقه وقال : 

-عبث طفولة لا أكثر ولا أقل . 

- بعض زملائى من الأطباء الشعراء يضحون بالطب فى سبيل الشعر. . 
ذكرى غبراء كالطقس المنحوس فمتى يسكت عنها! 

وواصل الدكتور: 





00 اذ 


- وأذكر من أقراننا القدامى مصطفى المنياوى» ماذا كنا نطلق عليه؟ 
الأصلع الصغير! ما زلنا أصدقاء لا نكاد نفترق» وهو اليوم صحفى نابه ومؤلف 


إذاعى تليفزيونى . . 

- زوجتى مغرمة به جداء وقد كان متحمسا مثلك» ولكن رأس الحماس كان عثمان 
خليل بلا جدال. . 

تجهم وجه عمر. لطمته الذكرى بقبضة من حديد ثم غمغم : 


- نعم » عمْرطويل فى السجن, أظنه كان زميلك فى كلية الحقوق؟ 

تخرجنا فى عام واحدء أنا ومصطفى وعثمان» الحق أنى لا أحب الماضى ! 

فقال بنبرة ختامية : 

- فلتحب المستقبل . 

ثم وهو ينظر فى ساعته : 

- من الآن فصاعدا أنت أنت الطبيب . 

فى حجرة الانتظار رفع عينيه مرة أخرى إلى الصورة» لم يزل الطفل ممتطيا جواده 
المخشبى متطلعا إلى الأفق. وهذه البسمة الغامضة فى عينيه أهى للأفق؟ وما زال الأفق 
منطبقا على الأرض.ء فماذا يرى الشعاع الذى يجرى ملايين السنين الضوئية؟ وثمة أسئلة 
بلا جواب فأين طبيبها؟ 

وفى الخارج أمام العمارة بميدان سليمان باشا ركب الكاديلاك السوداء فتحركت به 
كباخرة عروس النيل . 


الوجوه تتطلع إليه مستفسرة. حتى قبل أن ترد تحيتك . حنان رقيق مخلص ولكن ما 
أفظع الضجر! الحموضة التى تفسد العواطف الباقية. ولاحت من ورائهم الشرفة الكبيرة 
المطلة على النيل من الدور الرابع . . وتبدى عنق زوجك من طاقة فستانها الأبيض غليظا 
متين الأساس . واكتظت وجنتاها بالدهن. وقفت كتمثال ضخم ملىء بالثقة والمبادئ» 
وضاعت عيناها الخضراوان تحت ضغط اللحم المطوق لهما. أما ابتسامتها فمازالت 


تحتفظ ببراءة رائقة وميحبة ضافية . 


111010 





ل ماد غ006 


- قلبى يحدثنى بأن كل شىء طيب . 
إلى جانبها وقف مصطفى المنياوى فى بدلته الشركسكين رافعا نحوك وجهه البيضاوى 
الشاحب وعينيه الذابلتين وصلعته التاريخية» وقد بدا ضئيلا فى نحافته إلى جانب 
الزوجة المحكمة البناء . 
حدثنا عن زميل المدرسة» ماذا قال وهل عرفك؟ 
واعتمدت بثينة بكوعها على كتف تمثال برنزى لامرأة باسطة الذراعين فى هيئة 
مرحبة» وتطلعت إلى أبيها فى تشوق بعينيها الخضراوين» وهى تكرر صور أمها عندما 
كانت فى الرابعة عشرة» بقامتها الرشيقة» ولكن يبدو أنها لن تتعملق مع الأيام ولن 
تسمح للدهن بأن يغطى على صفائها. تساءلت بنظرة كما تتفاهم معك كثيرا دون كلام 
أما جميلة ‏ أختها الصغيرة ‏ فعكفت على دبتها بين مقعدين كبيرين ولم تهتم بالقادم . 
وجلسوا جميعا ثم قال بهدوء : 
دالاشىء: 
هتفت زيلب بنبرة جامدة : 
الحمد الله» طالما قلت إنك بحاجة إلى الراحة . 
فأحنقه انتصارها بلا سبب» وخاطب مصطفى ‏ مشيرا إلى زوجته ‏ قاتلا : 
-هى المسئولة أولا وأخيرا! 
ولما فرغ من تلخيص رأى الدكتور عاد يؤكد رأيه : 
-هى المسئولة أولا وأخيرا! 
فقال مصطفى بحبور : 
-يا له من علاج هو باللعب أشبه! 
ثم مستدركا فى أسف : 
لكن الطعام والشراب! . . اللعنة على الزمن. . 
لم تلعن وأنت لم تصب بسوء؟ ماذا يفعل المقبل على رحلة غامضة؟ ! الحائر بين الحب 
والضجر. الذى لم يحدث نفسه بعد بطريقة شافية . وقال لمصطفى : 
- الدكتور حامد سأل عن الأصلع الصغير. . 
ثم بعد أن سكتت عاصفة الضحك : 
- وهنيئا لك إعجاب زوجته! 
ابتسم مصطفى فى سرور صبيانى لمعت به أسنانه الناصعة البياض : 
- أصبحت بفضل الإذاعة والتليفزيون كالوباء ولابد أن أصيب ضعيفى المناعة . 





الث - ١‏ 
ع« 


6005 


وذكر الآخر فى السجن. حتى حساسية الضمير يدركها الضجر يوم احترقت بلهيب 
الخطر. لكنه لم يعترف . رغم الأهوال لم يعترف. وذاب فى الظلمات كأن لم يكن . 
وأنت تمرض فى الترف . وتنهض الزوجة رمزا للمطبخ والبنك . فسل نفسك ألا يضجر 
النيل تحتنا . 
باباء هل نستعد للسفر؟ 
- سنمرح كثيرا وسوف أعلم أختك السباحة كما علمتك فيما مضى . . 
-حتى البراميل! 
هاهى أمك تحاكى البراميل . والأفق يحاكى السجن . والحرية استكنت وراء الأفق. 
ولم يبق من أمل إلا الضمير المعذب . وقال مصطفى : 
- زوجى تفضل رأس البر للأسف ومثلى لن يظفر بإجازة شهر كامل إلا إذا أصيب 
بسرطان ممتاز. . 
وتساءلت جميلة رافعة رأسها عن الدبة : 
- متى نسافر يا يابا؟ 
ولاح له مصطفى كنصب تذكارى للحب والزواج. كان المشير والمعين والشاهد. 
وكل يوم يؤكد صداقته له وللأسرة. ولم يدر شيئا بعد عن المياه التى تجرف قاع النهر . 
- وذكرنى الدكتور بأيام الشعر! 
فضحك مصطفى قائلا : 
- الظاهر أنه لم يسمع عن روائعى الدرامية الحالية؟ 
وددت لو أحكى له قصتك مع الفن. 
- ترى هل يؤمن النطاسى الكبير بالفن؟ 
زوجته مغرمة بك» ألا تقنع بذلك؟ 
-إذن فهى مغرمة باللب والفشار. 
وكانت زينب تراقب السفرجى من خلال الديكور المقوس وما لبئت أن قالت: 
-هلموا إلى العشاء . 
وأعلن عمر أنه سيكتفى بشريحة من صدر الدجاج وفاكهة وكأس واحدة من 
الويسكى فتساءل مصطفى : 
- والبطارخ على سبيل المثال هل ألتهمها وحدى؟ 
وراح مصطفى يتحدث عن إفطار مستر تشرشل الذى نوهت به إحدى الصحف فى 
أئناء زيارته لقبرص . وقد تردد قليلا عند بدء الطعام ثم ما لبث أن أكل وشرب بلا 


111001 





اذ /اده 


حساب . ولم تستطع زينب كذلك أن تقاوم الإغراء وشربت زجاجة من بيرة» وواظيت 
بثينة على اعتدالها التى تعتبره أمها نوعا من الاعوجاج . وقال مصطفى : 

الطعام أجدر من الجنس بتفسير السلوك البشرى. . 

فنسى عمر نفسه وقال بمرح ولأول مرة: 

- يخيل إلى أنك مصاب بعقدة الدجاج . 

وعقب العشاء لم يجتمع شملهم أكثر من نصف ساعة نامت بعدها جميلة» ومضت 
الأم وبثئينة إلى زيارة فى نفس العمارة فخلا عمر إلى مصطفى فى الشرفة الكبيرة حيث 
استقرت بينهما زجاجة ويسكى ووعاء به ثلج فوق منضدة زجاجية السطح . ولم تند عن 
الأشجار حركة واحدة. وانتتشرت حول المصابيح غلالة ترابية . وبدا النيل من ثغرات 
أعالى الشجر ساكنا هامدا شاحبا معدوم المرح والمعنى . وشرب مصطفى وحده وتهتم 
باستياء : 

-يد واحدة لا تصفق . 

فأشعل عمر سيجارة وهو يقول: 

- ما أفظع الجو! لم أعد أحب شيئا حبا خالصا. 

فقال مصطفى ضاحكا : 

أذكر أنك كرهتنى يوما ما. . 

فقال دون توقف عند قوله : 

- أخشى أن يتكرر موقفى تجاه العمل إلى ما لا نهاية . 

- عليك بالرجيم والرياضة» ولن يهون عليك أن تخون بثينة وتقع فى اليأس . 

-سوف أشرب كأسا أخرى . 

- لا بأس» ولكن كن أكثر حزما فى الإسكندرية . 

- تقول إننى كرهتك يوما ما. أنت كاذب كأكثر أهل صناعتك! 

- كنت تضيق بى على عهد إيمانى الشديد بالفن. 

كنت وقتذاك أعانى نزعة من نفسى . 

- أجل » كنت تقاتل حبه الكامن فيك وتهجره بقسوة. وكنت أنا فى ذلك الوقت 

وجها من وجوهه جديرا بإثارة الشجون. 

- ولكنى لم أكرهك, وجدتك فقط ضميرا معذبا. 

- وقد احترمت أزمتك بعقل متسامح . وصممت على الاحتفاظ بك وبالفن معا. . 

ثم وهو يضحك: 





00 الثمتاذ 


- ولعلى أرحتك كثيرا عندما قررت نبذ الفن بقوة مذهلة» وها أنا أبيع اللب والفشار 
عن طريق الصحف والإذاعة والتليفزيون على حين تنهض أنت قمة من قمم المحاماة 
فى ميدان الأزهار! 

ذكريات معادة. كالقيظ والغبار. دورات محكمة الإغلاق . والطفل الباسم يتوهم أنه 

يمتطى جوادا حقيقيا. 

ضجر يضجر اضجر فهو ضجر وهى ضجرة والجميع ضجرون وضجرات . 

- الرجيم والرياضة! 

يا لك من مضحك! 

-هى رسالتى فى الحياة» التسلية» والجمع تسليات» قديما كان للفن معنى حتى أزاحه 
العلم من الطريق فأفقده كل معنى . . 

- أما أنا فقد نبذته دون تأثر بالعلم. . 

- إذن لماذا نبذته؟ 

ماكر كالقيظ . وهذا الليل لا شخصية له. وضجيج الطريق ولا طرب . الماكر 

يسأل وهو يعلم. 

موعن أسالك الش دعن السنت؟ 

- قلت وقتذاك إنك تريد أن تعيش وأن تنجح. . 

-إذن لماذا طرحت السؤال؟ 

ها هى نظرة اعتراف تقلق فى عينيه الذابلتين من رمد قديم . 

- أنت نفسك تنبذه بسبب العلم وحده! 

- زدنى علما؟ 

- عجزت عن أن تحتفظ له بمكانة محترمة على مستوى العلم! 

فضحك مصطفى بصفاء مغسول بالويسكى وقال: 

- لا تخلو حركة هروبية من فشل» ولكن صدقنى أن العلم لم يبق شيئا للفن» ستجد 
فى العلم لذة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة» صدقنى أنه لم يبق للفن إلا 
التسلية» وسينتهى يوما بأن يصير حلية نسائية ما يستعمل فى شهر العسل . 

-ما أجمل أن أسمع ذلك! انتقاما من الفن لا حبا فى العلم . 

- اقرأ أى كتاب فى الفلك أو فى الطبيعة أو فى أى علم من العلوم وتذكر ما تشاء من 
المسرحيات أو دواوين الشعر ثم اختبر بدقة إحساس الخنجل الذى سيجتاحك . . 

-ما أشبه هذا الشعور بما ينتابنى عندما أفكر فى القضايا والقانون! 


1110م 





ايتاذ 06 


-هذا الشعور المخجل لا يعانيه إلا الفنان المنبوذ من الزمن . 

فتناءب عمر ثم قال : 

- اللعنة» إنى أشم فى الجو شيئا خطيراء ويرعبنى إحساس حركى داخلى بأن بناء 
قائما سيتهدم . 

ملأ مصطفى كأسا جديدة وقال: 

- لن نترك بناء كى يتهدم . 

فمال نحوه مقطبا وسأله : 

ماذا نظن بى؟ 

الإجهاد والتكرار والزمن. 

- وهل فى الرجيم والرياضة الكفاية؟ 

كل الكفاية» اعتقد ذلك من كل قلبك . . 


من الآن فصاعدا أنت الطبيب. فأنت حر . والفعل الصادر عن الحرية نوع من الخلق . 
حتى ولو لم يكن مقاومة مستمرة لشهوات البطن . ولنقل إن الإنسان لم يخلق ليكتظ 
بالأطعمة وبتحرر المعدة تتحرر الروح كذلك وتحلق. لذلك ترق السحب وترم عواصف 
أغسطس الصاخبة . ولكن ما أشد الزحام والرطوبة ورائحة العرق! وأجهدك المشى 
وناءت به قدماك كأغا تتعلمه لأول مرة. والأعين ترمق العملاق وهو يوسع الخطى حتى 
ينال منه التتعب فيجلس على أول أريكة تصادفه على طريق الكورنيش . وعيناك تر 
الناس بعد عمى ربع قرن. هكذا شهد الشاطئ مولد آدم وحواء ولكن لا يدرى أحد من 
سيخرج من الجنة . وقديما قطع الشاب الطويل النحيل ابن الموظف الصغير القاهرة طولا 
وعرضاعلى قدميه دون تذمر . وسلسلة طويلة من آبائه وأجداده تهرأت أقدامهم من 
معاندة الأرض ثم تساقطوا من الإعياء . وقريبا سيخرج الماضى من السجن فيضاعف 
عذاب الوجود. 

- عثمان» لماذا تنظر إلى هكذا؟ 

- ألا تريد أن تلعب الكرة؟ 

أنا لا أحب الرياضة . 





05 لاد 


دلا شي ء غير الشعر ؟! 

وأين المهرب من نظراتك الثاقبة؟ وما الجدوى من مجادلتك؟ وأنت تعلم أن الشعر هو 
حياتى وأن تزاوج شطرين ينجب نغمة ترقص لها أجنحة السماوات . 

- أليس كذلك يا مصطفى؟ 

وهتف المراهق الأصلع : 

-هذا الوجود من حولنا ليس إلا تكوينا فنيا. . 

ويوما هتف عثمان فى حال من التجلى : 

-عثرت على الحل السحرى لجميع المشاكل . . 

واندفعنا برعشة حماسية إلى أعماق المدينة الفاضلة . واختلت أوزان الشعر بتفجرات 
مزلزلة. واتفقنا على ألا قيمة ألبتة لأرواحنا. واقترحنا جاذبية جديدة غير جاذبية نيوتن 
يدور حولها الأحياء والأموات فى توازن خيالى لا أن يتطاير البعض ويتهاوى الآخرون. 
وعندما اعترضتنا دورة فلكية معاكسة انتقلنا من خلال الحزن والفشل إلى المقاعد الوثيرة» 
وارتقى العملاق بسرعة فائقة من الفورد إلى الباكار حتى استقر أخيرا فى الكاديلاك» ثم 
أوشك أن يغرق فى مستنقع من المواد الدهنية . 

وها هى الشماسى تترامى ملتصقة الشراريب فتكون قبة هائلة دانية مختلطة الألوان» 
تستلقى تحتها الأبدان شبه العارية . وتنتشر فى الجو رائحة آدمية عميقة الأثر فى الحواس 
مذابة فى رائحة البحر المتحدية تحت شمس تخلت عن بطشها. ووقفت بثينة بقدها 
الممشوق» مبللة الجمسد. محمرة الذراعين والساقين» مدسوسة الشعر فى غطاء أزرق من 
النايلون» مفترة الثغر لفرحة الشاطئ:. وأنت شبه عار» مغطى الصدر بدغل من الشعر 
الكثيف الأسودء وقد استكنت بين ساقيك جميلة وهى تبنى هرما من الرمال. 
واضطجعت زينب على مقعد جلدى طويل وراحت تطرز أفواف وردة على رقعة كانفاه» 
متباهية بتضخم صحى فلم تعدم نظرات مراهقة بلهاء تحوم حول صدرها الناهض . 

عزيزى مصطفى . قرأت تعليقاتك الفنية الأسبوعية. بديعة ولاذعة وموحية. تقول 
إنك بائع لب وفشار؟ مهلاء لكنك من أصل كريم» وصاحب قلم تمرس طويل بالنقد 
الجدى والمسرحى» فحتى تسلياتك لها نكهة خاصة. أشكرك على سؤالك عنا ولكن 
خطابك جاء موجزا لدرجة مزعجة ولعلك اعتبرته تكملة شكلية لمقالاتك ولكنى فى 
مسيس الحاجة إلى ثرثرة لا نهائية . زينب عال وهى تقرئك السلام وتذكرك بالدواء الذى 
رجتك أن تحصل عليه من الخارج بواسطة أى من زملائك الرحل . متاعب مصرانها هينة 
فى رأيى ولكنها مغرمة بالدواء كما تعلم. . بثينة سعيدة وكم أود أن أتسلل إلى عقلها 
ولكن أسعدنا بغير جدال هى جميلة التى لا تفهم شيئا بعد. ولو أنك رأيتنى لدهشت 


1110 





ايتاذ ١ه‏ 


للتقدم الذى أحرزته فقد نقصت ثمانية كيلو ومشيت آلاف الكيلو مترات وضحيت 
بأطنان من اللحوم والبطارخ والزبد والبيض وعرفت الاشتياق إلى الطعام بعد شبع طويل 
لدرجة الموت . ولأنك بعيد فإننى لا أجد من أحادثه كما أحب ولذلك كثيرا ما أحدث 
نفسى . كلام زينب أعقل مما يجبء لاذا يثيرنى الكلام العاقل فى هذه الأيام؟ الشخص 
الوحيد الذى أعجبنى حديثه رجل مجنونء يرفع يده بالتحية على طريقة الزعماء طوال 
الطريق. يلقى خطبا عجيبة» وقد التقيت به فيما وراء شاطئ جليم بكيلو على الأقل 
فبادرنى : 

- ألم أقل لك؟ 

فأجبته باهتمام : 

-فعلا. . 

ولكن ما الفائدة؟ . . ستمتلى المدينة غدا بسمك موسى ولن تجد موضعا لقدم . 

-على البلدية أن. . . 

لكنه قاطعنى بحدة : 

-لن تفعل البلدية شيئاء سوف ترحب به تشجيعًا للسياحة» وسوف يتكاثر بصورة 

مذهلة حتى يضطر السكان الأصليون للهجرة فيمتلئ الطريق الزراعى بطوابير 
المهاجرين ورغم ذلك كله سيواصل ثمن السمك صعوده. . 

وتمنيت أن أتسلل إلى رأسه أيضا. لغته لا تقل غرابة عن لغة العلماء الأفذاذ أصحاب 
المعادلات» وما أضيعنا نحن العقلاء بين الاثنين» نحن الذين نعيش فى السماجة 
المجسمة» لا نعرف لذة الجنون ولا أعاجيب المعادلات . رغم ذلك فأنا رب أسرة سعيدة. 
تعال وشاهدنى وأنا أناجى بثينة على حين تهاجمنا جميلة بالرمال» وبيتنا فى جليم مريح 
جدا وحنينى إلى الويسكى يشتد بصورة ملحوظة. وأمس ونحن فى الكابينة مساء ترامى 
إلينا صوت جارنا وهو يتحدث قائلا : 

العمارات ستؤم . 

اصفر وجه زينب وحدجتنى بنظرة استغاثة فقلت لها: 

- لدينا من المال الشىء الكثير . . 

فتساءلت : 

- وهل تنجو الأموال؟ 

- لقد تحصنا ضد القدر بتأمينات شتى . . 

فراحت تتساءل فى قلق : 





مه َتاذ 


- ومن أدرانا؟ 

فقاطعتها: 

- بالله خبرينى كيف سمنت إذن لهذا الحد؟ ! 

فهتفت بى : 

- كنت فى شبابك مثلهم لا تتكلم إلا عن الاشتراكية» وهى ما زالت فى دمك! 

ثم كررت على أن أذكرك بالدواء. مصطفى أنا لايهمنى شىء» لا يهمنى شىء 
صدقتىء لا أدرى ماذا حصل لى» لن يهمنى شىء. المهم عندى أن نلتقى لستانف 
هذرنا ومناقشاتنا الجميلة التى لا معنى لها. وقد رمت لى الصدفة بحديث غرامى فى 
الظلام دون أن يفطن لوجودى أصحاب الشأن. قال الرجل : 

-عزيزتى نحن منحدرون إلى خطر مؤكد. . 

فقالت المرأة : 

- هذا يعنى أنك لا تحبنى . 

لكنك تعلمين تماما أننى أحبك . 

- إذا تكلمت بعقل فهذا يعنى أنك لم تعد تحبنى . 

- ألا ترين أننى مسئول وأننى جاوزت الشباب؟ 

- قل إنك لم تعد تحبنى . . 

-سوف نهلك معا ونخرب بيتنا. . 

ألا تكف عن المواعظ؟ 

- لك زوجك وبناتك ولى زوجتى وأبنائى . . 

- ألم أقل لك إنك لم تعد تحبنى؟ 

- ولكننى أحبك . 

-إذن فلا تذكرنى بغير الحب. 

وابتعدت وأنا أتخيل الدراما الممتعة الفاضحة وأضحك لحرأة المرأة وتهافت الرجل . 
ولكنهما ذكرانى بصديق قديم اسمه الحب . يا إلهى ما أطول العمر الذى مضى دون 
حب! وماذا بقى لنا منه عدا ذكريات محنطة؟! كم أتمنى أن أتسلل إلى قلب عاشق . وأنا 
كما تعلم لم أحب فى حياتى سوى زينب ولكن كان ذلك منذ عشرين عاما. وما أذكره 
من ذلك التاريخ حركات ومواقف لا مشاعر وانفعالات . وأذكر أننى قلت يوما «عيناها 
تصعقاننى» وأذكر أنك لم تتخل عنى أبدا. وأن حالتى كانت جنونية. ولكن ذكرى 
الجنون غير الجنون نفسه. كنت محموم الفكر بركانى القلب ساهر الليل. ورفعنى 


11100 





اتاد مه 


العذاب إلى الشعر وسحت من عينى دموع وتوثقت أسبابى بالسماء ولكن كل أولئك 
ذكريات محنطة. وها أنا اليوم أكافح للتملص من المواد الدهنية ولا أرى فى زينب 
العزيزة إلا تمثالا لوحدة الأسرة والبناء والعمل . وثق من أنه لا يهمنى شىء . فليأخذوا 
العمارات الثلاث والأموال السائلة . ولن أزعم أننى أستهين بذلك التأثير من المبادئ التى 
أوشكت يوما أن تقذف بنا جميعا إلى السجن مع عثمان» فأيام الجهاد نفسها لم تعد إلا 
ذكريات محنطة» ولكنى لا أدرى ماذا حل بى أو ماذا غيرنى» فأبشر يا عزيزى بأننى 
أتقدم نحو شفاء جسمانى واضح ولكنى أقترب فى الوقت نفسه من جنون طريف 
والعقبى لك . 

لا تدس أن تكتب له الدواء . 

- فعلت يا عزيزتى. . 

ما ألطفك يا بثينة! براعم صدرك تشهد للدنيا بحسن الذوق. ولعلى من جيل محافظ 
نوعا فماذا أعدت أمك؟ . . من المحزن أنك لم تعرفى من الدنيا شيئاء وأننى صنتك 
كالكنار فلم تتجاوزى سيارة المدرسة . وهذه النظرة الحالمة ماذا وراءها؟ ألم تضنى على 
بحلم رغم الصراحة التى تبارك أحاديثنا؟ وكيف تؤثر فيك رائحة الأبدان العارية؟ 
والغزل المتطاير بين الأمواج» يا إلهى ادفع المجتمع إلى مجاراة أفكارها وفعالها حتى لا 
تتعرض لسوء! وقال لها وهى تمد ساقيها العاريتين تحت مقعده المغروس فى الرمل : 

- لم نهنأ ببعضنا هكذا من قبل ! 

اللو ا 

- لم أبق فى المكتب طيلة العمر إلا من أجلكم . 

فانطرحت على كوعيها معرضة بطنها وصدرها للشمس المتألقة فى سماء صافية على 
حين تهادت فوق منحنى الخليج سحابة بيضاء وحيدة. وقالت الأم دون أن ترفع رأسها 
عن الكانقاه: 

- قولى له إن صحته اليوم أهم من أى شىء. . 

حتى من تأميم العمارات؟ 

فأجابت متحدية مقطبة : 

حتى من تأميم العمارات. . 

فقال بنبرة تقريرية مستسلمة : 

-ما أجمل أن نتكيف مع مجتمعنا! 

ولم تنبس بكلمة. ومرت أمام المجلس حسناء معجبة بنفسها فخطف منها نظرة 
أشاعت فى حواسه بهجة ياسمينية . 





05 تاذ 


-عندما أعود إلى حالتى الطبيعية سأحاول أن أفهم الحياة فهما جديدا يقرنها بالسعادة 

- لتسأل الله أن يحفظنا من كل سوء . . 

الله يحب أن نسأله الخير للناس جميعا. . 

واسترق إليها نظرة ماكرة ثم قال ضاحكا : 

- ولكن كيف يستجيب الله للدعاء فى هذه الحال؟ 

وأدركت ما يعنيه ولكنها لم تعلق بكلمة واحدة. وتناسى ال موضوع كله واستسلم 
لأفكاره. خف الوزن ودب النشاط ولكن ما أفظع القلق! الذباب والعمل والزوجة» 
ويوما ستجد بثينة ما يشغلها عنك ومثلها جميلة التى تشيد الأهرام من الرمال. خبرنى 
بالله ماذا تريد؟ ولماذا يخيم الصمت رغم الضجيج؟ ولم يتنبأ شىء فى صدرك بمخاوف 
هوائية؟ وفى كل لحظة تشعر بأن صلة تتمزق محدثة صوتا مزعجاء وأن قائما يتزعزع. 
وأن أسنانك توشك أن تتساقط . وسوف تفقد الوزن فى النهاية وتسبح فى الفضاء. اشدد 
قبضتك على الأشياء» وانظر إليها طويلا فعما قليل ستختفى ألوانها. ولن يكترث لك 
أحد . وها هى الأمواج تطيح بأهرام جميلة المشيدة من الرمال. والهواء يطير الصحف 
التى لا حقيقة ثابتة فيها إلا صفحة الوفيات . ويقول لك الرجل : «هذه هى قضيتى أعهد 
بها إلى سيد المحامين». يا للسخرية! لم يبق لنايا حضرات المستشارين إلا أن نعمل معا 
فى السيرك القومى . 

-لماذا تسرح يا عزيزى؟ 

دلأ شوى + 

-هل أنت بخير تماما؟ 

- أظن ذلك . 

ولكن خبرتى الطويلة بك تقول إنك فى حاجة إلى عناية . . 

- يجب أن نحترم الخبرة. . 

-هل أحدثك عن رأى الطباخة؟ 

- وهل للطباخة رأى؟ 

- قالت إن الرجال السعداء الناجحين عرضة للعين. . 

- وهل تصدقين ذلك؟ 

- كلا طبعًا ولكن الحيرة تحملنا أحيانا على تجربة أى شىء! 

إذن فما عليك إلا أن تتفقى مع شيخة زار! 


11100 





اماد 2_0 


- ألا ترى أن السخرية لم تكن من شيمتك؟ 

فقال باسما: 

وقليل من السخرية يفيد ولا يضر! 

-لن أثقل عليك يا عزيزى . 

وهم عائدون تأخرت به قليلا عن البنتين وقالت: 
- إليك خيرا سارا. . 

تطلع إليها فى ياس خفى : 

- اكتشفت فى بثينة شيئا لم يكن فى الحسبان! 

- غير ما اكتشفت فى العام الماضى؟ 

بلى . إنها يا عمر شاعرة! 

رفع حاجبيه الكثيفين فى دهش : 

- نعم . . لاحظت انهماكها فى الكتابة» وأنها تمزق ما تكتب ثم تعيد كتابته» و أخيرا 
اعترفت لى بأنها تكتب شعراء فضحكت وقلت لها. . 
وترددت فسألها : 

ماذا قلت لها؟ 

- قلت لها إنك بدأت كذلك شاعرا. . 

فتساءل مقطبا: 

ألم تخبريها كيف انتهيت؟ 

- لكن أن تكون بنت فى سنها شاعرة شىء جميل . 
-فعلا. . 

-لو لنصائحى قيمة لاأجدت معى ! 


3 


دحل انيه 





0 تاذ 


ولكن الاضطراب غطى على السعادة الموقتة . وهذا إحساس عاصف كأنه نوع من 
الذعر. وثمة جيشان يرعى الصدر لم يقربه منذ عشرين عاما. وناداها إلى الشرفة المطلة 
على البحر فجاءت فى بلوزة مزركشة وبنطلون بنى يضيق تدريجيا حتى يلتصق بالساقين 
فوق الرسغين . أجلسها قبالته وهو يقول: 

-رأيت أن أدعوك لتشهدى معى الغروب . . 

همت بالاعتذار فيما بدا له» وكان يعلم أن ذاك وقت خروجها مع أمها وأختها لنزهة 
الأصيل على الكورنيش» ولكنه قال: 

- ستلحقين بهما سريعاء ألا يحب الشعراء الغروب؟ 

ولاحظ تورد وجنتيها بشغف وهو يبتسم . 

- لكن ... لكنى لسسدث بشاعرة! 

- ولكنك تكتبين شعرا . 

ومن أدرانى أنه شعر؟ 

سوف أحكم بعد الاطلاع! 

- كلا . 

نطقت بها فى إشفاق وحياء فقال : 

- لاسر بيئنا وأنا فخور بك . 

- ماهو إلا كلام ركيك . 

- سأحب شعرك حتى ركيكه . 

أسبلت جفنيها فى استسلام حتى تلاقت رموشها الطويلة المقوسة إلى أعلى» وإذا به 
يسألها فى اهتمام من الأعماق : 

- خبرينى يا بثينة كيف اتجهت نحو الشعر؟ 

-لا أدرى! 

- أنت متفوقة فى العلوم ولكن كيف اتجهت نحو الشعر؟ 

وهى تتذكر مقطبة : 

-المختارات المدرسية! . . أحبيتها جدا يا بابا. . 


1110 





تاذ /اجده 


ولكن ما أكثر من يحبونها! 

- كانت تسحرنى بدرجة أقوى فيما أعتقد. . 

- ألم تقرئى غير ذلك من الشعر؟ 

-بلى» قرأت فى دواوين. . 

-دواوين؟! 

فضحكت قائلة : 

- استعرتها من مكتبتك ! 

حقًا؟ ! 

- وعرفت أنك شاعر أيضا . 

وخزه ألم فدفعه للتظاهر بالمزيد من المرح وقال: 

دلا + لست شاعرا»: كالث لعنةعن لعب الطفولة.: 

- مؤكد أنك كنت شاعراء على أى حال وجدتنى مدفوعة إلى الشعر دفعا. . 

أنت تتحدث عن المسرح ولكنى شاعره وأنا ملقى فى دوامة لا نجاة منها إلا الشعر فهو 
غاية وجودى. وإلا بالله خبرنى ماذا نصنع بالحب الذى يكتنفنا كالهواء؟ والأسرار التى 
تلفحنا كالنار. والكون الذى يرهقنا بلا رحمة؟ فلا تكن مكابرايا صديقى . 

- زيدينى شرحا؟ 

قالت وهى تسترد شجاعتها المألوفة : 

- كأننى أبحث عن أنغام فى الهواء ! 

-قول جميل يا بثينة» وهو كذلك ما دام لا يفسد علينا الحياة. . 

ماذا تقصد يا بابا؟ 

- أعنى دراستك » ومستقبلك» ولكن آن لى أن أطلع على شعرك! 

أتته بكراسة مغلفة بورق مفضض . وباحترام وحب وإشفاق ولهفة راح يقرأ. وتخلل 
قراءته عام ١975‏ مداعبا ومعترضا. عهد الحرمان والأمل والأسرار. والاضطراب 
المطوق للعباد. وأحلام المدينة الفاضلة . ثم صوت عثمان وهو يرتعش هاتفا اعثرت على 
الحل السحرى لجميع المشاكل» . 

ولكن البنت عاشقة. وربى إنها لعاشقة. البرعمة التى لم تتفتح بعد. من هو ذو 
الجمال. الذى السحاب أنفاسه . والشمس مرآته . الذى تتمايل الأغصان شوقا إليه . لماذا 
نضطرب إذا كرر الأبناء سيرتنا؟ وما رأى أبى إذا سمعنى أحدث حفيدته فى الحب؟ ! 





4ه اذ 

-هذا شعر حقًا! 

تألق الفرح أخضر فى عينيها وصاحت : 

حقًا؟ ! 

شع حميل.: 

- أنت تشجعنى يا بابا ليس إلا. . 

- بل أقول الحق . 

ونظر فى عينيها ثم سأل باسما: 

- ولكن من هو؟ 

فانطفأت شعلة ال حماس فى عينيها وتساءلت فى شىء من الخيبة : 
فق 

من المقصود بالترانيم؟ 

ثم بنبرة ثقة : 

حالم يعر قح الس مكانا يتنا ... 

فقالت بإلغاز لم يخل من فتور: 

- ليس أحدا من الناس! 

-ترى ألم أعد الصديق الأب؟ 

على ولكية لبن أهدا هرد الياس: 

-يهمنى أن أعرفه بعد إذنك؟ 

- ولكنى أقول إنه ليس أحدا من الناس . 

أهو من الملائكة؟ 

- ولا من الملائكة . 

-ماذا هو إذن. . حلم. رمز؟ 

فى حيرة واضحة : 

لعله. . هوغاية كل شىء. . 

مسح الرطوبة عن جبينه وساعديه وصمم بإرادة هائلة على أن ينتزع من نفسه أية نية 
عبث أو سخرية أو استهانة وقال بجدية: 

-إذن فأنت تعشقين سر هذا الوجود؟ 

أجابت فى توتر حل محل شجاعتها التلقائية : 


1110 





ايتاذ ]25 


- هذا جائز جدا يا بايا. . 
وما أحمقنا عندما نظن أنفسنا أغرب من الآخرين . 
- كيف حصل ذلك؟ 
-لا أدرى . . » من الصعب أن أوضح» ولكنى وجدت فى ديوانك بدء الطريق. . 
وضحك ضحكة عضلية خالصة وقال: 
مؤامرة عائلية! . . أمك كانت تعرف من زمن وأطلعتك على ذلك الشىء الذى 
تسمينه ديوانا. . 
ولكنه شعر رائع . . وكم أنه ملهم! 
وضحك ضححكة عالية لفتت إليه عازف البيانولا الذى كان يرسل على الكورنيش 
أنغامه المتشنجة . 
- أخيرا وجدت معجبة! ولكنه لم يكن شعراء كان أوهاما محرقة» ومن حسن الحظ 
أنى تركته فى الوقت المناسب . . 
- أما أنا فوجدت فيه ما أهيم به. . 
إذن فأنت خالقة حتى فى قراءتك! 
- أنت تقول هذا! 
وهذا هو حبيبك؟ 
- كما أنه حبيبك! 
كان. لا حبيب الآن. القلب لم يعد يفرز إلا الضياع . وبين النجوم يترامى الفراغ 
والظلام . وملايين السنين الضوئية . 


-ما رأيك يا أبى؟ 
-لمثلك ينبغى أن أقول : «افعلى ما تشائين» . 
فتساءلت فى مرح : 


- ومتى تعود إلى الشعر؟ 

_ادعى الله أن أعود إلى مكتبى أولا! 
-إنى أعجب كيف هان عليك أن تهجره؟ 
فقال وهو يدارى ابتسامة حياء : 

- كان لهوا ليس إلا. . 


00 





اه اناد 


داتوهمت يوما أن سامتمر. ١‏ 

- ولكنى أسألك عما أوقفك . 

تداخلت شفتاه فى سخرية ولكن سرعان ما ارتفع إلى حال من الجدية الصادقة ودفعته 
رغبة صريحة إلى الاعتراف فقال: 

-لم يسمع لغنائى أحد. 

أضر بك الصمت . . وقال مصطفى محرضا: 

-المثابرة والصبر! 

وقال عثمان: 

أقذف بشعرك فى المعركة تظفر بالآف المستمعين! 

وأرهقك الصمت . ألح عليك الحرمان. وفتح الحب ذراعيه وأثبت أنه لا قدرة له على 
الامتلاك . ويوما قال مصطفى بارتياح : 

- أخيرا قبلت فرقة الطليعة مسرحيتى . 

واشتد إرهاق الصمت . وقرر شمشون أن يهدم المعبد . وسرعان ما استغرقه النوم . 

وسألت بثينة : 

-هل من الضرورى يا بابا أن يستمع لغنائنا أحد؟ 

فداعب خصلة من شعرها الأسود وقال: 

- ما معنى أن ندعو سر الوجود من الصمت إلى الصمت؟ 

ثم برقة وعطف : 

- ألا تودين أن يسمع لغنائك الناس؟ 

- طبعا ولكنى سأستمر على أى حال. . 

- جميل» أنت أفضل من أبيك» هذا كل ما هنالك . 

- ولكنك تستطيع أن تعود إلى الشعر إذا أردت. . 

-الموهبة ماتت إلى الأبد. 

لا أصدقء إنك فى نظرى دائما شاعر . 

ماللشعر وهذا الطول والعرضء والتفكير الدائب فى القضاياء وبناء العمارات» 
والطعام الدسم لحد المرض؟! 
وحتى مصطفى انحط يوما على المقعد الطويل مقوس الظهر كأنما أوغل فى الكبر 
وقال: 


1110 





تاذ الآه 


-ما أضيع الجهد! 
وقلت له بانزعاج: 
- ولكن الطليعة ترحب بمسرحياتك » وهى فن جيد حقا . 
فلوح بيده بازدراء وقال: 
- على أن أعيد النظر فى حياتى كما فعلت أنت . . 
طالما نصحت بالمثابرة والصبر. 
فبصق ضحكة خشنة وقال: 
لا فائدة من تجاهل الجماهير! 
أتريد أن تبدأ من جديد محاميا؟ 
- مات القانون قبل الفن» الحق أن مفهوم الفن قد تغير ونحن لا ندرى» عهد الفن قد 
مضى وانقضى» وفن عصرنا هو التسلية والتهريج» هذا هو الفن الممكن فى زمن 
العلم» ويجب أن نتخلى عن جميع الميادين عدا السيرك . 
الحقيقة أننا تتحطم واحدا بعد آخر . 
- بل قل إننا بلغنا سن الرشدء انظر إلى نجاحك فى الحياة على سبيل المثال» وفى رأيى 
أن الترفيه غاية جليلة لمتعبى القرن العشرين» وما نظن أنه الفن الحقيقى ليس إلا 
الضوء القادم من نجم مات منذ ملايين السنين» فعلينا أن نبلغ سن الرشد وأن نولى 
المهرجين ما يستحقون من احترام! 
- يخيل إلى أن التفلسف قد قضى على الفن! 
- بل قضى العلم على الفلسفة والفن» فإلى مسرات التسلية بلا تحفظ . ببراءة الأطفال 
وذكاء الرجالء» إلى القصص الخنفيفة والضحكات المجلجلة والصور الغريبة» 
ولنتنازل نهائيا عن غرور الكبرياء وعرش العلماء ولنقنع بالاسم المحبوب والمال 
الوفير. . 
سرنى ذلك رغم الحزن والأسف. مارست بتألم حقيقى العواطف المتضاربة. 
وفكرت بذهول فيمن ازدرده السجن . الأصلع المحبوب يهبك بلسم العزاء لفشلك . 
وتفوقا غير متوقع . من غد سوف يطمح إلى القوة التى امتلكها ولكن بوسيلة أتفه. كما 
انقلب المتطلع إلى سر الوجود إلى محام ثرى غارق فى المواد الدهنية . 
إن يكن العلم كما تتصور فما نحن إلا طفيليون على هامش ال حياة . 
- نحن رجال ناجحون ذوو سر دفين من الحزن المكبوت وليس من الحكمة أن ننكأ 
الجروح . 





”اسه النحتاذ 


لكننا نتتمى فى الواقع إلى عصر قديم بال. 
- بالله لا تنكأ الجروح . 
العلماء أقوياء بالحقيقة ونحن قوتنا مستمدة من المال الذى يفقد شرعيته يوما بعد 
يوم. 
- لذلك أقول لك إن الموت يمثل أملا حقيقيا فى حياة الإنسان. ونظر إلى عينيها 
الخضراوين برقة وقال: 
- بثينة » هل أطمع بأن تعدينى بألا تفرطى فى دراستك العلمية؟ 
- أظن ذلك ولو أن الشعر سيظل أجمل ما فى حياتى . . 
- ليكن لن أجادلك فى ذلك» ويمكن أن تكونى شاعرة وفى ذات الوقت مهندسة 
مثلا. 
مودو تالاكول سان 
- طبعاء لا أحب أن تنتبهى يوما فتجدى نفسك فى العصر الحجرى على حين يعيش 
من حولك فى عصر العلم . 
- لكن الشعر. . . 
فقاطعها: 
لن أجادلك يا عزيزتى» صديقى مصطفى يجد فى العلم دينا وشعرا وفلسفة» لكنى 
لن أجادلك» أنا سعيد بك وفخور. . 
ها هى الشمس تتهاوى للمغيب . قرص أحمر كبير امتص المجهول قوته وحيويته 
الباطشة فرنت إليه الأعين كما ترنو إلى الماء . وتدفقت حوله كثبان السحب وضاءة 
الحوافى موردة الأديم فى مهرجان الألوان. 
أتريد أن تعرف سرى حقا يا مصطفى» اسمع عندما أمضنى الفشل جريت نحو القوة 
التى آمنا من قبل بأنها شر يجب أن يزول» ولكنك تعرف سرى يا مصطفى . 


فى ضوء الشمس الغاربة تبدت أنيقة وقوراء رغم اكتناز جسمها الطويل» المفصح عن 
شبع مثير ورفاهية محنقة» ما كان أرق جمالها! وما زالت على قدر من الجمال بالرغم من 
ضخامتها غير العادية وانتفاخ و جنتيها. ونظرتها الخضراء الجادة لم تفقد كل سحرها 
ولكنها غريبة» غرابة مستحدثة لم ترها عينك من قبل . امرأة رجل آخر. رجل الأمس 


11100 





تاذ 0/1 


الذى لم يعرف التعب أو الفتور. الذى نسى نفسه . ولكن ما علاقتها بهذا الرجل؟ 
المريض بلا مرضء المتجنب للدسم والشراب» الذى يتنسم فى الهواء المشبع بالرطوبة 
نذر مخاوف لا حدود لها. والأختان سابقتان» جميلة تمشى على سور الكورنيش 
الحجرى قابضة على يد بثينة التى سايرتها على الأرض.ء فى الطريق ما بين جليم وسيدى 
بشر الذى يخف به الزحام درجة ما. وأعين كثيرة تطلعت إلى بثينة» وشفاه تمتمت 
بكلمات لم يميزها ولكنه يعرفها على أى حال فابتسم من الداخل فحسب . وماهو إلا 
عامان أو ثلاثة ثم تصيرا جداء وتمضى الحياة» ولكن إلى أين؟ والتفت إلى الشمس 
الغاربة فى سماء صافية باهتة لم يعلق بها من الشفق إلا قشرة سطحية استدارت عند 
الأفق. قال: 

- كان الأقدمون يتساءلون أين تذهب الشمس» ولم نعد نتساءل. . 

فتطلعت زينب إلى الشمس ثوانى ثم قالت: 

- بديع أن نتخلص من سؤال! 


أجمل أن يثور البحر حتى يطارد المتنسكعين على الشاطىئ! وأن يرتكب السائرون على 
الكورنيش حماقات لا يمكن تخيلها. وأن يطير الكازينو الكبير فوق السحب وأن تتحطم 
الصور المألوفة إلى الأبد. فيخفق القلب فى الدماغ » وتتراقص الزواحف والعصافير. 

ومضت البنتان إلى سينما سان استفانو. ثم واصل كلاهما المشى متقاربين. . وإذا بها 
تتأبط ذراعه وتهمس متسائلة : 

-عمر. . ماذا عندك؟ 

ألقى نظرة باسمة على ما حوله وقال: 

ما أكثر الغرام! 

-هو كذلك دائماء ولكن ماذا عندك؟ 

فقال ممعنا فى التجاهل : 

- بثينة لا تعرف أشياء كثيرة» فكرت فى ذلك وأنا. . . 

فقاطعته نافدة الصير : 

-إنى أعرف ما على» والبنت معدنها نفيس» ولكنك تهرب . . 

ما أشد استجابة نفسك ل «تهرب» كأنها مفتاح سحرى يلقى إليك فى جب 

- أهرب؟ 

أنت فاهم ما أعنيه فاعترف. . 





:/اه النحتاذ 


- بأى جريمة؟ 

ديانك لو تعد المعا: 

ما أحوج الرطوبة اللزجة إلى عاصفة هوجاء! 

حقًا؟ 

جسمك وحده الذى يعيش بينناء وأحيانا أحزن لحد الموت. 

- ولكننى أتداوى بعزيمة صادقة كما لابد تشهدين . 

- الحق أنى أتساءل عن السبب وراء ذلك كله» أطوارك جعلتنى أتساءل من جديد. 
لكننا شخصنا الحال بما فيه الكفاية . 

أجل » ولكن ألا يضايقك شىء بالذات؟ 

-أبدا. . 

- يجب أن أصدقك . 

لكنك لا تصدقين اما فيما يبدو؟ 

- ظئنت أن أمرا ضايقكء. فى المكتب» فى المحكمة؛ عند أحد من الناس» وأنت 


حساس وبارع فى الحزن المكتوم! 

-أنا لم أقصد الطبيب إلا لأننى لم أعثر على سبب محسوس . 
- لم تحدثنى كيف بدأت ال حال . 

طالما حدثتك عن ذلك . 


-عن النتائج فقط ولكن كيف بدأ الحال على وجه التدقيق؟ 

وها هى رغبة مستهترة فى الاعتراف تدفعك . 

- من الصعب أن أحدد تاريخا أو أقرر كيف بدأ التغير. لكننى أذكر أننى كنت مجتمعا 
بأحد المتنازعين على أرض سليمان باشاء وقال الرجل : «أنا تمتن يا إكسلانس» أنت 
محيط بتفاصيل ال موضوع بدرجة مذهلة حقيقة باسمك الكبير» وأن أملى فى كسب 
القضية لعظيم». فقلت له: «وأنا كذلك» فضحك بسرور بين وإذا بى أشعر بغيظ لا 
تفسير له » وقلت له: «تصور أن تكسب القضية اليوم وتمتلك الأرض ثم تستولى 
عليها الحكومة غدا» فهز رأسه فى استهانة وقال : «المهم أن نكسب القضية» ألسنا 
نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سي أخذها» فسلمت بوجاهة منطقه ولكن ذهل 
رأسى بدوار مفاجئ واختفى كل شىء. . 

رمته بنظرة داهشة وسألته : 

أكان هذا هو السيب؟ 


110 





الث > 8 
3 


/ىقو0 


أبدا. . لا أعرف سببا على التحديد» ولكنى كنت أعانى تغيرا خفيا مستمراء من هنا 
جاء تأثرى الذى لا معنى له بكلام الرجل الذى تردده الملايين كل ساعة دون أن 
يحدث أى أثر لأى إنسان . 

- طبعاء أنت لا تفكر فى الموت إلا كما يفكر العقلاء . 

ترى كيف يفكر العقلاء فى الموت؟ 

- هذا مسلم به من حسن الحظ . 

وهى تحدجه مستطلعة : 

- وهل كرهت العمل بعد ذلك؟ 

ا لا أستطيع أن أقطع برأى فى ذلك » ريما قبله وربما بعده. 

الحق أنى حزينة بدرجة لا أحب أن أحدثك عنها. . 

-ولكن هل يهمك العمل لهذا الحد؟ 

انث هن يوني » نت ويحلك:*: 

وتؤجل قضية فأخرى فثالثة يمضى النهار وأنت مستمر فى مقعدك ممدود الساقين 
تحت المكتب تدخن بلا انقطاع وتنظر إلى السقف ببلاهة . 

- تعبت من المشى . 

- لكنك تمشين أضعاف ذلك . 

فقالت وهى تخفض البصر: 

-آن لى أن أعترف لك بدورى» الراجح أننى حبلى. . 

فاهتز باطنه بموجة قاسية أكدت تلهفه على مفتاح الهرب السحرى وتّتم : 

والكرد 

فقالت بهدوء: 

-يا عزيزى» أمر الله فوق كل تدبير. . 

ثم وهى تشد على ذراعه : 

- وأنت لم تنعم بعد بولى العهد! 

واستدارا راجعين ونظرة دلال تمرح فى عينيها. ومرت النظرة طويلا حتى دق ناقوس 
الإنذار. وقال لنفسه إنه بشىء من الشراب سيطرد الفتور ويمثل دور الحب كما يمثل 
الزوجية والصحة. 

واستيقظ مبكرا بعد نوم ساعات معدودات . وطرق أذنيه صخب الأمواج العاصف 
فى سكون الصباح المعتم» وزينب مستغرقة فى النوم» مكتظة بالنوم والشبع تنفرج شفتاها 





اه َتاذ 


عن شخير خفيف متواصل» مشعثة الشعر . وأنت متضايق كأغا كتب عليك أن تناطح 
نفسك . وهذا يعنى أننى لم أعد أحبك . بعد الحب القديم والعشرة الطويلة والذكريات 
المليئة بالوفاء لم أعد أحبك. لم تبق ذرة حب واحدة. ليكن عرضا يزول بزوال المرض 
ولكنى الآن لا أحبك . وهو أشقى ما ألاقى من مر التجارب . وها أنت تسمع شخيرها 
فلا تعطف ولا يبتسم القلب . وتنظر إليها وتسأل ماذا جاء بها أو ماذا جاء بك ومن ذا 
قضى بهذه السخرية اللعينة؟! 

مصطفى ها هى الفتاة! 

الخارجة من الكنيسة؟ 

-هاهى . . انظر إلى فستانها الأسود حدادا على عمها. . أى ملاحة! 

- ولكن الدين! 

- لم أعد أكترث لهذه العوائق. . 

وقلت له يسعدنى أنك تنازلت بقبول معرفتى. فى حديقة العائلات قدم عمر 
الحمزاوى المحامى نفسه فتمتمت بصوت لا يكاد يسمع «كاميليا فؤاد) . يا عزيزتى حبنا 
أقوى من كل شىء وسوف نتغلب على أى عائق فقالت وهى تتنهد «لا أدرى» . 


ويوما ضحك مصطفى فى جو عاصف وقال : 

- إنى أعرفك منذ عهد آدم» بحاثة عن المتاعب» زوبعة فى بيتك وزوبعة أعنف فى 
بيتها وأنا حائر بينكما. . 

ثم ما أجمل موقفه وهو يرفع كأسه صائحا : 


مبارك عليكماء أصبح الماضى فى خبر كان» ولكن تضحيتك لا تقاس 

بتضحيتهاء وللعقائد طغيان حتى على الذين نبذوهاء صحتك يا زينب» صحتك يا 

عمر.. 

وانتحى بك جانبا وراح يقول وهو سكران تماما: 

-لا تنس الأيام الآليمة» لا تنس الحب أبداء تذكر أنه لم يعد لها أهل فى هذه الدنياء 

مقطوعة من شجرة, ولا أحد لها سواك. 

تزوجت قلبا نابضا لا حدود لحيويته» وشخصية فاتنة حقاء تلميذة مثالية للراهبات» 
مهذبة بكل معنى الكلمة» مدبرة حكيمة كأنها خلقت للتدبير والحكمة» وقوة دافعة للعمل 
لا تعرف التوانى» ونظرة ثاقبة فى استثمار المال» ارتفعت فى عهدها من غمار العدم إلى 
التفوق الفريد والثروة الطاتلة» وجدت فى حرارة حبها عزاء عن الفشل والشعر والجهاد 
الضائع » رمز الجنس والمال والشبع والنجاح» فماذا جرى؟ ! 


1110م 





تاذ /الاه 


ودخل ثم أغلق الباب وراءه. طوقه هواء عاصف ورأى الأمواج وهى تركض بجنون 
نحو الشاطئ فتلطم بزبدها الفاتر أرجل الكباين» تحت قبة باهتة انتشرت قطعان السحب 
فى جنباتها وغام جو الصباح الباكر باللون الرمادى المشع منها. ولم تدب قدم بعد فوق 
مصطفى لأسأله عن معنى هذه المتناقضات . عنده من الأفكار مدخر كثير رغم أنه لم يعد 
علوا غير عادى» ثم تتكسر عن أطنان من الزبد» ثم تنداح فى تدهور مسلمة الروح . يا 
فى زينب . هى القوة الكامنة وراء العمل . هى رمزه. هى المال والنجاح والثراء وأخيرا 
المرض . ولأنى أتقزز من كل أولئك فأنا أتقزز من نفسى أو لأنى أتقزز من نفسى فأنا أتقزز 
من كل أولئك . ولكن من لزينب غيرى؟ الليلة الماضية كان الحب تجربة مريرة. ضمر 
ونضب فلم يبق منه سوى ارتفاع فى الحرارة وسرعة فى النبض وزيادة فى ضغط الدم 
وتقلص فى المعدة. تتلاحق فى وحدة رهيبة . وحدة الموجة التى يمتصها رمل الشاطى . 
فلا يتقهقر منها إلى البحر شىء . هى تترنم بأهازيج الغرام وأنا أبكم» هى تطارد وأنا شارد 
اللب» هى تحب وأنا كاره: هى حبلى وأنا عقيم» هى حساسة حذرة وأنا بليد» وقالت 
اليوم فتمتلك اللأرض ثم تستولى عليها الحكومة غداء فقال: ألسنا نعيش حياتنا ونحن 
نعلم أن الله سي أخذها. ورغم الجفاء والجفاف فإن الموجة تعلو لحد الجنون ثم تتكسر عن 
الزبد ثم تسلم الروح. ويزدردك قبر النوم بلا راحة» ويظل عقلك يتابع هواجسه» حتى 
الطبيب تفكر فى زيارته مرة أخرى. مسلما بأنك تغيرت أكثر نما كنت تتصورء فيا ترى 
ماذا أريدء أجل ماذا أريد» الفقه لا يهم» والحكم لصالح موكلى لا يهم» وإضافة مئات 
جديدة لحسابى لا يهمء ونعمة البيت السعيد لا تهم» وقراءة عناوين الصحف لا يهم» 
فمارأيك فى رحلة فى الفضاءء فى ركوب الضوء شكرا لسرعته الثابتة» الشىء الوحيد 
الثابت فى هذا الكون الذى لا يعرف الثبات. المتغير بلا توقف. المتحرك فى جنون . 

وهاهو قد وصل أول مكتشفين للفضاءء بياع الجراثيم وبياع الأنباء الكاذبة. . 





5 تاذ 


فى آخر أغسطس رجعت الأسرة إلى القاهرة. وامتغض عمر لمرأى ميدان الأزهار 
وهو فى سبيله إلى عمله وقال إنه لم يتغير عما تركه وإنه ما زال معبرا كالحا للذاهبين إلى 
أعمالهم. واستقبل استقبالا حارا وبخاصة من مساعده الأستاذ محمود فهمى» 
وسرعان ما حملت إليه ملفات القضايا المؤجلة والتى تحت البحث . ولم يخل 
سبتمبر من أيام لزجة ولكن جرت به نسائم لطيفة وظللت بواكير صباحه طلائع 
سحب بيضاء . وعائقه مصطفى المنياوى طويلا وتبادلا القبلات» ووقفا طوال الاستقبال 
وجها لوجه. عمر بقامته المديدة ومصطفى رافع وجهه نحوه وصلعته مائلة إلى الوراء 
تلمع تحت ضوء المصباح الفضى . وقال وهو يجلس على المقعد الجلدى الكبير أمام 
المكتب: 

أراك فى رشاقة الغزال» برافو. . 

وتناول سيجارة من العلبة الخشبية المطعمة بالصدف التى تعزف أنغامها عند فتحهاء 
ثم أشعلها وهو يقول: 

- فكرت مرات أن أزورك فى الإسكندرية ولكن واجب الزوجية كان ينادينى إلى رأس 

البر فضلا عن أننى شغلت طيلة الوقت بإعداد مسلسلة جديدة للراديو. . 

ونظر إلى ملفات القضاياء ثم إلى عينى صاحبه مستجديا كلمة مشجعة فابتسم عمر 
ابتسامة غامضة فأحق النظرة بالاستجداء حتى قال عمر : 

- عملت صباح اليوم ساعات متواصلة . 

فتنهد مصطفى فى ارتياح غير أن الآخر تهتم : 

500 

فتساءل مصطفى فى قلق : 

دولكن! 

- بالصراحة لم أسترد للعمل أى رغبة. . 

وساد صمت متشائم» ونفث الدخان من فم متوترء ثم تساءل : 

- أكان ينبغى أن تأخذ مزيدا من الراحة؟ 

-دعنا من المغالطة فالأمر أخطر من ذلك . 

ثم وهو يشعل بدوره سيجارة على صدى أنغام جديدة : 


11010 





اتاد 4/اه 


الأمر أخطر من ذلك» وليس العمل وحده الذى أصبحت أكره ولكن الداء يلتهم 
أشياء أخرى أعز علينا من العمل » زوجتى على سبيل المثال . 


- زينب! 


-لا أدرى كيف أتكلم ولكن للأسف لم أعد أطيقهاء البيت نفسه لم يعد بالمأوى 
المحبوب! 

- أتقول ذلك عن مكان يضم بثينة وجميلة؟ 

من حسن الحظ أنهما ليستا فى حاجة إلى. . 

تجهم وجه مصطفى ورمشت عيناه المستديرتان الذابلتان وتجلت فى نظرته المستطلعة 


- لكن مثلك لن يعجزه معرفة السر. 


قال وهو يبتسم ابتسامة مريرة : 

لعله الكون ‏ بدورانه الدائم على وتيرة واحدة هو المسئول الأول عن ذلك . 

- أعترف بأنك تبالغ فيما يتعلق بزينب على الأقل . 

-هى الحقيقة السوداء. 

فسأله بإشفاق: 

- تتوقع عواقب عملية لذلك الموقف؟ 

- إنى أعيش فى مقام السؤال ولكن بلا جواب . 

- على الأقل فإنك لابد مقتنع بأن ما بك هو حال من أحوال النفس . 

- سمه كيف شئت» ولكن ما هوء ماذا أريد» ماذا على أن أعمل؟ ! 

- أنت أرشد من أن تبقى فى مقام السؤال» سائل رغباتك الدفينة» راجع أحلامك» ها 

هى أشياء تود الفرار منهاء ولكن إلى أين؟ 

أجلء إلى أين؟ 

- عليك أن تجيب بلا تردد. 

- خبرنى أنت عما يدفعك إلى العمل والزوجة؟ 
بدا السؤال مضحكا على نحو ما فضحك ولكن قتامة الجو لم تسمح للمرح بالبقاء 
أكثر من ثوان:. 

-إنى أرتبط بزوجتى بحكم الواقع والعادة» أما عملى فهو مصدر رزقى» ولى جمهور 





2 اذ 


أسعد به كثيراء مئات الرسائل التى أتلقاها أسبوعيا تسعدنى حقاء والحق أن تجاوب 
الناس معك قيمة ثمينة ولو كان مصدره بيع اللب والفشار! 

- وأنا ليس لى جمهور وواقع وعادة؟! 

تردد مصطفى مليا ثم قال : 

-الحقيقة أن عملك جاوز بك أبعد غايات النجاح . وأن زوجك تعبدكء فلم تعد 
أمامك غاية تتطلع إليها . 

عمر وهو يبتسم ساخرا: 

-هل أسأل الله فشلا فى العمل وخيانة فى الزوجية؟ 

-لو استجاب لك لمنحك حب الحياة من جديد! 

وخلا كلاهما إلى نفسه فى صمت مشحون بالتوتر منذر بمأساة وشيكة الوقوع . وقال 

عمر: 

- يعزينى أحيانا أننى أكره نفسى بنفس القوة . 

ثم وهو يطفى عقب السيجارة فى النافضة بقوة حانقة : 

- والحق أن عملى وزينب ونفسىء كل أولئكك شىء واحد هو ما أود التخلص منه. . 
فسأله وهو يحدجه بنظرة مريبة : 

-هل هناك حلم يراودك؟ 

تردد بعض الوقت ثم قال بنبرة اعترافية : 

حدث أن كتبت بثينة شعرا. . 

- بثينة؟ ! 

- قرأته ودار بيننا حديث فانبعثت فى نفسى أشواق غامضة إلى الكتب القديمة التى 
هجرتها منذ عشرين سنة! 

- أوه. . كم خطر ذلك ببالى! 

-صبرك!. . حقًا لقددبت الحركة فى الركود الأبدى» ورحت أبحث عن نغمة 
ضائعة» وتساءلت ترى هل يمكن أن أبدأ من جديد؟ . . ولكنها كانت مجرد حركة 
طارئة ثم ما لبثت أن تجمدت . . 

لكنك تراجعت بسرعة ! 

- بل عاودت القراءة» وسطرت كلماتء» ولكن ذلك كله لم يكن شيئاء وذات ليلة 
وأنافى السينما رأيت وجها جميلا فدبت الحركة فى مرة أخرى. . 

أهى الحركة ما تنشد؟ 


1110م 





2/1١ النتّاذ‎ 


- حركة أو نشوة. . أحيت الكائن دفعة واحدة. . وآمنت ساعتها بأن الحركة أو النشوة 
هى مطلبى» لا العمل ولا الأسرة ولا الشراء. . هى هذه النشوة العجيبة الغامضة . . 
كأنها النصر الدائم وسط الهزائم المتلاحقة. . وهى التى سحقت الشك والخمول 
والمرارة. . 
وجه مصطفى إليه نظرة ثابتة وهو قابض على ذقنه بيده وتساءل : 
- ترى أترغب فى أن تودع الحب الوداع الأخير؟ 
فقال مقطبا: 
أتظنه عرضا من أعراض السن الحرجة؟! ولكن ذلك يعالج ببساطة ويمر بسلام 
عندما يندفع زوج وقور على غير توقع إلى الملاهى الليلية أو يتزوج من امرأة 
جديدة» وقد ترانى يوما راكضا وراء امرأة ولكن سيظل ما يدفعنى شيئًا أخطر من 
أعراض السن الحرجة . . 
ولم يتمالك مصطفى من أن يضحك ضحكة عالية ثم يسأل : 
- ترى أهى نشوة عجيبة حقا أم أنها تبرير فلسفى لحريمة الزنا؟ ! 
- لا تنهكم بى فأنت نفسك كنت يوما فريسة لأزمة خطيرة. . 
ابتسمت أسارير وجهه ولاحت فى عينيه نظرة منداحة فى متاهات التذكر وقال: 
- أجل كنت شارعا فى كتابة مسرحية جديدة وإذا بالفن ينفتت بين يدى نشارة وترابا 
ولكنى سرعان ما استبدلت به فنا آخر دان له ملايين المواطنين بالسعادة . 
-أما أنا فأخطأت الطريق» استبدلت بالفن الزائل عملا ينافسه فى البلى» فالمحاماة 
كالفن من أعمال العصور البائدة» وأنا لا أحسن ما أحسنت من فن جديد» وفاتنى 
مثلك أن أتعلم العلم» فكيف السبيل إلى نشوة الخلق المفقودة؟!. . الحياة قصيرة 
وأنا لا أنسى الدوار الذى أصابنى عندما قال لى الرجل : «ألسنا نعيش حياتنا ونحن 
نعلم أن الله سيأخذها؟». 
-هل تزعجك فكرة الموت؟ 
كلا ولكنها تحتم على أن أذوق كنه الحياة. . 
- كما وجدتها فى السينما؟! 
لم يعلم بجولاتك فى ميادين الإسكندرية وطرقاتها. وتشوفك الظامئ إلى الوجوه 
الواعدة بالنشوة المستعصية» وتسكعك تحت أشجار الشلالات المترنحة باستغاثئات 
العواطف المشبوبة . العملاق المجنون الذى ينقب عن عقله الضائع تحت الأعشاب الندية . 
وألمح إلى تلك المغامرات بشىء من الإسهاب ولكن فى إطار من حديث وقور يناسب 
العجائب الغامضة . 





5م208 تاذ 


لم أكن فى تلك الليالى العجيبة حيوانا تحركه شهوة» ولكننى كنت معذبا. . 
رياتها » 


7 


كلما رأيتك كثيرا ازددت شهوة 
وكلما ازدادت شهوتى زاد لهيبى 


-يا لها من أغنية متفجرة! . . من المغنية؟ 
-مارجريت . . نجمة «باريس الجديدة» . . 
ونسمت نسمة خريفية فى الحديقة الهلالية التتصميم التى تنبثق وسطها حلبة الرقتص»ء 
وترامت الأنغام من فوق مسرح أحمر الجدران والسقف يشع النور المكتوم من باطن 
جوانبه الملتهبة . 
- إنجليزية التكوين! 
-هذا ما يدعيه صاحب الملهى ولكن حذار فمفهوم إنجليزية فى الملاهى الليلية يمكن 
أتدكله أجناسن شن 
ثمة خطوط رشيقة فى صفحة الوجه ونظرة فى العينين الملونتين وخفة فى الحركة» 
لعل من تضامنها جميعا تنبئق النشوة المستعصية المنشودة . 
-يا بختك فأنت خبير بهذه الجنات المحرمة . . 
-هى ضمن عملى بصفتى المشرف على القسم الفنى بالمجلة! 
- أو عشرون جنيها فى الليلة بخلاف مصاريف الفتح! 
أركانه الأربعة وراء الظلام المحدق بأشجار السرو . 
- توقع من جانبى أى عجيبة . 
- ولكن لا تشرب أكثر من كأس . 
-المهم أن أدعوها إلى المائدة. . 


11100 





تاذ مره 


ومضى مصطفى يبحث عن النادل . وسطعت الحو نفحة زنبقة . وفى فترات الصمت 
بين الغناء تجلت وشوشة الأغصان. وتوثب لطرق باب الهوس . . ورأى أغاطا غريبة من 
البشر فقال لنفسه كال معتذر : هذا ما فعل بنا المرض! 

وجاءت مارجريت تخطر فى ثوب سهرة مختلط الألوان لدرجة الغموض وحيت 
باسمة عن أسنان نضيدة بارزة» وعلى بعد متر وقف النادل شبه منحن كظلها فأمن عمر 
قائلا : 

211 

شربتها أول ليلة زفافك . من أرخص الأنواع كانت هدية مشتركة من مصطفى وعثمان 
معا. ما عسى أن يفعل المسجونون لو تفشى بينهم مرضك الغريب؟! 

ورحب مصطفى بالمرأة ترحيب رجل لا يجهلها ولا تجهله وقال لها: 

مس مارجريت» أعجب كلانا بصوتك . وصديقى معجب بشخصك. والظاهر أنه 

كلما رآك ازداد. . 

وغمز بعينه ضاحكا ثم قال: 

- صديقى محام كبير» أرجو ألا تحتاجى إليه بصفته المهنية! 

فضحك ثغرها ضحكة خالية من الصوت وقالت: 

- إنى أحتاج دائما لمن يدافع عنى» أليش ذلك تعريفا لا بأس به للمرأة؟ 

فقال عمر مستعينا بلباقة خاصة لم تستعمل من سنين طويلة : 

باستثناء من لهن جمالك أو صوتك. . 

وقال مصطفى وعيناه الذابلتان ترمشان فى خبث : 

- دعينى أعرفك أنه بدأ شاعرا وإن لم يصل إلى مستوى «ازدادت شهوتى» . 

تساءلت مارجريت فى حذر وهى تتفحص عمر: 

- شاعرا؟! . . لكنه يبدو رصينا بكل معنى الكلمة؟ 

فقال عمر: 

لذلك سرعان ما هجرت الشعر. . 

- وهو يبحث عن الجمال علاجا لداء طريف ألم به فى الأيام الأخيرة. . 

وانطلقت طقة السدادة وهام فى الكئوس الحباب . 

- أيعنى هذا أننى نوع من الدواء؟ 


فبادرها مصطفى باسما : 





000 النىتّاذ 


أجلء لم لاء من النوع الذى يؤخذ قبل النوم. . 
لا تتعجل » الشفاء لا يجىء بالسرعة التى تتصورها. . 
ودعت الموسيقى إلى الرقص فمضى بها إلى المرقص وعندما أحاط خاصرتها بذراعه 
وهام فى وجدانه شذاها حلا الليل ورقت الرطوبة وازدهرت مجامع الأشجار المتلألئة 
بالأحمر والأبيض من المصابيح . 
- ليكن تعارفًا سعيدا . 
- أنت ظريف بقدر ما أنت طويل . . 
لكنك لست قصيرة . 
- ولكنى أخشى عينيك الحادتين. . 
-ليستا كذلك إلا لأنهما يشتعلان سرورا ولكنى كدت أنسى الرقص ويقيئا أنى لا 
أحسئه . . 
- ألا ترى أنك أطول من أن تحسن الرقص! 
عندما دعانى صديقى إلى باريس الحديدة قال لى : «ستجد غمطا تحبه!) . 
-حتنا؟ 
ما أجمل الكذب فى الخريف! وصفق لهما مصطفى وهما يعودان إلى مجلسهما. 
وأشرق وجه عمر بفرحة ساذجة . 
واسترد فى لحظة معبقة بسحر الليل شباب الزمن الخالى ولمست الخاتم فى يسراه 
متمتمة : 
- متزوج! . . أنتم أيها المتزوجون لا تتركون للعزاب فرصة. . 
فقال مصطفى ضاحكا : 
إنكما تتقدمان بسرعة مذهلة» أراهن على أنكما ستخرجان الليلة معا. . 
خسرت الرهان! 
-لماذا يا عزيزتى مارجريت؟ . . صاحبنا محام لا يعرف التأجيل . . 
- إذن فعليه أن يعرفه! 
اللعنة على التقاليد الجامدة. . 
ولكن عمر قال برقة : 
- على أى حال سيارتى تحت أمرك لتوصلك إلى أى مكان . 
واستقلت معه السيارة ليوصلها وهو من البهجة فى نهاية : 


11100 





تاذ هم 


- إلى أين؟ 

هون اليا .+ 

- ولكن هل رأيت الهرم بعد متتصف الليل؟ 

- لكنها ليلة مظلمة لا قمرفيها: . 

فوجه السيارة نحو الهرم وهو يقول : 

المدينة حرمتنا من جمال الظلام. . 

ل 

فقال مطمئنا: 

- أنا محام» لا رياضى ولا قاطع طريق. . 

والقلب لم يخرج من كهفه منذ مغانى الحدائق وقهوة العائلات. ووجه زينب القديم 
لايكاد يتذكره. وحتى صورة الزفاف لم يلق عليها نظرة حقيقية منذ عشرة أعوام . وأنت 
يا مارجريت كل شىء ولا شىء . إنى أطرق بكل رجاء باب المدينة المسحورة. وها هو 
شعور الهارب يتملكنى . 

فى هذا الخلاء حول الهرم وقعت حوادث تاريخية. 

فأبعدت ذراعه عن عنقها قائلة : 

- لا تفكر من فضلك فى زيادة الحوادث . . 

وضغط على راحتها متنا رغم كل شىء فقالت : 

الأفضل ألا تقف. ألا ترى أن الهواء شديد؟ 

لكننا فى حجرة محكمة! 

ما أكثف الظلمة حولنا! تكاثفى حتى ينسانا العالم وليختف كل شىء عن العين 
الضجرة. آن للقلب وحده أن يرى . أن يرى النشوة كنجم متوهج. وهاهى تدب فى 
الأعماق كضياء الفجر . فلعل نفسك أعرضت عن كل شىء ظمأ للحب. حبا فى 
الحب . توقا لنشوة الخلق الأولى» اللائذة بسر أسرار الحياة» التى خرجت من صراع 
مليون سنة بنبتة باهرة مذهلة . 

فلنبق حتى الصباح . . 

-لا تحلمء وصلنى من فضلك . 

ألم تسمعى عن مغامرات الليل فى الهرم؟ 

حدثنى عنها غدا. . 

ومال نحوها فتبادلا قبلة» وهم بالإعراب عن رغبة أشد ولكنها قالت برجاء: 





045 اذ 


قلت غدا. . 

ولثم خدها بخفة إعلانا عن تراجعه. وتحركت السيارة فوق الرمال. 

- لا تزعل من فضلك . :2 

على أن أذعن للقوائين الأبدية. 

الأبدية؟ 

أعنى قوانين الأنوثة . 

الحق أنى متعبة . 

- وأنا كذلك» ولكنى سأعد مكانا مناسبا . 

انتظر حتى نلتقى . . 

- انتظر قليلا . 

دك م يحدث بائنا لزن لنترق. . 

فقالت وهى تنظر إلى الطريق : 

- نعم . . 

وعندما رجع إلى كورنيش النيل ببجاردن سيتى كان الفجر وشيك الطلوع . تذكر وهو 
فى المصعد زجر الأب فى الأيام الخالية. ولما أضاء نور الحجرة رأى زينب جالسة فوق 
كرسى التسريحة تتطلع إليه بعين كسيرة من الضوء والحزن. وقال بهدوء : 

- كان يجب أن تكونى نائمة. . 

فقالت باسطة راحتيها فى يأس : 

هذه ثالك ليلة. . 

ببرود وهو ينزع ملابسه : 

- شىء لابد منه . ١‏ 

تساءلت فى شىء من الحدة : 

- أهو البيت ما يضايقك؟ 

كلا ولكن الضيق واقع! 

- ليس مكان محدد» سيئما» قهوة. أتجول بالسيارة . 

-وأنا هنا فريسة للأفكار. . 


1110 





اذ 0/1 


- بل يجب أن تنامى ملء جفنيك . . 

- وسوف أمرض فى النهاية . 

اعملى بنصيحتى . . 

وهى تنفخ : 

- أنت تعاملنى ببرود قاتل. . 

لا مراء فى ذلك . رجلك القديم انسلخ من جلده. ها هو يركض لاهثا وراء نداء 
غامض . مخلفا وراءه حفنة من تراب . مسرات الأمس وحتى المدينة الفاضلة . . حفنة 
من تراب . وحتى فتاة النضارة الواعدة عندما دقت أجراس الكنيسة . ونظرت فى عينيها 
الخضراوين بافتتان وقلت: 

الحب يهزأ بالمخاوف. . 

فتمتمت وهى تتعلق بك : 

-ولكن أهلى . . 

_أنا أهلك» أنا كل شىء . وستقوم القيامة قبل أن يتخلى عنك حبى ! 

واليوم تتعلق حياتك بأغنية داعرة . 

- نامى يا زينب رحمة بنفسك وبى. . 

6 6 
ولكن امرأة أخرى التى وقفت فوق المسرح الأحمر وغنت: 
كلما رأيتك كثيرا ازددت شهوة 
وكلما ازدادت شهوتى زاد لهيبى 

ومال نحو مصطفى متسائلا : 

- أين مارجريت؟ 

فغاب مصطفى دقائق ثم عاد وهو يقول: 

- مفاجأة غير سارة . 

-وهى؟ 

-سافرت! 

-أين؟ 

- خارج القطر! 

- وهل يقع ذلك فجأة؟ 





0484 تاذ 


لوح بيده فى استهانة وقال: 


/ 


تلك الدفعة الغادرة إلى الوراء فجرت رد فعل مضاد بقوة مضاعفة . وها أنت 
فى سباق حاد مع الجنون. وغايتك الأخيرة أن تنطلق غصون الشجر. وقد سأله 
مصطفى : 

- أأنت واثق من أن ذلك هو الطريق إلى الشفاء؟ 

ذلك راجح» وليس لدى الآن سواه. . 

وأوقفت السيارة أمام ملهى «كابرى» وقال وهما يمضيان نحوه: 

جربت كما تعلم أشياء وأشياء بلا جدوىء وواتتنى نبضة هامة أمام مارجريت» 

ومارجريت وإن تكن كذبة عابرة ولكن النبضة كانت حقيقية . . 

وجلسا تحت تكعيبة جانبية خافتة الضوء يلوح الجالسون تحتها كأطياف. وقال 
مصطفى : 

أما مدير هذا الملهى فهو صديقك. . 

وأشار إلى طرف المسرح البعيد حيث يقف رجل من النمط الكروى» بدين مع ميل 
إلى القصر برميلى التكوين» ذو وجه أبيض ملىء ينتهى أسفله بلغد غليظ منتفخ كأنه 
قربة» وفى عينيه نظرة نائمة تحت جفنين ثقيلين»؛ وفى جانب فيه انحراف شبه دائم يشى 
بالمرح. رأى الرجل مصطفى فانتقل إلى مجلسه بسرعة لا تناسب ثقله . وعرفه عمرء 
الزبون القديم الذى كسب له قضيتين وصافحهما الرجل بحرارة وجلس وهو يقول: 

-عمر بك . . خطوة عزيزة. . 

وأمر بالويسكى واستطرد مخاطبا عمر: 

- لم أحلم بأن تشرفنى أبدا وإن يكن العاملون هم أجدر الناس بالمرح . . 

وقال مصطفى بلهجة حاسمة : 

- دعنا من الرسميات يا مسيو يازبك . 

نظر إليه بحذر فقال مصطفى باسما : 

- هو ما تظن» آن لك أن ترد الجميل لمحاميك . 


1110 





اذ 2/4 


-عمر يك؟ 
خطر لى أن أسألك عن المرأة التى تراها لائقة به . 
ابتسم الرجل ابتسامة غامضة وقال: 
- تناسبه فى ظنى فتاة مثقفة » بنت ناس » جميلة . . 
- أقصد للحب لا للزواج! 
هو حر يا سيدى . . 
وهل لديك شىء من المثقفات الفاتنات . . ؟ 
فلوح بيد صغيرة ناعمة وهو يقول بفخار: 
كابرى . . كابرى ! 
وأسهب وهو يرمق عمر بنظرة لم يختف منها الشك نهائيا : 
- كانت طالبة بمعهد التمثيل» لم توفق فى السينما ولكنها تعبد الرقص» تألقت فى 
كابرى . . 
-وردة! 
- دون غيرها. . 
وقال مصطفى كال معتذر: 
-لم أرشحها بسبب طولها الذى يصدنى عادة عن المرأة. . 
وأشار يازبك إلى المسرح بثقة والموسيقى تعزف رقصة شرقية. وهدرت عاصفة من 
التصفيق تستقبل راقصة باهرة حقا تأخذ البصر بقامة مديدة قدت على مثال راقص 
مثير» وعينين واسعتين جدا تسيلان جاذبية ناعسة . وقد أضفى جبينها العالى على 
وجهها جلالاً رفعها إلى طبقة أخرى . وتمتم مصطفى : 
هائلة ! 
أنت مطعم ضد الخطيئة الساحرة. . 
-عندى اكتفاء ذاتى وهو عبث شائع بين الأزواج الصالحين. . 
وابتسم عمر وهو يتذكر قول مصطفى من أنه لا يمكن أن يخون زوجته لأنه لم يوفق 
فى الحب إلا معها. ثم غاب عن أصوات المتحاورين وهو يتابع حركات الجسم الفارع, 
وخفته التى تتحدى طوله وجلاله» وسرعان ما عشق ابتسامتها كما عشق شجرة السرو. 
وانتبه على يد يازبك الممدودة ليصافحه مستأذنا فى الانصراف . ولما ذهب تلقى من 
مصطفى نظرة جادة وسمعه يقول محذرا: 





084 اتاد 

- من النادر أن يظفر إنسان بنشوة الحب فى هذه الملاهى . 

فتمتم عمر ساخرا: 

- من جد وصل . . 

- تعلم أننى كلما لقيت زينب هذه الأيام أوجعنى ضميرى؟ ! 

فقال باستهانة : 

- ثمة آلام أعنف من ترف الضمير. . 

وأشار مصطفى إلى المتاعب التى تجىء من وراء العشق» فقال عمر: 

كلمارابك أشن غيل إلى انتى أرس الياة على قدهين :: 

وأقبلت وردة فى حركة نشيطة» بلا تلكؤ أو افتعال» وهى تحدجه بنظرة ثابتة من 

عينيها الواسعتين الرماديتين» وتنشر فى الهواء شذا خصلة من الياسمين مرشوقة فى 

أسورتها. وصافحته وهى تقول بسرور: 

أخيرا وجدت رجلا لا أنظر إليه من فوق! 

وجلست بين الرجلين» ونفضت يدها فتساقط الياسمين فوق غطاء المائدة الأحمر. 
وجاءت الشمبانيا وجرى الحباب . وتبدت وردة رزينة ولكن هت نظرتها الرمادية عن ميل 
مؤجل للمرح . وبادلت مصطفى ابتسامة ألفة ليست بنت ساعتها. واستمعت إلى الثناء 
المنتتظر عن رقصها وجمالها ولكنها جعلت تنظر طيلة الوقت إلى عمر باحترام. 
وتفحصها هو بعناية وهو يسأل الغيب عن الأمل المنشود وراء العينين الرماديتين . أنا لم 
أحضر لأننى أحب ولكننى حضرت لأحب . والبشرة صافية والشذا طيب والعين تحرك 
رموشها الطويلة لتنفث تعاويذها. 

-إذن فأنت المحامى الكبير؟ 

-هذا لا يهم إلا إذا كان لديك مشاكل . . 

- مشاكلى لا تحل بالقضايا ويا للأسف. . 

وما وجه الأسف؟ 

- كان يمكن أن تحل على يديك . . 

فقال مصطفى ضاحكا : 

إنه جدير بالثقة فى المحكمة وخارجها. 

ورمق بحب استطلاع عنقها الطويل المطوق بعقد لؤلؤى بسيطء وأعلى صدرها 
المنبسط فى رحابة» ونضارة الجنس التى تنضح بها شفتاها الممتلئتان الملونتان والنظرة 
السائلة من عينيهاء فنبض وجدانه بشوق غريب غير محدودء وتلهف غامض كالذى 


1110 





4١ تاذ‎ 


يساوره فى آخر الليل . وود أن يخاطب الأعماق وأن تخاطبه الأعماق بلا وسائط» وأن 
يجد إن خانته النشوة المنشودة بديلا فى لذعة الجنس السحرية . الذروة المتفجرة التى تمتص 
رحيق الحياة وأحلامها فى رشفة واحدة زائلة» وقلق من التلهف والترقب ودغدغة 
المغامرة. ومن سورة الشراب بلا حيطة . ومن شذا الياسمين المضغوط تحت قاعدة 
الكأس. ومن نظرة وردة الموحية بالقبول. ومن نجم يومض من خلال ثغرة فى التكعيبة» 
وقال لها عندما أذنت السهرة بانتهاء : 

- نذهب؟ 

وودعهما مصطفى وذهب . وتأثرت وردة لمنظر الكاديلاك التى وقفت كفيلة أنيقة . 

-أين مسكنك؟ 

- غير ممكن» أليس لك بيت؟ 

- فيه زوجة وابنتان. . 

-إذن وصلنى لمسكنى كما يفعل الخياليون. . 

انطلق إلى صحراء الهرم بسرعة جنونية . واستكن فى الخلاء كليلة مارجريت وتربيع 
القمر يتهاوى إلى المغيب. وضمها إليه بذراعه وتناول قبلة رشيقة كافتتاحية . ثم تبادلا 
قبلة طويلة تحدوها حرقة صراع فى مستوى القمر. وهمسث فى تنهدة : 

-هذا حسن. . 

فضمها إليه بشغف تمادى فى خلوة الصحراء وأصابعه تتخلل شعرها المضىء بشعاع 
القمر. وهمس بصوت غريب لاهث : 

-عندما يطلع الفجر. . 

وألصق خده بخدها وراحا ينظران إلى القمر الناعس فى مستوى البصر ويتابعان 
شعاعه الوانى المنطرح فوق الرمال. سوف يسحب ذيوله قبل أن يروى القلب الظامى. 
ولاامن قوة تستطيع أن تستديم اللحظة الإلهية . اللحظة التى وهبت الكون يوما سرا 
جديدا. وها أنت تقف على أعتابها مستجديا. وتبسط يدك فى ضراعة للظلمة والأفق. 
والغيابات التى يهبط إليها القمر. لعل قبسا يشتعل فى صدرك كما ينبئق الفجر. 
وتتوارى مخاوف الإفلاس والعدم . 

- أأنت خيالى؟ 

بعيد عن ذلك لحد المرض . 

وهى تضحك : 

ولست من الذين يضربون النساء؟ 





42 
الخ ه 8 
01 


145 


-ولا الرجال. . 

- هذا حسن . 

وهو يضمها إليه أكثر : 

- ولكنى شرعت يوما فى القتل ! 

- بسبب امرأة؟ 

-كلا. 

- لا تتحدث هكذا أمام القمر. . 

وأخيرا قررت أن أقتل نفسى . . 

-بين يدى؟ 

-بين يديك . 

- وأمام القمر؟ 

-هاهو القمر يختفى . . 

عندما رجع إلى مسكنه وأضاء المصباح فتحت زينب عينين جامدتين . حياها بلا مبالاة 
فقالت بنبرة متوترة : 

- اف ا 

فاجاب ببرود: 

5 

- لم أسمع منك هذه اللهجة منذ تزوجتك . 

وارتدى بيجامته فى صمت فهتفت : 

- لم أسمع أبدا. . 

فتمتم واجما: 

هكذا المرض . 

وكيف لى باحتمال الحياة؟ 

- نهارى منغص فلا تنغصى ليلى . . 

- البنتان تسألان. . 

-آه. . فلنواجه الأزمة بشىء من الحكمة. . 

وهى تدفن وجهها فى الجدار: 


1110 





تاذ وه 


- لو كان لى مكان. . 
أطفأ المصباح واستلقى مغمض العينين . لن تلبث أولى حركات الصباح أن تسمع. 
ودموع ولااشك تسفح إلى جانبى. على حين ترقد الخيانة مدفونة كحشرة. وما 
هى إلا لحظات حتى يموت الوجود. مقطوعة من شجرة» لم يعد لها أحد سواك. يا 
للعجب من أين لك هذا التصميم كله؟ !ونشوة الليلة مجنونة كالبرق فكيف تملا فراغ 
الحياة؟ 
ويوم الجمعة سعى إلى بثينة فى الشرفة وهى تسقى أصص الورد. طالعها بابتسامة 
مرتبكة فوثبت نحوه مرحبة وأولته خحدها ليلشمه . ورغم إشراقها لمح فى نظرتها المتهربة 
عتابا كالعبير الوانى 
ا 
ل وبحاجة إلى سماحة تفهمنى ! 
وعادت إلى أصص الورد فسألها: 
-هل أنت بخير؟ 
نعم . 
ثم بعد تردد قالت : 
ماما ليست كذلك. 
- لها حق ولكن سيتغير كل شىء بالسماحة الواجبة. . فأشارت إلى ياسمينة لا تكاد 
ترى وقالت بفرح: 
- أول ياسمينة»؛ صغيرة جدا ولكن رائحتها قوية» هل أقطفها لك؟ 


ما أغرب الذهاب كل يوم إلى المكتب . مكان غريب لا معنى له فمتى توجد الشجاعة 
الكافية لإغلاقه . وقال له الوكيل : 

- كل يوم أعتذر عن قضية» ألم تسمع عما تعانيه المهنة؟! وكدت أصبح بلا 

نشاط . . 

وغيره يتتحمل عبء العمل فى الواقع وهو بالكاد يوجه أو يرجع . وتحدق فيه من 





الث > 9 
4 


15 


الجدران أعين قاتمة والهواء راكد عفن. وفى الخارج استغرقه إحساس خلاق لتجهيز 
الشقة الحديدة بميدان سليمان باشا. وقال لوردة: 

-إنى سعيد بتجهيز عشنا فإن الهرم لا يصلح للشتاء . 

فتساءلت وهى ترقص بكتفيها مع أنغام الجاز تحت تكعيبة كابرى : 

- وهل يدوم اهتمامك بى حتى الشتاء؟ 

فرفع كأس الشمبانيا قاتلا : 

- فى صحة اهتمام دائم . . 

ولمح على البعد يازبك فى وقفة مراقبة فخيمة فتبادلا ابتسامة ثم وضع راحته على يد 
وردة وهويقول: 

-إنى مدين له حقا. 

- هو خفيف وطيب بالقياس إلى أمثاله» ولكنه جشع كالمنتظر. . 

- ولكننى زبون شمبانيا! 

فقطبت بلطف قرن بين حاجبيها وقالت : 

- من الإسراف أن تجىء كل ليلة! 

فتورد وجهه بهجة وهتم : 

-يا لها من تحية بيضاء! 

وهى تحاصره بعينيها : 

- ألم يشهد بذلك الهرم؟ 

-بلى يا عزيزتى» وهو من ناحيتى ليس اهتماما كما قلت ولكنه. . . 

فأسكتته بضغطة على يده وقالت: 

- لا تسمهء دعه يسمى نفسه فهذا أجمل . . 

-أنت ظريف لحد الجنون! 

- ولا ثقة لى فى الكلام إذ إننى فى الأصل ممثلة . . 

وسيدة بكل معنى الكلمة . . 

- شكرا ولكن الفن سيى السمعة عند الكثيرين» ولذلك انفصلت عن أهلى» ومن 

حسن الحظ لا أب لى ولا أخ. . 

فتفكر لحظة ثم قال: 

التمثيل بلا شك أفضل من الرقص فى كابرى . . 


1110 





المتاد 4 


-لم أحبه كما يجبء وقيل لى إننى بلا موهبة» وعشقت الرقص طوال الوقت»ء 

فكانت كابرى وكان ما لابد منه . 

فقال بحرارة: 

- ولكن لك قلب من ذهب! 

-لم أسمع ذلك من قبل. . 

وكلف أكثر من رجل بالقيام بعمل فى تجهيز الشقة الجديدة. والأثاث والديكورات 
والبار والتحف . وفى أقصر مدة ممكنة تكونت على أجمل صورة حجرات للنوم والسفرة 
والمدخل» وحجرة شرقية تحيى فى الخيال أحلام ألف ليلة. وأنفق بلا حساب وكأنه 
يتخلص من ورم مالى أليم . وراح يتابع عينى مصطفى المنياوى وهما تجولان فى الأركان 
ذاهلتين» وعندما سددهما نحوه قال : 

خخير من اللوم أن تحدثنى عن معنى الحياة! 

الحياة! 

- سأدق الجدار الأصم فى كل موضع حتى يرن صوت أجوف يثى بالكنز المدفون! 

فهز مصطفى منكبيه فى تسليم قائلا : 

من الجنون ما هو جميل . . 

-لم أعرف للحياة طعما كما عرفتها فى الأيام الأخيرة ولذلك لا أبالى شيئا. . 

قال مصطفى مبتسما: 

-يازبك قلق متشائم ما يقطع بإخلاص الفتاة! 

-هى إما بسيطة مخلصة وإما أنها أعظم ممثلة. 

لكنها تمثلة فاشلة! 

وبهرها المنظر عند دخولها الشقة لأول مرة» وهتفت بإعجاب: 

-ذوقك شمبانيولى حقاء ولكنك مسرف! 

وهو يقبلها قبللات متقطعة : 

أليس هو عشنا؟ ! 

- ولكننى لا أريد أن أرهقك» ويجب أن تفهمنى على حقيقتى . . 

-لولا فهمى حقيقتك ما فعلت شيئا. . 

فضحكت بدلال وقالت: 

- أنت المسئول وحدك عن فهمك . . 





5؛َُ0 ىتاذ 


- والهرم؟ 

-عندما نصرخ للسعة نار فلا يعنى هذا أن الصراخ من طبيعتنا . . 

- رفضت أن أخرج مع أحد وليعض الأرض . 5 

- فليعض إلى ما شاء الله . . 

-سوف أقصر عملى فى كابرى على الرقص . . 

- خبرينى أأنت مستصفاة من ماء الورد؟ 

فمضت وهى تقول : 

وبدل ثيابه . وشعر بأن الجلباب كان أليق بالحجرة الشرقية من البيجاما. وقلب عينيه 
فى المكان الأنيق بارتياح وسعادة. وقال إن السعادة وحدها كفيلة بشفائه ولوتساهل فى 
الرجيم والشراب. وتملكته روح دعابة فتساءل بصوت مرتفع جدا: 

ماذا يفعل ماء الدش؟ 

فجاء صوتها من وراء الباب : 

-غاية فى سوء الأدب . 

وفتح باب الحمام فمرقت منه متلفعة ببشكير» وهرعت إلى حجرة النوم ثم ردت 
بين يديه ما ينشده. ما داس قلوبا صديقة فى سبيله . وما علمه الاستهتار القسوة. وألا 
يزول على غير انتظار كما زالت مارجريت. وزميلك المحامى الكبير قال لك فى 
مكتبك : 

تتراءى هذه الأيام أنيقا أكثر مما ينبغى لمحام قدير ناجحم؟ 

فقلت ضاحكا: 

ونظرت إليه بريبة جديرة برجل ماجن عشيق ولكنه سرعان ما غير الحديث راجعا إلى 
حديث السياسة المفضل عنده فسأله : 

ماذا يفعل الناس فى هذه الأيام؟ 

فأجبت دون مبالاة بالسياسة : 

-إنهم يبحثون بجنون عن النشوة . 


011100 





َتاذ 047 


ولم يفهم . إنه زير نساء ولست كذلك. لست ماجنا ولا عابئا. ولكن منذا يفرق بين 
قاتل وعابد. أو يصدق أنك تقيم للعربدة معبدا؟ 

وفتحت باب الحجرة نصف فتحة ثم أبرزت رأسها قائلة : 

- ريبما طال وقت الزينة وأنا فى حاجة ماسة إلى قبلة . 

فهفا إليها. وأخذ خديها بين راحتيه حتى برزت شفتاها مضمومتين فقبلهما قبلة 
طويلة وهو يشم بتلذذ رائحة الصابون الزكية وشذا البشرة الادمية. وهمس: 

-هل أدخل؟ 

فدفعته ضاحكة وهى تقول: 

لا تكن بدائيا. . 

عاد إلى ضجعته فوق الديوان. ورأى أمامه الدولاب الملون الجامع للراديو 
والتليفزيون بين جناحيه فقام وأدارهما معا فى فرحة طفولية فتلاقت فى أذنيه ضجة 
متداخلة مناقشة عن جرائم الأحداث مع ما يطلبه المستمعون» ثم أسكتهما دون أن 
يتخلص من عبثه الطفولى فمضى إلى الباب المغلق ونقر عليه فجاءه الصوت : 

دهه! 

أحبك . 

- من كل قلبى . 

- ما أعز أمنية فى حياتك؟ 

-الحب. 

فتمادى فى عبثه البرىء متسائلا : 

-هل فكرت يوما فى معنى الحياة؟ 

-لا معنى لها إلا الحب. 

وهل فرغت من زينتك؟ 

- لم يبق إلا القليل. 

فاستطال تماديه وهو يسأل: 

- عزيزتى ألا يقلقك أن نعبث والعالم من حولنا يجد؟ 

وهى تضحك عاليا: 

ألا ترى أننا نجد والعالم من حولنا يعبث؟ 

- من أين لك هذه البلاغة؟ 





0014 تاذ 


عندما يطوى الليل ستائره ويدركنا الفجر بلا رحمة فلا مفر من الرجوع إلى الحجرة 
الكئيبة» حيث لا نغمة ولا نشوة. ستطاردك عينان حزينتان وجدار صخرى. ثم ترن 
أوتار الحكمة الكالحة باعثة كلمات تقريع جامدة خشنة كغبار الخماسين. ليكن ردك 
حازما قاصما كنفورك : 

- لا تزعجينى . 

ولتصم أذنيك عن أى كلام . 

- انزلى على حكم الأمر الواقع» وأبعدى البنت عن مجال نزاعنا . 

ولا تتراجع إذا تساءلت عن علة تغيرك . 

ظى كما تشائيق+ الملل كره إلى الاعتذار. 

وفتح الباب وخرجت وردة كأبهى ما يكون. 

- كيف ترانى يا عزيز القلب؟ 

رنا إليها طويلا فى انبهار» ثم غمغم : 

- دعينى أكون جملة لم يسبق ذكرها على لسان . 


١ ٠ 


جلست قبالته فى الشرفة» جلسة يوم العطلة» فقال لنفسه بعد ارتياح : حقا لم أرها 
منذ أسبوع كامل . و ألقت الشمس على حجرها وساقيها فيضا من شعاعها الذى يبرق 
لألاء فوق سطح النيل. ومن عجب أنه لم يعد يذكر كثيرا عن طفولتهاء وهل كانت 
عفريتة كجميلة» ولكنها اليوم فتاة جميلة» ذكية مجتهدة وشاعرة» ومثال للأناقة . وأما 
فكرة أنها تكرر صورة قديمة لأمها فلتطردها عن ذهنك . 

أنت جادة أكثر نما ينبغى لشاعرة! 

وصاحت جميلة وهى تقف على عتبة الشرفة متحدية : 

- شاعرة! 

هددها بإصبع ثم عاد إلى بثينة التى توجس وراء مظهرها الجحاد زعلا أو احتجاجا. . 


11100 





تاذ 04 


- وأنت أنحف مما يجوز كما أن أختك أسمن مما يجوزء ماذا تأكلين؟ وماذا تأكل؟ 
وصاحت جميلة : 

- تأكل! 

وجاءت أم محمد فحملتها رغم المقاومة وذهبت. وقالت بثينة : 

- ماما مريضة! 

ماما بخير» حدثينى عن نفسك . 

- لااشىء مهم ولكن ماما ليست بخير. 

-لن تكف عنك المطاردة فى هذا البيت . وأنت ألا يشغلك حقا إلا الشعر والرياضة 
والكيمياء؟ وهل الله وحده هو معشوقك؟! 

- ألا يعجبك الحديث عن ماما؟ 

فقال مقطبا: 

- لم تعد تفهمنى فى مرضى . . 

والتقت عيئاهما الحظات فحول بصره إلى النيل منهزما . 

- ولكن الدكتور يا بايا. . . 

-الحق أننى الطبيب ولا أحد سواى . 

- معذرة فقد عودتنى على الصراحة معك . 

-بلا شك . 

وإذا بصوت رفيع حاد يصرخ : 

شلك 

فقبض على ذراع الصغيرة حتى جاءت أم محمد فذهبت بها . 

-هل أصبحنا نسبب لك الكدر؟ 

- لا سمح الله لكن الإنسان يهاجر إذا ضاق بنفسه . 

- إنها تبكى كثيرا وهذا مؤلم جدا. 

عليك أن تقنعيها بخطتها . . 

فقالت وهى تعبث بأسورة ساعتها الذهبية : 

- لكن معاملتك لها تغيرت» وقلت لها بخشونة إنك ستفعل ما يحلو لك! 
أقالت ذلك أيضا؟ 





7 تاذ 


-أنا الوحيدة التى يمكن أن تشكو لها! 

انقبض قلبه وتمتم : 

لكنه الغضب كما تعلمين . 

-هى على أى حال مستعدة لأن تخفف عنك ضيقك بما فى وسعها. . 
- ليس فى وسعها شىء! 

وترددت لحظات ثم قالت: 

ألا تقدر أنها ريما تظن. . ؟ 

أليس من الأفضل أن تطلعينى على آخر أشعارك؟ 

لا جديد. 

-ربما تظن أن. . كما تعلم؟ 

- أهى تصارحك حتى بالمخاوف السخيفة؟ 

- إنى حزينة حقا. 

فقال وهو يشعل سيجارة : 

- أوهام سخيفة . 

-إنى أصدقك. أنت مثال أبدى للصدقء» أهى مجرد أوهام؟ 
ها أنت محاصر فى ركن صلد. 

أمك أزعجتك أكثر نما يجوز . 

-قل إنها أوهام. . 

فرمقها بعتاب ولكنها تجنبته ناظرة إلى النيل وهى تسأل : 

- ليس هناك امرأة؟ 

وإذا بالصوت الرفيع يعلو: 

-امرأة . 

رفعها هذه المرة إلى حجره كأنما ليحتمى بها وراح يداعبها بشىء من العنف الأبوى 
- أريد جوابا يا بابا. 

ماذا تظنين بوالدك؟ 


1110م 





00 
١ ال‎ 
4 


-إنى أصدقك فتكلم . . وحياتى عندك تكلم . . 
وفى يأس شديد قال: 
دلا شو 
تهلل وجهها فاربد قلبه . والتمعت عيناها بفرحة ظافرة فتجهمت الدنيا. وتجلى 
الخريف فى الجو. وانتشر فى أعالى الشجر اصفرار باهت. وعكست قوافل من 
سحب بيضاء نصاعتها فوق الماء الرصاصى . وتضمن الفراغ الخابى أنغاما صامتة 
من الرقة والحزن. وأسئلة مضنية عسيرة الجواب. وتضخمت كذبته حتى أنذرته 
بالعدم . 
ومن شدة ضيقه زار مصطفى بمكتبه بالمجلة . وتجدد النقاش بلا نتيجة وقال له 
مصطفى : 
- لقد جاريتك وساعدتك على أمل أن يبين لك عبث المحاولة ولكنك غرقت . . 
فهتف متنهدا : 
- ألا تعلم أنى أعيش الفن الذى تلهفت يوما على خلقه؟! 
وأكمل مصطفى صفحة بين يديه ثم بعث بها إلى المطبعة» وقال: 
كثيرا ما خيل إلى أنك تعانى أزمة حادة لفن مكبوت! 
فرفض ذلك بهزة من رأسه وقال: 
-لاء ليس الفنء ربما هو ما نلجأ بسببه أحيانا إلى الفن. 
فتمهل مصطفى قليلا ثم قال : 
لعله لو كنا من العلماء الذين ينفقون عشرين عاما من العمر فى البحث عن معادلة لما 
عرفت التعاسة إلى نفوسنا سبيلا. . 
فقال وهو يهز رأسه أسفا: 
- لعل سر شقائى أننى أبحث عن معادلة بلا تأهيل علمى . . 
مصطفى وهو يضحك : 
- ولأنه لا يوجد وحى فى عصرنا فلم يبق لأمثالك إلا التسول! 
- التسول! فى الليل أو النهار. . فى القراءة المجدبة والشعر العقيم. . فى الصلوات 
الوثنية فى باحات الملاهى الليلية. فى تحريك القلب الأصم بأشواك المغامرات 
الخيمية: 
وتحدث مصطفى عن زينب فقال إنها تعانى مرارة الهجر ومتاعب الحمل معا. أجل 





.3 اتاد 


كم أنها متوعكة ولكن ما لقلبه قد تحجر وهو مستعد أن يجود لها بكل غال تحت شرط أن 
تحرره من استغلال حب ميت . ُ 

- أجل . . هناك امرأة ما دمت تصرين على أن تعرفى . . 

والكراهية نبتت فى مستنقع آسن مكتظ بالحكم التقليدية والتدبير المنزلى . ولا عزاء 
فيما بلغناه من ثراء ونجاح فالعفن قد دفن كل شىء . وحبست الروح فى برطمان قذر 
كأنها جنين مجهض . واختئق القلب بالبلادة والرواسب الدسمة . وذبلت أزهار الحياة 
وتهاوت على الأرض ثم انتهت إلى مستقرها الأخير فى مستودعات الزبالة . 

- ابكى ما شاء لك البكاء ولكن عليك أن تسلمى بالأمر الواقع . 

فقدقتل الضجر كل شىء . وانهارت قوائم الوجود بفعل بضعة أسئلة. وقلت له 
تصور أن تكسب القضية اليوم وتمتلك الأرض ثم تستولى عليها الحكومة غدا فقال لى 
ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها؟ 

وكان فى مكتبه يراجع مذكرة فى فتور عندما دخل الساعى ليستأذن للمسيو يازبك . 
ودخل الرجل يتقدمه كرشه فسلم وانحنى ثم جلس وهو يقول : 

مررت بميدان الأزهار فقلت أزور وأحيى. . 

فقال عمر بسخرية باسمة : 

- قل إنك جئت من أقصى الأرض من أجل وردة! 

- عزيزى الأفوكاتو العظيم» أنت تعلم أن حديقتى ملأى بالورد. . 

حسن»ء وإذن لا تتكلم عن وردة كلمة واحدة. . 

فابتسم ابتسامة عريضة وقال: 

- من الحمق أن أتصور أنه يمكن أن أغلبك» ولنتقدم فى أقصر طريق بين نقطتين. . 

أفندم؟ 

ثقلت جفونه وقال جادا : 

- وردة لم تعد تقوم بواجباتها. . 

- أعليها واجب غير الرقص؟ 

-سيدى» أنت لم تشرف كابرى تلك الليلة لترقص أو لتشاهد الرقص . . 

-وإذن؟ 

- قلت أشكو إلى الرجل الكبير. ‏ 

فقطب عمر ولم ينبس » فقال الرجل : 

-الشغل شغل يا عزيزى الكبير وأنا أحب . . 

11100 





تاذ > 


فقاطعه ببرود: 

- افعل ما تراه فى صا حك يا مسيو يازيك . . 

-إنى أتحاشى إغضابك . . 

لكنى أنتحل لك العذر مقدما. . 

فأحنى الرجل رأسه ممتنا وقال: 

- وأعدك منذ الآن أن أعيدها إلى العمل إذا استغنيت عنها مستقبلا . . 

-لن يجىء هذا اليوم يا مسيو يازيك . . 

أصدق تمنيات السعادة يا شيرى! 

وهم بالقيام ولكنه استمهله بدافع عبثى مما يلم به دون تمهيد» وسأله: 

- خبرنى يا مسيو يازبك ماذا تعنى لك الحياة؟ 

رفع الرجل حاجبيه الخفيفين دهشة » ولما قرأ الجد فى وجه صاحبه قال : 

الحياة هى الحياة . . 

- أأنت سعيد؟ 

الحمد الله أحيانا يصاب الموسم بالركودء أو يصيب الملهى غرام مفاجئ كغرام 
وردة» ولكن القافلة تسير. . 

- لكنك تعيش حياتك ثم يأخذها الله؟ 

- هذا مفهوم طبعاء ولكن بيتى جميل» والمدام عال» ولى ابن وحيد يتعلم الكيمياء 
فى سويسرا وسيعيش هناك . . 

وهو يبتسم : 

هل تؤمن بالله؟ 

فأجاب الرجل بدهشة : 

- طبعاء يا له من تحقيق طريف ! 

- إذن فقل لى ما هو الله؟ 

ضحك الرجل عالياء وأزالت الأسئلة الغريبة الكلفة فسأل برجاء: 

-هل يطول غرامك بوردة؟ 

طبعا. 

-ألا يمكن. .. 

فقاطعه قائلا : 





الم 2 
2 


16 


أعدك إذا أخبرتنى ما هو الله أن أتركها لك فى الحال! 


نهض الرجل » وانحنى مرة أخرى» وقال وهو ينصرف: 
- ستجدنى دائما فى خدمتك . 


1١١ 


قبلها بشغف وامتنان وهو يقول: 

- إنها لتضحية جسيمة أن تهجرى عملك! 

فقالت وعيناها الواسعتان تلمعان بأنداء دموع : 

-من أجلك . 

وعبقت الحجرة الشرقية بأنفاس الحب . وقال إنه ما كان يظن أنه سيحبها بكل هذه 
القوة. 

وأخرجت من جيب الروب علبة كحلية وأهدتها إليه فى حياء. . هدية أزرار ذهبية 

ندت عنه آهة فرح كأنه سيستعمل الذهب لأول مرة. 

٠. ١ د حبيبئى‎ 

-الزرار كما ترى مكون من قلبين. . 

- ذلك أن قلبك من ذهب كما قلت لك. .. 

وراحت ترجل شعره الأسود الغزير بأصابعهاء ثم سألته: 

- لم أتيت اليوم بملابسك وبدلك؟ 

فتجهم وجهه وقال بنبرة زايلها تطريب الغرام وحنانه : 

هجرت بيتى نهائيا . . 

فهتفت بدهشة : 

الا 

-هو الحل الوحيد. 

-قلت لك إننى لا أحب أن أسبب لك المتاعب . 

- لندع هذا الحديث جانبا. . 


1110 





تاذ > 


تكهرب جو الحجرة فى سكون الفجر. رمته بنظرة يائسة وغاضبة من عينين دمعت 
أسفلهما لطختان زرقاوان. ما أبشع شراسة الغضب فى وجه ظل أليفا طيلة عشرين 
عاما. 

- ألم أنصحك بأن تروضى نفسك على قبول الواقع؟ 

- بل قل إنك تلطخ كرامتك مع امرأة ساقطة! 

-انظر إلى الأحمر فى منديلك» ما أقذر هذا! 

وأعماه الغضب فصاح : 

فليكن » وماذا بعد؟! 

-إنى أدفع عن نفسى الموت. . 

ألا تخجل؟! إنى خجلة من أجلك . 

- قبول الموت أدعى للخجل . . 

وسقط رأسها مع دموعها وهى تقول بصوت مختنق : 

- عشرون عاما دون أن أعرف قذارتك . . 

فقال بجنون: 

- إذن فلتكن النهاية. . 

- ساهيم على وجهى . 

وارتميت على مقعد بحجرة الجلوس مغمض العينين من الألم . ورفعت رأسك على 
حس فإذا بثينة واقفة أمامك» ناعسة العينين من أثر النوم. شاحبة الوجه. ترمقك فى 
خزى لم تشعر به من قبل . 

- آسف يا بثينة على إزعاجك . 

لا فائدة من الكلام . 

ناءت بالأرض التى تحملها فوق عاتقها ولم تنبس . 





30 تاذ 


- ستظل أمك فى البيت محاطة بكل رعاية. . 

ودعا الله فى سره ألا تبكى . وتمتم : 

-إنه بلاع» ولكنى أدفع عن نفسى ما هو أشد. 

ونظرت فى عينيه بنظرة حزينة جدا وقالت: 

- ولكنك قلت لى «/22") . . 

وهو يتنهد محترقا : 

كان الصدق غير لاتق . 

-لماذا؟ 

فقال برجاء: 

فلنبق على ما بيننا من حب . 

وذهبت . ليس من الممكن أن تتلقى نظراتها مرة أخرى قبل أن تصفح . 

وقالت وردة: 

- سوف تندم على قرارك . 

-كلاء لم أعد أطيق الحياة الكاذبة . 

وفكرت فى قلق ثم تساءلت : 

-كم أخشى أن أفشل فى إسعادك . 

- لكننى سعيد بالفعل . 

وأسلم نفسه للسعادة. ولم يسمح لأى فكرة معادية بأن تكدر صفاءه. وتوقع من 
بادئ الأمر معارضة من ناحية مصطفى ولكنه شكمه بلا تردد وقال له: 

-إنى سعيد فهل تكره ذلك؟ ! حتى شىء من الشعر يتحرك فى أعماقى. . 

وحتى العمل انفتحت له نفسه بعض الشىء وإن ظل على تحفظه فى قبول القضايا. 
وفى أويقات الراحة بين العمل كان يجدد نشاطه بمحادثتها عن طريق التليفون. ثم يهرع 
إلى عشه ليجده فى صورة باهرة» وتطالعه صاحبته بوجه يتألق بالسعادة. وكانا يفضلان 
الحياة فى الحجرة الشرقية» وفى بعض الأحيان ينطلقان إلى أطراف القاهرة» إلى ملتقيات 
العشاق» أو يقومان برحلات ليلية إلى الفيوم أو استراحة الطريق الصحراوى. ولما 
علمت بماضيه الشعرى الذى بشر ببعث جديد عملت على إيقاظه بمحفوظاتها المترعة. 
وكانت تحفظ تمثيليات شوقى منذ عهد دراستها بالمعهد كما حفظت الكثير من أشعار 
الغزل. وقال لها بإعجاب: 

-ما أجمل حبك للشعر! 

110 





اتاد .+ 

فحثته على تجديد شبابه الشعرى ولكنه قال بحذر: 

- الشعر جميل ! ولكن أجمل منه أن نعيشه! 

وقالت له يوما: 

اكالم الى هو ماضى! 

فقال وهو يقبلها: 

-عندما تحل بنا بركة النشوة يملؤنا اليقين فلا نسأل عن شىء . 

ولكنها كانت راغبة فى الحديث عن ماضيها فقالت: 

- كان أبى مدرس لغة إنجليزية» من المدرسين الذين لا ينساهم تلاميذهم» ولو كان 
على قيد الحياة يوم أعلنت رغبتى فى دخول معهد التمثيل لشجعنى وباركنى» ولكن 
أمى سيدة متدينة جدا وضيقة العقل جدا فدخلت المعهد على رغمهاء ولما قررت أن 
أحترف الرقص ثارت على» وثار معها أخوالى وعم عجوزء وانتتهى النزاع 
بالقطيعة» فهجرت أهلى . 

-وكيف عشت وحدك؟ 

- قاسمت زميلة من ممثلات المسرح بيتها . 

وراح يداعب يدها البضة بإعجاب» ثم سألها : 

أكنت تحبين الرقص من أول الأمر؟ 

- كنت أحبه ولكنى حلمت بأن أكون ممثلة» وبذلت جهدى ولكنى فشلت فقنعت 
تاكن الأول : 


وتجهم وجهه وهو يسأل: 

- وهل استبد بك يازبك؟ 

الحق أنه ألطف من غيره» ولم أكن أجهل ما يعنيه العمل فى ملهى ليلى ! 
ثم بحرارة صادقة : 


- ولكنك حبى الأول والأخير. . 

فضمها إليه ضمة امتنان» وسأل : 

- ولماذا لم ترجعى إلى أمك عقب فشلك فى التمثيل؟ 

- كان قد فات الأوان» ولى كبريائى . وقد زاد من حدته الفشل! 

الفشل! اللعنة التى تدفن ولا تموت . ما أفظع ألا يستمع لغنائك أحدء ويموت حبك 
لسر الوجودء ويمسى الوجود بلا سر وتبعث الحسرات يوما لتخرب كل شىء . 





4 تاذ 


وشهد مكتبه زيارات خطيرة من خاله وأخته الوحيدة. وضرعا إليه ألا يتزوج من 
(الراقصة» . وقال له خاله حسين كرم المستشار: 
- استمرار هذه العلاقة سيحول دون اختيارك مستشارا يوما ما. 
-ما فكرت فى ذلك ولا أردته . 8 
دافع عن سعادته بكل قواه. وبقوة اليأس الذى خنقه . وتبدى كطفل برىء دائم المرح» 
حتى قال له مصطفى ضاحكا : 
خبرنا الآن عن معنى ا حياة . 
- هذا السؤال لا يلح علينا إلا حينما يفرغ قلبنا. 
الرنين الأجوف لا يصدر عن إناء ممتلىئ . ولذلك فالنشوة هى اليقين. ولذلك فإن 
أملى الأخير أن يجود الحب بنشوة دائمة . 
وقال مصطفى : 
أحيانا أرثى لك وأحيانا أغبطك! 
فلمعت عيناه فى انتصار فاستطرد مصطفى : 
الخماسين أنى أطوى جوانحى على فشل قديم» وربما اعترضنى سؤال شيطانى عن 
وسفعت رياح شتوية نوافذ المكتب وانقلب الأصيل ليلاء فاستطرد الذى يتحدى البرد 
بصلعته : 
-لماذا نسأل؟ الحكاية أن العقيدة كانت تعطينا معنى متكاملاء وأننا نحاول أن تملأ 
الفراغ تحقيقا لقانون طبيعى» وأمس ثرت على لحظة ضعف ألمت بى وقلت إن 
تعليقاتى الفنية لها معنى » وبرنامج الماضى والحاضر بالراديو له معنى» وتقثيلياتى فى 
التليفزيون لها معنى» ولا يحق لى أن أسأل بعد ذلك . 
وتمادى فى تعداد انتصاراته قائلا : 
رئيس التحرير أن أسجل الليلة فى «خبر الأسبوع الفنى». أما ابنى عمر الذى سميته 


1110 





الحّاذ 5ت 


للأسف باسمك فمراهق شكس ء واهتمامه بالكرة يماثل اهتمامنا القديم بقلب 
العالم رأسا على عقب . 

قلب العالم رأسا على عقب . انتهى فى السجن . وسوف يخرج يوما ما. بعد بضعة 

أعوام . وسوف تتلاقى الأعين فى دهشة مزعجة . فليكترث بذلك غيرى . 

وقال مصطفى بلهجة أكثر جدية : 

- اقترح على رئيس التحرير أن ألقى محاضرات عن التوعية الاشتراكية على موظفى 
وعمال الدار. . 

-بأى صفة؟ 

- بصفتى اشتراكيا عتيقا! 

- وقبلت طبعا؟ 

طبعاء ولكنى أتساءل : ما دامت الدولة تحتضن المبادئ التقدمية وتطبقها أليس من 
الحكمة أن نهتم بأعمالنا الخاصة؟ 

- كأن تبيع اللب والفشار وتتساءل عن معنى الوجود! 

- أو أعشق لأبلغ اليقين! 

- أو تسقط مريضا بلا علة! 

وراحا يدخنان فى صمت . وإذا بعمر يسأله : 

- كيف حالهم؟ 

ابتسم مصطفى وقال: 

- زينب عال! استردت رصانتها ولكنها مرهقة بالحمل» وثمة خبر يجب أن تعلمه! 
تجلى اهتمام فى عينيه فقال الآخر : 

- إنها تفكر فى أن تبحث عن عمل بعد الولادة . 

لوح بيده ممتعضا فاستطرد مصطفى : 

- مترجمة مثلاء أخشى أن تصمم يوما على هجر البيت. . 

- لككتة بها :..: 

فحدجه بنظرة ساخرة وقال: 

- بثينة مستغرقة فى دروسهاء وجميلة توشك أن تنساك! 

فغض بصره فى ارتباك فعاد مصطفى يقول : 

- أنا أقوم بالواجب ولا أتوانى عن نقدك مر النقد! 





٠ 4 


316 ا 
منافق عتيق . . 
أما زوجتى فلا تكف عن شن الحرب عليك . 
نطناء:: ظها:. 


- وكشيرا ما أدافع عنك عندما نكون منفردين وأرجع سلوكك إلى «مرض نفسى 
خطير) ثم أؤكد لها فى نفس الوقت أنه مرض غير معد. . 


١ 


ليس كمثل وردة فى حبها أحد. هى مغرمة برجلها لحد الجنون» مغرمة بعشقها لحد 
العبادة وهى متفرغة لحبها. تقوم بجميع واجباتها بلا معين. وكان عمر ينظر إلى الحدران 
والأثاث واللوحات» ويشم الورد فى الأصيص» ويستمع إلى أنغام الحجرة الشرقية» ثم 
يقول إنه آدم فى الجنة . وهى لا تطالبه بشىء وربما دفعها لابتياع ما يلزمها من ثياب 
وحوائج. وزاد وزنها فعالجته بالمشى وبشىء من الرجيم وحرصت ما استطاعت على ألا 
يفرط فى طعام أو شراب . وشعر هاما بأنها تذوب فى شخصه وتتفانى فى حبه وتتعلق به 
كأمل أخير. وفى ليالى الشتاء الطويلة انطويا على نفسيهما. وطال بهما السهر فى 
الحجرة الشرقية» يغرقان فى أحاديث لا نهاية لهاء عن الماضى والحاضر والمستقبل» 
والواقع والخيال» والحقيقة والحلم» تتخللها القبلات والملاطفات» 
ولولا الشرفة المغلقة المطلة على الميدان ما روعتهما بين حين وآخر عواصف الشتاء أو 
انهلال المطر. واستنفدت ليالى الشتاء الأحاديث . وشملهما الصمت أوقاتا ولكنه صمت 
مضمر للرضا والارتياح والطمأنينة المتبادلة . وطافت به مرة خيالات فابتسم» ومرة 
وجم. وتخيل تصادم سيارتين عند مفترق الطريق وتطاير رجل وقور فى العمر فجزع . 
وهمس الصوت الحئنون: 

-أين أنت؟ 

فأجاب فى شبه حياء : 

لاقن ءع. 

فطوقت عنقه بذراعها وقالت: 

- أراهن أنه شىء هام! 


11100 





41١ اماد‎ 


هز رأسه نفيا فسكتت برهة ثم بفطنة قالت: 

-لا أدرى لم لا تزورك بثينة وجميلة فى مكتبك؟ 

وكان يفكر فى العنكبوت الذى يبنى بيتا غاية فى الغرابة ليصطاد ذبابة» ولكنه قال: 

بثينة لا تريد. 

-هل بلغت رغبتك؟ 

حملها إليها مصطفى . 

- لم تحدثنى عن ذلك؟ 

-ليس للأمر أهمية . 

- بل يهمنى كل ما يخصك . 

ومنعا للخيالات الغريبة لعب التليفزيون دوره فجعل ينتقلان بين القنوات الثلاث. 
وسأل مصطفى عنهما بالتليفون مرة فدعته إلى العش . ووجدت فيه رجلا يؤلف دون 
عناء فأغرته بتكرار الزيارة. وسأله مصطفى عن الشعر ومدى ما بلغه من خياله فأجابت 
وردة: 

-إنه يكتب شعرا. 

ولكن عمر احتج قائلا بازدراء : 

- ماهو إلا إجهاض وقد مزقته . 

فقال مصطفى مواسيا: 

- السعادة أهم من الشعر. . 

وأوشك أن يسأله «ولكن ما هى السعادة؟1 ولكنه أشفق من العينين الرماديتين اللتين 
ترمقانه باهتمام . وبفضل التليفزيون والراديو ومصطفى تخففا من الحديث المعاد. وقال 
لنفسه: «يا إلهى!». وتخيل أنه استحوذ على قوة سحرية وراح يستعملها فى تسلية 
الناس كأن يخفى فى غمضة عين دار الأوبرا حتى يتجمع الناس ذاهلين» ثم يعيدها فى 
غمضة عين حتى يتصايح الناس من الذهول. ما أحوج الناس إلى جرعات ماثلة من 
السحر. وقال لنفسه مرة أخرى : (يا إلهى!»). وحدجها بنظرة ناعمة فسألته : 

-ماذا لا تدعو أصدقاءك للسمر واللهو؟ 

فقال بهدوء: 

- لا صديق لى إلا مصطفى ! 

وشعر بأنها تدارى إنكارا موضحا: 

لا أعتبر الزملاء والمعارف من الأصدقاء . 





9 النمتاذ 


فعملت من ناحيتها على أن يكثرا من الخروج» وأن يمضيا السهرات ما بين السينما 
والمسرح» بل والملاهى الليلية . 
- هذا أفضل من البقاء وحدنا فى البيت . 
فوافق برأسه ولكنها رنت إليه بعتاب قائلة : 
- أول مرة يخفق ذكاؤك فى مجاملتى ! 
فقال بعد فوات الفرصة : 
- قصدت الثناء على مشروعاتك اللطيفة . . 
- أما أنا فلا أمل معاشرتك وحدك إلى الأبد. 
دولا اناامة ايت 
وسخط على غفلته . وقال لنفسه للمرة الثالثة «يا إلهى» . أما مصطفى فلم يخف عنه 
إعجابه بسعادته . وقال له يوما وهو يجالسه فى مكتبه : 
حدثنى عن حبك فإنه سيحملنى فى النهاية على اعتناق آراء جديدة فى الحياة . . 
وقرأ فى عينيه نظرة ناقدة لا تخلو من خبث فسأله : 
-هل هنت على بثينة لهذا الحد؟ 
- أنت تعلم أنها مثالية وذات كبرياء ولكنها فى الأعماق تعبدك! 
- ألم أوحشها الغادرة؟ 
-ستراك يوما ماء ولكن بالله حدثنى عن حبك . . 
فقال مقطبا فى تحد : 
كأقوى ما يكون! 
- تصريح سياسى؟ ! 
- أنت منافق ولا حق لك فى الاطلاع على أسرار القلوب. ضحك مصطفى طويلا 
وقال: 
- دعنى أصفه لك كما أتخيله» الكلام اللذيذ نضب, المداعبات اختصرت» والشراب 
ياللرعب! وردة محبة صادقة. وجميلة . يا إلهى! ما العمل لحماية النشوة من 
النعاس . أو لبعث الشعر الذى مات . يا أصيل الشتاء المعتم! 
وسهرا ليلة فى ملهى باريس الحديدة . دون أى توقع ظهرت فوق المسرح مارجريت . 
تلقى ضربة من الماضى بلا حذر . ولكنه ضبط أعصابه بقوة وغنت: 


1110 





النمتاذ م 


كلما رأيتك كثيرا ازددت شهوة 
وكلما ازدادت شهوتى زاد لهيبى 

وهمست وردة: 

-يالها من حكمة! 

ولكن نظرة واحدة تتبادل بينك وبين مارجريت خليقة بأن تقرأ وردة فيها كتابا. 
وأعلن عن رغبته فى الذهاب فذهبا. وتسكعا بالسيارة فى ليل بارد وطرقات مقفرة. لا 
داعى للانفعال ولا معنى له . لكن عودتها المباغتة شجعت الملل المتردد على اللاستفحال . 
وستقف على حافة الهاوية مرة أخرى . وعند اليأس تنطلق القوى المدمرة! 

ومن مكتبه قال لوردة بالتليفون إنه مدعو لحفل تكريم زميل اختير مستشارا. وذهب 
إلى باريس الجديدة. ومضت مارجريت تغنى وهو ينتظر. . ماذا جاء بى؟ وبهذه 
السرعة؟ وعم أبحث؟ هل انتهت وردة حقا؟ 

وجاءت مارجريت مرفوعة الرأس وجاءت الشمبانيا. وقالت مشرقة الوجه: 

- كان من المؤسف أن أسافر فجأة. . 

فجاًة؟ 

- تلقيت برقية من الخارج ! 

وتفحصها بحب استطلاع وهو يعجب للقوة التى تدفعه نحوها. ودعاها للذهاب معه 
فقالت: 

- ليس الليلة . . 

ضبط أعصابه متسائلا : 

- متى؟ 

واليكن غك 

وعاد إلى عشه حوالى الواحدة فوجد وردة جالسة بالحجرة الشرقية فقبلها ثم سألها 
كما كان يسأل زينب: 

-مازلت مستيقظة؟ 

فقالت بعتاب : 

طبعا! 

ورنت إليه طويلا ثم قالت: 

- أرجو ألا تكون أفرطت فى الطعام أو الشراب. . 

ولما استلقى فى البيجاما على الديوان زحفت نحوه حتى ألصقت شفتيها بشفتيه. ولم 





الث ة اج 
3 


"1 


يكن راغبا فى شىء ألبتة ولكنه قال لنفسه : «لتكن ليلة شرعية!» ولم يدر كيف يعتذر فى 
الليلة التالية. وحدثته بالتليفون فلم يشر إلى غيابه المنتظر. ومضى إلى باريس الجديدة 
وهو يهنى نفسه على استهانته . ورأى الضوء الأحمر يلون مارجريت بلون الجنيات 
الساحرات . وهزه منظر عنقها النحيل ودسامة صوتها . وغشى دخان السجائر الفوانيس 
الإسبانية المدلاة من سقف مزخرف برسوم العرايا. وتساءل من أين تتسلل النشوة إلى 
هذا المكان المغلق المعبأ برائحة الخمر والسجائر؟ وراء عمود ضخم مضىء من الداخل 
رأى متعانقين فى ذهول الأموات. ولكن كيف اقتلعت وردة من نفسه كأنها زهرة 
صناعية؟ ولماذا يلح الموت على تذكيرنا بنفسه بين كل عمل وآخر؟ ومنذا يستطيع أن يؤكد 
أن هؤلاء السكارى موجودون؟ 

ولما انطلقت بهما السيارة نحو الهرم قالت : 

-الليل بارد. . 

فشغل جهاز التدفئة فقالت: 

- لم لا تذهب إلى بيتك؟ 

لا بيت لى.. . 

وأوقف السيارة فى محيط من الظلام تحت غطاء كثيف من السحب وقال بسرور: 

-لا نجم واحد. . 

وضمها إلى صدره بعنف يكاد ألا يحتمل . ومن دوامة أنفاس مختلطة همست : 

- الظلام مخيف. . 

فأسكتها بقبلة وقال: 

-لاوقت للخوف. 

مسها بديع. ولكن هذا لا شىء. المهم أن تلامس سر أسرار الحياة. واندفعت 
الكلمات المتقطعة فى أنات كلغة السكوت فى الليل وغنى الانسجام أغنية تبشر بحياة 
أفضل . وصهرت حرارة الأنفاس قلوبا أضناها البرد. وغابت الأعين حتى عن ظلمة 
الليل. وتنهد فؤاده فى ظفر وارتياح . وتنهد من ثقل الارتياح . يا إلهى! وتنهد فى فتور 
وغم. ونظر إلى الظلام البهيم وساءل نفسه أين النشوة الحقيقية؟ وأين مارجريت؟ فإن 
الظلام لم يبق منها على شىء . وعاد إلى عشه متجهم الباطن. وقفت قبالته جامدة 
القسمات . حياها وهو يبتسم . ولبثا واقفين برهة مرهقة . وارتمى على الديوان قائلا : 

- آسف. . 


فقاطعته : 


11100 





الثتاذ 516 


لا داعى لاختلاق المعاذير . . 

وذهبت فى الحجرة وجاءت ثم جلست على مقعد قريب وقالت: 

لاحظت جيدا أنك كنت بحاجة إلى تغيير. . 

- ليس الأمر بهذه البساطة. . 

فقالت بعصبية لم تفلح فى مقاومتها: 

التحقيق مهمة لا تسرء ولاداعى لعذاب لا موجب له؛ء إنى أسألك سؤالا واضحا: 
هل فشلنا؟ 

فقال بصدق وخمول معا: 

- لا مثيل لكء إنى أؤمن بذلك . 

وهى تنظر بعيدا : 

- كنت مع امرأة؟ 

تردد قليلا وقال: 

- إن أردت الحقيقة فإننى لم أبرأ بعد من المرض ! 

فقالت بحدة لأول مرة: 

لكنه مرض لا يجد علاجا إلا عند امرأة. . 

ثم بهدوء قالت: 

- ليس عندى لك إلا الحب فإن زهدت فيه انتهى كل شىء. . وراقبت صمته بيأس ثم 
استطردت : 

- وتقلب الأهواء فى الشباب داء له علاج» أما فى العقلاء أمثالك فلا علاج له . 
وأجال بصره فى الحجرة يائسا وقال: 

-هل أنا مجنون ؟ 

-العجيب أن شخصيتك لا توحى بأى نزق! 

- لكنى متهم بالجنون لسلوكى. . 

هتفت بحدة : 

- إن كنت تقصد معاشرتك لى فارجع إلى زوجتك! 

-لا زوجة لى. 

-إذن فلأذهب أناء مشكلتى أبسط من مشكلة زوجتك لأننى لن أعدم عملا أو 
سيك 





15 تاذ 


وخزه قولها وأوشك أن يصرخ فى وجهها «اذهبى» ولكنه مد ساقيه وأغمض عينيه . 
كنت مع امرأة؟ 

- أنت تعرفين . 

من ؟ 

-امرأة. 

- ولكن من تكون؟ 

- لايهم. 

- عرفتها قبل أن تعرفنى؟ 
مقابلة غابرة: 

- تحبها؟ 

كلا. 

-لم ذهبت معها إذن؟ 
اههةه. . 

-لعلها رغية طارئة؟ 

- يعنى ! 

- وهل ترضخ لأى رغبة؟ 
-ليس فى جميع الأحوال. 
-متى؟ 

باستهانة وضجر : 

-هل أنت مولع بالنساء؟ 

-كلا. 

- ألم تكن تحبنى؟ 

0 

- ولكنك لم تعد تحبنى . 

أحبك ولكن عاودنى المرض . 4 
فقالت بحدة: 


11100 





تاذ 3 
- لاحظت تغيرك منذ أيام . 
عا ردان رفي 
-المرض . . المرض! 
ثم وهى تنظر نحوه بسحنة منقلبة : 
- هل ستقابلها مرة أخرى؟ 
- لا أدرى.. 
- أيسرك أن تعذينى؟ 
فنفخ قائلا : 
- قليلا من الراحة من فضلك . 
وذهب بمارجريت إلى استراحة الطريق الصحراوى فى ليلة شتاء باردة ولكنها 
صافية السماء مرصعة بالنجوم . وعند العودة قالت برقة : 
أليس من الأفضل أن يكون لنا مأوى؟ 
فأجاب بغموض : 
-كلا.. 
وقد اقتنع بأنه لا جدوى من الاستمرار ولكنها استاءت من إجابته وقالت ببرود : 
-أنا لا أرتاح لمغامرات الطرق . 
فأوصلها إلى الفندق دون أن ينبس بكلمة . 


١ 


نشوة الحب لا تدوم ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر. وماذا يفعل الجائع النهم 
إذا لم يجد الغذاء . والعاصفة الهوجاء تجتاحك لتقتلعك . والاستقرار مات ولا سبيل إلى 
بعثه . وثمة راقصة سمراء بباريس الجديدة أعجبته رشاقة قدها ومرح نظرتها فذهب إلى 
الملهى دون مبالاة بالآخرين. وحيته مارجريت من فوق المسرح بابتسامة فابتسم لها ثم 
دعا السمراء إلى مجالسته . قد تظن مارجريت أنه يمارس معها ألعوبة غليظة من ألاعيب 
الغرام ولكنه فقد فى العاصفة روح الدعابة. وأغرى السمراء بالنقود لتذهب معه 





314 التّاذ 


ففعلت . ليس أفضل ولكن خيل إليه أن قلبه اهتز مرة وهى تضحك . على هذا القلب أن 
يهتز أو أن يموت . لا الشعر ولا الخمر ولا الحب فأى نداء تلبى تلك النشوة المستعصية! 

وكل ليلة يذهب بامراة. من هذا الملهى أو ذاك أو حتى من الطريق . وعندما ذهب إلى 
كابرى ودعا راقصة تدعى منى هرع إليه يازبك مرحبا مستبشرا فحنق على فرحته التى 
اعتدها نعيا لجهاده الخائب . 

كباس هليه 

فعبس فى وجهه بجفاء أجفله ومضى بمنى وهو يضمها فى حضنه أرعشته رغبة غريبة 
فى قتلها. وتخيل أنه يشق صدرها بسكين فيعثر فى داخله عما يبحث عنه . القتل هو 
الوجه الخلفى للخلق وهو تكملة الدورة الملغزة التى لا تتكلم . وهمست منى : 

-مالك! 

فقال وهو يصحو منزعجا: 

-لااشىء إنه الظلام. . 

ولكن لا أحد حولنا. . 

وساق السيارة بسرعة جئونية حتى قبضت على ساعده . ثم هددته بالصراخ . وهو 
يغير ملابسه قال لنفسه لابد من شىء» الشىء أو الجنون أو الموت . وجلست وردة فى 
الغفراش وهى تقول : 

أنا ذاهبة. . 

فقال برقة : 

-إنى مسئول عنك . 

-لا أريد شيئا. . 

وعادت تقول بعد صمت: 

- من المحزن أنى أحببتك بصدق . 

فقال عملل : 

- ولكنك لا تصبرين على . 

فقالت بلهجة قاطعة: 

- نفد الصبر . 

وعافتها نفسه فلم يعقب. 

وعاد فى الليلة التالية فلم يجد لها أثرا. ابتسم فى ارتياح واستلقى ببدلته على الديوان 
مستمتعا بالشقة الصامتة الخالية. وكل ليلة ساق إليها امرأة جديدة . 


11100 





اتاد 1 


وقال له مصطفى وهو يضحك : 

أهلا بأكبر زير نساء فى القارة الإفريقية! 

ابتسم فى فتور فاستطرد الرجل : 

- سرك يذيع يوما بعد يوم» حدثنى عنك أكثر من زميل من زملائى» وترامت أخبارك 

إلى بعض زملائك بالنادى» وهم يتساءلون ماذا قلبه وكيف جدد شبابه؟ 

قال بنفور: 

«الشىو ني كالسا 

ثم بلهجة جدية : 

- أفرغ ما فى نفسك من اضطرابات كى تستقر بعد ذلك بصفة نهائية . 

وجاء الربيع فسره أن تنطلق السهرات من القاعات المغلقة إلى الحدائق. وعانى 
الضجر والأحلام المرهقة. وفى أوقات تسلى بقراءة الشعر فهفت نفسه إلى أشعار الهند 
وفارس . وحملته مغامراته الليلية إلى كابرى مرة أخرى. وجلس تحت التكعيبة يشرب 
كأسا ويتلقى نفحات الربيع من وراء السرو. وعزفت أنغام راقصة فإذا بوردة فوق 
المسرح. لم يدهش لذلك ألبتة فلم ينزعج ولم يبتسم. كان ذلك فى الخريف . 
وتواصلت الفرحة بالنشوة بالحب ثم كان الجفاء. الدورات المفرغة فمتى يحطمها 
القلب المحزون. متى يخترق الفضاء لغير رجعة. وها هى تلمحه ثم تواصل 
رقصها. وها هو يازبك يسترق النظرات فى قلق مضحك . أما هو فخلا من القرارات 
عزمه. ورأى عقب الاستعراضات وردة غير بعيدة فدعاها إلى مائدته . وجاءت باسمة 
النغر كأن ما كان لم يكن. وطلب الشراب الذى اشتهر به فى الملاهى الليلية . وقال لها 
بصدى : 

-الحق إنى آسف يا وردة. 

فقالت وهى تبتسم ابتسامة غامضة : 

-لا يجب أن تأسف على ما فات . . 

ثم بنبرة ساحرة : 

وتجربة الحب ثمينة ولو بالعذاب! 

فقال وهو يعض شفته : 

بلست طبيعياء..: 

فقالت بصوت مهموس: 

-إذن فلندع لك بالسلامة . 





0 اذ 


وتلاقت عندهما نظرات النساء اللاتى مضى بهن ليلة بعد أخرى فابتسمت وردة وتمتم 
هو: 

- بلا رغبة! 

فتساءلت برفع حاجبيها فقال: 

- عرفتهن بلا استثناء ولكن بلا رغبة! 


- ولماذا إذن؟ 
لأن اللحظة الإلهية لا تجود بنفسها أكثر من ثانية واحدة! 
فقالت بامتعاض : 


- ما كان أقساك! إنكم لا تؤمنون بالحب إلا إذا كفرنا به. . 

-ربماء ولكن مشكلتى غير ذلك . . 

وحمل إليه النسيم من الحقول الغارقة فى الظلام شذا مسكرا من زهر البرتقال فتح له 
عوالم خفية من المسرات» فطرب طربا استخفه وأخرجه من قيود الاتزان» فسألها 
بشغف: 

خبرينى يا وردة لماذا تعيشين؟ 

فهزت منكبيها وأتت على كأسها. ولكنه كرر سؤاله بجدية لا لبس فيهاء فقالت: 

- وهل لهذا السؤال من معنى؟ 

-لا بأس أن نسأله أحيانا. 

-إنى أعيش» هذا كل ما هنالك . 

-بل إنى أنتظر جوابا أفضل . . 

فكرت قليلا ثم قالت: 

- لنقل إنى أحب الرقص» والإعجاب» وأتطلع إلى الحب الحقيقى! 

هذا يعنى أن الحياة عندك هى الحب . . 

ل 

- ألم تحبى مرة ثم كرهت الحب؟ 

فقالت بامتعاض : 

-غيرى فعل . . 

-وأنت؟ 


-كلا.. 


1110 





اناد 3 


- كم مرة أحببت؟ 

-قلت لك يوما. .. 

ولكنه قاطعها: 

- لندع جانبا ما قلته يوماء صارحينى الآن بكل شىء. . 
ها هو طبعك الوحشى يغلبك. . 

ألا تريدين أن تتكلمى؟ 

قلت ما عندى . . 

فتنهد آسفاء ثم سألها محموما: 

والله» ما موقفك منه؟ 

حدجته بنظرة ارتياب حادة» فقال بتوسل : 
- أجيبينى من فضلك يا وردة. 


- أؤمن به. . 

- بيقين؟ 

طيعا. . 

- من أين جاء اليقين؟ 


إنه موجود وكفى . . 

- أتفكرين فيه كثيرا؟ 

ضحكت كالمرغمة وقالت: 

عند كل حاجة أو شدة. . 

-وفيما عدا ذلك؟ 

فقالت بحدة: 

ألا ترى أنك تحب تعذيب الآخرين؟ 

ولبث فى الملهى حتى الثالثة صباحا ثم انطلق بسيارته ‏ وحده_ إلى الطريق 
الصحراوى . وقال إن خروجه وحده هذه الليلة يعتبر تطورا ذا شأن. ثم أوقف السيارة 
فى جانب من الطريق المقفر وغادرها إلى ظلمة شاملة . ظلمة غريبة كثيفة بلا ضوء إنسانى 
واحد. لا يذكر أنه رأى منظرا مثل هذا من قبل» فد اختفت الأرض والفراغ ووقف هو 
مفقودا تماما فى السواد. ورفع رأسه قبل أن تألف عيناه الظلام فرأى فى القبة الهائلة آلااف 
النجوم عناقيد وأشكالا ووحداناء وهب الهواء جافا ولطيقًا منعشا موحدا بين أجزاء 
الكون. وبعدد رمال الصحراء التى أخفاها الظلام انكتمت همسات أجيال وأجيال من 





3 تاذ 


الآلام والآمال والأسئلة الضائعة. وقال شىء إنه لا ألم بلا سبب وإن اللحظة الفاتنة 
الخاطفة يمكن أن تمتد فى مكان ما إلى الأبد. وقد يتغير كل شىء إذا نطق الصمت وها أنا 
أضرع إلى الصمت أن ينطق . وإلى حبة الرمل أن تطلق قواها الكامنة وأن تحررنى من 
قضبان عجزى المرهق . وما يمنعنى من الصراخ إلا انعدام ما يرجع الصدى. وأسند 
جسمه إلى السيارة ونظر نحو الأفق. وأطال وأمعن النظر. وثمة تغير جذب البصر . رق 
الظلام. وانبثت فيه شفافية. وتكون خط فى بطء شديد ومضى ينضح بلون وضىء 
عجيب . كسر أو عبير . ثم تؤكد فانبعثت دفقات من البهجة والضياء والنعسان. وفجأة 
رقص القلب بفرحة ثملة. واجتاح السرور مخاوفه وأحزانه. وشب البصر إلى أفراح 
الضياء يكاد ينتتزع من محاجره. وارتفع رأسه بقوة تبشر بأنه لن ينثنى وشملته سعادة 
غامرة جنونية آسرة وطرب رقصت له الكائنات فى أربعة أركان المعمورة . وكل جارحة 
رغت وكل حاسة سكرت واندفنت الشكوك والمخاوف والمتاعب . وأظله يقين عجيب ذو 
ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة . وملأته ثقة لاعهد له بها وعدته بتحقيق أى شىء يريد 
ولكنه ارتفع فوق أى رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب . لا شىء. لا أسأل 
صحة ولا سلاما ولا أمانا ولا جاها ولا عمرا. ولتأت النهاية فى هذه اللحظة فهى أمنية 
الأمانى . 

ولبث يلهث ويتقلب فى النشوة. ويتعلق بجنون بالأفق. تنفس تنفسا عميقا كأنما 
ليسترد شيئا من قوته عقب شوط من الركض المذهل . وشعر بدبيب آت من بعيد من 
أعماق نفسه . دبيب إفاقة ينذر بالهبوط إلى الأرض . عبثا حاول دفعه أو تجنبه أو تأخيره. 
راسخ كالقدرء خفيف كالثعلب» ساخر كالموت . تنهد من الأعماق واستقبل موجات 
من الحزن. وأفاق والضياء يضحك . 

رجع إلى مجلسه بالسيارة. ودفعها بلا حماس . ونظر إلى الطريق بفتور كأنما يخاطب 
شخصا أمامه : 

هذه هى النشوة . 

وقال بعد صمت: 

-اليقين بلا جدال ولا منطق. . 

ثم بصوت مسموع أكثر : 

- أنفاس المجهول وهمسات السر. . 

وتساءل وهو يزيد من سرعة السيارة : 


11100 





تاذ > 


1 


استيقظ فى عشه الخالى على رنين جرس التليفون فتناول السماعة. وجاءه صوت 
مصطفى : 
-أين كنت طوال الليل؟ 

ولمالم يجب قال: 

-زينب فى مستشفى الولادة . 

ومرت لحظات قبل أن يفقه المعنى ثم تذكر أنه زوج وأب وأن مزيدا من الأبوة ينتظره . 

وفى بهو الاستقبال بالمستشفى وجد مصطفى وبثينة وعليات زوجة مصطفى وهى 
امرأة رزينة قوية الشخصية فى الأربعين من العمر ممتلئة مع ميل إلى القصر مستديرة 
الوجه والقسمات. ولما جاء دور بثينة فى المصافحات مدت له يدها وهى تغض البصر 
لتخفى وجومها. 

وقال مصطفى : 

-هى فى حجرة الولادة» وكل شىء طبيعى . . 

وهّم بالذهاب إلى الحجرة فقالت عليات بحذر: 

كنت بالداخل » وها أنا ذاهبة إليها. . 

- ألا أدخل أيضا؟ 

فقال مصطفى : 

-يحسن تجنب الانفعالات الطارئة . . 

ولم يطل بهم الانتظار فقد رجعت عليات متهللة الوجه وهى تقول لعمر: 

- مبارك عليك ولى العهد» وزينب فى طريقها محمولة إلى حجرتها. . 

نظر إلى بثينة بشوق» ثم جلس إلى جانبها واضعا راحته فوق يدها دون الكلام فتركها 
بعض الوقت حياء ثم سحبتها برقة . وقال مصطفى وهو يتابع الحركات الخفية : 

من حسن الحظ أن المستشفيات من الأماكن التى تنسى فيها الخصومات . . 

فسألها ولا يزال يشعر بخيبة أمل لانسحاب اليد: 

- متى جاءت إلى هنا؟ 


حوالى منتصف الليل. . 





1 تاذ 

والمناقشة دائرة مع وردة فى إعياء تنعشه الشمبانيا . 

دول تذهبن إلى المدوسة.؟ 

طبعا جاءت مع مامتها . . 

كرالك باعليات وشكرا لله 

فقالت عليات وهى تغادرهم إلى حجرة زينب «عفوا»» ثم قال مصطفى : 

- وقد تعبت جدا عند الفجر. . 

آه. . الفجر فى الصحراء والنشوة الخيالية الخالدة» ولكن أين؟ واستأذن مصطفى فى 
الذهاب لينام فلبث هو وبثينة وحدهما ينتظران . وانتبه بحساسية إلى حرج موقفه. وقال 


بعطف : 
الم قاض يايئينة؟ 
فهزت رأسها بالإيجاب وهى تنظر إلى سجادة البهو السحابية اللون: 
- ألا ترغبين فى محادثتى؟ 
فخجلت من المقاطعة الصريحة وتساءلت: 
ماذا أقول؟ 


- أى شىء» ومهما يكن من أمر فأنا أبوك وصديقك وما بيننا من علاقة لا يمكن أن 
فصر ع 

ولاذت بالصمت فى تأثر شديد. 

ألا توافقيننى على ذلك؟ 

فهزت رأسها بالإيجاب ورسمت شفتاها لفظ الموافقة . 

-أنت زعلانة» وهذا طبيعى» ومهما يكن من الأمر فهو لا يمسك مباشرة. 
ومقاطعتك لى غير مقبولة» وقد دعوتك مرارا لزيارتى فلماذا لم تحضرى؟ 

دام ابو 

-هل منعك أحد؟ 

-كلاء ولكننى كدت حزيئلة جدا. . 

- أكان حزنك أكبر من حبنا؟ ! 

فقالت بمرارة: 

- لم تزرنا مرة واحدة . 

-لم يكن ذلك بالممكن . ولكنى دعوتك مرارا فكان عليك أن تأتى» وقد نغص 
امتناعك راحتى ولم تكن فى حاجة إلى مزيد . 


011001 





اتاد 53 
- منعنى حزنى ٠‏ . 
-يا للأسف لا أحب لك السلبية» وكنت فى حاجة إليك فى غربتى! 
وابتسم ليخفف من توتر الجو ثم قال: 
حسبنا عتاباء لا وقت الآن لذلك . . 
وربت منكبيها وسألها مغيرا المجرى : 
-ما أخبار الشعر؟ 
فابتسمت ابتسامة خفيفة لأول مرة فقال بحرارة : 
- لعلنا لم نكن فى يوم من الأيام أقرب ما نكون لبعضنا مما نحن فيه اليوم! 
ماذا تعنى؟ 
حولت إليه عينيها الخضراوين مستزيدة فقال: 
رجعت إلى الشعر أقرأه وأحاوله . . 
حقا؟ 
مجرد محاولات فاشلة . ٠.‏ 
-لله؟ 
- لا أدرى» ربما لأن الغبار أكثف من أن يزال بنفضة واحدة أو لأن أزمتى أقوى من 
الشعر. . 
-أزمة؟ ! 
فابتسمت وهى تنظر إلى الأرض فسألها بإنكار: 
ألا تصدقيننى؟ 
أصدقك دائما! 
فحزه قولها وقال: 
- يجب أن تصدقينى رغم الكذبة الوحيدة فى حياتناء كانت كذبة ضرورة ولن تتكررء 
أما مرضى فهو حقيقى . . 
- ألم تعرف بعد ما هو؟ 
فكر قليلا ثم قال: 





5 تاذ 


قلات عاج بالصير الطويل .+ 
فتساءلت فى إشفاق : 

بعيدا عنا؟ 

فقال بهدوء ويقين: 

أنا أعيش وحيدا! 

فرمقته بنظرة استغراب فقال: 
وحيداء صدقينى . . 
-ولكن.. 

الآن وحيدا. 

فتساءلت بلهفة أرضت عواطفه : 
- ولم لم تعد يا بابا؟ 

فلثم خدها المورد وقال: 

-لعله من الخير أن أبقى كذلك . . 


كلا : : 
وأمسكت بيده وكررت: 
كاد 4 


وجاءت عليات لتدعوه إلى الحجرة فذهب . رأى زينب مغطاة بملاءة بيضاء إلا 
الوجه . . 

وتبدى الوجه شديد الشحوب ممصوص ال حيوية نصف مغمض العينين. شعر بعطف 
واحترام ورثاء. وقال هاهى تخلق على حين يعجز هو عن الخلق . وتمتم بشىء من 
الارتباك: 

-حمدا لله على سلامتك. . فردت بشبه ابتسام فقال: 

مبارك عليك ولى العهد! 

وجلس محاصرا بالحرج حتى خفف عنه دخول عليات وبثينة وأحسنت عليات ملء 
الجو بالنوادر والملح فمر الوقت دون إرهاق وجاءوا بالمولود فى فراشه. . وكشفوا عن 
وجهه. رأى كتلة الحمية متموجة حمراء» ممطوطة القسمات» ليس من اليسير أن يتصور 
أن سيكون لها شكل فضلا عن شكل مقبول . ولكنه تذكر تهارب ماثلة سابقة تنحنى 
إحداها فوق فراش الوليد لترمقه بدهشة وحنان من عينيها الخضراوين. ولم يجد نحوه 
شعورا مميزا غير أنه أدرك أنه سيحبه كما ينبغى وقنع منه بنظرة حياد متسائلة . لو لم تكن 


1110م 





الّاذ > 
عاجزا عن التعبير كأبيك لسألتك عن مشاعرك وعن ذكرياتك عن العالم الذى جئت منه 
لتوك . 

وسألت عليات: 

-هل اخترتم له اسما؟ 

فأجابت بثينة : 

52118 

إذن فليحمه اسمه من الضجر . وقالت عليات بلهجة ذات مغزى : 

- لتكن نشأته فى أحضان والديه ! 

و رغم انسيابه فى أسرار الخلق لم يساوره أدنى أمل فى التغير . و لا خرج من غربته 
الأبدية. و لم يملا الوليد الشغرة التى تفصل بينه و بين زينب . وراح يتساءل حتى متى 
يبقى فى مجلسه محطا للنظرات والتساؤل؟ 

وأزف وقت الغداء فاستأذن فى الانصراف وذهب» ولحقت به بثينة خارج الحجرة 
وقد استردت شجاعتها الطبيعية الصريحة معه. قالت: 

-بايا. . لن تبقى وحيدا . . 

وكان يعلم أنه لم يعد بحاجة إلى شقته الخالية» وأنه يحلم بوحدة جديدة» فتساءل 
مسيتسلما: 
ماذا تريدين؟ 
- أن تعود. . 
فلثم خدها وهو يقول: 
- على شرط ألا تضيقوا بى . . 
وتأبطت ذراعه. وأوصلته حتى الباب الخارجى بوجه مشرق . 


١ ه‎ 


على المعفاء ررم متها و اودلن اعهها ليوات فلن دثناها والعقيار القرة 
الأ اجفة +ؤقال لها : 





4 تاذ 


- علينا أن نتقبل محنتنا بشجاعة . 
أنت مغثال للكمال . 


وانقطع عن مغامرات الليل الخائبة . ووهبته بثينة وجميلة وسمير مسرات لا تنكر . 
والنيل يجرى تحت الشرفة بلا توقف وهو يسأل بلهفة متى تعود رحمة الفجر فى 
الصحراء؟ واعتكف فى حجرته طول الليل يقرأ ويتأمل حتى يجىء الفجر. فيمضى إلى 
الشرفة وينظر إلى الأفق يتساءل: أين الرحمة؟ أين؟ وها هى ترانيم فارس والهند 
والعرب المليئة بالأسرار ولكن أين السعادة؟ أين؟ !ولم تشعر بالكآبة وأنت بين هذه 
الجدران الرحيمة؟ وما هذا الشعور المقلق الذى يهمس لك بأنك ضيف غريب موشك 
على الرحيل؟ وإلى أين؟ وقال مصطفى : 

-الحمد الله على أن عاد كل شىء إلى أصله . 

فقال بازدراء: 

- لم يعد شىء إلى أصله . . 

فتجنب المناقشة فى إشفاق فقال عمر بتحد: 
-لم أعد إلى البيث» لم أعد إلى العمل . 
- ولكن يا عزيزى . . 

ولا يعرف أحد ماذا تقول الساعة التالية . 

وفيما كان بمكتبه عصرا إذ فتح الباب ودخل رجل ربعة» متين البنيان» شاحب اللون. 
كبير الوجهء حليق الرأس» قوى الفكين والأنف» يشع من عينيه العسليتين نور حاد. 
نظر إليه عمر منكرا لآول وهلة ثم انتتر واقفا وهو يهتف بصوت متهدج : 

- عثمان خليل ! 

وتعانقا طويلا وعمر فى غاية من الانفعال» ثم جلسا على المقعدين المتقابلين أمام 
المكتب ولسانه لا يتوقف عن كلمات الترحيب والتهنئة والتبريك» والآخر يبتسم وكأنه لا 
يجد مايقوله. وحل صمت قصير كرد فعل فراحا يتبادلان النظرء وتموجت المخيلة 
بالذكريات . وتحركت فى الأعماق مشاعر غريبة منذرة بكل ظن . وارتفع مد حاملا 
دفعات من القلق والتوجس . وطالما طافت به لحظة اللقاء المرتقبة وطالما عمل لها ألف 
حساب ولكنها حلت رغم ذلك بغتة كمفاجأة غير ممكنة التوقع . ولم يقدر الزمن ونسى 
كل شىء فى العهد الأخير ومع ذلك فإن المدة لم تنقض بالتمام ولم يستنتج إلا الساعة 
أن ثلاثة أرباعها قد انقضى! وها هو يلقاه أبعد ما يكون عن الاستعداد النفسى لذلك . 
رجل خارج من السجن إلى الدنيا ورجل يتحفز للخروج من الدنيا إلى عالم مجهول . 


1110م 





تاذ 4 


-يا له من عمر طويل! 

ابتسم عثمان» فقال عمر: 

-لم تغب عنا فيه ساعة واحدة» وهاهو وجهك مصمم على الحياة كعادتك! 

فقال بصوت حلقى دسم : 

- وأنت لم تكد تتغير فى الصورة ولكن صحتك ليست كما يجب! 

سر للملاحظة الأخيرة وقال: 

- بلى» مرضتء وعانيت أزمات غريبة» ولكن من فضلك لا تجعل منى موضوعا 
للحديث» أريد أن تتحدث وأن أسمع . 

ودخل فراش بالكوكا والقهوة ثم قال عثمان: 

- مضت أعوام وأعوام» اليوم بسنة فى قرفه والسنة بيوم فى تفاهتها ولكن لا تنتظر أن 
أتحدث عن حياة السجن . 

- مفهوم . . أسف . . ولكن متى خرجت؟ 

- وكيف لم تحضر إلا اليوم؟ 

- سافرت من فورى إلى القرية وكنت مريضا بالإنفلونزا ولا شفيت رجعت إلى 
القاهرة . 

لا فائدة من الهرب إلى الأحاديث الحانبية . وإحساسك بالذنب يزداد حدة. 

- كم عذبنا أننا لم نستطع زيارتك. . 

فقال عثمان بوجه لا ينبى عن شىء : 

- كان سيقبض على أى زائر من غير الأهل . 

- وكم وددنا لو كان فى الإمكان أن نطمئن عليك . 

-الحق أننا عوملنا معاملة سيئة جدا أول الأمر ولكنها تغيرت بطبيعة الحال بعد قيام 
الثورة. 

فتقلص وجه عمر إعرابا عن أسفه» فاستطرد الآخر: 

- ولكن ثبت لى أنه إذا قذف بنا إلى الجحيم فإننا حتما سنعتاد ونألف الزبانية! 

وأذعن عمر لإحساسه بالذنب فاعترف قائلا : 

- العدل كان يقضى بأن نذهب معك إلى السجن . . 

فقال بسخرية : 





6 تاذ 


القانون هو الذى أدخلنى السجن لا العدل! 

- على أى حال فنحن مدينون لك بحريتنا وربما بحياتنا. . 

- أليس ذلك ما كنت تفعله لو ألقى القبض عليك أنت وكنت أنا من الهاربين؟ 
فلم ينبس عمر بكلمة حياء وارتباكا واستطرد عثمان بمرارة : 

- وها أنا فى الدنيا من جديد وفى منتصف الحلقة الخامسة . 

فقال عمر معزبا: 

-ما زلت شابا وأمامك حياة طويلة وعريضة . . 


- وورائى تجربة أمر من اليأس. . 


- قد عشناها خارج الأسوار ولكن يخيل إلى أننا لم نفعل شيئا ذا بال. . 
سه 


-لا تقل ذلك» لا تفقدنى البقية الباقية من العزاء . 

تحركت مخاوفه مرة أخرى وشعر بأنه جثة منسية فوق سطح الأرض» فقال: 

-مارسنا عملاء وتزوجناء وأنجبناء ولكن يخيل إلى أنه ليس لى ما أحصده إلا 

الهباء»ء ولكن معذرة لا يحق لى أن أتكلم عن نفسى . 

- ولكننا تضفان متكاملدن! 

الماضى المنتقضى والحساب العسير . وقال بفخار فى بدروم بيت مصطفى المنياوى 
#خليتنا قبضة من حديد ولا يمكن أن تنكسر. ونحن نعمل للإنسانية جمعاء لا للوطن 
وحده. 

ونحن نبشر بدولة البشرية» نحن نخلق بالثورة والعلم عالم الغد المسحور» . 

ولما أصابته القرعة قال : (أنا سعيد» مصطفى عصبى وأنت عريس » وغدا تلقى قنبلة 
على خنزير من المولعين مص الدماء» . 

- كان التدبير محكماء ولولا رصاصة طائشة أصابت ساقك لما قبضوا عليك . . 

أجل» وماذا فعلت أنت ومصطفى؟ 

- سهرنا حتى الصبح والحزن يقتلنا. . 

فضحك ضحكة قصيرة وسأل : 

- ألم تخافا أن أعترف؟ 


11100 





تاذ د 


فكر مصطفى فى الهرب ودعانى إلى ذلك» وفكرنا فى الاختفاءء وذقنا أياما تعيسة 
ولكنك كنت فوق مستوى الإنسان وكنا وما زلنا لا شىء. . 
ويعتاد الإنسان الجحيم كما يعتاد التضحية بالغير! ومهما يكن من قذارة الفأر فإن 
منظره فى المصيدة يثير الرثاء . 
وأشار عثمان إلى المساعدات التى تلقاها والداه قبل وفاتهما_من عمر» ولكن عمر 
أبى أن يسمع بقية الإشارة وعند ذلك قال عثمان: 
-لا أريد أن آسف على ما فات . فقد اخترت مصيرى بوعى كامل» والآن آن لك أن 
تحدثنى عن أخبار الدنيا؟ 
فقال عمر بدهاء وهو يرنو إلى النجاة من بعيد: 
- ليكن المستقبل أهم ما يهمنا. . 
-المستقبل؟ . . أجل . . سأنفض الغبار على الليسانس. . 
- وإليك مكتبى تحت أمرك . . 
عظيم» ولا اعتراض لأحد فى الجهات الرسمية على أن أعمل . . 
- إذن فلتبداً من اليوم. . 
دشكرا»: شكرا::: ولكن حدثتى عن أخبار الدنيا؟ 
لايريد أن يتزحزح. يا للغرابة كأنك لم ترتبط به يوما ما! وكأنك لم ترغب قط فى 
هذا اللقاء. لاشىء مشترك بينكما إلا تاريخًا ميمًا ولا يوحى إليك إلا بمشاعر الذنب 
والخوف وازدراء النفس . ولم يدر بعد بأن كتب الغيب حلت محل الاشتراكية فى 
مكتبتك . وها هو يعترضك كقدر وأنت تهرب من الأهل والدنيا. 
وضاق عثمان بصمته فسأله مستدرجا: 
- حدثتى عن أصحاينا؟ 
-أوه. . تفرقواء لا أعرف منهم اليوم إلا مصطفى المنياوى . . 
وماذا فعلتم؟ 
الحق أن السنوات التى تلت القبض عليكم اتسمت بالعنف والإرهاب فلم يكن بد 
من أن نركن إلى الصمت. ثم انشغل كل بعمله» وتقدم بنا العمر على نحو ماء ثم 
قامت الثورة وانهار العالم القديم. . 
قبض عثمان على ذقنه العريضة بيده» وعكست عيناه المشعتان نظرة باردة لعله ينعى 
الأعوام الضائعة. ما أبغض هذا الموقف الذى أرق نومه مرات ككابوس . وقال عثمان: 
- طالما ساءلت نفسى لاذا؟ أجل لماذا؟ وبدت لى الحياة خدعة سمجة» وعجبت 





م اذ 


للأقدارالتى انهالت على رأسى» أقدام أناس تعساء من صميم الشعب الذى 
سجنت من أجله» وتساءلت لاذا؟ هل تعنى الحياة أن نستوصى بالجين والعماء؟ 
ولكن ليس كذلك النمل ولا بقيةالحشرات» ولا أطيل عليك فقد استرددت 
إيمانى . . 
يالسوء الحظ! 
استرددت إيمانى فوق الصخور وتحت أشعة الشمس» وأكدت لنفسى بأن العمر لم 
يضع هدرا . وأن ملايين الضحايا المجهولين منذ عهد القرد قد رفعوا الإنسان إلى 
مرتبة سامية! 
أحنى عمر رأسه إعرابا عن الموافقة والاحترام! واستطرد عثمان بنبرة لم تخل من 
حنلق : 
من الحمق التعرض بماض مسلول مادام المستقبل ينهض راسخا بصورة أقوى ملايين 
المرات من جبن الحبناء . 
فقبض على أداة نجحاة وسط العاصفة الهوجاء قائلا : 
- على أى حال فقد تقوض العالم القديم المرذول وقامت ثورة حقيقية فتحقق حلم من 
أحلامك . . 
انظر إلى وجهه كيف يتجهم . وتتجمع فيه عاصفة مربدة . وها أنت تنجرع هزيمة فى 
ميدان لم يعد يهمك فى شىء . ألا يعلم بأنى لم يعد يهمنى شىء! 
وقال عثمان بأسف: 
-لو لم تسارعوا إلى الجحور لما فقدتم الميدان . 
- لم تكن لدينا قوة ولا أتباع فى الشعب يعتد بهم » ولو وقعت المعجزة على أيدينا 
لهبت قارات للقضاء علينا. . 
-المؤسف أن المرضى لا يفكرون إلا فى المرض . . 
- وهل ترى من العقل أن يتجاهلوه؟ 
-ليس العقل ولكنه الجنون» ألم تدرك بعد كم أن العالم مدين للجنون؟! 
فقال ملاطفا: 
- على أى حال قد قامت الثورة وهى تشق طريقها بعقلية اشتراكية حقيقية . 
فحدجه بنظرة متفحصة طويلة حتى قرأ فيها معانى لم تسره فقال: 
- وهى التى لم تمس رءوس أموال أمثالى من الناس فقد فرضت ضريبة عادلة . 
ثم بنبرة عصبية : 


11100 





تاذ عم 


- صدقنى أننى لست عبد لشىء» فليذهب كل شىء إلى الجحيم . . 

صارحنى يا عزيزى أما زلت مؤمنا كما كنت؟ 

فتفكر عمر مليا فوق حافة الهاوية» ثم قال: 

-كذلك كنت قبل قيام الكوزة؛ فلما أن قامت الثورة اطمآن بالى ثم أخذت أفقد 
الاهتمام بالسياسة وأولى وجهى وجهة أخرى. . 

وجهة أخرى؟! 

قال بحذر: 

- يحلو لمصطفى أحيانا بأن يصفها بأنها حنين جارف إلى الماضى الفنى . . 

- وهل من تعارض بين الفن والمبدأ؟! 

فقال وهو يزداد ضيقا وحرجا: 

- ليس الأمر بهذه البساطة . . 

فقال بوجوم : 

كما قالت زينب ووردة من قبل! . . قال: 

أعترف بأننى لم أعد أستحق أن أكون موضع تفكيرك . 

ثم بلهجة فيها شىء من المرح : 

لمهم الآن هو أن تبدأ حياتك الجديدة لتعوض ما فات. . 

فقال بلهجة ثقيلة : 

أخشى ألا أجد حقا ما يعوضنى عما فات . 

-هاك مكتبى تحت أمرك» وجميع ما يلزمك للبدء . 8 

-إنى عاجز عن الشكر . 

- بل هو دون ما تستحق» وسوف أظل ما حييت مديئًا لك بالحياة. . 

ثم بلهجة تحررت كثيرا من المخوف والحرج : 

- لاشك أنك فى شوق لرؤية زينب والأسرة ومصطفى فلنتعش الليلة فى البيت. . 





م 
الشر > : 
3 


57 


١1 


وليمة العشاء حفلت بالأطعمة والأشربة والذكريات. واغرورقت عينا زينب وهى 
ترحب به وشدت على يده طويلا على حين عانقه مصطفى المنياوى عناقا حاراء أما 
عليات فكان يراها لأول مرة. . وجلست بثينة إلى جانبه على المائدة وأعلن بدهشة أنها 
صورة من شباب أمها. ولما قدمت فواتم الشهية قال: 

-لن أبالغ فى صنف لأذوق جميع الأصناف. . 

والتفت نحو بثينة قائلا : 

- قالوا لك إنى صديق قديم» وهذا بعض الحقيقة لا الحقيقة كلهاء أنا صديق قديم 

خارج من السجن. . 

واعتبرتها بثيئة نكتة فابتسمت فقال: 

- صدقينى فأنا صديق قديم وسجين قديم . 

وعند ذلك قالت زينب: 

-إذن يجب أن تعلم أنك بطل سياسى لا مجرد سجين! 

ورمقته بثينة باهتمام مشوب بدهشة فقال: 

- بطل أو مجرم» هى من أسماء الأضداد. . 

وقال لها عمر: 

-عثمان صديق قديم » وهو زميلى فى المكتب الآن» وله قصة طويلة سأقصها عليك 

فيما بعد» ولكنك تعرفين شيئا ولا شك عن المسجونين السياسيين . . 

فسألت بثينة عثمان: 

- أسجنك الملك؟ 

فقال والسفرجى يضع فى طبقه شريحة من الديك وكمية من البازلاء : 

-بل المجتمع كله. . 

- وماذا فعلت؟ 

لم يجب . فقال مصطفى ضاحكا : 

- كان اشتراكيا قبل الأوان. . 

ثم وهو يغمز بعينيه : 


1110 





اذ وع> 


- وكان يهوى اللعب بالقنابل . 
فاتسعت العينان الخضراوان ولكن زينب قالت لعثمان بلباقة لتحويل المجرى : 
داشيئة شاعرة. 
فنظر إلى عمر باسما وقال: 
-الشعر وراثى فى هذه الأسرة! 
فقال له مصطفى محذرا: 
-لكن شعرها ترنيمات موجهة للذات الإلهية . 
وهم بتفجير سخرية ولكنه أمسك فى اللحظة المناسبة وقال بأدب : 
- أرجو أن يسعدنى الحظ بالاستماع إلى بعض هذه الترنيمات. . 
ونجح عمر فى إخفاء ضيقه . وتناول حمامة محشوة وقال لنفسه إنها لو أحسنت الطير 
لما أكلت . ولاحظ مجاملات المائدة المتبادلة بين بثينة وعثمان بارتياح . وإذا بالفتاة تسأل 
جارها: 
- وكيف صبرت على حياة السجن؟ 
- صبرت لأنه لم يكن من الصبر بد. وعرفت بحسن السير والسلوك» والظاهر أننا لا 
نسىء السلوك إلا فى المجتمع . 
وضحك ثم استطرد : 
- الواقع أن السجن لا يخلو من مزية» فالسجناء يمارسون حياة لا طبقية فيها مما 
نحب أن يتحقق فى الحياة . . 
-لكنى لم أفهم شيئا. . 
- سوف تفهمين كلامى إذا أمكن أن أفهم شعرك . 
-هل قرأت شعر بابا؟ 
- طبعا. 
- وهل أعجبك؟ 
وقال عمر محتجا: 
- كيف بالله تأكلان وأنتما لا تكفان عن الحديث؟ ! 
ولكن عثمان أحب محادثتهاء وقد سألها: 
-هل ستدرسين الآداب فى الجامعة . . ؟ 


العو 





فد اتاد 


برافو» ولكن كيف وأنت شاعرة؟ 

فقالت زينب بفخار: 

- إنها متفوقة فى العلوم . 

وقالت بثينة : 

- وبابا متحمس لدراسة العلم. . 

فرمق عثمان عمر بنظرة حائرة» ثم قال لبثينة : 

- سوف تدركين يوما أنه الأمل المنشود. 

- ولكنى لن أتخلى عن الشعر. 

- وما البأس فى تلك الحال؟ ! 

- وكم عاما قضيت فى السجن؟ 

دععوالى العشرين! 

فرمته بنظرة ذاهلة فضحك قائلا : 

- ومع ذلك فقد عرفت رجلا فى السجن لا يرغب فى مغادرته: وكلما قاربت مدته 

الانتهاء ارتكب جريمة خفيفة ليجددوا له المدة. . 

- تصرف غير معقول! 

فقال بلهجة جادة : 

-ما أكثر التصرفات غير المعقولة! 

وقال عمر معاتبا: 

- ألا تريدين له أن يأكل؟ 

وقدمت لهم القهوة فى حجرة الاستقبال. ولم ينقطع الحديث بين عثمان وبثينة . 
وحوالى العاشرة اقترح مصطفى أن يجلس ثلاثتهم بالشرفة . وانتقل النساء إلى حجرة 
الجلوس. وأراد عثمان أن يعرف ماذا صنع مصطفى بحياته فقص عليه هذا قصته بصراحة 
واستهانة وجرأة غير متوقعة . ولم يقنع بذلك ولكن قال: 

-ها قد وقفت على أحوالنا فماذا يدور فى رأسك الكبير؟ 

وكان عثمان قد عاد بعد اختفاء بثينة ‏ إلى الفتور والتجهم فقال: 

-على أن أبدأ حياتى أولا كمحام . 

إنما أسأل عما يدور برأسك! 

توعان أن أدرمن نا حول .+ 


1110 





تاذ خض 


-من حقك هذاء غير أن موقفنا القديم لم يعد ضرورة حتمية. . 

فقال بغلظة متحدية: 

- ولكنه ضرورة حتمية! 

- أعنى أن الدولة الآن اشتراكية مخلصة وفى هذا الكفاية. . 

وظل عمر صامتا ينظر نحو النيل الذى يجرى عاكسا أضواء المصابيح تحت هلال 
مرشوق فى الأفق . وقال عثمان بمرارة : 

-إذا كنت قد تغيرت فلا يعنى هذا أن الحقيقة يجب أن تتغير. . 

- لم نتغير ولكننا تطورنا. . 

- إلى الوراء 

الوطن تطور إلى الأمام بلا شك. . 

-ربما ولكنكما تطورتما إلى الوراء . 

وظل عمر ينظر إلى الهلال أما مصطفى فسأله بمرح : 

ألم يقنعك ما ضحيت به من عمر؟ 

فقال يحنق : 

- الحقيقة لا تقنع . 

-يا عزيزى لست المسئول الوحيد عنها. . 

- الإنسان» إما أن يكون الإنسانية جمعاء» وإما أن يكون لا شىء. 

فقال مصطفى ضاحكا : 

- إننى لم أستطع أن أكون مصطفى فحسب فكيف يمكن أن أكون الإنسانية جمعاء؟ ! 

-يا لفداحة الفشل! . . لا أصدق ما حل بكما من تدهور. . 

لم يستطع مصطفى أن يتجاوب معه فى جديته ولكنه أشار إلى عمر وقال: 

-دعك من عمر فهو يعانى أزمة حادة. . لقد كره العمل والنجاح والأسرة. . 

نظر عثمان إلى عمر متسائلا» ولكنه لم يحول وجهه عن النيل» فقال مصطفى : 

دكاعا شف غن الفسة.. 

فقطب عثمان كالمنزعج وقال: 

- أليس هو الذى أضاعها؟ 

ثم خاطب نفسه متأوها: 

- هل انتهى الحال إلى التأملات الفلسفية! 

فقال مصطفى وكان يغالب الاستسلام للمرح طوال الوقت: 





> تاذ 


- طالما اعتقدت أنه يريد أن يبعث جانبه الفنى المكبوت» وحاول ذلك وما زال» ولكنه 
يحلم أحيانا بنشوة غريبة. . 

- زدنى فهما. . 

فتحول عمر نحوهما قائلا : 

أرح نفسك واعتبره مرضا. . 

فحدجه بنظرة ثاقبة وتمتم : 

لعله مرض حقاء إذ إنك ضيعت جانبك الصحيح المعافى . . 

فقال مصطفى : 

- أو أنه يبحث عن معنى لوجوده . 

عندما نعى مسئوليتنا حيال الملايين فإننا لا نجد معنى للبحث عن معنى ذواتنا! 
فتساءل عمر مضجرا: 

-ترى هل تموت الأسئلة إذا قامت دولة الملايين؟ 

ولكنها لم تقم بعد! 

ونقل عينيه بينهما ثم قال: 

- والعلماء يبحثون عن سر ا حياة والموت بالعلم لا بالمرض! 

- وإذا لم أكن من العلماء؟ 

- فلا أقل من ألا تثير فى وجوه العاملين غبار النواح والولولة . . 

فقال مصطفى : 

- إنك تقذف بألفاظ مدببة على حين يعانى صديقنا ألما حقيقيا. . 

- أنا آسف وأخشى أن أظل آسفا إلى الأبد. . 

وتساءل عمر: 

- ولكن ألا يسعفنا القلب إن فاتنا أن نكون من العلماء؟ 

- القلب مضخة تعمل بواسطة الشرايين والأوردة» ومن الخرافة أن نتصوره وسيلة إلى 
الحقيقة» والحق أنى أقترب من فهمك» فأنت تتطلع إلى نشوة. و ربما إلى ما يسمى 
بالحقيقة المطلقة» ولكنك لا تملك وسيلة ناجحة للبحث فتلوذ بالقلب كصخرة نجاة 
أخيرة» ولكنه مجرد صخرة» وسوف تتقهقر بك إلى ما وراء التاريخ » وبذلك يضيع 
عمرك هدراء حتى عمرى الذى ضاع وراء الأسوار لم يضع هدراء ولكن عمرك 
أنت سيضيع هدراء ولن تبلغ أى حقيقة جديرة بهذا الاسم إلا بالعقل والعلم 
والعمل . 

1110م 





الغثتاذ > 
لم يشهد الفجر فى الصحراء . لم يشعر بالنشوة التى تحقق اليقين بلا حاجة إلى دليل» 


لم تطرح الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب . 
وقال مصطفى : 
- إنى مؤمن بالعلم والعقل ولكن بين يدى الآن قصيدة كتبها عمر فى الفترة الأخيرة 
قبل أن ينبذ الشعر نهائياء وهى تقطع بثورته على العقل . . 
فقال عثمان وهو يتمالك أعصابه: 
مسرن أن اسمعها: : 
هم عمر بالاعتراض» ولكن مصطفى بسط ورقة استخرجها من جيبه وراح يقرأ : 
لأننى لم ألعب فى الهمواء 
ولاسكنت فى خط الاستواء 
لم يستهونى شىء إلا الأرق 
وشجر ةلا تشى للعااصفة 
وبناء لاتطرف لهدعين 
وساد صمت ثقيل . ثم قال عثمان : 
- لم أفهم شيئا. . 
وقال عمر: 
- وأنا لم أقل شعرا. كنت أهلوس تحت تأثير حال مرضية . 
فقال مصطفى : 
-ولكن القن انديق عموما يسن فى هذه الثوزة, 
فقال عثمان بازدراء : 
-إنها أنين نظام يحتضر. . 
فقال مصطفى : 
-ربما كان هذا حا على المستوى الحضارى» ولكننى أقول كفنان قديم إنها أزمة فنية 
أيضاء أزمة فنان يبحث عن شكل جديد بعد أن أعياه المضمون. . 
ولم أعياه المضمون؟ 
لأنه كلما عثر على موضوع وجده مبتذلا من كثرة الاستعمال. . 
- ولكن الفنان يضفى من نفسه على موضوعه فيصير جديدا فى هذه الحدود على 
الأقل. 





30 اهتاذ 


- لم يعد هذا مقنعا فى عصر الثورات الجذرية» عصر العلم» وقد تبوأ العلم العرش 
فوجد الفنان نفسه ضمن الحاشية المنبوذة الجاهلة» وكم ود أن يقتحم الحقائق الكبرى 
ولكن أعياه العجز والجهل» وحز فى نفسه فقدان عرشه فانقلب «غاضبا» أو «عدوا 
للرواية» أو «لا معقولا»», ولما استحوذ العلماء على الإعجاب بمعادلاتهم غير 
المفهومة نزع الفنانون المنهارون إلى سرقة الإعجاب باستحداث آثار شاذة مبهمة 
غريبة» وأنت إن لم تستطع أن تستلفت أنظار الناس بالتفكير العميق الطويل فقد 
تستطيعه بأن تجرى فى ميدان الأوبرا عاريا. . 

ولأول مرة يضحك عثمان عاليا» واستطرد مصطفى : 

- ولذلك اخترت أبسط الطرق وأصدقها وهو أن أكون مسليا. . 

وقال عمر لنفسه : لماذا أتعب نفسى فى مناقشة أمور لا تهمنى؟ 


١ /ع‎ 


خرس الفجر. على ضفاف النيل أو فى الشرفة أو فى الصحراء خرس الفجر. وليس 
من شاهد على أنه تكلم ذات مرة إلا ذاكرة محطمة . وإدامة النظر والتطلع إلى أعلى 
واحتراق القلب لا تجدى شيئاء والجوانح تنطوى على لوعة مشتعلة صراخها يصك 
السماوات بلا أمل. وسخريات الشعر وشعر مارجريت الذهبى وعينا وردة الرماديتان 
وطيف زينب الخارج من الكنيسة أشباح شاحبة تهيم فى رأس أجوف . 
وضحكات مصطفى تنعى أى أمل . أما صخب عثمان فنذر نبى يبشر بالعدم. 
وخاطبت المقاعد والجدران والنجوم والظلام» وخاصمت الخلاء» وغازلت شيئًا لم 
يوجد بعدء حتى أراحنى أمل قاتم فوعدنى بالخراب الشامل. وقدهان كل 
شىء» وتهتكت القوانين التى تحكم الكائنات» وتعذر التنبؤ بطلوع الشمس . كيف أقبل 
بعد ذلك أن أنظر إلى ملف قضية أو أن أناقش مشكلة تتعلق بميزانية البيت! وقد قلت 


لحجرتى | لغلقة : 
أى خطأ كانت تلك الهدنة التى أرجعتنى إلى البيت؟ 
وقلت للقطة وهى تتمسح بساقى: 


- سمعا وطاعة» سأرحل عن المأوى المكتظ بالعواطف المتطفلة المعوقة. . 
ولم يبق من تسليات إلا أن أرقص فوق قمة الهرم أو أقفز من فوق أعلى جسر إلى قاع 


00 11م 





64١ تاذ‎ 


النيل» أو أقتحم الهيلتون عارياء ويقينا أن روما لم يحرقها نيرون ولكن ضرمتها الأشواق 
اليائسة . كذلك تزلزل الأرض وتتفجر البراكين . 

وقالت وردة فى التليفون: 

-ترى هل نسيت صوتى؟ 

فقال فى قتور: 

-أهلا وردة. . 

- ألا تزورنا ولو فى السنة مرة؟ 

- كلا ولكنى تحت أمرك إن كنت فى حاجة إلى شىء . . 

أنا أحدثك بلغة القلب. . 

فقال ممتعضا: 

القلب! . . إنه مضخة. . 

وفى الحظة ألم حاد لعن العلم المستعصى على أمثاله من البشر . وكان يتخفف من ألمه 
بالاستسلام لجنون السرعة وهو يندفع بسيارته فى أطراف القاهرة. وتعددت رحلاته بلا 
هدف إلى الفيوم أو القناطر أو طنطا أو الإسكندرية. ويندفع بجنون حتى يشير الفزع 
والسخط . وكثيرا مايغادر القاهرة صباحا ثم يرجع إليها صباح اليوم الثانى دون نوم . 
وقد يدخل دكان بقال ليسكر أو يجلس فى التريانون لينام أو يشيع جنازة لا يعرفها ولا 
تعرفه» أو يغلبه النوم عقب الفجر فينام فى السيارة أو على شاطئ النيل حتى الصباح» 
وذهب مرة إلى مكتبه» وجد عثمان منهمكا فى العمل بطاقة مذهلة» وسأله الرجل: 

أين كنت فى الأيام الماضية؟ 

فرمقه باستهانة وقال: 

-فى أماكن لا حصر لها. . 

- أنت مرهق بلا ريب» ترى ماذا يدور فى رأسك؟ 

وكان الألم قد حرره من الحرج والحياء والخوف» حتى خوفه من عثمان قد اندثر» 


فقال: 
-أفكر فى تفجير الذرة فإن تعذر ذلك ففى القتل فإن تعذر ذلك ففى الانتحار! 
فضحك عثمان ثم قال معترضا: 


- ولكن مكتبك . . 
- لقد عاشرتنى مدة تكفى لأن تفهم . . 
- حدثنى عما تنوى أن تفعله . . 





7 اتاد 


فقال بتصميم : 
آن الأوان لأن أفعل ما لم أفعله فى حياتى وهو ألا أفعل شيئا . 
- لاشك فى أنك تمرح . . 
- لم أكن جادا كما أكون اليوم . . 
فتراجع عثمان أمام تجهمه الصارم وقال برقة: 
ألا تفكر فى استشارة طبيب؟ 
-لا أستشير أحدا فيما يجهله . . 
وزحف صمت مرهق حتى خرقه عمر متسائلا : 
- وأنت هل تقصر جهودك على المحاماة؟ 
- أجل» ولكنى لا أكف عن التفكير. . 
- هل تنقلب مرة أخرى خطرا يهدد الأمن؟ 
فقال باسما: 
-هذا شرف لا أستطيع أن أدعيه بعد. . 
الحق أن ما يكتنفه من طنين يمنعه من حسن الاستماع إلى الصمت. لابد من 
الذهاب . وهو بحال من التوتر يسهل معها الجهر بأى سر. لذلك قال لزينب إنه سيوكلها 
عن نفسه فى التصرف فيما يملك وإنه سيختفى عن مكتبه للعاملين فيه. وأظلمت عيناها 
كما تظلمان تحت الضربات التى تتلقاها واحدة بعد أخرى. وقال لها إنه صمم على ألا 
يشغل نفسه بشىء وأن يزيح الدنيا عن عاتقه. ولها أن تعتبر الحال مرضا واضحا أو 
غامضا ولكنه على أى حال لا يجد سبيلا أفضل من الخلو إلى نفسه بعيدا عن الناس . 
وليس فى الموضوع امرأة» يجب أن تصدقه؛ ولا لهو أو عبث» ولكنها أزمة طاحنة بلغت 
ذروتها ولن تنفرج إن كان مقدرا لها أن تنفرج إلا بالطريقة التى اختارها. 
وتوسلت زينب قائلة : 
- ولقد تركناك وشأنك» إذا كنت كرهت العمل فاهجرهء وإذا كان الحنين يراودك 
على الفن فاستجب له ولكن لا تهجرنا إكراما لأبنائك . . 
وخزه الكلام ولكنه قال إنه لا فائدة ترجى من ثنيه عن عزمه الذى يسيره كالقضاء. 
فقالت: 
-لقد حدثنى مصطفى طويلاء وآلمنى أنك صارحته بما تخفيه عنى» ولكنى اتتحلت 
لك بعض العذر أمام نفسى لغموض الحال التى تعانيهاء ولا تؤاخذنى على عدم 
فهمى لما تبحث عنه من معنى لوجودك أو للحياة» ولكنى لا أجد علاقة بين 


1110م 





ىتاذ ع 


ذلك وبين انقلابك على عملك ومستقبلك وأسرتكء, لاذا لا تعود إلى استشارة 

الطبيب؟ 

-لذلك لم أصارحك بكل شىء . 

- ولكن المرض ليس بعيب. . 

-إنك تظنين بى الجنون . 

فبكت حتى اضطرب جذعها » ولكنه لم يلن وقال بتصميم : 

-الحل الذى اخترت فيه الخير لنا جميعا . 

فقالت بضراعة : 

اذهب إلى أى مكان حتى تسترد راحتك النفسية ثم عد إلينا. . 

-ربما حدث ذلك ولكن من الأفضل أن نوطن النفس على ذهاب لا رجعة منه. . 

فاسترسلت فى البكاء حتى قال : 

- إن لم أفعل ذلك فإننى سأجن أو أنتحر. . 

ووقفت وهى تقول: 

- بثينة ليست طفلة ويجب أن تسمع رأيها. 

ولكنه هتف بها: 

- لا تضاعفى من عذابى. . 

ومن اليسير أن يخمن ما سيقال عن مرضه» عن عقله» ولكن لا أهمية لذلك ألبتة. 
ولعله حق . إنه يخاطب الجماد والحيوان ويناقش الكائتنات المنقرضة. ويرى أحيانا وهو 
ينطلق بسيارته الأرض المتماسكة وهى تنفتت ثم تتحول إلى شبكة مترامية من الذرات 
حتى يضطر إلى التوقف وهو يرجف . وأحيانا وهو يرنو إلى شجرة أو النيل تتحقق 
للمنظور شخصية حية» وتتخذ هيئته ملامح خفية لا يعوزها الشعور أو الإدراك» ويخيل 
إليه أنه يرامقه فى حذرهء وأنه يضع وجوهه بإزاء وجوده هو على مستوى الند للند 
ومفاخرا فى ذات الوقت بعراقته فى الوجود وخلوده النسبى فى الزمن . علام يدل ذلك؟ 
وعلام يدل نبذه للعمل والأسرة والأصدقاء؟ وعليه فيجب أن يكون حذرا وإلاوجد 
نفسه مسوقا إلى مستشفى الأمراض العقلية . 

وجاء مصطفى وعثمان للاجتماع به. وأدرك أنهما دعيا إلى ذلك . ولم تنفع 
ضحكات مصطفى فى التخفيف من توتر الجو. ولم يكن يتكلم لدى استقبالهما. وجىء 
بالويسكى إلى الشرفة فشرب كأسا تحية للقادمين . وتبادلوا نظرات طويلة وشت با تخفيه 
من إشفاق . وظهرت زينب دقيقة واحدة لتحية الرجلين وقالت وهى تهم بالانصراف : 





3 اتاد 


كنا أسعد أسرة» ولم يكن مثله فى الرجال أحدء ثم انهار كل شىء. . 
مصطفى : 
ولم يجب مكتفيا بإشارة من وجهه المصمم. . 
-إذن فأنت ذاهب! 
أجاب بصراحة كنصل مرهف : 
أجل . 
- إلى أين؟ 
مكان ما. . 
مولع 11ة 
لها . 
- إذن جاء دورنا لتلقى بنا فى صندوق الزبالة . 
فقال عابسا: 
- أمس بكت بثينة ولكنها لم تسمع خيرا من هذا الجواب . 
أهذا هو آخر عهدنا بك؟ 
-هو آخر عهدى بكل شىء. 
سوق أبكى بجماع روحى وجسدى . 
- وأنا كابدت ما هو أشق من البكاء . 
فتساءل مصطفى بحرارة : 
لأية غاية؟ 
فال بمرارة : 
لأنطح الصخر. 
فال عثمان: 
-لا أفهم. 
ولكن مصطفى واصل حديثه قائلا : 
001000 





الثتاذ همع 


- يجب أن أذهب . 

فقال عثمان وهو لا يحول عنه عينيه : 

<الاترق أن سعثير الطنين؟ 

فأجاب بحدة: 

- لست فى حاجة إلى إنسان. . 

- ولكنك بنيان قائم ولا يجوز أن يتهدم للاشىء. 

-لست شيئا فى الواقع . . 

- لا يستطيع الإنسان أن يفكر وهو بين الناس؟ 

ل افك الع 

ماذا ستفعل إذن؟ 

فقال بضيق : 

- لا سبيل للتفاهم فيما بيننا. 

- لكننى على ثقة من أنك تدفع بنفسك إلى الهلاك . 

- أنت الذى تدفع نفسك إلى الهلاك . 

إذا كان لابد من الهلاك فمن الأفضل أن ننضم إلى . . . 

فقال ملوحا فى قرف: 

-لن أنظر إلى الوراء . 

-إنك تجرى فى الحقيقة وراء لا شىء. . 

نشوة الفجر شىء أو لا شىء؟ وهل تكمن حقيقة كل شىء فى اللاشىء؟ ومتى ينتهى 
العذاب؟ ! 

واستطرد عثمان قائلا : 

-تصور أن يقتدى بك العقلاء فى هذه الدنيا! 

- فليبق العقلاء للدنيا . 

لكنك واحد منهم . 

فمسح على رأسه ثم كور قبضته ورمى بها إلى الأرض بازدراء قائلا: 

-هاك عقلى تحت قدميك . 

فتساءل عثمان محزونا : 


-ما جدوى هذه المناقشة؟ 





65> تاذ 


-هى عقيمة ولا جدوى منهاء وغدا لن تقع على عين. . 

وقال مصطفى متأوها: 

-لا أصدق كلمة واحدة مما يقال. 

فقال وهو يخفى عينيه فى الأرض : 

- من افير أن تنسيانى كأن لم أكن: 

فقال مصطفى : 

ولكنه فوق الاحتمال. 

وتصلب وجه عثمان فى حزن غاضب . وأسدل عمر على وجهه ستارا أصفر من 
اللامبالاة. وتحول شخصاهما فى نظره إلى مجموعتين من الذرات فامحت ذواتاهما. 
ومن صراعه الباطنى أدرك أن حبهما مازال عالقا بفؤاده كأسرته: ذلك الصراع الذى 
يحمل أعصابه ما لا تحتمل من ضغط وتمزق . وتاقت نفسه إلى لحظة الانتصار المأمولة» 
لحظة التحرر الكامل . 


١ 


عندما يظفر قلبك بضالته سيجد نفسه خارج أسوار الزمان والمكان. ولكنك ما زلت 
تشقى باللوعة فى البيت الصغير ككوخ تنبسط من حولك الأرض المعشوشبة» وتحيط بها 
على مدى السور أشجار السرو الرفيعة المقام. متى اليوم الذى يغيب عنك السرو وما 
يحدق به؟ يوم تسكت أشجان الليل المستقطرة من هسيس النبات وزفرات الصراصير 
ونقيق الضفادع . يوم لا ترهقك ذكرى ماضية ويستأثر بك اللاشىء . وتتلاشى أصداء 
الترانيم الهندية والتأوهات الفارسية فتستقبل شعاع النشوة الوردى بلا وسيط . نششوة 
الفجر العصماء العصية لتشدك بقوة المجهول إلى قبة السماء. هنالك لن يعرف قلبك 
النوم ولا حواسك الصحو. 

وقفت بثينة رشيقة كشجرة السرو وأجالت عينيها الخضراوين بين الحديقة والحقول 
المترامية وراء الأسوار والترعة الجارية بين صفين من أشجار السنط وسألته فى عتاب : 

أمن أجل هذا؟! 

ضعفت أمام طلعتها فمسحت برفق على موجات شعرها وغمغمت : 

- بل من أجل اللاشىء . 


1110 





المسّاذ 3 

ألا تخاف الوحشة فى الخلاء؟ 

فهمست فى أذنها : 

- أرهقتنى الوحشة فى الزحام. . 

وتباعدت خطوة وهى تقول : 

د مين عفمان قال .. 

فقاطعها برفق : 

- ألم تفطنى يا بنيتى بعد إلى أننى أصم؟ ! 

فغادرت الحديقة من الباب الخشبى القصير المغروس فى سور اللبلاب 
والنرجس واختفت عن الأنظار. وتنهدت فى إعياء وفتحت عينى فى الظلام . ماذا 
يعنى هذا الحلم إلا أننى لم أبرأ بعد من نداء الحياة؟ وكيف أفكر فيك طيلة يقظتى ثم تعبث 
بمنامى الأهواء؟ 

وعانقك مصطفى بحرارة ومرح ثم نظر فى عينيك نظرة حادة وحزينة . ورأيت مكان 
صلعته شعرا أسود غزيرا مسترسلا إلى الوراء فلم تملك أن تشير إليه قائلا : 

- مبارك عليك شعرك ولكن ماذا فعلت؟ 

فقال بجدية غير معهودة فيه : 

تلوت سورة الرحمن عند السحر . 

فسألته بدهشة : 

- ومتى عرفت الطريق إلى الرحمن؟ ! 

- منذ اعتزلت أنت العالم فى هذا المكان. 

-ولم جئت؟ 

- لأقول لك إن زينب تعمل بقوة عشرة من الرجال . 

- لها الله . 

وألقى على البيت والحديقة والحقول نظرة ثم قال: 

-ما أجدر هذا البيت بأن يكون مهد غرام أو مثوى فنان! 

فجفلت قائلا : 

-ها أنت تعود إلى الهزل . 

فتأوه قائلا : 





48 الاذ 


- لم يبق لنا إلا الهزل نحن بنو العصر الحجرىء ولكنك بدل أن تهزل جننت بحب 
الياس» .. 
فتراجعت وأنا أقول: 
- ألم تدرك أننى ميت الحواس؟ 
فهز منكبيه استهانة وتسلق شجرة سرو حتى بدا أعلى من البدر الصاعد فوق الأفق» 
وراح يحرك يده بجرس ذى رنين شديد حتى زحفت من الحشرات أنواع شتى ومضت 
ترقص حول الشجرة فى ضوء القمر. والتمعت صلعته تحت ضوء القمر. 
وتنهدت فى إعياء وفتحت عينى فى الظلام . ماذا يعنى الحلم إلا أننى لم أبرأ بعد من 
نداء الحياة : وكيف أفكر فيك طيلة يقظتى ثم تعبث بمنامى الأهواء؟ ! 
وأمس جلت بأنحاء الحديقة مرددا شعر المجنون. وعندما بلغت السور الشمالى الذى 
ترى وراءه الترعة هزنى صوت حلقى وهو يصيح : 
- أين الباب يا رجل؟ 
عثمان يعتلى دراجة بخارية مزركشة العجلة والمقود بالأعلام الصغيرة على طريقة أهل 
البلد فى الأعياد. وقلت له دون مجاملة : 
- لا تدخل. 


ألم تدر بالمعجزة؟ . . لقد عبرت سطح الترعة بالدراجة . 
-لا أؤمن بالمعجزات! 
فضحك عاليا وهو يقول: 


لكنئنا فى عصر المعجزات . . 

تراجعت خطوة وأنا أسأله : 

- ماذا تريد؟ 

فقال بجدية وجلال: 

جئتك موفدا من الأسرة . 

-لا أسرة لى . 

- ألم تدر بالمعجزة» لقدظهر لأسرتك فروع جديدة فى القارات الخمس أفلا تود أن 
ترجع إلى ذلك المزيج العجيب من البلاتين والفحم؟! 

فقلت متحديا: 


1110 





اذ 4ع 


- ألم تدر بأن أسرتنا الحقيقية هى اللاشىء؟ ! 

فال مهددا: 

- سأطاردك بفرقة كاملة من الكلاب المدربة . 

وقعقع أزيز الدراجة وارتفع نباح الكلاب فتنهدت فى إعياء وفتحت عينى فى الظلام . 
ماذا يعنى هذا الحلم إلا أننى لم أبرأ بعد؟ وكيف أفكر فيك طيلة يقظتى ثم تعبث. . 

وسهرت الليل كله فى الحديقة . ولم يكن معى فى الظلام شىء» والنجوم تومض فى 
القبة . وساءلتها عن أشواقى . وساءلتها متى يتحقق الحلم المنشود؟ وصرخت حتى 
اضطربت لصراخى خلايا السرو. وعاتبت كل شىء ولاشىء. ورنوت إلى نجم متألق 
بين النجوم . 

-أريد أن أرى. 

فهمس : 

الظن 

فنظرت فرأيت فراغا لا شىء فيه . ولكن ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه فهمس: 

-انظر. 

فانحسرت هالة من الظلام عن رجل عار وحشى الملامح مسدل الشعر حتى المنكبين» 
يقبض بيمناه على عصا من الحجر الصلد ويتحفز للقتال. . ووثب نحوه وحش لم تره 
عينى من قبل كأنه تمساح ولكنه يقوم على أربع أرجل طوال وله وجه ثور. ودارت بينهما 
معركة دامية انتهت بسقوط الوحش وتراجع الرجل مترنحا والدماء النازفة تخضب وجهه 
وصدره وتسيل فوق ذراعيه» ولكنه رغم آلامه ابتسم . 

ولكن ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم» فهمس : 

-انظر. 

فانجابت الظلمة عن فسحة من المكان تكتنفها غابة وينهض فى خلفيتها جبل » وانحدر 
من الجبل قوم عرايا مدججون بالأحجار فتصدى لهم آخرون من الغابة لا يقلون عنهم 
وحشية أو رغبة فى القتال. ودارت معركة عنيفة وعلا الصراخ وسالت الدماء. حتى 
الوحوش الكاسرة ولت لاتذة بأعالى الشجر والقنوات وقمة الجبل . وانهزم أهل الغابة 
فسقط منهم من سقط» وأسر من أسر وهلل أهل الجبل . 

ولكن ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم» فهمس : 

-انظر. 





5 اذ 


فرأيت جموعا تعكف على الأرض تحرثها وتزرعهاء وقوافل تسير محملة بالبضائع» 
طائفة تمتطى الخيل مدججة بالسلاح متأهبة للقتال. 

-انظر. 

فرأيت جبهة عالية يرتسم التفكير فى أخاديدها وصاحبها منكب على أوراق يخط 
فوق صفحاتها أرقام لا نهاية لها. 

ولكن ليس هذا ما أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم» فهمس : 

-انظر. 

ولم أر شيئا أول الأمر. ولكنى شعرت بوئبة تبشر بالنصر وشاع فى صدرى شعور 
غامر بالسعادة. وتذكرت الإحساس الباهر الذى سبق الرؤيا ساعة الفجر بالصحراء. 
ولم أشك فى أن النشوة آتية بموسيقاها وأن العريس سيبزغ وجهه. وانجابت الظلمة عن 
منظر آخذ فى الوضوح رويدا والتوكد»ء وخفق قلبى كما لم يخفق من قبل . وتمخض عن 
باقة» هيئة باقة ورد» غير أن وجوها آدمية حلت محل ورودها. وما لبثت أن تبينت فيها 
وجوه زينب وبثيئة وسمير وجميلة وعثمان ومصطفى ووردة ذهلت من الدهشة 
وحملقت فيها بإنكار. وباخ حماسى مرة واحدة وتجرعت غصص الخيبة . ليس هذا ما 
أتوق لرؤية وجهه وأنت تعلم أين وجهه؟ أين وجهه؟ ولكن المنظر تشبث بكينونته . 
وازداد مع الوقت دقة ووضوحا. وتبادلت أشخاصه الألاعيب. تبدت زينب برأس وردة 
ووردة برأس زينب . ولبس عثمان صلعة مصطفى ونظر مصطفى إلى بعينى عثمان . وإذا 
سرعته وإصراره. وقفزت من فوق السور الأخضر فوثب الآخر من فوقه كجرادة. 
وركضت بحذاء الترعة والآخر فى أثرى كثور عنيد. وعدوت» وعدوت حتى سرى 
الإنهاك فى عضلاتى وانبهرت أنفاسى وخارت قواى ودار رأسى فهويت إلى الأرض . 
انطرحت على وجهى فوق عشب ندى وقدما الآخر تقتربان منى فى إصرار وكأنهما 
تزدادان قوة. عبث الشيطان بالحلم . وبدلا من النشوة حلت اللعنة واستحالت الحنة ملعيا 
للمهرجين وتخليت عن فكرة المقاومة واستسلمت للأرض المعشوشية . ورفعت رأسى 
قليلا لأنظر فيما حولى . سمعت صفصافة تترنم ببيت من الشعر . واقتربت منى بقرة قائلة 
إنها سوف تتوقف عن در اللبن لتتعلم الكيمياء» وزحفت حية رقطاء ثم بصقت أنيابها 
من الخنافس وغنت أغنية ملائكية . أما العقرب فتصدت لى فى لباس ممرضة . 


11100 





36١ النمّاذ‎ 


وتنهدت فى إعياء وفتحت عينى فى الظلام . ماذا يعنى هذا الحلم إلا أننى كنت أفكر 


١ 


استلقيت على ظهرى فوق الحشائش رانيا إلى الأشجار الراقصة بملاطفات النسيم فى 
الظلام . أنتظر وإن طال الانتظار. وإذا بأقدام تقترب وصوت يهمس: 

-مساء الخير يا عمر . 

وانتصب شبح إلى جانبى . ما أكثر الأحلام! ولكننى لا أرى شيئا. وقال: 

كدت أيأس من العثور عليك» كيف ترقد هكذاء ألا تخاف الرطوبة؟ 

وجلس إلى جانبى فوق الحشائش ومد يده ولكنى تجاهلته فقال : 

- أنسيت صوتى؟ ألم تعرفنى بعد؟ 

قلت متأوها: 

-متى يكف الشيطان عنى؟ ! 

ماذا قلت يا عمر؟ بالله حدثنى فأنا فى غاية من الضيق . 

- من أنت؟ 

يا عجبا! . . أنا عثمان خليل . . 

- وماذا تريد؟ 

أنا عثمان! لقد وقع المحظور وأنا مطارد. . 

كسست جسمه بيدى وقلت: 

- ليس هذا بجسم سمير فماذا تعنى هذه المرة؟ 

باسمين !1 إنكتحفق ... 

- ولكنى لن أخاف ولن أعدو كالمجنون. . 

فلمس ذراعى وقال: 

- بالله حدثنى كصديق» لا تدفع بى إلى اليأس منك . 


- وماذا يهم؟ 





00 ىتاذ 


- أصغ إلى يا عمر» إنى فى موقف خطير» إنهم يبحثون عنى فى كل مكان وإذا ألقوا 
- إذن فأنت الهارب هذه المرة . . 

- سأختبى عندك حتى أتمكن من الهرب . 

فتساءلت فى حزن : 

- كيف جاء بك الشيطان؟ 

فأجاب بلهفة : 

كنا نعرف مكانك من أول يوم» وليس ذلك بالمطلب العسير على صحفى مدرب 
كمصطفى» وكثيرا ما حام مصطفى حول مسكنك وأوصى بك الفلاحين الذين 
يجيئونك بالطعام» ولكننا لم نرد أن نزعجك . . 

فهتفت متأوها: 

-هم الذين حالوا بينى وبين وجهه. 

- بل لم نزعجك مرة واحدة طوال العام ونصف العام. . 

-لن أبالى حتى إذا وضعت رأسك مكان رأس سمير! 

فقال بحسرة: 

-ماذا أصابك؟ . . لا. . لا» لن أصدق أنك لم تعرفنى بعد. . 

صدق أو لا تصدق. 

أصغ إلى يا عمرء سأصارحك بحقيقة مذهلة» لقد تزوجت من بثينة! 

- فليعبث الشيطان ما شاء له العبث . 


فقال وهو يدنى وجهه من وجهى : 

- رغم فارق السن تزوجناء هو الحب كما تعلم» وفى بطنها الآن ينبض جنين هو ابنى 
وحفيدك! 

- كما كنت ابنى وعدوى! 


أما توقظك الأخبار العجيبة؟ 

- كما لفظت احية أنيابها السامة ورقصت . . 
يا للخسارة! 

- هذا ما أردده دائما وما من مجيب . : 


فربت صدرى برفق وقال: 


11100 





اللثىتّاذ عومج 


-عد إلى وعيك» إنهم فى أشد الحاجة إليك » لقد هربت فى اللحظة المناسبة ولكنهم 
يجدون فى البحث عنى» ولقد فتشوا مكتبك وأخشى أن يسيئوا بك الظن» عد 
لتعلن براءتك وترعى أسرتكء بثينة تنتظر وليداء ولن ترانى أبدا. . 

دوأنا لم أوةة 

ألا تريد أن تفهم؟ 

- أموت كل يوم عشرات المرات كى أفهم ولكننى لا أفهم . 

- ألم تفهم أننى زوج ابنتك وأنه مقضى على بالاختفاء أو الموت؟ 

اجر حتى تسقط إعياء وسوف ترى الخنافس وهى تغنى . . 

-يا للفظاعة! 

-يا للفظاعة! 

فهزنى بشىء من الشدة وقال بغصب: 

اصح لا وقت للهذيان» يجب أن أفهمك كل شىء قبل أن أذهب . 

اذهبء لا تكدر صفو أحلامى. 

-يا للتعاسة! ماذا فعلت بنفسك؟ 

- سوف ييأس الشيطان منى . 

-اصحء أسرتك فى خطرء إذا اتجه الشك إليك فسيتعرضون للبهدلة» أنا لا أخاف 
على نفسى فقد نذرتها للهلاك. ولكن يجب أن تعود إليهم. . 

-عد إلى الجحيم فهو مقرك. 

وهزه مرة أخرى بحئق قائلا: 

- يجب أن أهرب ويجب أن تعود. 

-ابق إذا شئت لترى بعينيك انتصارى . 

فهز رأسه فى أسف وقال: 

يا لك من أحمق! بددت مجدك فى البحث عن شىء غير موجود. 

- متى تصدق أنت أنك غير موجود؟ ! 

نهض الرجل قائما وهو يقول: 

- أشهد أننى يئست منك رغم أن اليأس ليس فى قاموسى . 

-ها قد يئس الشيطان . . 

ابتعد الشبح فى الظلام وهو يقول بحزن: 





304 الغتاذ 


الوداع يا أخا الجهاد القديم . 

عاد السكون إلى الليل. ولكن ذلك لم يطل. سرعان ما عاد الرجل مهرولا وهو 
يقول: 

جاءواء كيف اهتدوا إلى بهذه السرعة؟ 

وجرى فى الحديقة نحو السور الغربى» وسرعان ما رجع وهو يقول فى هياج : 

حاائى محا ضر 

وجرى نحو المبنى الصغير. ورنوت إلى النجوم فى سلام نسبى . ولكن صوتا مزعجا 
ترامى صياحه وهو يقول: 

-سلم نفسك. عثمان خليل. . سلم نفسك. أنت محاصر من جميع الجهات . 

لم أسمع جوابا واتجهت عيناى نحو مصدر الصوت الغارق فى بهيم الليل وغمغمت: 

- الشيطان يتمادى فى عبثه ولكنى لست محاصراء بل أنا حر. . 

وترامت الأصوات من جميع النواحى المحدقة بالسورء واقتربت رويداء وصاح 
صوت أشد إزعاجا من الأول: 

-المقاومة لا جدوى لها ولا معنى لها. . 

ولم يرد المختبى» وغمغمت: 

- كل شىء له معنى . 

وإذا بأضواء كشافة تجتاح البيت من جميع الجهات فتجعله شعلة من نور» وضاق 
الخناق على المكان كله» وصاح الصوت: 

- سلم يا عثمان» اخرج رافعا ذراعيك. . 

وتأوهت متمتما: 

-متى تسكت عنى أصوات الشياطين؟ ! 

وصاح الصوت الرهيب: 

- ألا ترى أن أى مقاومة عبث؟ ! 

فهمست: 

-لااشىء فى الوجود عيث . . 

واندفعت أقدام مصحوبة بصياح فى الناحية الخلفية للبيت الصغير. وخرج شبح إلى 
الشرفة الأرضية المتصلة بالحديقة وزعق : 

داتتهى: . انتهى . . قبض عليه ... وانتهى كل شىء. 


11100 





اتاد > 

- ليس لشىء نهاية . 

واندفع عديد من الأشباح فى الحديقة راكضين نحو البيت. وعثر أحد الراكضين 
بساقى فسقط على وجهه» وصاح: 

حذار» يوجد أخرون. : 

وانطلق عيار نارى. وندت عنى تأوهة عميقة . وشعرت بألم حاد كأنه ألم حقيقى لا 

وتنهدت فى إعياء وفتحت عينى . ماذا يعنى هذا الحلم إلا أننى لم أبرأ بتعد. وكيف 
أعشاب الحديقة وأشجار السرو؟ هذه سيارة تنطلق . وأنا راقد على مقعد طويل جانبى 
يجلس على طرفه رجل . وعلى المقعد المواجه لى فى الجانب الآخر من السيارة يجلس 
عثمان بين رجلين. لاشك أنى ما زلت أحلم. وثمة ألم فى منكبى يدفعنى إلى التأوه. 
وقالصوت: 

-من المؤكد أن الرصاصة اخترقت الترقوة ولكنه جرح سطحى لا خطر منه . 

ترى ماذا يعنى هذا الحلم؟ وأين يذهب بى؟ ومتى يسكن الألم الحاد بمنكبى؟ ومتى 
أنتتصر على الشيطان وعبثه؟ ومتى تختفى من أحلامى الدنيا ومن فيها؟ وتأوهت رغما 
عنى فقال صوت : 

اصبر قليلا . 

فقلت بتحد: 

-زولوا لأرى النجوم . 


-أنت بخير . 

فقلت بعناد: 

-إنى بخير ما انتتصرت عليكم . 
-اهدأ» سيراك الطبيب فورا. 
-لا حاجة بى إلى إنسان . 


فقلت بإصرار: 
- لقد تكلمت الصفصافة ورقصت الحية وغنت الخنافس . 





6 ىتاذ 


متى يرى وجهه؟ ألم يهجر الدنيا من أجله؟ 


خامره شعور بآن قلبه ينبض فى الواقع لا فى الحلم» وبأنه راجع فى الحقيقة إلى 
الدنيا. 

ووجد نفسه يحاول تذكر بيت من الشعر. متى قرأه» وأى شاعر غناه؟ 

وتردد الشعر فى وعيه بوضوح عجيب : 

- إن تكن تريدنى حقا فلم هجرتنى؟ ! 


110 








إبريل» شهر الغبار والأكاذيب» الحجرة الطويلة العالية السقف مخزن كتيب لدخان 
السجائرء الملفات تنعم براحة الموت فوق الأرفف» ويالها من تسلية أن تلاحظ الموظف 
من جدية مظهره وهو يؤدى عملا تافها. التسجيل فى السراكى» الحفظ فى الملفات» 
الصادر الوارد. النمل والصراصير والعنكبوت ورائحة الغبار المتسللة من النوافد المغلقة . 
وسأله رئيس القلم : 

-هل أتممت البيان المطلوب؟ 

فأجاب بلسان متراخ : 


- نعم » ورفعته للمدير العام . 

فرماه بنظرة نافذة لاحت كإشعاع بلورى من وراء نظارته السميكة. هل ضبطه متلبسا 
بابتسامة بلهاء غير مبررة؟ ! ولكن هذه السخافات يجب أن تساغ فى إبريل » شهر الغبار 
والأكاذيب. 

ودبت حركة عجيبة فى رئيس القلم فشملت أعضاءه الظاهرة فوق المكتب. حركة 
تموجية بطيئة ولكنها ذات أثر حاسم . راح ينتفخ رويدا فيمتد الانتفاخ من الصدر إلى 
الرقبة فإلى الوجه ثم الرأس . حملق أنيس زكى فى رئيسه بعينين جامدتين . وإذا بالانتفاخ 
البادئ أصلا بالصدر يتضخم فيزدرد الرقبة والرأس» ماحيا جميع القسمات والملامح» 
مكونا من الرجل فى النهاية كرة ضخمة من اللحم . ويبدو أن وزنه خف بطريقة مذهلة 
فمضت الكرة تصعد ببطء أول الأمر ثم بسرعة متدرجة حتى طارت كمنطاد والتصقت 
بالسقف وهى تتأرجح . وسأله رئيس القلم : 

-لماذا تنظر إلى السقف يا أنيس أفندى؟ 

آه. هاهو ذا يضبطه متلبسا مرة أخرى . ورمقته الأعين بإشفاق واستهزاء. واهتزت 
الرءوس فى رثاء احتفاء بملاحظة الرئيس وتأييدا لها. وإذن فلتشهد النجوم على ذلك . 


10 مر وق النيل 


حتى الهاموش والضفادع تعامله معاملة أكرم وألطف . أما الحية الرقطاء فقد أدت خدمة 
لا تتكرر لملكة مصر القديمة. أنتم وحدكم أيها الزملاء لا خير فيكم» والعزاء عندما 
نلتمس العزاء فى قول ذلك الصديق الذى قال: «فلتقم أنت فى العوامة» لن تتكلف 
مليما واحدا من إيجارهاء وعليك أن تعد لنا كل شىء) . 

وبتصميم مفاجئ راح يسرك مجموعة من الخطابات . السيد المحترم» إشارة إلى 
كتابكم رقم ١91١‏ المؤرخ فى ؟ من فبراير عام ١975‏ وملحقه رقم 7٠١8‏ المؤرخ فى 7/8 
من مارس عام ١954‏ أتشرف بالإفادة. ومع رائحة الغبار المتسللة ترامت من راديو 
الطريق أغنية «يا امه القمرع الباب»» فتوقفت يده عن الكتابة وغمغم: «الله!». فقال 
زميله الأيمن : 

-يا بختك بفراغ البال. 

يا أولاد الأقدمية المطلقة! فى انتظار حلم لن يتحقق تحترفون البهلواتية . وأنا بينكم 
معجزة تخترق الفضاء الخارجى بغير صاروخ . 

ودخل الساعى فسرت فى بدنه رعدة رغية فقال له: 

واحد سادة. 

فأجاب الساعى وهو يقف أمام مكتبه : 

ستجده على مكتبك عندما ترجع من مقابلة سعادة المدير العام . 

غادر الحجرة بقامته الطويلة الضخمة بحكم ضخامة عظامه لا بسبب أى درجة من 
الامتلاء. 

فى حجرة المدير وقف أمام مكتبه خاشعاء وظل رأس المدير الأصلع مكبا على أوراق 
يراجعها عارضا لعينيه ظهر قارب مقلوب» وطارد بالبقية الباقية له من إرادته أى خاطر 
يمكن أن يعبث به فيوقعه فى مأزق وخيم العواقب . ورفع الرجل وجها مدببا مغضونا ثم 
رمقه بنظرة شوكية . أى خط يمكن أن يتسرب إلى البيان الذى نقله بعناية خارقة؟ ! 

طلبت منك بيانا مفصلا عن حركة الوارد فى الشهر الماضى . 

- نعم يا سعادة البك وقد قدمته لسعادتك . 

أهو هذا؟ 

نظر إلى البيان فقرأ على الغلاف بخط يده : «مذكرة عن حركة الوارد خلال شهر 
مارس مرفوعة إلى السيد مدير عام المحفوظات» . 

-انظر واقرأ. . 

1110م 





شر وق النيل 304 


رأى أسطرا مكتوبة بوضوح يليها فراغ أبيضء قلب الأوراق فى ذهول» ثم حملق فى 
وجه المدير العام كالأبله . 

قال الرجل بحنق : 

-اقراً . 

سيدى المدير . . لقد كتبتها حرفا حرفا . . 

خبرنى كيف اختفت؟ 

الحق أنه لغز غير قابل للتفسير . . 

ولكن أمامك آثار سن القلم! 

دعسن القلي؟! 

أعطنى قلمك الساحر! 

وتناول القلم بحركة حادة وراح يرسم خطوطا على غلاف البيان ولكنه لم يرسم خطا 
واحدا. 

-ليس به نقطة حبر واحدة! 

تجلى الوجوم فى صفحة وجهه العريضء» فقال المدير بمرارة : 

بدأت بكتابة هذه الأسطرء ثم فرغ الحبرء ولكنك استمررت فى الكتابة. . 

لم بانس بكلية” 

- لم تنتبه إلى أن القلم لا يكتب. . 

حرك يده حركة حائرة . 

خبرنى يا سيد أنيس كيف أمكن أن يحدث ذلك؟ ! 

أجل كيف؟! كيف دبت الحياة لأول مرة فى طحالب فجوات الصخور بأعماق 
المحيط؟ ! 

«لندت اعدئ فبها أطن اسيل اليض؟ 

أحنى رأسه مستسلما. 

- سأجيب أنا عنك . إنك لم تر الصفحة لأنك مسطول! 

ديا سعادة. . 

هذه هى الحقيقة . حقيقة معروفة للجميع حتى السعاة والفراشين. وأنا لست واعظاء 

ولاولى أمرك» افعل بنفسك ما تشاء» ولكن من حقى أن أطالبك بأن تمتنع وقت 
العمل عن البلبعة. . 
ديا سعادة. . 





ود شر فق النيل 


-دعنا من السعادة والتعاسة. حقق لى هذا الرجاء المتواضع وهو ألا تبلبع فى أثناء 

العمل. . 

- يشهد الله أنى مريض! 

-إنك المريض الأبدى . . 

لا تصدق ما... 

كفاية أنظر فى عينيك . . 

هو المرض ولا شىء سواه. . 

-ما رأيت فى عينيك إلا الاحمرار والظلام والثقل. . 

-لا تستمع إلى كلام . . . 

-عيناك تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج كبقية خلق الله. . 

ثم ندت عن يديه المغطاتين بشعيرات بيضاء شعثاء حركة وعيد» وقال بنبرة حادة : 

للصبر حدودء فلا تستسلم للتدهور بلا حدود» وأنت رجل فى الأربعين» وهى سن 

العقل فكف عن العبث . . 

تراجع خطوتين استعدادا للذهاب» فقال الرجل : 

- سأخصم من مرتبك يومين فقط ولكن احذر أن تعود . 

وسمعه وهو يمضى نحو الباب يقول بازدراء : 

متى تفرق بين الحكومة والغرزة؟! 

وبرجوعه إلى الإدارة ارتفعت الرءوس نحوه مستطلعة . 

تجاهلهم وجلس ينظر إلى فنجان القهوة. وشعر بزميله وهو يميل نحوه ليسأل سؤالا 
فى الغالب فتمتم فى ضجر : 

كن فى حالك . . 

وأخرج من الدرج محبرة وراح يملا القلم . عليه أن يعيد البيان من جديد. حركة 
الوارد. لا حركة ألبتة فى الحقيقة . حركة دائرية حول محور جامد» حركة دائرية تتسلى 
بالعبث . حركة دائرية ثمرتها الحتمية الدوار. فى غيبوبة الدوار تختفى جميع الأشياء 
الثمينة» من بين هذه الأشياء الطب والعلم والقانون» والأهل المنسيون فى القرية الطيبة. 
والزوجة والابنة الصغيرة تحت غشاء الأرض . وكلمات مشتعلة بالحماس دفنت تحت 
ركام من الثلج. ولم يبق فى الطريق رجل . وأغلقت الأبواب والنوافذ. وثار الغبار لوقع 
سنابك الخيل» وصاح المماليك صيحات الفرح فى رحلة الرماية. كلما عثروا على آدمى 
فى مرجوش أو الجمالية أقاموا منه هدفا لتدريبهم . وتضيع الضحايا وسط هتاف الفرح 


11100 





مر فق اليل 4 


المجنون وتصرخ الثكلى : «الرحمة يا ملوك» فينقض عليها الصائد فى يوم اللهو. بردت 
القهوة وتغير مذاقها ومازال المملوك يضحك ملءشدقيه . وحل الصداع مكان الخيال وما 
زال المملوك يضحك . وهم يطلقون اللحى ويثيرون الغبار. 

ويفرحون بالأبهة والتعذيب. 

ودب نشاط مرح فى الحجرة القاتمة مؤذنا بوقت الانصراف . 


استوت العوامة فوق مياه النيل الرصاصية مألوفة الهيئة كوجه. بين فراغ إلى اليمين 
احتلته عوامة دهرا قبل أن يجرفها التيار ذات يوم؛ ومصلى إلى اليسار مقام على لسان 
عريض من الشاطئ مطوق بسور من الطين الجاف ومفروش بحصيرة بالية. دخل أنيس 
زكى من باب خشبى أبيض يمتد إلى جانبيه سياج من شجيرات البنفسج والياسمين» 
فاستقبله عم عبده الخفير قائماء يعلو بقامته العملاقة هامة كوخه الطينى المسقوف 
بالأخشاب وسعف النخيل . ومضى إلى السقالة فوق ممشى مبلط يكتنفه من الناحيتين 
أرض معشوشبة» يتوسط يمناها حوض من الجرجير» وتقوم فى أقصى اليسرى خميلة من 
اللبلاب ترامت كخلفية لشجرة جوافة فارغة. وانهلت أشعة الشمس ملحة حامية من 
خلال سقيفة من أغصان الكافور منطرحة فوق الحديقة الصغيرة من أشجارها المغروسة 
فى الطريق . 

خلع ملابسه؛ وجلس بجلبابه الأبيض فوق عتبة الشرفة المطلة على النيل يستقبل 
نسمة لطيفة» مستسلما للمساتها الحانية» جاريا ببصره فوق الماء المنبسط كأنه مستقر 
ساكن لا يتموج ولا يتلألاً» ولكنه موصل جيد لأصوات السكان فى عوامات الشاطئ 
الآخر فى صفها الطويل تحت أغصان الجازورينا والأكاسيا. وتنهد بصوت مسموع فسأله 
عم عبده وهو يعد المائدة الصغيرة الملتصقة بالجدار الأيمن على مبعدة مترين من الفريجدير 
النورج : 

خيرا؟ 

فتمتم ملتفتا نحوه : 

صادف الكيف جوا فاسدا مقرفا. 

- ولكنك تعود آخر الأمر إلى جوك الطيب . 

دائما ينتزع إعجابه . كشىء ضخم قديم عريق فى القدم . وبحيوية النظرة المنبثقة من 





3 مشر فو اليل 


دائرة التجاعيد الصلبة . وربما أرهبه عمق الحفائر. أو هالة الشعر الأبيض الكث البارز من 
جيب جلبابه كأزهار البلح. أما جلبابه الدمور المنسدل كغطاء تمثال فينسدل على اللحم 
بلا عائق. وما اللحم إلا جلد على عظم . ولكن أى عظم؟ ! هيكل عملاق يناطح رأسه 
سقف العوامة. ويشع كونه جاذبية لا تقاوم. رمز حقيقى للمقاومة حيال الموت . لذلك 
يحب كثيرا محادثته على رغم أن المعاشرة بينهما لم تجاوز الشهر . 

وقام إلى السفرة واتخذ مجلسه. وراح يأكل قطعة من الكوستليتة ممسكا بطرف 
الريشة وهو ينظر إلى الجدار الخشبى المطلى بغراء سماوى» ويتابع برصا صغيرا زحف 
مسرعا فوق الجدار ثم انزوى وراء مفتاح الكهرباء» وذكره البرص برئيس القلم ولكن 
لماذا؟ وألح عليه سؤال مباغت : ترى هل يوجد للمعز لدين الله الفاطمى ورثة يمكن أن 
يطالبوا ذات يوم بملكية القاهرة؟ 

كم عمرك ياعم عبده؟ 

كان يقف وراء البارفان الحاجب للباب الخارجى مطلا عليه من عل كأنه شجرة سرو 
سارحة فى السحاب» وابتسم كأنا لم يأخذ السؤال مأخذ الجد: 

-عمرى؟! 

فأكد سؤاله بهزة من رأسه وهو يتمطق» فعاد العجوز يقول: 

من أدرانى؟ ! . 

لست خبيرا فى تقدير الأعمار» ولكن الراجح أنه كان يسعى فوق الأرض قبل أن 
تغرس أول شجرة فى شارع النيل . ولم يزل قويا بالقياس إلى سنه لدرجة تفوق الخيال. 

يتفقد الفناطيس. ويجذب العوامة بحبالها تبعا للأحوال فتطيعه. ويسقى الزرع» 
ويؤم المصلين» ويحسن طهى الطعام . 

هل تعيش وحدك دائما فى الكوخ؟ 

إنه بالكاد يسعنى وحدى . . 

- من أى بلد جئت يا عم عبده؟ 

-أووه! 

أليس لك من أقارب فى القاهرة؟ 

لا أحد. 

نحن شبيهان فى ذلك على الأقل» أما طعامك فلذيذ. . 

تشكر! 

إنك تأكل أكثر مما يجوز لشخص فى سنك . 

111000 





ع ى مم ٠‏ مم 5زء 
مم وق النيل ا 


آكل ما أستطيع أن أهضمه. . 

ونظر إلى العظام المتخلفة من الكوستليتة وقال: إن المدير العام لن يبقى منه ذات يوم 
إلا عظام كهذه العظام» وكم يود أن يشهد محاسبته يوم الحساب . وراح يقشر موزة 
مواصلا تحقيقه : 

-متى خدمت فى العوامة؟ 

دامة جو ءاهنا إلى مراهاء 

-متى كان ذلك؟ 

دأووه . 

وصاحبها الأول هو صاحبها اليوم؟ 

تتابع عليها كثيرون 

وعملك هل يعجبك؟ 

أجاب بزهو : 

أنا العوامة : لأنى أنا الحبال والفناطيس» وإذا سهوت عما يجب لحظة غرقت 

وجرفها التيار. . 

فضحك لاعتزازه الساذج الجذاب بنفسه» ورنا إليه مليا ثم سأل: 

ما أهم شيء فى الدنيا؟ 

الصحة والعافية. 

شىء غامض ساحر فى الإجابة أضحكه طويلاء وعاد يسأل: 

متى عشقت امرأة آخر مرة؟ 

-أووه. . 

وبعد العشق ألم تجد شيئا يسرك؟ 

-قرة عينى فى الصلاة . 

جميل صوتك وأنت تؤذن. . 

ثم بنبرة مرحة : 

ولست دون ذلك جمالا حين تذهب لتجىء بالكيف أو تغيب لتعود بفتاة من فتيات 

الليل. 

فقهقه ماتلا برأسه المغطى بطاقية بيضاء إلى الوراء ولكنه لم يجب . 

أليس كذلك؟ 





334 شر فق اليل 

فأجاب وهو يمسح بيده الكبيرة على وجهه: 

- أنا خادم السادة . 

كلا . وهو العوامة كما قال. الحبال والفناطيس والزرع والطعام والمرأة والأذان. 

وقام متأبطا المنشفة فدخل من باب جانبى فى ذات الجدار إلى الحوض ليغسل يديه 
وعاد وهو يقول لنفسه: إن الإفراط وحده كان السبب فى أن أكثر الخلفاء لم يعمروا 
طويلا. 

ورأى عم عبده منهمكا فى تنظيف المائدة منحنى الظهر كنخلة مقوسة فسأله مداعبا: 

ألم تر عفريتا فى حياتك؟ 

زآيت كل شىء: 

- ألم تسكن أسرة شريفة هذه العوامة أبدا؟ 

-أووه. . 

يا خفير اللذات! لو لم تحب هذه الحياة لهجرتها. من أول يوم. . 

ولكنى بنيت المصلى بيدى! 

ونظر إلى الكتب المصفوفة فوق الأرفف التى تشغل الجدار الطويل إلى يسار الداخل . 

مكتبة التاريخ منذ العصر الخالى حتى عصر الذرة. مجال خياله وكنز أحلامه . وتناول 
كيفما اتفق كتاب ك .كك . عن الرهبنة فى العصر القبطى ليطالع فيه ساعة أو ساعتين قبل 
القيلولة كعادته كل يوم . وفرغ عم عبده من عمله فاقترب منه مستطلعا آخر تعليماته قبل 
أن يذهب . عند ذاك سأله : 

-ماذا يجرى فى الخارج يا عم عبده؟ 

كالعادة يا سيدى . 

ألا جديد هناك؟ 

-لم لا تخرج يا سيدى؟ 

-كل يوم أذهب إلى الوزارة. 

أعنى أن تخرج للفرجة. . 

فضحك قائلا : 

-عيناى تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج كبقية عباد الله! 

وصرفه وهو يوصيه بأن يوقظه قبيل المغرب إذا غلبه النوم . 


011100 





مشر فق الشيل ب 


0 


أعد المجلس كأحسن ما يكون. صفت الشلت على صورة هلال كبير فيما يلى 
الشرفة. وفى نقطة الوسط من الهلال استوت صينية نحاسية كبيرة» جمعت الجوزة 
ولوازمها. وهبط المغيب فوق الأشجار والماء فانتشر فى الجو حلم هادئ» وآبت أسراب 
الحمام البيضاء تطير سراعا فوق النيل . تربع أنيس وراء الصينية رانيا إلى المغيب بعينين 
ناعستين على هيئتهما بوجه عام» ولكن عندما يمسرى سحر الفص المذاب فى القهوة 
السادة فسوف تتغير أشياء. ستحل الأشكال المجردة والتكعيبية والسريالية والوحشية 
مكان الجازورينا والكافور والأكاسيا وعرائس العواماتء أما الإنسان فيرتد إلى العصر 
الطحلبى» ولكن ما الأسباب التى حولت طائفة من المصريين إلى رهبان؟ 

بل ما آخر نكتة سمعتها عن راهب وإسكاف؟ 

وسرت هزة خفيفة فى العوامة بفعل قدم تسير فوق السقالة فتأهب لاستقبال القادم . 
أقبلت فتاة معتدلة القامة ذات شعر ذهبى . مضت إلى الشرفة وهى تحيبه بمرح فتمتم : 

أهلا بوزارة الخارجية . 

ليلى زيدان صديقة الأعوام العشرة الماضية . عانس فى الخامسة والثلاثين كما ينبغى 
لرائدة فى فضاء الحرية مرقت من بؤرة محافظة . وأنت لم تمسها ولكن مسها الكبر. هذه 
التجاعيد الخفيفة كالزغب حول طرفى العين والفم» ومسحة من الجفاف القاسى المقفر 
لإناء لم يترع بماء . ولم تزل بها ملاحة تشتهى فى البشرة الصافية على رغم غلظ فى أرنبة 
الأنف ونذير غامض يزحف مهددا بالخراب» وكانت فى عصر خوفو ترعى الغنم فى شبه 
جزيرة سيناء ولكنها لم تترك أثرا إذ لدغها ثعبان أعمى فقضى عليها . 

قالت دون أن تلتفت إليه كأنما تخاطب النيل : 

-يوم شاق فى الوزارة» ترجمت عشرين صفحة فولسكاب . . 

وكيف حال السياسة الخارجية؟ 

- ماذا تتوقع؟ 

- أنا لا أطلب إلا الستر. . 

غادرت موقفها إلى أقصى شلتة فى الجناح الأيمهن للمجلس ثم جلست وهى تقول : 

- المنظر كما هو كل يوم» عم عبده جالس فى الحديقة كتمثال» وأنت هنا تعد الجوزة! 





+ رثرة فو اليل 


ذلك أن على الإنسان أن يعمل . 

وأذعن لإحساس مترنح فتمثل له المساء بشرا عابثا قد عمر الملايين من السنين . وراح 
يعرض بامرأة عابدة للحب» كلما هجرها محب ارقت بين أحضان آخر . وقال إن ذاك 
سلوك يمكن أن تفسر به أوجه القمر المتتابعة من المحاق إلى البدر . 

فابتسمت ابتسامة باردة» وقالت بسخرية مقلدة نبرته السابقة : 

ذلك أن على المرأة أن تحب! 

وغمغمت: «وغد»! فق رأفى وجهها نذيرا خفيفا بالغضب ولكنه لم يعثر بأثر 
للكراهية فآمن بأنها لا تقاس فى لهوها بامرأة مثل فيكتوريا ملكة العصر المحافظ المشحون 
بالتقاليد. 

وسألها من دون جدية ما: 

- لم لا تتخذين منى رفيقا؟ 

ولما ألح عليها بعينيه أجابت : 

-إنك إذا استعملت الحب يوما كمبتد! فى جملة مفيدة فستنسى حتما الخبر إلى الأبد! 

وتذكّر كم كان متفوقا فى اللغة العربية مثل المدير الذى يشهد له بذلك قراره بخصم 
يومين من مرتبه لا لشىء إلا لأنه كتب صفحة بيضاء . وكما قالت له ذات يوم: «أنت بلا 
قلب»» فقد ذهب الأصدقاء ولم يبق فى العوامة منهم إلا خالد عزوز وليلى زيدان. 
ودون أى تمهيد قبض على ساعدها وقال: «أنت الليلة لى أنا»! لماذا خالد دائما؟ وخالد 
نفسه ورثك بعد هجر رجب لك . وإذن فالليلة لى أنا. وارتفع صوته غاضبا مع أذان 
الفجر. أذن عم عبده فى الخارج وصرخت أنت كالمجنون فى الداخل . وبسط خالد 
راحتيه ضارعا وهو يقول «فضحتنا!). 

وضحكت ليلى أول الأمر ثم بكت أخيراء وطرحت مسألة غاية فى الفلسفة» فقيل 
إنها تحب خالد وإنها لذلك لا يمكن أن تذعن لرغبته هو على رغم صداقتهما وإلا كانت 
بغيا. وصاح ليلتها أن الأذان أيسر على الفهم من تلك الألغاز. 

وقالت ليلى ناشدة تصفية الجو: 

الصداقة أهم وهى التى لها البقاء . 

ولك طول البقاء! 

وكرس كرسيا يدخنانه معا فى فترة الانتظار فجذبت نفسا بشراهة ثم سعلت طويلا. 
وردد ما يقوله عادة من أن الكرسى الأول هو كرسى السعال ثم يجىء الفرج بعد ذلك . 
وقال لنفسه إنه لم يكن عجيبا أن يعبد المصريون فرعون ولكن العجيب أن فرعون آمن 


بأنه إله . 
1110 





ث بك سه ه مم :)هد 
مره فق الشيل + 


واهتزت العوامة بقوة وترامت أصوات مختلفة من الخارج» فنظر نحو المدخل 
المحجوب بالبارفان فرأى الأصدقاء يتتابعون فى حيوية» أحمد نصر.ء ومصطفى راشد» 
ول السينك + وعالد عووق:.. نشاء اشير .مساء المفال: وحلس خياله إلى خانبه 
ليلى أما على السيد فقد ارتمى إلى يمين أنيس هاتفا : 

أدركنا . . ! 

فراح أنيس يكرس ويرص ثم دارت الجوزة . وتساءل مصطفى راشد: 

هل من أخبار عن رجب؟ 

فأجاب أنيس وهو يخمن: 

قال بالتليفون إنه فى الإستديو وإنه سيحضر فور الانتهاء من العمل . 

وتألقت الجمرات فى المجمرة بفعل النسائم المتدفقة من الشرفة. وبلغ نشاط أنيس 
أقصى مداه» واكتسى وجهه الطويل العريض بغبطة مستقرة»؛ وقال: إن الذى جعل من 
تاريخ الإنسانية مقبرة فاخرة تزدان بها أرفف المكتبات لا يضن عليها بلحظات مضمخة 
ادر 

ونظر خالد عزوز إلى على السيد متسائلا : 

هل عند الصحافة من أخبار جديدة؟ 

فأومأ على بذقنه نحو ليلى زيدان قائلا : 

عند وزارة الخارجية. . 

ولكنى سمعت أنباء مذهلة حقا. . 

فقال أنيس ساخرا : 

لا توجعوا رءوسناء ما أكثر ما نسمع ولكن ها هى ذى الدنيا باقية كما كانت» ولا 

شىء يحدث على الإطلاق . . 

فقال مصطفى راشد محركا تفاحة آدم : 

وفضلا عن ذلك» فإن الدنيا لا تهمنا كما أننا لا نهم الدنيا فى شىء. . 

لقال اسن رك 

-مادامت الجوزة دائرة» فماذا يهمكم؟! 

فرمقه خالد بإعجاب قائلا : 

خذوا الحكمة من أفواه المساطيل . 

- اسمعوا ما حصل لى اليوم مع المدير لعام. . 

وأثارت حكاية قلمه عاصفة من الضسسحك حتى علق عليها على السيد قائلا : 





4 مشر فق اليل 

بمثل ذلك القلم تدون معاهدات السلام . : 

واصلت الجوزة دورانها المنغوم المشتعل . وانعقدت هالة من الهاموش حول مصباح 
النيون. أما خارج الشرفة فقد استقرت الظلمة واختفى النيل إلا أشكالا هندسية منتظمة 
رعي عظمة تعكبيها مضابيع الطرين قى الشناطع الآخر وتواف ل العوامات الضساءة: 
سلالة الهكسوس فوجب أن يرتد إلى الصحراء . وأسوأ ما يمكن أن تتوقع هو أن تنتهى 
السهرة كما انتهى شباب ليلى زيدان الأول وكالرماد الزاحف على جواهر الجمرات . 
ومن يا ترى الرجل الذى قال إن الثورات يدبرها الدهاة وينفذها الشجعان ثم يكسبها 
الجبناء ؟ 

وجاء عم عبده فأخذ الجوزة ليغير ماءها ثم أعادها وذهب دون أن ينبس . وخلع خالد 
نظارته الذهبية فمسحها وهو ينوه بإعجابه بالرجل العجوز. وخرج أحمد نصر عن صمته 
المألوف قائلا : 

- إنه من نسل الديناصور! 

فقال مصطفى راشد: 

لنحمد الله على أنه فى أرذل العمر وإلا ما ترك لنا امرأة لنهئأ بها. . 
وأعاد أنيس على أسماعهم الحديث الذى دار بينه وبين الرجل ظهر اليوم» فقال على 
السيد: 


- إن العالم فى حاجة إلى رجل فى عملاقيته لتستقر سياسته . . 

وحل صمت مؤقت فارتفعت قرقرة الجوزة. وترامى من الخارج نقيق ضفدع وصراخ 
صرار الليل. ومن خلال الدخان المنتشر استكنت يد ليلى فى يد خالد. أصدقاء العمرء 
والعزاء . وأنف أحمد نصر الطويل الأقنى لا يضاهيه فى شكله سوى أنف على السيد 
وإن نهض الأخير فى وجه أعرض وأميل للبياض . وتكلم الظلام خارج الشرفة فقال لا 
تكترث لشىء. انحدر صوته مع شعاع نجم كابى الاحمرار قطع المسافة إلى غرزتنا فى 
مائة مليون سنة ضوئية . وقال أيضا لا تجعل من الحياة عبئا. أجل حتى المدير العام نفسه 
التراب أعز ما كان يملكه. وإذا أردت حقا ارتكاب حماقة للفت الأنظار إليك فتجرد من 
ثيابك وتبختر فى ميدان الأوبرا. وهناك ستجد إبراهيم باشا فوق جواده وهو يشير إلى 
فندق الكونتنتال كأطرف دعاية للسياحة فى بلادنا . 

هل حقا سنموت يوما ما؟ 

- انتتظر حتى تذاع نشرة الأخبار. 


110 





مم فق الثيل 6 


والحق أنه جاء بسؤال لم يسأله أحد من قبل! 

- ما آخر نكتة؟ 

فأجاب مصطفى راشد: 

-لم يعد هناك من نكات مذ أصبحت حياتنا نكتة سمجة . 

ورنا إلى الظلمة خارج الشرفة فرأى حوتا هائلا يقترب فى هدوء من العوامة . إنه ليس 
بأغرب ما رأى فى النيل عند جثوم الليل. لكنه فغر فاه هذه المرة كأتما يعتزم التهام 
العوامة. وتواصل الحديث بين المساطيل بلا مبالاة فقرر أن ينتظر ما يحدث بلا مبالاة. 
وإذا بالحوت يتوقف عن التقدم. وإذا به يغمز بعينه وهو يقول «أنا الحوت الذى نجى 
يونس»). ثم تراجع واختفى . وعند ذاك ضحك أنيس . وسألته ليلى زيدان عما يضحكه 


خيالاات غريبة . 


وما لنا نحن لا نرى شيئا؟ 

فأجاب وهو لا يكف عن العمل : 

- ذلك أن الأمر كما قال الشيخ الكبير «إن المتلفت لا يصل» . 
وانهالت التعليقات بلا ضابط : 

لا شيخ لنا يادجال. 

-ولا يوجد متر مربع من الأرض بمنجاة من الزلزال. 

وهو لا يخلو كذلك من الرقص والغناء. . 

إذا أردت أن تضحك من القلب حقا فانظر إلى الأرض من فوق . 
-يا بخت الذين مستقرهم فوق . 

ولكن بصدور اللائحة المالية الجديدة سيهدأ كل بال. 
-هل تطبق اللائحة على الحيوان أيضا؟ 

-روعى فيها أن تطبق على الحيوان أولا. . 

وها هو ذا القمر ينتظر المهاجرين . 

وأخشى ما أخشاه أن يضيق الله بنا. 

كما ضاق كل شىء بكل شىء . 





38 مث فق النَيل 

وكما يضيق رجب يعشيقاته . . 

وكما يضيق الضيق بالضيق . 

والحل» ألا يوجد حل؟ 

«بلى+ غلينا أن تماسك حت ثغير وه الأرض. 

- أو نبقى فيما نحن فيه» وهو خير وأبقى . 

واهتزت العوامة بقدم آتية فتوقعوا ظهور رجب ولكن دخلت امرأة مرحة الحيوية لا 
يعيب جسمها الممتلئ إلا أن نصفه الأعلى أضخم قليلا من الأسفل . سنية كامل! قلبت 
بينهم عينين رماديتين وتبادلت معهم القبلات. وأجلسها على السيد إلى جانبه وهو 
يقول: 

-لم نرك منذ رمضان الماضى ! 

وقبل يدها مرتين ثم تساءل : 

-زيارة عابرة؟ 

فقالت بنبرة تنطق الراء غينا : 

-زيارة دائمة. 

هذه يعنى أن زوجك قد هجرك؟ ! 

فقالت وهى تتناول الحوزة : 

- أو أننى هجرته . . 

ونشّت سحابة شرهة وهى تقول إشباعا لحب الاستطلاع الذى اكتنفها : 

ضبطته يغازل جارة جديدة! 

ديا خبر أحمر. . 

ولعلع صوتى حتى سمعه سابع جار! 

-برافو. . 

وتركت البيت والأولاد وذهبت إلى أختى فى المعادى . 

أمر مؤسف ولكنه ضرورى لتجديد ا حياة الزوجية . 

- وأول ما خطر لى بعد ذلك أن أزور عوامتى . 

-عين الصواب» والعين بالعين. . 

وأومأ مصطفى راشد إلى على السيد وهو يقول لها: 

جاء دور الزوج الاحتياطى . : 


1110 





مر فق الشيل آ/ا+ 


وتساءل أنيس غاضبا: 

-لماذا لا يكون دورى أنا هذه المرة؟ 

فقال على السيد ملاطفا : 

ولكنى احتياطى سنية كامل منذ قديم . . 

وأنا؟ !. . 

أنت سيدنا وتاج رأسنا وولى نعمتناء ولو كنت تهتم بالحب لكان لك منه ما تشاء 

وأكثر. . 

أنت كاذب . . 

فأشار إلى الجوزة قائلا : 

بل لاوقت عندك للحب . . 

أوغاد! . . سأقص عليكم ما حصل لى مع المدير العام. . 

لكنك قصصته بتفاصيله» أنسيت يا ولى النعم؟! 

أوغاد» هذا يعنى أن الحياة ستمضى قبل أن نستوعب ما يمر بنا . 

ودارت الجوزة مختصة سنية كامل برعاية أكبر بصفتها لم تنسطل من رمضان الماضى . 
وقال أنيس لنفسه إنها سمراء وعصبية وتحب الضحك . ولا تنسى أولادها حتى فى 
غيبوبة الحب والسطل . وتعود فى النهاية إلى زوجها . لكنها تعاشره عاما وتهجره عاما. 
وتقسم دائما أن الحق عليه . وجاء بها رجب أول مرة. كما جاء يوما بليلى زيدان. ذلك 
أنه إله الجنس وممون عوامتنا بالنساء. عرفت له جدا قديما كان يسعى فى الغابات قبل أن 
يقام بئاء واحد على ظهر الأرض . كان يدفن فى أحضان النساء مخاوفه من الحيوان 
والظلام والمجهول والموت . كان له رادار فى عينيه وراديو فى أذنيه وقنبلة مجسمة فى 
قبضة يده. وحقق انتصارات عجيبة قبل أن يتهاوى هالكا. وأما حفيده رجب. . 

واهتزت العوامة وترامى صوت رجب القاضى وهو يقول مخاطبا شخصا معه «على 
مهلك يا عزيزتى. .2. 

حل فى نظراتهم الاهتمام فتمتم خالد: 

لعلها تمثلة جاء بها من الإستديو. 

وظهر من وراء البارفان بقوامه الممشوق وسمرته الداكنة وقسماته الرشيقة تتقدمه فتاة 
دون العشرين عمراء سمراء تنتظم وجهها المستدير قسمات صغيرة دقيقة تنطق بالخفة . 
ولاشك فى أنه قرأفى وجوه أصدقائه دهشة لحداثة سنهاء فقال باسما بنبرته الموسيقية : 

-آنسة سناء الرشيدى» طالبة بكلية الآداب. . 





> مر وق اليل 


تركزت الأعين على القادمة الجديدة» ولكنها لم ترتبك وأجابت بنظرة باسمة جريئة . 
وطوق رجب خاصرتها بذراعه وسار بها إلى مجلسه ثم أجلسها إلى جانبه وهو 
يقول: 
- أدركنى يا ولى النعم! 
فتساءل أحمد: 
- أمام الآنسة؟ ! 
فقال مستنكرا: 
- لا يجوز الكذب أمام معجبة صادقة! 
وجذب نفسا طويلا عميقا قويا حتى توهجت دقائق الجمرات فوق الكرسى نافئة لسانا 
راقصا من اللهب . أغمض عينيه تلذذا ثم فتحهما وهو يقول لسناء : 
دعينى أقدم لك الأصدقاء الذين سيصيرون منذ الليلة أسرتك . 
وانتبه إلى وجود سنية كامل لأول مرة فصافحها بحرارة وخمن أسباب مجيئها 
فوافقت بضحكة» ثم راح يقدمها قائلا : 
من بنات الميردى دييه» زوجة وأمء امرأة ممتازة حقاء وفى أوقات الكدر العائلى تعود 
إلى أصدقائها القدماء» سيدة مجربة عرفت الأنوثة عذراء وزوجا وأماء فهى تعد 
كنزا من الخبرة للفتيات الصغيرات فى عوامتنا . . 
وندت أصوات ضحكء. وابتسمت سناء» أما سنية فرمته بنظرة احتجاج لم تبلغ درجة 
الغضب . وتحول إلى ليلى زيدان قائلا : 
آنسة ليلى زيدان» خريجة الجامعة الأمريكية» مترجمة بالخارجية» جمال وثقافة إلى 
مركز باهر فى تاريخ المرأة الرائدة فى بلادنا. وعلى فكرة فإن شعرها ذهبى حقيقة لا 
زيف فيه ولا صباغة. . 
وتحول إلى أنيس زكى المنهمك فى عمله قائلا : 
- أئيس زكى » موظف بوزارة الصحة» ولى أمر عوامتناء وزير شكون الكيف». رجل 
مثقف كحضرتك وهذه مكتبته» وقد طاف بكليات الطب والعلوم والحقوق فمضى 
بعلومها دون شهاداتها كأى رجل لا تهمه المظاهر» من أسرة ريفية محترمة» ولكنه 


1110م 





مر فق اليل 3 


يعيش منذ دهر وحيدا فى القاهرة. كأنه إنسان عالمى» ولا تسيئى الظن بسكوته إذا لم 
يحادثك كثيرا فهو يهيم فى الملكوت! 
والتفت إلى أحمد نصر قائلا : 
أحمد نصرء مدير حسابات الشئون» موظف خطير» ومرجع فى عديد من الخبرات 
كالبيع والشراء وكثير من الشئون العملية المفيدة» وله ابنة فى مثل سنك ولكنه زوج 
شاذ يستحق الدراسة. تصورى أنه زوج منذ عشرين عاماء لم يخن زوجه مرة 
واحدة» ولم يمل عشرتهاء ويزداد تعلقا بحياته الزوجية» لذلك أقترح أن يكون 
موضع دراسة فى المؤتمر الطبى القادم . : 
وأشار إلى مصطفى راشد مستطردا 
الأستاذ مصطفى راشد المحامى المعروف» محام ناجح وفيلسوف أيضاء متزوج من 
مفتشة بوزارة التربية» وهو يتطلع بصدق إلى المطلق وسوف ينجح فى إدراكه ذات 
ليلة» ولكن خذى حذرك منه فهو يقول إنه ما زال يفتقد حتى اليوم أنموذجه المفضل 
فى التساعة»+ 
وربت على ظهر على السيد قائلا : 
الأستاذ على السيد. الناقد الفنى المعروف . » طبعا قرأت له كثيرا» وأحب أن أخبرك 
بأنه يحلم كثيرا بمدينة فاضلة خيالية» أما عن واقعه فهو متزوج من اثنتين» وصديق 
سنية كامل » والبقية تأتى. . 
وأخيرا أومأ إلى خالد عزوز وهو يقول: 
الأستاذ خالد عزوز» فى الصف الأول من كتاب القصة القصيرة عندناء يملك عمارة 
وفيلا وسيارة وأسهما فى مذهب الفن للفن». فضلا عن ولد وبدت» وله فلسفة 
بَهي'يهوي### م0 
بتسم إليها كاشفا عن أسنان بيضاء نضيدة ثم تمتم : 
ال ا 0000 
هناء وسوف تعرفينه بطبيعة الحال» وما من أحد فى شارع النيل إلا ويعرفه. . 
ونادى أنيس عم عبده وأمره بتغيير ماء الجوزة فمضى بها من الباب الجانبى ثم أعادها 
بعد قليل وذهب» واتسعت عينا سناء عجبا لضخامته فقال رجب : 
.من حسن الحظ أنه مثال الطاعة وإلا فلو شاء لأغرقنا جميعا. . 
لا خوف من الغرق مادام الحوت فى الماء. ويد الفتاة القاصر صغيرة كيد نابليون ولكن 
أظافرها حمراء مدببة كمقدم قارب سباق» وبوجودها تكمل مجموعة قانون العقوبات 
المستحقة على عوامتنا . 





ع مر فق النيل 


وها هو ذا الظلام قد بدأ يتكلم . 

تساءل مصطفى راشد محركا تفاحة آدم : 

وما تخصص الآنسة فى الآداب؟ 

فأجابت بنبرة كغزل البنات: 

التاريخ . 

فتأوه أنيس : 

الله! 

فصاح به رجب: 

- ليس تاريخها بتاريخك الدامى ولكنها معنية بالأشياء الحلوة . 

-ليس فى التاريخ أشياء حلوة . 

-كغرام أنطونيو وكليوباطرة . 

كان غراما داميا. . 

- على أى حال لم يقتصر كله على السيف وا حية . 

وبدت سناء قلقة . ونظرت نحو البارفان متسائلة : 

ألا تخافون البوليس؟ 

فتساءل مصطفى راشد باسما : 

- بوليس الآداب؟ 

فقالت بعد أن سكت الضحك : 

والمباحث أيضا؟ 

فقال على السيد: 

لأننا نخاف البوليس والجيش والإنجليز والأمريكان والظاهر والباطن» فقد انتهى بنا 
الأمر إلى ألا نخاف شيئا. . 

ولكن الباب مفتوح! 

- فى الخارج عم عبده وهو كفيل برد أى اعتداء . 

وقال لها رجب باسما : 

لا تقلقى يا نور العين» فالدولة منهمكة فى البناء ولديها ما يشغلها عن إزعاجنا. . 

وقدم لها مصطفى راشد الجوزة قائلا : 

جربى هذا النوع من الشجاعة . 


1110 





مره فق النيل 38 


ولكنها اعتذرت برقة فقال رجب: 

خطوة خطوة» لقد بدأ الإنسان بأظافره وانتهى بالصاروخ . لفوا لها سيجارة. 

وفى دقيقتين قدمت لها سيجارة فتناولتها بشىء من الحذر ولكنها رشقتها بين شفتيها . 
ورمقها أحمد نصر بإشفاق» فقال أنيس لنفسه إنه يخاف فى الحقيقة على ابنته؛ ولو 
عاحنت انق لكانك قزينة لسفاء». 

ولكن ما قيمة أن تبقى أو أن تذهب. أو أن تعمر كسلحفاة؟ ولما كان الزمن التاريخى 
لا شيئا بالقياس إلى الزمن الكونى فسناء معاصرة فى الواقع لحواء. ويوما ستحمل لنا مياه 
النيل شيئا جديدا يستحسن ألا نسميه» فقال له صوت الظلام «أحسنت» . ولا أستبعد أن 
أسمع ذات ليلة نفس الصوت وهو يأمرنى بعمل خارق يذهل له من لا يؤمن بالمعجزات . 
وقد قال العلم فى النجوم كلمته ولكن ما هى فى الحقيقة إلا أفراد عالم آثروا الوحدة 
فتباعدوا بعضهم عن بعض آلاف السنين الضوئية . فيا أى شيء افعل شيئا فقد طحننا 
اللاشيء. 

وسألها أحمد نصر بحنان: 

وهل تجدين وقتا للمذاكرة؟ 

فأجاب رجب : 

طبعاء ولكنها مولعة بالفن أيضا . 

فحذرته بسيابتها قائلة : 

لا تجعل منى موضوعا للسمر. 

- ويل لمن تحدثه نفسه بشىء من ذلك . 

فتساءل أحمد نصر : 

تريدين أن تكونى ممثلة؟ 

فاتسمت دون معارضة فاستطرد : 

0 

فقاطعه رجب: 

اسكت يا رجعى» إن أشنع تهمة فى عصرنا هى الرجعية . 

وأمسك بأصبعيه ذقنها فأمال وجهها إليه ثم قال وهو يتفحصها باهتمام : 

دعينى أدرس وجهك» جميل» تضمر نضارته قوة خفية» بلحة مسكرة ذات نواة 

صلية» ونظرة فتاة قاصرة ولكنها عند التقطيب تشع دهاء امرأة» أى دور يصلح لك؟ 
لعله دور الفتاة فى سيناريو لغز البحيرة! 





> مث فق اليل 

سألته باهتمام : 

ما دورها على وجه التحديد؟ 

-فتاة بدوية تحب صيادا ماكرا ممن يتخذون من الحب لهواء يستهين بها أول الأمر 

ولكنها تؤدبه وتمشيه على العجين. . 

هل أصلح له حقا؟ 

-إنما أنطق عن غريزة فنية يؤمن بها المتتجون والموزعون معا. لحظة من فضلك» زمى 

شفتيك . أرينى كيف تقبلين» احذرى الخجل . الخجل عدو فن التمثيل» أمام 

الجميع» قبلة حقيقية بكل معنى الكلمة» قبلة يجب أن يتحسن بعدها الموقف 

الدولى. . 

وطوقها بذراعيه القويتين الطويلتين» وتلاقت شفتاهما بقوة وحرارة فى صمت 
سكتت فيه الأشياء حتى القرقرة» ثم صاح مصطفى راشد: 

هذه لمحة من المطلق الذى أرهق نفسى فى البحث عنه . 

وقال خالد عزوز بحماس متدفق : 

- أيها السادة» أهنئكم» يجب أن نهنئ أنفسنا جميعاء يجب أن نحيى هذه اللحظة 

الحضارية الرائعة. الساعة يمكن أن نقول إن الفاشية قد اندحرت تماماء وأن بديهيات 

أقليدس قد تلاشت» فتقبلى يا سناء بلا ألقاب من الآن فصاعدا ‏ إعجابى . . 

فقالت ليلى زيدان باسمة : 

-دع لأحد غيرك الكلام إكراما لى. . 

فقال متأسفا: 

-الغيرة ليست غريزة كما يقول الجاهلون . ولكنها تراث إقطاعى ! 

لست بغيا. اللعنة. يا رائحة النيل المضمخة بعبير رحلة طينية مرهقة . وثمة شجرة 
معمرة فى البرازيل استوت على سطح الأرض قبل أن يوجد الهرم» هل أنا وحدى بين 
هؤلاء المساطيل الذى يضاحك هذه الموجة المستهترة؟ هل أنا وحدى الذى أسمعها وهى 
تهمس لى أن دق الباب أربعين دقة يتتحقق لك ما لا يمكن أن يتحقق؟ فمتى ألعب 
بالمجموعة الشمسية لعب الهواة بالكرة؟ وذات يوم دفعت إلى معركة دامية وأنا أخلص 

ومرق خارج الشرفة خفاش كال رصاصة . وراح يتأمل نقوش الصينية النحاسية 
المرسومة على هيئة دوائر متداخلة تفصل بينها مساحات محفورة بالترتر قد غشاها الرماد 
ونفايات المعسل » وغفا غفوة قصيرة حيث يجلس ولا فتح عينيه وجد مصطفى راشد 


1110 





بر سم + مم :]د 
مر وق النيل الا 


وأحمد نصر قد ذهيا. وأغلقت الحجرة المطلة على الحديقة على ليلى وخالد. والحجرة 
الوسطى على سنية وعلى السيد. أما رجب وسناء فقد وقفا فى الشرفة يتناجيان. لم تبق 
خالية إلا حجرته وأغلب الظن أنها ستغلق بابها فى وجهه هذه الليلة . 

وتناجى العروسان: 

كلا؟! جواب لا يليق بعصرنا! 

المفروض أننى أذاكر عند صديقة . . 

فليكن الدرس عند صديق! 

ومد ساقه فصدم الجوزة فألقاها على جانبها فسال لعابها الأسود وتدفق نحو عتبة 
الشرفة . 

لا أهمية لشىء. حتى الراحة لا معنى لها. ولم يبدع الإنسان ماهو أصدق من 
المهزلة . 

وإذا بقامة عم عبده تحجب ضوء المصباح الغارق فى الهاموش . 

آن الأوان؟ 

- نعم . 

ومضى يجمع الأدوات ويكنس النفايات بهمة عالية» ثم نظر إليه متسائلا : 

-متى تذهب إلى حجرتك؟ 

فيها عروس جديدة! 

- أووه. 

ألا يعجبك الحال؟ 

فضحك قائلا : 

فتيات شارع النيل ألطف وأرخص . : 

فقهقه أنيس طويلا حتى جرى صوته مدويا فوق سطح النيل وقال : 

ديا جاهل. وهل هؤلاء كأولتك؟ 

عندهن أعضاء أكثر؟ 

كلاء ولكنهن سيدات محترمات . . 

-أووه. 

- لا يبعن أنفسهن ولكنهن يمنحن ويأخذن كالرجال سواء بسواء . 





0 0 


أققة:: 

- أووه. 

وهل لذلك ستنام فى الشرفة حتى يغسلك الندى؟ 

فحياه مبتعدا وهو يقول: 

أنا ذاهب لصلاة الفجر. 

ونظر إلى النجوم وراح يحصى منها ما يستطيع عده . 

وأرهقه العد حتى جاءته نسمة عطرة من حديقة القصر. وهارون الرشيد جالس على 
أريكة تحت شجرة مشمش والجوارى يلعبن بين يديه . وأنت تصب له الخمر من إبريق من 
الذهب . ورق أمير المؤمنين حتى صار أصفى من الهواء وقال لك: 

هات ما عندك . . 

ولم يكن عندك شىء فقلت : قد هلكت . ولكن الجارية ضربت أوتار العود وغنت: 

وأذكررليامالخحمى ثم أنشنى على كبدى من خشيسة أن تصدعا 

وليست عشيتت الحمى برواجع عليك ولكن خل عينيك تدمعا 

فطرب الرشيد حتى ضرب بيديه ورجليه فقلت ها هى ذى فرصة لتهرب وانسحبت 
بخفة ولكن الحارس العملاق لمحك فاتهه نحوك فجريت فجرى وراءك شاهرا سيفه 
فصرخت مستغيثا بآل رسول الله فأقسم ليرمين بك فى سجن بيتهم . 


استسلم للغروب بجسد منتعش بعد دش بارد. وانتشر فى الحو النعاس والهدوء 
الشامل» وأسراب الحمام ترسم فوق النيل أفقا أبيض . لو فى الإمكان أن يدعو المدير 
العام إلى العوامة لضمن لنفسه هدوءا كالغروب ولاستل من قبضته البرنزية أشواكها 
المؤذية . 

وحسا آخر حسوة من الفنجان السادة الممزوج بالسحر ولعق بلسانه الرواسب . 

وجاء الأصدقاء تباعا كما جاء رجب وسناء . طيلة أسبوع وهما متلازمان. وأنست 
سناء أخيرا إلى الجوزة حتى همس أحمد نصر فى أذن رجب «البنت صغيرة!» ولكنه 
أجابه همسا أيضا وهو مرتكز بكوعه على ركبة أنيس «لست أول فنان فى حياتها!»). 
وجعلت ليلى زيدان تردد: «الويل لمن تحترم الحب فى عصر لا يكن للحب احتراما!». 


1110م 





مثرة وق النيل 7/4 


ولم يجد أحمد نصر من يفضى إليه بأفكاره المحافظة إلا أنيس المسالم» فمال على أذنه 
قائلا : 

جميل أن تدعى ساقطة الأمس بفيلسوفة اليوم! 

فأجابه أنيس : 

هذا ما آل إليه حال الفلسفة بصفة عامة . 

وفرقع على السيد بأصابعه ملفتا الأنظار إليه» ثم قال بجدية : 

- على فكرة يجب أن أبلغكم رسالة قبل أن تنسطلوا. . 

استقرت عليه الأبصار فى اهتمام شامل» حتى أنيس نفسه وإن لم يكف عن العمل . 

الصحفية؟ 

زميلتى الجميلة النابهة! 

انقضت فترة صمت للاستيعاب والهضم., وتجلت فى الأعين نظرات غامضة حتى 
تساءل أحمد نصر: 

لكن لماذا ترغب فى زيارتنا؟ 

- أنا المسئول عن إثارة اهتمامها بكم بأحاديثى العريضة عن العوامة! 

أنت طويل اللسان» ولكن أتحب صاحبتك العوامات؟ ! 

ليس الأمر كذلك ولكنها تعرف أو تسمع عن أكثر من شخص فى العوامة : أنا مثلا 

صديق وزميل » خالد عزوز من قصصه». وأنت من أفلامك . : 

هل عندها فكرة عما يدور هنا؟ 

تقريباء وجونا ليس بالغريب عليها بحكم عملها وخبرتها بالحياة. 

إذا حكمنا عليها بما تكتب» فهى جادة لدرجة الرعب . 

- وإنها لكذلك فى الواقع ولكنّ فى كل إنسان جانبا ينشد العلاقات الإنسانية العادية . 

-هل لها جولات مائلة؟ 

أظن ذلك» هى ودود حا وتحب الناس . . 

ولكنها ستصادر حريتنا . 2 





3 مر وق النيل 


لا. . لا. . لاء لا تحمل هما من هذه الناحية. . 

هل تشا ركنا فيما نحن فيه؟ 

إلى حد ماء أعنى فى الأمور البريئة . . 

- البريئة؟! . . هذا يعنى أننا سنكون موضوع تحقيق صحفى ! 

فقال بتوكيد: 

-إنها قادمة للتعارف لا لشىء آخر. 

لاتهتم بالملوضوع أكثر من ذلك وإلا ضاع التدخين هباء . وتذكر كيف استقبل الفرس 
أول نبأ عن الغزو العربى . وابتسم . ورأى على سطح الصينية عديدا من الهاموش الهالك 
فخطر له أن يسأل: 

- إلى أى نوع من الكائنات يتتمى الهاموش؟ 

اعترض السؤال أفكارهم فى تطفل مزعج » ولكن مصطفى راشد أجاب ساخرا : 

-من الحيوانات الثديية . 

واستطرد على السيد قائلا : 

-ما على الرسول إلا البلاغ . فإذا لم يرق لكم دعوتها. . . 

لكن رجب قاطعه قائلا : 

-لم نسمع رأى الجنس الآخر. . ؟ 

ولم تبد ليلى زيدان اعتراضاء ولا سنية كامل» أما سناء فقالت: 

- لندع الرأى لأنيس وأحمد ومصطفى» فهم فى حاجة إلى صديقة! 

ولكن على السيد اعترض قائلا : 

-لا. . لايصح التفكير فى ذلك . » لا تحرجونى وحياة أمكم . . 

فتساءلت سناء وهى تزيح بأناملها خصلة ضالة عن حاجبها: 

- إذن لماذا تود أن تجبىء ؟ 


قلت ما فيه الكفاية. . 

فتساءل أنيس : 

إذا كان الهاموش من الحيوانات الثديية» فما وجه الإصرار على أن صاحبتكم ليست 
من ذلك النوع؟ 


فقال على السيد موجها خطابه للجميع دون توقف عند مقاطعة أنيس: 
حريتكم مكفولة فى كل شىء» فى القول والفعل» فى التدخين والبذاءة . لا تحقيق 
ولا دراسة. ولا أى نوع من المكر الصحفى» ثقوا بذلك كل الثقة»ء ولكن لا يليق أن 

11101 





مم وق الشيل +4١‏ 


تعامل معاملة امرأة عابثة! أعنى أنها آنسة فاضلة» كأى واحدة منكن» لا تقبل أن 
تعامل كامرأة مستهترة . . 

فقال أحمد نصر: 

الحق أنى لا أفهم شيئا. . 

-هذا هو المتوقع منك دائما أيها القرن التاسع عشرء ولكن الجميع يفهموننى بلا 
صعوبة على الإطلاق . . 

فقال خالد عزوز: 

لعلها على رغم مقالاتها الأسبوعية برجوازية قحة. 

ليست من البرجوازية فى شيء مما تعنيه. . 

وقال مصطفى راشد: 

قدم لنا عنها فذلكة مفيدة. . 

حسن» هى فى الخامسة والعشرين» ليسانس لغة إنجليزية» وقد حصلت عليه وهى 
دون العشرين بقليل. صحفية ممتازة أكبر بكثير من سنها. وذات آمال أدبية ترجو أن 
تتحقق ذات يوم ممن يأخذن الحياة مأخذ الجد وإن تكن لطيفة المعشر . ومعروف أنها 
رفضت زواجا برجوازيا فاخرا على رغم مرتبها الصغير. 

-لماذا؟ 

الرجل دون الأربعين» مدير مؤسسة»؛ صاحب عمارة كخالد عزوز» فضلا عن أنه 
قريب لها من ناحية الأب» ولكنها لم تكن تحبه فيما أعتقد. . 

فقال خالد: 

إذا صح الحكم عليها من قلبها فهى فتاة متطرفة . . 

-قل إنها تقدمية» ولكنها صادقة مخلصة. . 

هل اعتقلت مرة؟ 

-كلا! إنها زميلتى منذ عينت فى مجلة «كل شىء) . . 

لعلها اعتقلت وهى طالبة؟ 

- لا أظن» وإلا كنت عرفته فى أثناء أحاديثنا الطويلة . على أى حال لا أقطع فى ذلك 
برأى. . 

فتساءلت سناء : 

ماذا يضط ركم إلى استضافة امرأة خطرة لا يمكن أن تعدنا بأى تسلية؟ 

فقالت ليلى زيدان : 





1 مره وق النيل 


- يجب أن تأتى » نحن فى حاجة إلى دم من نوع جديد . 


فقال على السيد: 
- اتفقوا على رأى . . إنها الآن فى النادى فإذا شئتم دعوتها بالتليفون. . 
فسأله انيس : 


-هل أخبرتها بأن الذى يجمعنا ها هنا هو الحوت؟ 
يدعى عم عبده للإدلاء بصوته . وطوق رجب سناء بذراعيه» على حين نهض على السيد 
إلى التليفون . 


بعد المكالمة التليفونية بنصف ساعة غادر على السيد مجلسه ليستقبل القادمة عند 
الباب . وما لبت العوامة أن اهتزت هزتها الانسيابية لوقع الأقدام الضاربة فوق السقالة. 
وتمنى أحمد نصر لو كانوا أخفوا الجوزة وأدواتها حتى تطمئن القلوب إلى الزائرة ولكن 
رجب القاضى أشار إلى أنيس قائلا باستهانة : 

- كرس ورص. . 

ظهرت من وراء البارفان باسمة الوجه» وتقدمت يتبعها على السيد ‏ وهى تتلقى 
النظرات المركزة فى هدوء ومن دون ارتباك» وقف الرجال جميعا. حتى أنيس وقف فى 
جلبابه الأبيض المنحسر عن أسفل ساقيه . وقام على السيد بالتعارف التقليدى» واقترح 
أحمد نصر أن يجىء لها بكرسى ولكنها رغبت فى الجلوس على شلتة فالتصق رجب- 
بحركة لا إرادية ‏ بسناء مفسحا لها مكانا إلى جانبه! واستأنف أنيس عمله وهو يسترق 
إليها النظر. توقع ما سمع أن يرى شيئا غريبا. وهى حقا ذات شخصية ولكن أنوثتها 
جذابة بلا عائق. وعلى رغم ثقل جفنيه رأى سمرتها المتبدية بلا رتوش. وملامحها 
واضحة كأناقتها البسيطة» ولكن فى نظرتها ذكاء يصد عن اكتناه أغوارها. وخيل إليه أنه 
رآها من قبل ولكن فى أى عصر من العصور الغابرة؟ وهل كانت ملكة أو من الرعية؟ 
وعندما استرق إليها النظر مرة أخرى طالعته بصورة جديدة! حاول أن يستوعبها ولكن 
التركيز أرهقه فحول عينيه إلى الليل . 

وأعقب ضجة التعارف والمجاملات المعتادة صمت» وغنت القرقعة مع صرار الليل . 
وبلباقة لم تخص سمارة الجوزة بأى نظرة قد تنم عن شىء. ولما امتدت بها يد أنيس إليها 


11100 





مر فق اليل 3 


تلقت الغاب بين شفتيها دون أن تدخن على سبيل التحية» ثم أمرتها إلى رجب. وتناولها 
رجب وهو يقول: 

دكوتئى على راحدكا: 

فالتفتت نحوه قائلة : 

شاهدتك فى فيلمك الأخير «شجرة بلا ثمر» وأشهد أنك أديت دورك بتفوق 

رائع. . 

ولم يكن تواضعه ليخجل من الثناء» ولكنه تساءل فى حذر: 

-رأى أم مجاملة؟ 

ديل راق وهو رأى الملايين. 

ونظر أنيس من خلال الدخان إلى سناء» فرآها تروض الخنصلة المتمردة من شعرها. 
وابتسم المدير العام نفسه بما له من سلطة تنص عليها اللائحة العامة للشئون المالية 
والإدارية لا يتجاوز اختصاصه شئون الوارد والصادر. وثمة آلاف من الشهب تتناثر من 
الكواكب لتحترق وتتبدد منهالة على جو الأرض دون أن مر بالأرشيف أو تسجل فى 
دفتر الوارد. أما الألم فقد خص به القلب وحده. 

وإذا بسمارة تقول مخاطبة خالد عزوز: 

أما أنت فآخر ما قرأت لك أقصوصة «الزمار) . 

ثبت خالد النظارة على عينيه» فاستطردت : 

- الزمار الذى انقلب مزماره إلى حية تسعى . . 

فقال مصطفى راشد: 

وقد استحق منذ نشرها أن يدعى بحق خالد الحنش! 

قصة غريبة ومثيرة . 

فقال على السيد: 

صديقنا نحم مدرسة الفن للفن» ولا تتوقعى أن ينبثق من عوامتنا فن آخر! 

وقال مصطفى راشد: 

وعما قريب سينبثق منها أدب العبث المعروف باللامعقول. . 

فقال رجب: 

- ولكن اللامعقول موجود بيننا بوفرة حتى قبل أن يوجد بوصفه فنا. زميلك على 

السيد معروف بأحلامه اللامعقولة» ومصطفى راشد يجرى وراء اللامعقول باسم 





4 مر وق النيل 


المطلق» وولى أمر عوامتنا حياته كلها لا معقولة مذ هجر الدنيا من حوالى عشرين 
عاما . 
فضحكت سمارة متجوزة وقارها وقالت: 
أنا شيخة حقا منذ حدثنى قلبى بأننى واجدة عندكم أشياء عجيبة مثيرة! 
فتساءل رجب: 
قلبك الذى حدثك أم وشايات على السيد؟ 
-لم يقل إلا خيرا. . 
على ذلك فليست عوامتنا بالوحيدة فى نوعها؟ 
-ربماء ولكن ما أكثر الناس وما أقل من يصلح للصداقة بينهم! 
تصورت أن الصحفى هو آخر من يقول ذلك . . 
الناس يلقوننا عادة بالوجه الذى يلقون به الفوتوغرافيا. 


ها نحن أولاء نلقاك بالصدق والفطرة البريئة» فمتى تبادليننا نفس المعاملة؟ 
وهى 5د تضحك : 


اعتبرنى كذلك» أو فامنحنى أقصر مدة ممكنة . 

حمل أنيس المجمرة إلى عتبة الشرفة بعد أن زودها بقطع من فحم. تعرضت هناك 
لتيار الهواء وراح يننظر. واتسعت المراكز المحترقة فى شتى القطع حتى استحال سواد 
الفحم حمرة متوهجة هشة عميقة ناعمة . واندلعت عشرات من الألسنة الصغيرة 
الموسومة بالشفق» فانتشرت,» ثم تلاقت أجنحتها مكونة موجة راقصة نقية شفافة مكللة 
الأطراف بزرقة خيالية» ثم أزت فتطاير من جوفها سرب من عناقيدالشرر. وصرخت 
أصوات نسائية فأعاد المجمرة إلى مكانها. واعترف فيما بينه وبين نفسه بإعجابه غير 
المحدود بالنار. إنها أجمل من الورد والأعشاب والفجر البنفسجى» فكيف أمكن أن 
تطوى بين جوانحها أكبر قوة مدمرة؟ يجب إذا أسعفتك الهمة أن تقص عليهم قصة 
الإنسان الذى اكتشف النار. ذلك الصديق القديم الذى كان له أنف على السيد وجاذبية 
رجب القاضى وعملقة عم عبده. وأين ذهبت الفكرة الطريفة التى اعتزمت طرحها 
للمناقشة عندما حملت إلى الشرفة المجمرة؟ ! 

وقال مصطفى راشد: 

أنا محام» والمحامى بطبعه سيئ الظن» وأكاد أتخيل الآن ما يدور فى رأسك عنا. . 

لاشىء فى رأسى مما تظن . . 


111 00 





مث وق اليل > 
مقالاتك تزخر بالنقد المرير للسلبية» ونحن يمكن أن نعد ‏ فى نظر البعض - السلبية 
نفسها! 
-لا .. لاء لاايجوز الحكم على الناس فى أوقات فراغهم. . 
فقال رجب ضاحكا: 
-إنها بالأحرى أعمار فراغ! 
- لا تذكّرونى بأنى غريبة عنكم . 
فقال أحمد نصر: 
-قلة ذوق أن نجعل من أنفسنا موضوعا للحديث بينا أن المهم حقا هو أن نعرف عنك ما 
لست لغزا. 
وقال على السيد: 
ومققالات الكاتب تتكفل بالكشف عنه. . 
فسأله مصطفى راشد: 
هل تفعل ذلك مقالاتك النقدية؟ 
وضج المكان بالضحك . حتى على السيد ضحك طويلا . 
وقال وما زالت أساريره ضاحكة : 
إنى أحدكم أيها المنحلون العصريون» ومن شابه أصدقاءه فما ظلم» ولكن هذه الفتاة 
صادقة لللأسف! 
فقال خالد عزوز: 
كل قلم يكتب عن الاشتراكية» على حين تحلم أكثرية الكاتبين بالاقتناء والإثراء 
وليالى الأنس فى المعمورة. . 
فتساءلت سمارة: 
هل تناقشون هذه الأمور كثيرا؟ 
-كلاء ولكننا ندفع إليها إذا عرض أحدهم بحالنا . 
ونادى أنئيس عم عبده فجاء العجوز العملاق ومضى بالجوزة من الباب الجانبى ثم 


رجع بها بعد أن غير ماءها. 
انجذبت عينا سمارة إليه طيلة حضوره ثم تمتمت عقب اختفائه 
يا له من عملاق جذاب! ! 


وتذكر على السيد أنه الشخص الوحيد من أهل العوامة الذى لم يقدمه لها فقال: 





45 مشر فق اليل 


-هو عملاق حقا ولكنه لا يكاد يتكلمء يعمل كل شىء ولكنه لا يتكلم إلا فيما ندرء 
ويخيل إلينا كثيرا أنه غارق أبدا فى لحظته الراهنة ولكن لا يمكن الجزم فى ذلك بشىء 
قاطع» وأعجب شى أنه قد يصدق عليه أى وصف . فهو قوى وهو ضعيف» وهو 
موجود وغير موجودء وهو إمام المصلى المجاور» وهو قواد! 
فضحكت سمارة طويلا ثم قالت: 
الحق أنى أحببته من أول نظرة! 
فقال رجب بتلقائية : 
على لنا! 
نظرت سناء إلى الليل كالهاربة ولكنه طوق خاصرتها بذراعه كالمعتذر. واقتتحمت 
رأس أنيس تساؤلات شتى : هل اجتمع هؤلاء الأصدقاء كما يجتمعون الليلة ‏ بثياب 
مختلفة فى العصر الرومانى؟ وهل شهدوا حريق روما؟ ولماذا انفصل القمر عن اللأرض 
جاذبا وارءه الجبال؟ ومن من رجال الثورة الفرنسية الذى قتل فى الحمام بيد امرأة جميلة؟ 
وما عدد الذين ماتوا من معاصريه بسبب الإمساك المزمن؟ ومتى تشاجر آدم ‏ بعد الهبوط 
من الجنة مع حواء لأول مرة؟ وهل فات حواء أن تحمله مسئولية المأساة التى صنعتها 
بيدها؟ ! 
ونظرت ليلى زيدان إلى سمارة متسائلة : 
- وهل تبقين دائما فى كامل وعيك؟ 
القهوة والسجائر ولا شىء غيرهما. . 
فقال مصطفى راشد: 
أما نحن فقد نسمع مرة عن خطة حاسمة للقضاء على المخدرات فلا ندرى ماذا يمكن 
أن يبقى لنا. . 
لهذه الدرجة! 
وذكر رجب بأن لديهم ويسكى أيضاء فرحبت بكأس فقام بنفسه وأعدها لها. ثم 
تساءلت عن سر تعلقهم بالجوزة فلم يتطوع أحد بجواب حتى قال على السيد : 
-إنها محور جلستناء ولا سعادة حقيقية لنا إلا فى هذه الجلسة . 
وافقت بهزة من رأسها على أنها جلسة سعيدة حقاء وإذا بسنية كامل تقول لها: 
لا تهربى! لديك ما تقولينه نما يدخل فى صميم ال موضوع . 
- لا أريد أن أردد الإكليشيهات المحفوظة ولا أحب أن أسقط كالتمثيليات الهادفة! 
فقال أحمد نصر: 


1110 





شر م ٠‏ مم لد 5 
م.م 


ريرة قوق لا1 1 


ولكننا نحب أن نعرف آراءك؟ ! 

- إنى أعلنها تباعا كل أسبوع . 

ثم تساءلت بعد رشفة من الويسكى : 

ولكن ما آراؤكم أنتم؟ 

فقال مصطفى راشد: 

نحن نعمل للرزق فى نصف اليوم الأول» ثم نجتمع بعد ذلك فى زورق ليسبح بنا فى 
الملكوت . 

فسألت باهتمام حقيقى : 

ألا يهمكم حقا شىء مما يدور حولكم؟ 

قد ينفعنا أحيانا كمادة لضحكنا . 

ابتسمت ابتسامة غير مصدقة» فقال مصطفى راشد: 

لعلك تقولين لنفسك إنهم مصريون» إنهم عرب» إنهم بشرء ثم إنهم مثقفون, فلا 
يمكن أن يكون هناك حد لهمومهم . الحق أننا لا مصريون ولا عرب ولا بشرء نحن 
لا نتتمى لشيء إلا هذه العوامة. . 

ضحكت كما تضحك لنكتة » فعاد مصطفى يقول : 

- ما دامت الفناطيس بحالة جيدة» والحبال والسلاسل متينة؛ وعم عبده ساهراء 
والجوزة عامرة» فلا هم لنا. . 

كلام لا يدخل العقل ! 

-لماذا؟ 

تفكرت قليلاء ثم تراجعت قائلة : 

-لن أستدرج للهاوية» كلا. لن أسمح لنفسى بأن أكون ثقيلة الدم كتمثيلية 
هادفة . . 

فقال على السيد: 

لا تصدقى كلام مصطفى حرفياء لسنا أنانيين بالدرجة التى صورهاء ولكننا نرى أن 
السفينة تسير دون حاجة إلى رأينا أو معاونتناء وأن التفكير بعد ذلك لن يجدى 
شيئاء وربما جر وراءه الكدر وضغط الدم. . 

ضغط الدم. كالصنف المغشوش . وطالب الطب يمرض بالوهم أول عهده بالمدرسة . 

والمدير العام نفسه ليس أسوأ من المشرحة . أول يوم فى المشرحة كأول تجربة للموت فى 
أعز ما ملكت . وهذه الزائرة مثيرة من قبل أن تتكلم . جميلة ورائحتها حلوة» والليل 





84 مم فق النيل 
أكذوبة بما هو نهار سلبى» وعندما يطلع الفجر تخرس الألسنة. ولكن ما الشىء الذى 
تود تذكره طيلة الجلسة دون جدوى؟ ! 

قلمك ذو استعداد أدبى . 

لاشك فى أن لديك خطة! 

على أى حال إنى مغرمة بالمسرح . 


ما المسرح إلا كلام! 

فقال مصطفى راشد باسما: 

كعوامتنا سواء بسواء . 

فقالت باهتمام : 

العكس هو الصحيح.ء المسرح تركيز» وكل كلمة فيه يجب أن يكون لها معنى . 

وهذا هو الفارق الجوهرى بينه وبين عوامتنا . 

وتلاقت عيناها بعينى أنيس وهو يدير الجوزة فكأنها اكتشفته وقالت له: 

-لم لا تتكلم؟ 

إنها تستدرجك لتقول لك عند الجد «لست بغيا». وهى تذكرنى بشىء لا أتذكره . 
ومن الجائز أن تكون كليوباطرة أو المرأة التى تبيع المعسل بدرب الجماميز. وهى من مواليد 
برج العقرب. ألا تعلم بأننى على موعد مع فكرة مجردة ذات طابع جنسى؟ ! 

وقال مصطفى راشد معتذرا عنه : 

- إن من يعمل لا يتكلم . 

-ولم يعمل وحده؟ 

- إنها هوايته المفضلة» وهو لا يسمح لأحد بمساعدته . 

وقال رجب القاضى : 

-إنه ولى أمر عوامتناء وندعوه أحيانا بولى النعم. وأى فارس منا بالقياس إليه هاو 

مبتدئ» فهو لا يفيق أبدا. . 


1110 





مشر فق النيل 4 


على الأقل فهو يجد نفسه مفيقا عقب الاستيقاظ صباحا؟ 

- دقائق معدودات يصرخ فيها طالبا القهوة السادة. . 

فألحت فى توجيه الخطاب إليه قائلة : 

أجبنى بنفسك عما تفعل فى تلك الدقائق! 

فقال دون أن يرفع عينيه إليها : 

أتساءل : لماذا أحيا؟ ! 

-عال» وبماذا تجيب؟ 

أنسطل عادة قبل أن أجد الفرصة . 

وضحكوا أكثر مما يجب وضحك معهم. وقلب عيئيه بين النساء من خلال الدخان 
المتفجر . لا تعكس عين محبة للزائرة وثمة أسد واحد يلتهم اللحم ويرمى للآخرين 
بالعظام . وعظام الزائرة الجديدة مترعة بنخاع مزعج . : ولكن مادام الهاموش حيوانا 
ثدييا فلا خوف علينا. والحق أنه لولا أن الكواكب تدور حول الشمس لتحقق لنا الخلود. 

ونظر رجب فى ساعة يده ثم قال بجدية : 

آن لنا أن نكف عن الهذيان, الليلة علامة طريق فى حياتنا. لأول مرة يشرفنا إنسان 

جاد عنده شىء ليس عند أحد مناء ومن يدرى فلعلنا مع الآيام نعرف الجواب عن 

أسئلة كثيرة ظلت حتى اليوم بلا جواب . . 

فرمقته بيحذر متسائلة : 

أتسخر منى يا أستاذ رجب؟ ! 

معاذ الله» ولكننى أبنى آمالا على انضمامك إلى مجموعتنا . 

وعندى نفس الرغبة» ولن أضيع فرصة كلما سمح الوقت. 

وتفشت حركة انهزام مستسلمة» فاستعد الجالسون للذهاب. حلت اللعنة التى تجعل 
لكل شى نهاية . أهى هذه الفكرة التى استعصت طويلا على الذاكرة؟ ولم يبق فى المجمرة 
إلا رماد. 

وذهبوا تباعا حتى انفرد بوحدته . ليلة أخرى تموت . والليل يرامقه خارج الشرفة. 
وها هو ذا عم عبده يرد المكان إلى صورته الأولى . 

أرايت الزائرة الجديدة؟ 

على قد النظر. . 

- يقال إنها من رجال البوليس ! 


دأووة. 





.> شر فرق الشيل 


ولما هم الرجل بالذهاب قال له : 

-عليك أن تبحث لى عن فتاة مناسبة فى الظلام! 

الليل تأخر وليس فى الطريق شيء. . 

تحرك أيها البنيان. . 

وقد توضأت لصلاة الفجر. 

- أتطمع فى خلود أخلد مما أنت فيه؟! . . تحرك. . 

التقط من نافضة عقب سيجارة من السجائر التى دخنتها فى أثناء الجلسة . بقى منها 

الفلتر البرتقالى وعقب أبيض مضغوط فتأملها طويلا ثم أعادها إلى موضعها وسط 
مجموعة من الهاموش الهالك . وتضوع من النيل شذا مائى ذو نكهة أنثوية . وخطر له أن 
يتسلى بعد النجوم ولكن أعوزته الهمة. إذا لم يكن فى النجوم من يعنى برصد كوكبنا 
ودراسة أحوالنا الغريبة فنحن ضائعون. وترى كيف يفسر الراصد مجلسنا الضاحك ما 
بين اجتماع شمله حتى تقوضه؟ سيقول ثمة تجمعات دقيقة تنفث غبارا ما يكثر فى 
الغلاف الجوى للكواكب وتصدر عنها أصوات مبهمة لا يمكن فهمها ما دمنا لم نصل بعد 
إلى معرفة أى فكرة عن تكوينها. ويزيد حجم التجمعات بين مرة وأخرى مما يدل على 
أنها تتكاثر بطريقة ماء ذاتية أو خارجية» ولذلك فمن غير المستحيل أن يوجد نوع من 
الحياة البدائية فى ذلك الكوكب البارد خلافا للرأى القائل باستحالة وجود حياة فى غير 
الأجواء النارية» ومن العجيب أن هذه التجمعات الدقيقة تختفى لتعود من جديد. 
ويتكرر الحال على ذلك المنوال دون هدف واضح مما يرجح معه الرأى القائل بعدم وجود 
حياة بالمعنى الصحيح على الأقل. وحسر الجلباب عن ساقيه المشمرتين وضحك عاليا 
ليرى الراصد ويسمع . وقال: بل لنا حياة وقد أوغلنا فى الفهم حتى أدركنا ألا معنى. 
وسوف نوغل أكثر فأكثر ولا أحد يستطيع التكهن بما سيكون. ولن تكون أدهش من 
يوليوس قيصر إذ داهمته الحسناء الخالدة بارزة من البساط المنطوى . ويسأل القائد 
الذاهل : 

من الفتاة؟ 

كليوباطرة ملكة مصر . 


11100 





م وق اليل 1441 


7 


اعتمد سور الشرفة بساعديه رانيا إلى الغروب الهادئ. والنسيم يلاطفه نافذا من طوق 
جلبابه. حاملا إليه فيما يحمل من شذا الماء والنبات صوت عم عبده وهو يؤم المصلين 
غير بعيد من العوامة. ومذاق القهوة السادة مازال يجرى مع ريقه. أما خياله فلم 
يتخلص بعد من ابن طولون الذى ساح بعض الوقت ‏ قبيل القيلولة فى عصره. فى 
الفترة القصيرة التى تلى احتساء القهوة وتسبق الرحلة يتوقع عادة أن يقع شىء ما فيعابثه 
حزن غامض لغير ما سبب . 

ولكن هزة خفيفة رقصت بالعوامة فتساءل عن القادم المبكرء وغادر موقفه إلى الصالة 
عندما ظهرت من وراء البارفان سمارة بهجت . اقتربت منه باسمة وهو ينظر إليها بدهشة 
حتى تصافحا. اعتذرت عن قدومها المبكر فرحب بها مسرورا بحق» ومضت إلى الشرفة 
بحماس كأغا تتصل بالنيل اتصالا مباشرا لأول مرة» وجالت فى نعاس الغروب بعين 
جذلة؛ وتأملت طويلا أشجار الأكاسيا أندوزا بأزهارها الملونة بتعصير من الحمرة 
والبنفسج . وتحولت إليه فتبادلا النظر بحب استطلاع من ناحيتها وقليل من الارتباك من 
ناحيته» ثم دعاها إلى الجلوس ولكنها ذهبت أولا إلى المكتبة إلى يسار الداخل فجرت 
على الأرفف بنظرات مستطلعة» ثم عادت فاتخذت مجلسا إلى جانب مجلسه الذى 
يتوسط الهلال. وجلس بدوره. ثم رحب مرة أخرى بزيارتها السعيدة المبكرة بعد غيبة 
أسبوع . وقارن بين ملابسها البسيطة المكونة من قميص أبيض وجونيلا رمادية وبين جلبابه 
الأبيض. وقال لنفسه لعله لأسباب تتعلق بمهنتها أو بجديتها أن طوق القميص لا ينحسر 
عن شىء من مشارف ثدييها كالأخريات . وإذا بها تسأله: 

أكنت متزوجا وأبا حقا؟ 

وقبل أن يجيب اعتذرت بنبرة متراجعة عن تطفلها قائلة إنه خيل إليها مرة أن على 
السيد ذكر ذلك فى معرض حديثه عن أصدقائه . وأجاب بإحناءة من رأسه . ولمارأى 
مزيدا من التطلع فى عينيها العسليتين الجميلتين قال: 

-وأنا طالب ريفى وحيد بالقاهرة» وماتت الأم وطفلتها فى شهر واحد بمرض 
واحد. . 

ثم استطرد فى بساطة موضوعية : 

كان ذلك منذ عشرين عاما. . 





5 ةوق اليل 

وتذكر قصة الذبابة والعنكبوت . وتذكر بضيق أنه لم يكد يبدأ الرحلة بعد. وأشفق 
من أن يتلقى كلمة رثاء ولكنها أعربت عن مشاعرها بصمت غير قصيرء ثم التفتت نحو 
المكتبة وقالت: 

-وقيل لى إنك تدمن التاريخ والثقافة ولكنك فيما أعلم لا تكتب. ؟ 

رفع حاجبيه العريضين المتناسبيين مع صفحة وجهه الطويلة العريضة الشاحبة» وبدا 
مستنكرا أو هازئاء فابتسمت وتساءلت: 

-لم إذن انقطعت عن دراستك؟ 

-لم أوفق للنجاح ثم انقطعت عنى الموارد فتوظفت فى وزارة الصحة بوساطة طبيب 

من أساتذتى السابقين. . 

لعل العمل لا يناسبك؟ 

لست آسفا على شىء . . 

ونظر فى ساعة يده» ثم صب قليلا من الكحول فى قارورة على الفحم وأشعله بعود 
ثقاب ثم حمل المجمرة إلى عتبة الشرفة» ولكنها عادت تسأل: 

- ألا تشعر بالوحدة أو بأنه لا يجوز أن. . . 

فقاطعها ضاحكا : 

-لاوقت عندى لذلك. 

فضحكت بدورها قائلة : 

- على أى حال أنا سعيدة لأنى وجدتك فى وعيك هذه المرة . 

-لست فى وعيى ثماما. . 

وتابع نظرتها إلى الفحم الآخذ فى الاشتعال فابتسم ثم أشار إلى فنجان القهوة الذى 
لم يبق فى قعره إلا ثمالة من راسبه البنى . وسلمت بالواقع ثم راحت تثنى على الحياة 
فوق النيل فصارحها بأنه حديث عهد نسبيا بهذه الحياة الجميلة . 

- أقمنا فى شقق كثيرة ولم نسلم مرة من تطفل الجيران! 

وإذا به يضحك ضحكة جديدة منقطعة بجوها الطائر عما سبقها فنظرت إليه متسائلة » 
فكرر الضحك. ثم أشار إلى رأسه قاتلا : 

بدأت الرحلة . . وعيناك جميلتان! 

ولكن ما العلاقة بين هذا وذاك؟ 

فقال بتقرير يقينى : 

لا علاقة بين شىء وشىء . . 


1110 





مم فق النيل و 


ولا حتى بين طلقة رصاصة وموت إنسان؟ ! 

-ولا هذاء فالرصاصة اختراع معقولء أما الموت. . 

فضحكت وقالت: 

أتدرى؟ . . لقد تعمدت أن أجىء مبكرة لأخلو إليك! 

1 

- لأنك الوحيد الذى لا يكاد يتكلم . 

فأعلن رفضه يرفع حاجبيه ولكنها أصرت على رأيها قائلة : 

حتى لو كنت تتكلم مع نفسك طول الوقت! 

وفصل بينهما الصمت فراح ينظر إلى السحاب المتكاثف . وأدرك أن حضورها المبكر 
فوت عليه مراقبة المساء وهو يتسلل بخطاه الوئيدة ولكنه لم يأسف على ذلك . وترامت 
من الخارج سعلة معروفة لديه فغمغم «عم عبده» فتحدثت عن الرجل باهتمام وطرحت 
طائفة من الأسئلة ولكنه أجابها بأن الرجل لا يمرض ولا يتأثر بالجو ولا يعرف عمره كما 
يخيل إليه أنه لن يموت . وسألته: 

-هل تلبون دعوتى إذا دعوتكم إلى سميراميس؟ 

فقال بجزع : 

لا أظن. وعنى أنا فهو مستحيل . 

وأكد لها أنه لا يغادر العوامة إلا إلى الأرشيف . فقالت. 

- يبدو أننى لا أعجبك . 

فقال مدافعا: 

-إنك ألطف من قطر الندى! 

وفى أثناء ذلك كان الليل قد هبط . ومادت العوامة تحت وقع أقدام كثيرة وارتفعت 
ضوضاء فوق السقالة . وانزعجت سمارة لتأرجح العوامة فقال لها: 

نحن نعيش فوق الماء فنهتز لوقع أى قدم . . 

وتتابع ظهور الأصدقاء من وراء البارفان» ودهشوا لوجود سمارة ولكنهم رحبوا بها 
بحرارة» وفسرت سنية كامل ذلك التبكير تفسيرا من نوع خاص فهنأت أنيس فى دعابة! 
ومالبث أن دب النشاط فى يديه فدارت الجوزة . 

وأعد رجب القاضى لسمارة كأسا من الويسكى . ولحظ أنيس نظرة سناء المتسللة من 
تحت خصلات شعرها إلى سمارة فابتسم . وابتهج كثيرا لتوهج الجمرات. ومد ذراعه 
بالجوزة إلى سمارة فتنحت عنها ولكنه أثار عليها موجة من التحريض الفاشل» وسكت 





0 مر وق الشيل 


كل شىء إلا القرقرة. ثم اجتاحت المجلس تعليقات شتى . الطيارات الأمريكية ضربت 
فيتنام الشمالية . كأزمة كوبا تذكرون؟ وأما عن الإشاعات فهى لا تحصى . وهناك الهاوية 
التى يرقد على حافتها العالم واللحوم والجمعيات التعاونية» وهل من جديد عن العمال 
والفلاحين؟ والرشوة والعملة الصعبة» والاشتراكية واكتظاظ الطرقات بالسيارات 
الخاصة . وقال أنيس لنفسه كل ذلك يستقر فى جوف الجوزة ثم يتبخر دخاناء كالملوخية 
التى طبخها عم عبده. وشعارنا القديم : لو لم أكن لتمنيت أن أكون. وعندما يتوهج فى 
السماء نور كهذه المجمرة يقول المرصد إن نجما قد انفجر وانفجرت بالتالى مجموعته 
الكوكبية وانتثر الكل غبارا. وذات مرة تساقط الغبار على سطح الأرض فنشأت الحياة. 
وتقول لى بعد ذلك سأخصم من مرتبك يومين؟ أو تقول لى لست بغيا؟ وقد لخص 
المعرى ذلك فى بيت لا أذكره ولا يهمنى أن أذكره. كان أعمى فلم ير سمارة وهى 
معاصرة له. 


. . أعمى فلم ير . انقطع الخيط وتبدد شىء بهيج . المهم أن نحافظ على . . على ماذا؟ 
وغدا لدينا عمل مرهق لمناسبة الحساب الختامى . فى معتقل الأرشيف. متحف 
الحشرات . أما الهاموش فحيوان ثديى. . 

وقالت سمارة: 

لكنك شقراء جميلة بكل معنى الكلمة . 

فقال خالد وكان واضحا أنه يعنى ليلى زيدان: 

مشكلتها الحقيقية هى مشكلة الوطن كله وهى أنها فتاة عصرية أما الزوج 

فبرجوازى. . 

نظر إلى الليل فرأى مصابيح الشاطى الآخر تنساب فى باطن النهر كأعمدة من نور. 
ومن عوامة بعيدة عن مجال البحر حمل النسيم أنغام غناء وموسيقى فلعله عرس كما 
غنى محمد العزبى ليلة دخلتك : شوفوا العجب حبيت فلاحة» وقال العم فليحفظك الله 
وليعمر بيتك بالذرية الصالحة ولكن خذ بالك فلم يبق إلا فدانان. . ما أجمل القرية عندما 
تعبق بالحديقة أزهار اللارغ . تسكر كالشذا المنتشر من خلف آذان الهوان . 

يا له من اقتراح ! 

قالت سمارة بحماس : 

لكنه جميل وهو تعارف حقيقى لا زيف فيه. . 

ولكن ما المقصود باقتراحك؟ 

0010 00 





مث وق انيل 40 


أعنى الهم الأول الذى يشغل الشخص . 

أهو تحقيق صحفى؟ 

إن داخلكم في شك فعلى أن أذهب من فورى . 

فقال أحمد نصر بحذر: 

إذن فلنبدأ بك» حدثينا عن همك الأول فى الحياة؟ 

لم تفاجأ بالسؤال فيما بدا وقالت ببساطة موحية بالصراحة : 

أهم ما يشغلنى الآن هو أن أجرب نفسى فى كتابة المسرحية . . 

فقال مصطفى راشد بخبث : 

المسرحية لا تكتب لغير ما سبب! 

جذبت نفسا متمهلا من السيجارة وهى تضيق عينيها متفكرة مترددة» فابتسم على 
السيد ابتسامة نمت عن مشاركة وجدانية وقال يشجعها: 

واضح أن جو عوامتنا لا يتقبل من الحديث إلا السخرية والعبث» ولكنك فتاة قوية 

فيما أعتقد وعليك أن تتحدى جونا. . 

فأرخت عينيها كأنما تنظر إلى المجمرة وقالت: 

ليكن» ال حق أنى أومن بالجدية! 

وانهالت الأسئلة. أى جدية؟ الجدية لحساب أى شىء؟ أليس من الجائز أن نؤمن 
بالعبث بجدية؟ والجدية تتضمن أن يكون للحياة معنى» فما المعنى؟ وصاح رجب: 

أمامكم ساحرة ستحول بقلمها المهزلة إلى دراما هادفة» ولكن هل تؤمنين حقا 

بذلك؟ 

-أود ذلك. . 

تكلمى بصراحة» خبرينى كيف؟! لا شك فى أننا نرحب من قلوبنا بهذه المعجزة . . 

وتذاكروا الأسس العالية التى استقر عليها المعنى قديماء وسلموا بأنها ذهبت إلى غير 
رجعة» فعلى أى أساس جديد نقيم المعنى؟ وقالت بإيجاز: 

إرادة الحياة! 

وتبادلوا الأفكار. إرادة الحياة شيء صلب مؤكد ولكنها قد تفضى إلى العبث . أجل 
ما المانع؟ وهل تكفى خلق البطل؟ ثم إن البطل هو من يضحى بإرادة الحياة نفسها فى 
سبيل شىء آخر هو أسمى فى نظره من الحياة» فكيف يتأتى ذلك الشىء العجيب؟ 

ما أعنيه هو أن نتجه عند البحث إلى إرادة الحياة نفسها لا إلى أساس يتعذر الإيمان 





١‏ مر فق النيل 


به إرادة الحياة هى التى تبعلنا نتشبث بالحياة بالفعل» ولوانتحرنا بعقولناء فهى 
الأساس المكين المتاح لناء وقد نسمو به على أنفسنا. . 


فقال مصطفى راشد: 
-يمكن تلخيص فلسفتك بأنها تستبدل بشعار «من فوق لتحت)» شعار من تحت 
لفوق»! 


لا فلسفة هناك ولكن هذا هو همى الأول» وقد جاء دوركم. . 
عليكم اللعنة. ليس أعدى للكيف من التفكير . وعشرون جوزة كادت تضيع هباء . 
ولا شىء يبدو راسخ الإيمان كشجرة البلخ . كما أن إصرار الهاموش يستحق الإعجاب . 
ولكن إذا فقدت أنات عمر الخيام حرارتها فقل على الراحة السلام. وجميع هؤلاء 
الساخرين تكوينات ذرية. وها هو ذا كل فرد منهم ينحل إلى عدد محدود من الذرات . 
فقدوا الشكل واللون» اختلفوا تماماء ولم يعد منهم شىء يرى بالعين المجردة . وليس ثمة 
هناك إلا أصوات . 
صوت رجب القاضى : 
-همى الأول هو الفن. 
صوت مصطفى راشد: 
الحقيقة أن همه الأول هو الحب. أو بالأحرى النساء! 
صوت سمارة فى نبرة مرتابة : 
أهذا هو همك حقا؟ 
بلا زيادة ولا نقصان. . 
واستدرج صوتها صوت على السيد للإجابة فقال: 
-همى الأول هو النقد الفنى! 
صوت مصطفى راشد متهكما : 
-كلام فارغ» همه الحقيقى هو الحلم» الحلم فى ذاته بصرف النظر عن محتواه. أما 
النقد فهو لا ينقد إلا مجاملة لصديق أو هجوما على عدو أو لابتزاز قدر من المال! 
- ولكن كيف يريد للحلم أن يتحقق ! 
لا يهمه ذلك ألبتة» ولكن إذا جادت الجوزة بالنعيم دععك أنفه الهائل وقال: تأملوا يا 
أولاد المسافة التى قطعها الإنسان من الكهف إلى الفضاء! يا أولاد الزنا سوف تلهون 
بين النجوم كالآلهة . . 
واتجه التحقيق نحو أحمد نصر فتردد صوته قائلا : 


1110م 





مر فق النيل > 


-همى الأول هو الستر! 

صوت مصطفى راشد متطفلا : 

-هذا الرجل له شأن آخرء هو مثلا مسلم! يصلى ويصوم» وزوج مثالى يقف من نساء 

العوامة موقف المصريين من الأحداث» ولعل همه الأول هو أن تتزوج كريته! 

صوت خالد عزوز: 

-هو الوحيد فينا الذى سيعيش بعد الموت . . 

وضاق أنيس بوحدته الصاخبة فنادى عم عبده ليغير ماء الجوزة. وتمثل العملاق فى 
لحظات حضوره كالموجود الوحيد فى خلاء صوتى . وصوت قال إن همه الأول هو 
التذكر. وآخر قال بل إن همه هو النسيان. وساءل أنيس نفسه لماذا وقف التثار عند 
الحدود؟! 

وهتف صوت ليلى زيدان : 

-لاهم لى! 

صوت خالد عزوز: 

أو أننى همها الأول! 

وصوت سنية كامل قال : 

-همى أن يطلقنى زوجى وأن يطلق على السيد زوجتيه . . 

وحاول صوت سمارة أن يستدرج صوت سنء ولكنه لم ينبس فقال صوت رجب: 

اعتبرينى همها الأول! 


وقال صوت سناء : 

ا 

ولكن صوت قبلة همس متهافتا مدغومًا. أما صوت خالد عزوز فقال: 

-همى الأول هو الفوضوية! 

وندت ضحكات . وساد صمت كفاصل راحة فسيطر الخلاء كاملا . وأقبل عم عبده 
وهو يقول: 

-رمت امرأة بنفسها من الدور الثامن فى عمارة الصويا! 

لحظه أنيس بوجوم وسأله: 

- كيف عرفت؟ 


ذهبت أثر صراخ فرأيت منظرا فظيعا! 





3 مر وق النيل 


صوت على السيد : 

من حسن لحظ أننا بعيدون عن الخارج فلا نسمع شيئا . 
- انتحرت المرأة أم قتلت؟ 

فقال الرجل : 


الله أعلم . 

ثم مضى متعجلا إلى الخارج . واقترح على السيد أن يذهب للاستطلاع ولكن اقتراحه 
رفض بالإجماع . وأرجعت صدمة الخبر الذرات إلى تكويناتها الأصلية فعاد المجلس إلى 
هيئته . وسر أنيس لانفلاته من وحدته المرهقة . وقال إن معاشرة المجانين خير على أى 
حال من الوحدة. وجاء دور مصطفى راشد ليتكلم ولكن على السيد أراد أن يثأر لنفسه 
فقال: 

إنه محام قد مسر الدوائر التى صفيت» فهو يعيش اليوم على الخطاة من أبناء 

الشعب» وهمه الأول بعد قبض مقدم الأتعاب هو المطلق» وهو مطلب عسير بل 

أشد عسرا من مؤخر الأتعاب! 

فتساءلت سمارة: 

إذن فأنت من المتدينين؟ 

معاذ الله ! 

فما هو المطلق؟ 

أجاب على السيد: 

أحيانا ينظر إلى السماء» وأحيانا يركز فى ذاته» وثالثة يؤكد أنه قريب ولكن اللغة 

خرساء» وقد نصحه خالد بأن يعرض نفسه على طبيب غدد! 


على أى حال فهو من حزب الحدية؟ 
كلا . . إن مطلقه عبثى! 
أيمكن أن نعده فيلسوفا؟ 


وتذكر آخر لقاء مع نيرون. كلا لم يكن وحشا كما قيل. قال إنه لما وجد نفسه 
إمبراطورا قتل أمه. فلما صار إلها أحرق روما. وقبل ذلك كان مجرد إنسان عادى فعشق 
الفن. وقال إنه لذلك كله ينعم فى جنة الخلد. وضحك عاليا فما يدرى إلا والأنظار تتجه 
إليه وسمارة تسأله: 


11100 





مشر فق اليل 4 


جاء دورك يا ولى الأمر» فماهمك الأول؟ 


ودون تردد أجاب: 


أن أرافقك! 
وضج المكان بالضحك وقال رجب باندفاع : 
-ولكن. 5 


ثم استرد انتباهه بسرعة فسكت فعاد الضحك أشد من الأول. وعلى رغم الحرج 
ألحت سمارة على استجوابه فأجاب عنه أحمد نصر قائلا : 

أن يقتل المدير العام . . 

فضحكت قائلة : 

أخيرا وجدت شخصا جادا! 

ولكنه لا يفكر فى ذلك إلا فى لحظات الإفاقة! 

-ولو! 

ورجع عم عبده فوقف عند البارفان وهو يقول: 

انتتحرت المرأة لخلاف مع عشيقها! 

وحل الصمت مليا حتى قال عزوز: 

خير ما فعلت . غير الجوزة يا عم عبده. . 

وتمتمت سمارة: 

-لم يزل فى الدنيا حب! 

فعاد خالد يقول: 

انتحرت المرأة وهى على الأرجح جادة» أما نحن فلا ننتحر . 

وقال أحمد نصر إن كل حى هو جاد ويمارس حياته على أساس من الجدية» وإن 
العبث يقتصر عادة على الأدمغة» وقد تجد قاتلا بلا سبب فى رواية مثل رواية الغريب» 
أما فى الحياة الحقيقية فإن بيكت نفسه أول من يسارع بإقامة الدعوى على ناشر إذا أخل 
بشرط من شروط العقد الخاص بأى كتاب من كتبه العبثية . ولم تقبل سمارة الرأى على 
علاته» قالت: إن ما يستقر فى الرأس لابد وأن يؤثر بطريقة أو بأخرى فى السلوك أو 
على الأقل فى المشاعر . وضربت الأمثال بالسلبية واللاأخلاقية والاتتحار المعنوى. 
ولكى يبقى الإنسان إنسانا فعليه أن يثور ولو كل سنة مرة! . . ولكن رجب اقترح عليها 
أن تبقى حتى يشاهدوا مطلع الفجر من وراء أشجار الأكاسيا أندوزا فاعتذرت ثم 
صممت على الذهاب عند متتصف الليل» ورفضت شاكرة فكرة أن يوصلها أحدهم 





لون شر وق النيْل 


بسيارته . . وفى ذهابها ساد الجو صمت كالراحة بعد التعب. وأوشك فتور أن يدركهم 
معا. وهم أنيس بأن يحدثهم عن تجربته الذرية ولكنه سرعان ما عدل عن فكرته كسلا . 
وتساءل أحمد نصر: 

ما وراء المرأة الغريبة الفاتنة؟ 

فقال على السيد وقد احمرت عيناه الكبيرتان وبدا أنفه الكبير متهدلا لزجا: 

-إنها تحب أن تعرف كل شىء» وأن تصادق كل جدير بالصداقة . 

فتساءل مصطفى راشد: 

وهل يمكن أن يدور بخلدها أن تدعونا يوما إلى الجدية؟ 

فقال خالد عزوز: 

-فى تلك الخال علينا أن ندعوها بدورنا إلى حجرة من الحجرات الثلاث. . 

هذه مهمة رجب القاضى ! 

امتقع وجه سناء ولكن السطل لم يجعل للملاحظة قيمة وقال خالد: 

- علينا من الآن أن نتفق على وريث لسناء! 

ورمقت سناء رجب بنظرة قاسية» فقال ملاطفا: 

- ليس على المسطول حرج . . 

وعاد خالد يسأل: 

أمن السهل على عابث أن يعشق امرأة جادة؟ 

ودارت الجوزة وامتلأت الأعين بالنعاس . ونقلت المجمرة إلى الشرفة فنفضت عنها 
الرماد وتوهجت ثم طقطقت مطلقة الشرر. واقترب أنيس من الشرفة مستزيدا من نسيم 
الليل الرطيب . ورنا إلى النار بإأعجاب مستسلما لسحرها العجيب . وقال إن أحدا لا 
يعرف سر القوة كالدلتا. الأبراص والفئران والهاموش وماء النهر كل أولئك عشيرتى» 
ولكن لا يعرف سر القوة إلا الدلتا. الشمال كله دنيا سحرية مغطاة بالغابات لا تعرف 
النهار إلا دفعات من الضوء المتسلل من شباك الأوراق والغصون. وذات يوم تراكضت 
السحب هاربة وحل ضيف ثقيل مشقق الجلد كالح الوجه اسمه الجفاف. ماذا نصنع 
وهاكم الموت يزحف علينا؟ ذوت الخضرة وهاجرت الطيور وهلك الحيوان. قلت هاكم 
الموت يزحف ويد قبضته إلينا. أما أبناء عمى فقد مضوا إلى الجنوب التماسا للعيش 
اليسير والقطوف الدانية ولو فى أقصى الأرض . وأما أسرتى ققد اتجهت نحو المستنقعات 
المختلفة من مياه النيل ولا سلاح لها إلا عزيمتها ولا شاهد على مغامراتها الجنونية إلا 
الدلتا. وفى انتظارها تكتل نبات الشوك والزواحف والوحوش والذباب والبعوض» ثمة 


1110م 





مره فق النيل 0 


مأدبة وحشية للفناء ولا شاهد إلا الدلتا. قالوا ليس أمامنا إلا أن نقاتل شبرا فشبرا وأن 
نجالد بالعرق والدم. السواعد الدامية والأعين المحملقة والآذان المرهفة ولا شىء يسمع 
إلاادبيب الموت» وانتشرت الأشباح ودومت النسور تنتظر الضحايا. لاا وقت إلا للعمل» 
لاهدنة لدفن الموتى» ليس ثمة من يسأل أين يذهبون. وولدت أعاجيب وبذرت بذور 
المعجزات ولا شاهد إلا الدلتا. . 


4 


عندما تبدأ سهرة جديدة» يتكائف الإحساس بالحضوره ويطمئن الوجود» وتتوارى 
فكرة النهاية» فتتهيأ فرصة نادرة لممارسة الشعور بالخلود. ولآن الليلة قمراء فقد أطفىئ 
مصباح النيون اكتفاء بمصباح أزرق خافت الضوء مثبت فوق الباب الخارجى . وبدا 
الصحاب شاحبى الوجوه؛ ومن خارج الشرفة أضفى القمر المرتفع عن مجال البصر على 
هلال المجلس بساطا فضيا متوازى الأضلاع . 

- قرأتم بلا شك مقال سمارة عن الفيلم الجديد؟ 

-قل عن رجب القاضى فهو الأصح! 

كلا . إنه لا يقرأ الجرائد ولا المجلات . وهو مثل لويس السادس عشر لا يدرى شيئا 
عما يدور فى الخارج . 

وقالت ليلى زيدان مراعاة لشعور سناء : 

- الجدية! . . أجل! . . ولكنى لم أكترث لذلك» كنت أعلم من أول الأمر أنها جاءت 

لهدف محدد من نوع آخر. . 

وقالت سناء لرجب: 

-قم لنرقص . 

فأجابها بهدوء بغيض : 

لا توجد موسيقى . 

طالما رقصنا بغير موسيقى . 

صبرك يا عزيزتى» وإلا فلمن تدور الجوزة؟ 

يظن نفسه مركز الكون وأن الجوزة تدور من أجله . والحق أن الجوزة تدور لأن كل 
شىء يدورء ولو كانت الأفلاك تسير فى خط مستقيم لتغير نظام الغرزة. وليلة أمس 
اقتنعت تماما بالخلود ولكنى نسيت الأسباب وأنا ذاهب للأرشيف . 





07 مر فق اليل 


وقال خالد عزوز ساخرا : 
والمقال يعتبر من الأدب الهادف فيما أعتقد» وما رأيك يا رجب؟ 
أجاب رجب وكأن سناء غير موجودة : 
اعتبرته خطوة وتحية من جانبها! 
- ومما يؤكد ذلك أنها منقطعة عنا منذ أيام ! 
التربيع الأول المختفى يضفى على الظلمة ضياء مسطولا كعين البنفسج الناعسة . 
أتذكر كيف كان البدر مرهقا فى ليالى الغارات؟ هاهو ذا البارع يتوثب لغزوة جديدة» 
وكجميع الغزاة يتحلى بقسوة حادة كالدرع . 
وقال رجب مستزيدا من النسيان القاسى لصاحبته : 
شكرت بالتليفون» قلت إننى أود أن أزورها لولا إشفاقى من إحراجهاء فقالت 
باستغراب أى إحراج هناك؟ ! 
-دعوة صريحة ! 
-وفى دقائق معدودة أو معدودات كما يقول علماء النحوكنت أستأذن لدخول 
حجرتهاء ولكنى وجدت فى الخرابة عفريتاء وكان العفريت هو صديقنا على 
السيد. : 
وانهال السباب على الصديق على السيد. 
-شكرت» وشربت القهوة» وقلت إن مقالها جدير بأن يخلقنى خلقا جديدا! 
منافق ابن منافق ومن سلالة أمة عريقة فى النفاق . 
وشغلت بطارية السكس أبيل من خلال نظراتى إليها فصدرت عن أوتارها الصوتية 
فى أثناء الحديث أنغام رقيقة من النوع الذى لا تسمح به الرقابة إلا فى أعقاب سعى 
طويل هادف . 
فقال على السيد: 
خيال مغرور! كان الحديث عاديا والصوت عاديا. 
بل كنت أنت منهمكا فى حديث هامس مع منتج سينمائى وفى غاية من المساومة . . 
فضحك على السيد ضحكة عالية وقال: 
الحكاية صندوق ويسكى بلا زيادة وسيستهلك فى عوامتكم اللعينة. . 
وسأله مصطفى راشد: 
وهل اقتصر الأمر على الأنغام الرقيقة؟ 
ماذا تتوقعون أكثر من ذلك فى مقابلة شبه رسمية؟ ! 


11100 





مم وق اليل .07 


ومع ذلك فقد توارت الأستاذة الهادفة وراء غلالة أنشوية شفافة من النوع الذى 
تستعمله الفراشة وهى تنتقل بين الأزهار مؤدية وظيفة عم عبده فى شارع النيل. . 

فقالت سناء بنبرة كرنين الوتر الرفيع من القانون إذا مسته يد العازف خطأ : 

-يا لك من ساحر! 

فابتسم إليها ابتسامة فاترة بدت فى الضوء الأزرق الشاحب كامتعاضة» وقال: 

يا عزيزتى الصغيرة. . 

ولكنها قاطعته بحدة : 

.لست صغيرة من فضلك . . 

- صغيرة السن ولكن كبيرة المقام! 

دعنا من الأكليشيهات التى ماتت يموت العصر المملوكى! 


فتأوه على السيد قائلا : 
أين منا عصر المماليك بشرط أن نكون من المماليك! 
فقالت سناء باستياء واضح : 


وما أسرع أن ينقلب أهل العوامة وحوشا بلا قلوب . 

الوحوش ذوات قلوب. وهى ليست وحوشا إلا حيال أعدائهاء ولن أنسى الحوت 
الذى تراجع عن العوامة وهو يقول لى: «أنا الحوت الذى نجى يونس». وكم من ملايين 
ملايين الأعين قد رنت إلى الليل المستكين فى ضوء القمر . وليس أدل على صدق سمارة 
من هجرة الطيور الموسمية . أما سناء المسكينة فقد نسيت سكنى الكهوف على عهد صباها 
الأول. وصاح: 

المعسل زفت» كأنه ورق شائط! 

وراح يصره فى منديل ليعصره . وفى أثناء ذلك اشترك فى سباق الجرى ورفع الأثقال 
فى الدورة الأوليمبية باليابان فسجل أرقاما قياسية. ودق جرس التليفون فنهض رجب 
إليه كأنما كان ينتظره» ولم يسمع من حديثه سوى كلمات مفردة مثل. . طبعا. . حالاء 
وأعاد السماعة ثم التفت إلى المجلس وهو يقول : 

دعن نكم 

ونظر إلى سناء قائلا : 

-ربما رجعت فى آخر السهرة . . 

ومضى إلى الخارج . اهتزت العوامة تحت أقدامه القوية» وندت عن سناء حركة 
عصبية فخيل إليهم أنها موشكة على البكاء. ولم ينبس بكلمة أحد» وارتسمت فى 





0ن مر وق اليل 
الأعين تساؤلات ولكن على السيد هز رأسه مستنكراء وأخيرا خاطب مصطفى راشد 
سناء برقة قائلا : 
-لا. . لا . لقد ولى العصر الرومانسى وحتى العصر الواقعى يحتضر! 
وقالت ليلى زيدان وهى تدارى ابتسامة شامتة : 
- من المسلم به فى عوامتنا أنه لا شىء يستحق الأسف! 
فهتفت سناء بحدة : 
- لا رومانسية ولا أسف. . 
فقال على السيد: 
أؤكد لك أنه ذاهب لمقابلة منتج! . . ولكن لا تنسى عموما أنك صادقت رجلا حرفته 
النساء! 
وقام أحمد نصر وهو يقول بحذر: 
سآتيك بكأس ويسكى ولكن عودى إلى حالتك الطبيعية من فضلك . 
وقالت سنية كامل ببساطة مذهلة : 
وإذا وقع المحذور فعندك مصطفى وأحمد. . 
فصاح أنيس بوحشية : 
-لماذا تغفلنى إحصاءات الأوغاد؟ 
ثم بغلظة وهو يضغط على مخارج الكلمات : 
أوغاد منحلون مدمنون! 
أغرقوا فى الضحك . وتساءل مصطفى راشد: 
-ترى أذهب حقا إلى سمارة؟ 
فقال على السيد : 
كا 
- ليس بالغريب أن يوقع بامرأة! 
وقالت ليلى زيدان: 
بالله خبرنى لماذا جاءت إلى هنا إن لم يكن من أجله؟ 
فقال على السيد: 
لا شىء محال» ولكنها ليست بالغرة» ولا أظنها ترضى بأن تكون معجبة عابرة! 
فتساءل مصطفى راشد : 


11100 





مر وق النيل 0" 
-ما الذى يجعل لبعض الرجال مثل تلك السطوة؟ 
فقال على السيد: 
- أى نحم فى مركزه لا بد أن يكون له شأن . 
- ليس الأمر بمجرد لمعان نجم » ولا حتى الرشاقة والجمال» ولكنه سر أسرار الجنس ! 


فقال أحمد نصر: 

- فليحدثنا النساء عن ذلك . . 

فقال على السيد: 

والقا كني لان 1 
فقال خالد عزوز: 


لتسأل عن ذلك الغدة النخامية. . 

ومضت سناء بشلتة إلى الشرفة وجلست وحيدة. وسأل على السيد مصطفى راشد 
وهو يومئ خفية إلى سناء : 

أهى تمثل الأتموذج النسائى الذى تبحث عنه؟ 

فأجاب باقتضاب أن لا . وقال خالد عزوز: 

الإباحية. . الإباحية . هى العلاج لذلك كله. . 

وإذا بأنيس يقول : 

يا أوغاد. . أنتم المسئولون عن تدهور الحضارة الرومانية! 

وضحكوا فى صخب» وقال له أحمد: 

أنت الليلة عصبى على غير عادتك . . 

- المعستل زفف! 

لكنه كثيرا ما يكون كذلك . 

والقمر! تذكرنى دورته بالمهزلة. . 

المهزلة؟ 

مهزلة المهازل! 

ودارت الجوزة بلا توقف . ولزموا الصمت ليستحضروا الآرواح الشاردة» ووشى 
المجلس بعندم الْتَهَّم التاريخ والمستقبل . وقال لنفسه إنه الصفر. لا ناقص ولا زائد ولكنه 
الصفر. معجزة المعجزات . وانكشف المجهول تحت ضوء القمر. وترامى صوت عم 
عبده من الخارج وهو يرطن بكلام لم يميزه أحد. وضحك البعض وقال آخر إن الوقت 





ء؟ مثرة وق الشيل 


ينقضى بسرعة مذهلة . وتجلت وشوشة الموج وهو يرتطم أسفل العوامة. أجل دورة 
القمر. والثور المغمى. ويوما قال لى شيخ «إنك تحب الاعتداء والله لا يحب المعتدين» 
وكان الدم يسيل من أنفى . ولعل الشيخ قال ذلك للآخر. ولعل الدم سال من الآخر. 
كيف يمكن الثقة بشىء بعد ذلك؟ . 

وعاد الصوت يقول: «انقضى الوقت بسرعة مذهلة» . وتنهد أحمد نصر قائلا : «آن 
الأوان» . هكذا نعى إلينا الجلسة. وتمطت حركة متكاسلة ثم ذهب أحمد ومصطفى معا. 
وتبعهما خالد وليلى . أما على وسنية فتسللا إلى الحجرة المطلة على الحديقة . وجاء عم 
عبده ليعيد المكان إلى أصله . شكا إليه رداءة المعسل فقال الرجل إن كل ما فى السوق 
ردىء» وجاءت من الشرفة عطسة فذكر من توه سناء. زحف على أربع نحو الشرفة ثم 
أسند ظهره إلى ضلفتها ومد ساقيه إلى الداخل وهو يتمتم : «مساء الجمال». انحسر 
عنهما ضوء القمر الذى أوغل فيما وراء العوامة ناحية الطريق ساحبا وراءه فوق سطح 
الماء لآلئه . 

أتظن أنه يعود؟ 
-من؟ 
رجب! 
ما أتعس المسئول إذا عجز عن الجواب! 
قال إنه رما جاء آخر السهرة. . 
دريما. . 
هل أضايقك؟ 
معاذ الله . 
أترى أنه يجب أن أنتظر؟ 
فضحك ضحكة خفيفة وقال: 
- ينتظر قوم إمامهم منذ ألف سنة! 
أتسخر منى مثلهم؟ 
-لم يسخر منك أحد ولكن تلك طريقتهم فى الكلام . 
على أى حال فأنت ألطفهم جميعا. 
أنا؟ ! 
لا يخرج من فمك سوء. 
ذلك أننى أخرس . 


11100 





مر وق النيل إن 


ويجمع بيننا شىء واحد. 

-ماهو؟ 

الوحدة. 

+المبطول لسوت الود 

اذا لا تقادلر؟ 

المسطول الحق يتمتع باكتفاء ذاتى ! 

-ما رأيك فى نزهة فى قارب شراعى؟ 

قدماى لا تكادان تحملاننى . . 

وهى نتنهد : 

- لم يبق إلا أن أذهب, ولا يوجد أحد ليوصلنى إلى الميدان! 

عم عبده يوصل من لا يجد أحدا ليوصله . 

تردد فى تيار النسيم بعض من أنفاس الليل الرطيبة» ومن وراء باب الحجرة المغلقة 
همهمت ضحكة . والسماء صافية تماما تزدهر بآلاف النجوم» ومن مكان يتوسطها تراءى 
وجه مطموس المعالم وهو يبتسم . وداخله شعور لم يجد مثله إلا وهو يسجل رقما قياسيا 
فى الدورة الأوليمبية . ولما كان الوقت ينقضى بسرعة مذهلة فقد تلت لعينيه المأساة على 
حقيقتها فى ميدان المعركة . إذ يجلس قمبيز على المنصة ومن خلفه جيشه المنتتصر. إلى 
يمينه قواده المظفرون وإلى يساره فرعون يجلس جلسة المنكسر . والأسرى من جنود مصر 
يمرون أمام الغازى. وإذا بفرعون يجهش فى البكاء فيلتفت قمبيز نحوه سائلا عما يبكيه 
فيشير إلى رجل يسير برأس منكس بين الأسرى ويقول : 

-هذا الرجل! . . طالما شهدته وهو فى أوج أبهته فعز على أن أراه وهو يرسف فى 

الأغلال! 


قد أعدت الجلسة بكل ما يلزمها وها هو ذا عم عبده يؤذن لصلاة المغرب ولكن ثمة 
محنة حقيقية فى الانتظار . انتظار سحر الفنجان المسحور. والانتظار شعور مؤرق ولا 
شفاء منه إلا ببلسم الخلود. وقبل ذلك فلا النيل يؤنسك ولا أسراب الحمام الأبيض . 
وترى بعين قلقة تقوض المجلس كما ترى جميع النهايات. والقمر بازغ فوق أغصان 
الأكاسيا يؤكد هذه الوساوس ولا يلطفها. وما دام ذلك كذلك فحتى فعل الخير يعقبه 





7 مر فق اليل 


الندم. ويضيق الصدر بأى حكمة إلا حكمة تنعى جميع الحكم . فليذهب العذاب 
المتراجع أمام السحر إلى غير رجعة . وعندما نهاجر إلى القمر فستنكون أول مهاجرين 
يهاجرون هربا من لا شيء إلى لا شيء . فواحسرتا على نسيج العنكبوت الذى غنى ذات 
مساء فى قريتنا مع نقيق الضفادع . وقبيل القيلولة سمعت إلى نابليون وهو يتهم الإنجليز 
بقتله بالسم البطىء. ولكن ليس الإنجليز وحدهم الذين يقتلون بالسم البطىء. وراح 
يتمشى مابين الشرفة والبارفان. وأضاء المصباح الأزرق» وفى أثناء ذلك شعر بأنامل 
الرحمة وهى تلاطف باطنه . 

واهتزت العوامة وارتفعت الأصوات مؤذنة بالعمران. اكتمل المجلس ودارت الجوزة 
على مرأى من القمر الماضى فى العلو. وتخلفت سناء لأول مرة منذ مجيئهاء فلاحظ 
ذلك أحمد نصر وتضاربت التعليقات . وقالت سنية كامل : 

المسألة أنكم رجال فى حال انعدام من الوزن! 

وبدا رجب لا مباليا وهو يثنى على «الصنف» فقال له أحمد نصر: 

-كنت قاسيا معها أكثر ما يجوز ولم تراع حداثة سنها . 

لا يمكن أن أكون عاشقا ومربيا فى وقت واحد. . 

ولكنها صغيرة! 

لست أول فنان فى حياتها! 

ورجح أحمد نصر أنها أحبته بصدق فقال: 

إذا عاش حب شهرا كاملا فى زماننا الصاروخى فهو حب معمر! 

وتذكر كيف أغرته بمغازلتهاء وكيف أبى كيوسف! وكيف يصنع الحب الحكايات من 
قديم الزمان. وضوء القمر يسطع على وجوههم وعما قليل سيختفى عن الأنظار. 
وعندما يدقق النظر فى وجوههم تتكشف له عن ملامح جديدة كأنها وجوه غريبة» إنه 
يراهم عادة بأذنه ومن وراء سحابات الدخان ومن خلال الأفكار والمعاملات ولكنه إذا 
ركز عليهم تركيزا تلقائيا نافذا وجد نفسه غريبا وسط غرباء» ورأى الخراب فى التجاعيد 
الخفيفة حول عينى ليلى زيدان. ولمح قسوة ثلجية فى ابتسامة رجب التكهمية . وتلوح 
الدنيا غريبة أيضاً لا يدرى موقعها من الزمان ولعلها لا توجد أصلا . 

وانتبه على اسم سمارة وهو يتردد بينهم وسرعان ما سمع صوتها وهى تضاحك عم 
عبده فى الخارج » وسرى من هزة العوامة إلى جسده ما يشبه القشعريرة» وهلت سمارة 
فى تايير أبيض . حيتهم بيديها واتجهت إلى الشلتة الخالية شلتة سناء وأشعلت سيجارة فى 
ارتياح ولكن لم يلاحظ أحد عليها تغييرا يمكن أن يفسر به سلوك رجب الغامض أمس . 
وتساءلت الفتاة ببراءة : 


لا نت 





مر وق النيل ُن 
أين سناء؟ 
فأجاب مصطفى راشد: 
- فى كوخ عم عبده! 
احتفظت ببراءتها فقال إنها تبحث هناك عن المطلق» فقالت إنها كان يجب أن تبحث 
عنه عنده هو لا فى كوخ عم عبده. 
فقال مواصلا تهكمه : 
الحق أنها وجدت حب رجب عرضا زائلا فمضت وراء شىء حقيقى لا يتغير. / 
فقالت آسفة: 
فى كوخ عم عبده شىء لا يتغير حقا هو الخلاء! 
أجل لا يملك الرجل سوى جلبابه وينام على أريكة قديمة بلا غطاء . هكذا وجده عند 
انتتقاله إلى العوامة ولكن لابد أن يزوده بغطاء عند مقدم الشتاء. وألح مصطفى على 
سمارة فى أن تجرب الجوزة وانضم إليه رجب : 
-لماذا تصرين على رفضها؟ 
-لماذا تحبونها؟ . . . هذا هو السؤال المهم! 
ووضح للجميع شغفها بالوقوف على سرها الآسر. أجل . لماذا يعشق أناس 
غيبوبتها؟ لماذا يهيمون بالنعاس الذاهل؟ . . 
وقال لها خالد عزوز: 
ارجعى إلى كلمة إدمان فى دائرة المعارف البريطانية! 
ولكن مصطفى راشد سارع يقول : 
حذار من الإكلشيهات يا أستاذة . 
وجعلت تبتسم مترددة فعاد يقول : 
حذار من ترديد ألفاظ سخيفة مثل الهروب إلخ. . 
فقالت ببساطة : 
فتساءل رجب: 
تحقيق جديد؟ 
-لا أقبل أن أكون موضع اتهام . 





ا ثرة فق النيل 
فقال مصطفى راشد متحديا: 
-لاقيمة للإكلشيهات» جميعنا أناس عاملون» مدير حسابات» ناقد فنى» ممثل» 


نهرب؟ 

قالت بصدق: 

- إنك تفترض آراء معارض ثم تناقشها. إنى أسأل فقط عما تصنعه لكم الجوزة؟ 
فقال على السيد : 


إنها تقول شيئا قريبًا من قول الشاعر: 
سهرت أعين ونامت عيون لأمرتكون أو لاتكون 
فاطرح الهم عن النفس ما استطعت فحملانك الهموم جنون 

إذن هى الهموم. . 

قال مصطفى راشد بإصرار: 

إننا نواجه هموم حياتنا اليومية بكل همة . لسنا تنابلة . نحن أرباب أسر ورجال 

أعمال. . 

تلوح الدنيا غريبة وتزداد غرابة عند تناول الأفكار. الهموم والتنابلة والإكلشيهات. 
والمساطيل يتناقشون بأعين محمرة . واختفى القمر تماما ولكن سطح الماء يضىء بلألائه 
كأنه بشاشة سعادة مجهولة. ماذا تريد المرأة؟ وماذا يريد المساطيل؟ يقولون وقت فراغ 
وتقول إدمان. وعجيب ألا تهتز العوامة بهذا النقاش وهى تميد تحت وقع قدم فوق 
السقالة . 

وجاء عم عبده فأخذ الجوزة ليغير ماءها ثم أعادها وذهب . ونظر أنيس إلى لآلى الماء 
وابتسم. وانتبه إلى صوت سمارة وهى تناديه» فنظر إليها ويداه لا تكفان عن العمل 
قالت: 

أود أن أسمع رأيك أنت؟ 

فقال ببساطة 

-تزوجى يا آنسة! 

فضحكوا. إنها تفضل دور الواعظة : قال رجب. 

ولكنها أصرت على ألا ترتبك. وجعلت تستحث أنيس على الإجابة بعينيها. 
وانصرف عنها إلى ما بين يديه . لماذا واحد وواحد يساويان اثنين؟ 


11101 





مر وق اليل ”و 


امرأة مزعجة تقتحم علينا بديهيات الحياة . ماذا تريد؟ 

وكيف يمكن أن ننسطل فى مطاردة مستمرة حامية؟ ولما يئست منه تحولت إلى مصطفى 
قائلة : 

-حق إنكم تواجهون هموم حياتكم اليوميه بكل همة» ولكن ماذا عن الحياة العامة؟ 

تعنين السياسة الداخلية؟ 

والخارجية! 

فقال خالد عزوز متهكما: 

-وسياسة العالم» لم لا؟ 

فقالت باسمة: 

-وتلك أيضا. . 

فتساءل مصطفى راشد: 

والسياسة الكونية لا يجوز أن تهمل أيضًا؟ 

فتساءلت ضاحكة : 

- أرأيت أن الهموم أكثر مما نتتصور؟ ! 

الآن تفاهمناء إنك تأسفين على وقتنا الضائع فى السهرات» وتعتقدين أنه هروب 

من أعبائنا الحقيقية» وأنه لولا ذلك لقدمنا الحلول الناجحة لمشكلات الوطن العربى 

والعالم والكون. . 

وضحكوا مرة أخرى . وقالوا لأنيس إنه السبب الحقيقى وراء ما يعانيه العالم من آلام 
والكون من غموض . واقترح مصطفى أن يرموا بالجوزة إلى النيل ثم يقسموا العمل فيما 
بينهم» فيختص خالد عزوز بالسياسة الداخلية» وعلى السيد بالسياسة العالمية» 
ومصطفى بحل رموز الكون» وراحوا يتساءلون عن كيف يبدءون؟ وكيف ينظمون 
أنفسهم؟ وكيف يحققون الاشتراكية على أسس شعبية ديم وقراطية لا زيف فيها ولا قهر؟ 
وكيف بعد ذلك يعالجون مشكلات العالم كالحرب والتفرقة العنصرية؟ وهل يبدأ 
مصطفى من الآن فى حل معميات الكون؟ هل يدرس العلم والفلسفة أو يقنع بالتركيز 
الذاتى فى انتظار الشعاع المضىء؟ 

وتدارسوا العراقيل المتحدية» والأخطار التى قد تحيق بهم كمصادرة الأرزاق 
والاعتقال والقتل. وثمة صوت تشكى من السرعة المذهلة التى ينقضى بها الوقت. 
والقمر اختفى تماما ولم يبق من بساط اللآلى إلا ذيل قصير. ولم تتوقف الجوزة عن 
الدوران ولا سمارة عن الضحك . 





”7 مر فق الشيل 


وتلاطمت فى رأسه خواطر عن الغزوات الإسلامية والحروب الصليبية ومحاكم 
التفتيش ومصارع العشاق والفلاسفة والصراع الدامى بين الكاثوليكية والبروتستنتية 
وعصر الشهداء والهجرة إلى أمريكا وموت عديلة وهنية ومساوماته مع بنات شارع النيل 
والحوت الذى نجى يونس وعمل عم عبده الموزع بين الإمامة والقوادة وصمت الهزيع 
الأخير من الليل الذى يعجز عن وصفه والأفكار الفسفورية الخاطفة التى تتوهج لحظة ثم 
تختفى إلى الأبد . 

وصحا على صوت سمارة وهى تسأل الجماعة : 

- كيف كنتم فى مطلع الحياة؟ 

وضحكوا. لماذا يضحكون؟ كأنما لم يكن لحياتهم مطلع . الذكريات البعيدة التى 
لحقت بالعصر الحجرى. القرية ثم الغرفة الوحيدة والإصرار. الإصرار فى القرية 
والحجرة الوحيدة . والقمر كان يبزغ ويغرب ولا يوحى بنهاية شىء . قال خالد: 

فى صباى لم يكن ثمة سؤال بلا جواب؛ والأرض لم تكن تدورء والأمل يمتد فى 

المستقبل بسرعة مائة مليون سنة ضوئية . 

وقال على السيد: 

- وتساءلت ذات يوم : لماذا يعرقل الخوف من الموت سعادتنا الأبدية؟ 

وقال مصطفى راشد: 

ويوما كدت أهلك أنا وأنيس فى مظاهرة ثورية! 

ولم تدهش الفتاة لشىء من ذلك . وراحت تتحدث عن إمكان استعادة الحماس فى 
أزياء جديدة» ولكنهم تكلموا عن خيانة المرأة التى تنزع الثقة من النساء جميعا. وقالت 
لمصطفى وهو أشدهم جدلا: 

-إنك تهرب بالمطلق من المسئولية . 

فأجابها بسخرية: 

- المسئولية سبيل الكثيرين للهروب من المطلق . . 

البيضة والدجاجة . أما أنا فأكرس وأرص وأشعل النار وأدير الجوزة ثم أنصب من 
نفسى مستودعا لخردة المهاترات» والنساء تضحك وتحلم بالحب. والوقت ينقضى بسرعة 
مذهلة. وكلما أرادت الأستاذة الذهاب استبقاها الساحر بإصرار. وعما قليل سيحل 
الخراب بالمجلس » والخيام الذى كان مدرسة أمسى فندقا للملذات . وقد قال لى فى آخر 
لقاء إنه لو كان امتد به العمر إلى أيامنا لاشترك فى أحد النوادى الرياضية . 


آن الأوان! 


11100 





مر وق النيل رن 


وذهب الرجال والنساء إلا رجب وسمارة! 

من المحقق أنهما لا يعرفان أن النيل هو الذى قضى علينا بما نحن فيه» وأنه لم يبق من 
عبادتنا القديمة إلا عبادة أبيس . وأن الداء الحقيقى هو النوف من الحياة لا الموت والآن 
فلتسمع الحوار المعاد كما هى العادة : 

أليس الأفضل يا عزيزتى أن : تمتع بالحب؟ 

فكرة طيبة ! 

-وإذن. . 

قلت لك يا عزيزى إنى جادة. . 

أخلاق برجوازية؟ 

جادة. . جيم ألف دال تاء مربوطة . . 

- بالله كيف تسلمين نفسك؟ 

ولما لم تجب استطرد : 

- بالزواج مثلا؟ 

-قل بالحب باعتباره الأصل . . 

دن تعالى:.. 

أأنت جاد؟ 

أنا لا أهزل أبدا. . 

وسناء؟ 

-أنت لا تدرين شيئا عن سيكلوجية المراهقات المجنونات! 

عندى بعض معلومات لابأس بها . 

أتسلمين لى نفسك إذا عاهدتك على الإيمان بالجدية؟ 

أنت ظريف حقا! 

وهاهو ذا يقرب وجهه من وجهها. سيتكرر المنظر القديم . وها هو ذا يطبق بشفتيه 
على شفتيها. وهى لم تقاوم ولكنها لم تستجب. وتحدجه بنظرة ساخرة باردة. باخ 
الفارس وتراجع . هكذا دالت دولة الفرس . وقال وهو يبتسم : 

إذن فلنتمش فى الحديقة الصغيرة. . 

لكن الليل تأخر. . 

-ليس فى العوامة زمن . 





01 مر فوق اليل 


وخلت الصالة . كلا لم تخل الصالة» فما يزال بها أنقاض المجلس والمكتبة والبارفان 
والفريجدير والتليفون والمصباح النيون والمصباح الأزرق ومقعدان فوتيل وسجادة 
سماوية ذات نقوش وردية وهيكل إنسان من العصر الذرى . أما هما ففى الحديقة 
يتمشيان وسترطب حرارتهما الأعشاب الندية» وسوف تستقر همساتهما فى أوراق 
البنفسج والياسمين . ولا يبعد أن يرقصا على أنغام صرار الليل . 

وجاء عم عبده ليباشر مهمته الختامية . راقبه مليا ثم قال له: 

إذا وجدت فتاة. . 

-أووه. 

قبل الوضوء أو بعده وإلا فالويل لك . . 

مات رجل طيب ممن كانوا يحافظون على صلاة الفجر. 

والعمر الطويل لك» يغلب على ظنى أنك ستدفئنا جميعا! 

وضحك العجوز وهو يمضى بالصينية . 

وعثرت عيناه على حقيبة بيضاء كبيرة فوق الشلتة التى كانت سمارة تجلس عليها . 
وخيل إليه أن للحقيبة شخصية وأنها تؤثر فيه بمكر وسحر. واجتاحته رغبة عنيفة فى 
ارتكاب فعل شاذ. مد يده إلى الحقيبة ففتحهاء رأى أشياء متوقعة ولكنها بدت صارخة 
الغرابة وفغمته رائحة زكية . منديل وقارورة صغيرة كحلية اللون ومشط ذو مقبض فضى 
وكيس نقود ومذكرة فى حجم الكف . وفتح الكيس فوجد بضعة أوراق مالية فخطر له أن 
يأخذ نصف جنيه ليعطيه للفتاة التى سيجىء بها عم عبده. وسر لذلك جدا. وآمن بأنه 
يبتكر فكرة فريدة ذات طاقة غير عادية على بعث المسرات . 

تناول المذكرة ودسها فى جيبه . أغلق الحقيبة وهو يغرق فى الضحك . سوف يستأنف 
تجربة التشريح التى فشل فيها قديما ويشق قلبا مغلقا. ويجدد شبابه ليستعيد أيام العبث . 
سوف تقول الفتاة كل شىء مما يخطر على البال ومما لا يخطر. وسوف تتساءل هل قصد 
بالمادة الطحلبية ذات الخلية الواحدة أن تتضمن جميع هذه الأعاجيب؟ وسوف تسألنى 
متى كنت بركانا قبل أن تتخلف راسبا من الرواسب الميتة؟ وأنا لا أعرف الجواب ولكن 
لعلك تعرفه أنت يا من يشيد التاريخ بذكراك . جلس أمامى كتمثال فقلت : 

هل أنت تحتمس الثالث حقا؟ 

أجاب بصوت ذكرنى بصوت مصطفى راشد: 

العم . 
ماذا تفعل؟ 

1110م 





ةوق انيل م 
قلت باهتمام : 
يسأل كثيرون عن سر خمولك فى ظلها؟ 
إنها الملكة. . 
ولكنك الملك أيضا. 
-إنها قوية وتحب أن تستأثر بكل شىء. . 
ولكنك أكبر قواد مصر وأعظم حكامها. . 
-لم أخض حربا ولم أمارس الحكم بعد. . 
-إنى أحدثك عما ستصير إليه» ألا تفهم؟ 
- وكيف عرفت ذلك؟ 
وضحك وهو ينظر إلى كمن ينظر إلى معتوه. قلت بإصرار: 
- إنه التاريخ » صدقنى . :2 
فقلت كمن يتكلم فى كابوس من شلة الخيرة : 
إنه التاريخ » صدقنى . 


١ ٠ 


فكرتها تدور عن الجدية فى مواجهة العبث . والعبث هو فقدان المعنى» معنى أى 
شىء . انهيار الإيمان» الإيمان بأى شىء. والسير فى الحياة بدافع الضرورة وحدها 
ودون اقتناع وبلا أمل حقيقى . وينعكس ذلك على الشخصية فى صورة انحلال وسلبية 
وتمسى البطولة خرافة وسخرية ويستوى الخير والشر ويقدم أحدهما إذا قدم ‏ بدافع من 
الآنانية أو الجبن أو الانتهازية . وتموت القيم جميعا وتنتهى الحضارة . 

وتما يجب دراسته فى هذه المرحلة مشكلة المتدينين العابثين» فإنهم لا ينقصهم الإيمان 
ولكنهم يسلكون فى الحياة العملية مسلك العبث فكيف نفسر ذلك؟ أهو سوء فهم 





5؛ذؤ مث وق النيل 


للدين؟ أم إنه إيمان غير حقيقى» روتينى» بلا جذورء تمارس تحت ستاره أخس أنواع 
الانتتهازية والاستغلال؟ يجب دراسة هذه النقطة» وهل يمكن الانتفاع بها فى المسرحية 
أو تؤجل لموضوع مستقل؟ 

أما الجدية فتعنى الإيمان» ولكن الإيمان بماذا؟ ولا يكفى أن نعرف ما يجب أن نؤمن 
به ولكن من الضرورى أن يكون لإيماننا صدق الإيمان الدينى الحق وقدرته المذهلة على 
خلق البطولات وإلا كان نوعا جادا من العبث . وحتم أن يعبر عن ذلك كله من خلال 
الموقف والمحدث. سواء أكان الإيمان بالإنسان أم بالعلم أم بالاثنين معا. ولكى أبسط 
المسألة أقول : إن الإنسان واجه قديما العبث وخرج منه بالدين» وهو يواجهه اليوم فكيف 
يخرج منه؟ ولا فائدة ترجى من مخالطة إنسان بغير اللغة التى يتعامل بهاء وقد اكتسبنا 
لغة جديدة هى العلم ولا سبيل إلى توكيد الحقائق الصغرى والكبرى معا إلا بهاء وهى 
حقائق بلورها الدين بلغة الإنسان الحديدة . 

وليكن لنا فى العلماء أسوة ومنهج . يبدو أنهم لا يقعون فى العبث أبدا. لماذا؟ ربما 
لأنهم لاوقت لديهم لذلك» وربما لأنهم على صلة دائمة بالحقيقة معتمدين على منهج 
موفق قد أثبت جدارته» فلا يتأتى لهم الشك فيها أو اليأس منها. وقد ينفق أحدهم 
عشرين عاما لحل معادلة» وستجد المعادلة عناية متجددة وتلتهم أعمارا جديدة ثم تفضى 
إلى خطوات راسخة فى سبيل الحقيقة . فهم يعيشون فى مناخ معبق بالتقدم والنصرء ولا 
يعن لهم مثل هذا السؤال: «من أين؟ وإلى أين؟ وما معنى حياتنا؟». أى مغزى, ولا 
يوحى بأى عبث؟ والعلم الحقيقى يفرض أخلاقيات فى عصر تدهور الأخلاق» فهو مثال 
فى حب الحقيقة والنزاهة فى الحكم والرهبانية فى العمل والتعاون فى البحث 
والاستعداد التلقائى للنظرة الإنسانية الشاملة . وعلى المستوى المحلى هل يمكن أن يحل 
التفوق العلمى محل الانتهازية فى قلوب الحيل الجديد؟ 

وعلى أى حال يستحسن ألا أشغل رأسى بفكرة المسرحية أكثر من ذلك الآن» 
وسأعود إلى ذلك بعد جمع مزيد من العناصر الضرورية للعمل . 

ويخيل إلى أن الحركة ستجرى على الوجه الآتى : 

فتاة تغزو مجموعة من الرجال لتغيرهم . يجب أن تنجح فى ذلك بطريقة فنية وإلا لا 
يكون للمسرحية معنى . امرأة جادة ورجال عابثون. وتلزمنى قصة حب . ومن الممتع 
حقا أن يقع الجميع فى حبهاء وعليها هى أن تختار واحداء أو أنها ستقع وهى لا تدرى 
فى حب أحدهم . وينفسح المجال لصراع حاد بين الجدية والعبث والحب. بل يجب أن 
يتأزم الموقف بين الحب والجدية كيلا تفتر المسرحية . ولكن هل تمضى كقصة غرامية فى 
إطار من صراع فكرى؟ هل تقتصر على المناقشات الفكرية والمناجاة الغرامية؟ وكيف 


111 0 





كوه ٠س‏ /]ة |< 
مر وق اليل ”7 


ومتى يتم التطور فى الحدث بإقناع فنى؟ هل يتم بناء على مناقشات؟ هل يتم بناء على 
عقيدة؟ وما مدى اتساع هذه العقيدة؟ هل يكفى أن تغطى الموقف الاجتماعى؟ أعنى هل 
يكفى ذلك لبعث البطوللات؟ 

على أى حال فإننى على بينة الآن من الأفكار التى على أن أبلورها وأوضحها لأجعل 
الرواية (بأسمائهم الحقيقية مؤقتا) لعل فى ذلك خلاصا من حيرتى إذ إنه من المحتمل أن 
تتدفق الحركة فى مجرى تلقائى إذا وضحت الشخصيات واستقرت معالمها الأساسية. 


أشخاص المسرحية 


موظف كفء فيما يقال» ذو خبرة مذهلة بالحياة اليومية والعملية. موفق فى حياته 
الزوجية وله ابنة فى سن المراهقة» متدين روتينى فيما أعتقد. وهو فى الجملة شخص 
عادى ولا أدرى كيف يخدم أغراض المسرحية . وثمة سؤال مهم : لماذا يدمن الجوزة؟ 
ولندع جانبا ما يقال عن البواعث الجنسية» فهل عنده ما يهرب منه؟ على أى حال يجب 
خلقه من جديد بوصفه غير قانع فى أعماقه باستغراق الوظيفة والأسرة لحيويته . إنه يشعر 
مؤمن فهو أعظمهم توازنا ولكنه على رغم ذلك وربما بسبب ذلك أيضا يحزنه أنه شىء لا 
يقدم ولا يؤخر فى الحياة. على ذلك يمكن أن نعد اهتمامه المشهور بالمشكلات الصغيرة ‏ 
كإدمانه ‏ نوعا من الهروب من إحساس التفاهة الذى يطارده. وسيمارس تعاسته الخفية 
دون وعى» وسيظل فى الظاهر الرجل المتوازن المؤمن المطمئن المفيد حتى تكشفه البطلة 
أمام نفسه وربما فى سياق غرامه بها. 


١؟-‏ مصطفى راشئد 


محام. لا بأس أن أبقى له على مهنته تبريرا لقوته فى الجدل. ساخر جدا وخفيف 
الروح . متزوج من امرأة لا يحبها ولعله تزوج بها طمعا فى مرتبها قبل كل شىء» وعلى 





71 موق اليل 


الرغم من أنه يبحث عن أنموذجه الأنشوى الذى لم يصادفه بعد. والحق أن الذى لا 
يمارس العشق فى هذه العوامة هو رجل غريب ينطوى ولا شك على سر دفين . لعله 
الإدمان. وهويعى خواءه النفسى تماما. ويجد ملاذه فى الجوزة والمطلق . ولكنه لا يعى- 
فيما يبدو الخدعة التى يخدع بها نفسه» وهو يتطلع إلى المستحيل بلا منهج ولا جهد 
حقيقى» معتمدا على التأمل المسطول . كأن المطلق ما هو إلا مبرر للإدمان ولكنه يهبه 
إحساسا بالعلو فوق تفاهته الحقيقية : وهو ككثيرين تمن أقابلهم فى الحفلات العامة ذو 
مظهر براق بالثقافة وباطن أجوف متداع تفوح منه التعاسة والنتانة . 


9" على السسيد 


أزهرى النشأة. أتم دراسته بعد ذلك فى كلية الآداب» وأتقن الإنجليزية فى مدارس 
برلتز» فهو مناضل وعلى بينة من هدفه القريب العملى» وله زوجتان, القديمة من القرية 
والجديدة من القاهرة ولكنها ست بيت» امرأة تقليدية لترضى نوازعه المحافظة للسيادة» 
وهو ينوه بقلبه الكبير الذى أبقى على الزوجة الأولى ولكنه خنزير كما تشهد بذلك 
علاقته الغريبة بسنية كامل. وبوصفه ناقدا فنيا فهو وغد كبير» يقيم أسسه الجمالية على 
المنفعة المادية فلا يضطر إلى قول ا حق إلا إذا خانه الحظ وعند ذلك ينقلب هجاء ساخرا بلا 
رحمة؛ ويطارده الإحساس بالتفاهة والخيانة والعبث فيمضى فى سبيل الجوزة والأحلام 
الغريبة عن إنسانية جديدة تتخايل أمام عينيه الذاهلتين من خلال الضباب المهلك . وهو 
مثال لطائفة من المعاصرين الذين يهيمون على وجوههم بلا عقيدة ولا خلق». ولا يتورع 
عن ارتكاب جريمة إذا أمن من العقاب . 


؟:- خالد عزوز 
ورث عمارة فضمنت له حياة رغدة على رغم عجزه الواضح . وجد مهربه فى الجوزة 
الصعب الفصل فيما إذا كان فقده للعقيدة ‏ أى عقيدة ‏ هو الذى تأدى به إلى الانحلال أم 
أن انحلاله هو الذى ساقه إلى رفض العقائد» لذلك لا أستبعد أن يرجع يوما إلى الإيمان 
التقليدى إذا نضب معينه . وهو دون أصحابه عاطل» يأخذ من المجتمع دون أن يعطيه 
شيئاء إلا قصصا مثل قصة الزمار الذى انقلب مزماره حية تسعى ! ولا أستبعد كذلك أن 
يطل علينا ذات مساء من شرفة اللامعقول . 


11100 





طشك مه ٠‏ 


رثرة فوق التي ىظ2”, 
5 رجب القاضى 


هو أمل المسرحية . إذا لم يذعن للتطور فقل عليها السلام. أبوه حلاق كما أخبرنى 
على السيد؛ وما زال يمارس مهنته فى كوم حمادة على رغم لمعان ابنه» عن كبرياء من 
ناحيته أو نذالة من ناحية ابنه. رجب رجل جنس . إله من الآلهة التى تموت فى الحلقة 
السادسة» وكآلهة العشق لا يخلو من قسوة لن يلطفها إلا الحب. وهو كالآخرين بلا 
عقيدة ولا مبادئ ولكنه دونهم عصبية وتأزماء جميل جذاب» مشهور بسمرته الغامقة» 
وسيطرته غير المحدودة» ومهربه الحقيقى فى الجنس » أما الجوزة فيبدو أنها لا تؤثر فيه إلا 
قليلا. وإمكاناته للمسرحية غنية عن التنويه . 


"- أنيس زكى 


موظف خائب» زوج سابق. أب سابق . صامت ذاهل ليلا ونهارا. مثقف يقال ولا 
يملك من الدنيا إلا مكتبة دسمة» يخيل إلى أحيانا أنه نصف مجنون» أو نصف ميت» 
نجح فى أن ينسى تماما ما يهرب منه. نسى نفسه . توحى ضخامة هيكله بقوة كان يمكن أن 
توجد ينكد تمه راق قو آل الا فدو همف عن الاطلذق :سر فى راس 
يمكن أن تطمئن إليه كما تطمئن إلى مقعد خال . قابل للاستغلال الكوميدى ولكنه لن 
يكون له دور إيجابى فى المسرحية . 

2 

يستحسن أن أختزل الشخصيات النسائية إلى اثنتين : البطلة لأهمية دورهاء وسناء 
لتشحذ من حدة العاطفة فى الدراماء فضلا عن أنها شخصية مراهقة عصرية خليقة بأن 
تضفى على المسرحية روحا جذابا لا يخلو من فائدة دراسية» ثم إن انتصار البطلة عليها 
فى المعركة الغرامية يعد رمزا لانتصار الجدية على العبث فى النطاق النسائى إذ لا جدوى 
من الجدية إذا لم تتغلغل جذورها فى المرأة التى هى أم المستقبل . 

ولااضرورة بعد ذلك لسنية كامل التى تمارس تعدد الأزواج على طريقتها الخاصة ولا 
إلى المترجمة الشقراء العانس التى تتوهم أنها رائدة شهيدة على حين أنها رائدة متهافتة 
مدمنة منحلة . 

انتهت الكتابة فى المذكرة» وثمة عنوان هو «ملاحظات مهمة»» ولكنه يقوم وحيدا فى 
وسط السطرء ويليه بياض» وفر الصفحات الباقية حتى الغلاف فلم يعثر على كلمة 
واحدة. دس المذكرة فى جيبه وهو يتمتم (يا بنت الذين» واستخرج المذكرة ثم أعاد قراءة 





0 مث وق النيل 
ماكتب عنه ثم أعادها إلى جيبه. وضحك . ونظر إلى الفنجال الفارغ وهو يقول «لا 
فائدة» سيطول انتظاره» وريما صاحبته الإفاقة حتى ينعقد المجلس . وترامى من المصلى 
صوت عم عبده وهو يؤذن لصلاة المغرب فعاد يتمتم : (يا بنت الذين!». 

واهتزت العوامة مؤذنة بأقدام آتية فنظر نحو الباب وهو يتساءل عمن يكون القادم 
المبكر؟ 


ومن وراء البارفان ظهرت سمارة بهجت! 


١١ 


اقتربت وهى تحبيه بابتسامة متكلفة» وضح له انشغالها فقال: 
لست كعادتك! 

راحت تدور فى المكان وهى تتفحصه : 

-مالك؟ 

فقدت أشياء مهمة . 
-هنا؟ 

- كانت معى فى جلسة اللأمس . . 

وما هى؟ 

مذكرة خاصة بعملى ومبلغ تافه من النقود. 

أأنت متأكدة من أنك فقدتها هنا؟ 

لست متأكدة من شىء . 

عم عبده يكنس المكان والزبال يأخذ الزبالة فى الصباح . 

جلست على فوتيل وهى تقول : 

-لو أنها سرقت فلماذا لم يأخذ السارق الحقيبة كلها؟ لماذا يأخذ المذكرة ويترك كيس 
النقود؟ 

لعلها سقطت منك؟ 

كل شلىء كو . 

أهى خسارة لا تعوض؟ 


111 0 





ةوق اليل 7١‏ 

وقبل أن تجيبه اهتزت العوامة وارتفعت الأصوات . رجته بسرعة أن ينسى الموضوع 
وألا يعيد ذكره. قالت ذلك وهى تنتقل إلى الشلتة . وتتابع دخول الصحاب حتى تم 
للمجلس تمامه وتفرغ للجوزة بهمة ونهم وكان على درجة من الإفاقة غير مألوفة 
فنشطت فى أعماقه شياطين متحفزة للعبث. واسترق إلى سمارة نظرة ماكرة. وقال 
مصطفى راشد مخاطبا سمارة : 

ثبت الآن أنك تجيئين مبكرة لتنفردى بأنيس! 

ألا ترى أنه فارس أحلامى؟ 

فقال أحمد نصر: 

نحن فتيان ولكنه فى الأربعين . 

وبدون دعوة ظهر عم عبده عند البارفان وهو يقول: 

غرقت عوامة فى إمبابة . . 

التفتت الرءوس بشىء من الاهتمام» وسأله أحمد نصر: 

هل غرق أحد؟ 

كلا ولكن غرقت المحتويات . 

فقال خالد عزوز: 

نحن نعانى نقصا فى المحتويات لا فى الأفراد. 

وجاء بوليس النجدة! 

كان يجب أن يجىء أيضا بوليس الآداب . . 

وتساءلت ليلى : 

-لماذا تغرق العوامة؟ 

فأجاب العجوز: 

فقال خالد عزوز: 

بل لغضب الرحمن على من فيها . 

فأمنوا على قوله ورجعوا إلى الجوزة . ولما ذهب عم عبده قال على السيد: 

حلمت ذات ليلة أننى صرت فى طول عم عبده وعرضه . 

فخرج أنيس من صمته المألوف قائلا : 





7 مث فق اليل 

-ذلك لآنك تهرب فى الأحلام والإدمان! 

رحبوا بتعليقه ضاحكين » وسأله على : 

- ولكن مم أهرب يا ولى النعم؟ 

من الخواء! 

ولما سكت الضحك استطرد: 

- جميعكم أوغاد عصريون تهربون فى الإدمان والأوهام الكاذبة. . 

وتجنب النظر نحو سمارة. وقهقهت شياطينه العابثة وتوالت تعليقات: 

أخيرا نطق! 

هذا مولد فيلسوف! 

وبات مركز الأنظار» وسأله مصطفى : 

وماذا عنى أنا؟ 

-هارب فى الإدمان والمطلق». يطاردك الإحساس بالتفاهة . 

وميز ضحكة سمارة وسط هدير الفمحك, ولكنه تجنب النظر إليها. تخيل اضطرابها 
الخفى وتخيل وجهها وتخيل مصارينهاء ثم واصل كلامه قائلا: 

كلنا أوغاد لا أخلاق لنا يطاردنا عفريت مخيف اسمه المسئولية . . 

قال رجب: 

_ ا ا 

وقال مصطفى راشد: 

أراهن على أن «غبارة» الليلة مهربة من موسكو! 

وسأله خالد: 

أنيس » أيها الفيلسوف» وماذا عنى وماذا عن ليلى؟ 

إنك إباحى منحل لأنك بلا عقيدة وربما أنك بلا عقيدة لأنك منحل . أما ليلى فما 

هى إلا رائدة زاتفة منحلة مدمنة لا شهيدة كما تتوهم! 

فصاحت به ليلى : 

- قطع لسانك! 

وأشار إلى سنية كامل قائلا : 

-وأنت تمارسين تعدد الأزواج يا مدمنة! 


0ل تودطاتطه/3: 06. :ةنوم عجان 





مر فق انيل 0١‏ 


يا مجنون! 

كلا . . أنا نصف مجنون فقطء ولكنى أيضا نصف ميت. . 

كيف تجرؤ على هذه الوقاحة؟ 

فقال على السيد ملاطفا: 

أغضبت حقا يا سنية؟ ! . . إنه ولى أمرنا. . 

- لا أقبل أن أهان أمام غرباء. . 

أوشك الوجوم أن يلتهم المرح » ولكن رجب قال بتوكيد: 

لا غرباء بيئناء سمارة منا وعلينا. . 

إنها منا حقا ولكنها عليك أنت وحدك! 

فقال أنيس : 

- لاء إنها لا تبالى برجل يهرب من خوائه فى الإدمان والجنس . . 

صاح رجب فى انبساط : 

ليلتنا فل يا جدعان! 

من يصدق أنك أنيس الصامت! 

لعله يجتر كتابا عن تدهور الحضارة . . 

ما تزال فى جوفى قنبلة أدخرها للمدير العام؛ ليهدأ الضحك المتفجر فى باطنى حتى 
أرى الأشياء . هل تحطمت السلاسل التى تشد عوامتنا إلى الشاطى؟ والبدر يتوثب 
لاقتحام باب شرفتنا الهش . أما الهاموش» فقد أدرك آخر الأمر سر افتتانه المدمر بضوء 
المصباح . 

وقالرجب لسمارة: 

لست فى أحسن أحوالك! 

فقالت من دون أن تنظر إلى سنية ولكنها نظرت إليها فى الواقع بفتور نبرتها : 

ذاك حال الغريب! 

-لاء سنية امرأة الحنان» وهى أم رءوم حتى فى عشقها . . 

فقالت سنية فى سماحة : 

أشكرك» أنت خير من يعتذر عنى للأأخت سمارة . 

فقال خالد عزوز: 

- لا تبالغوا فى توطيد السلام وإلا حل بنا الملل. 





0 مث ون اليل 

وساد صوت القرقرة وحده وانداحت موجاته فى شعاع القمر . قال له دمه المتدفق إن 
النوم عسير فى هذه الليلة الهائجة . وإنه سيشهد سهاد العاشقين بلا عشق . وراح يتذكر 
ما تيسر من أشعار المجانين . واختفى الحاضرون فلبث وحده مع الليل المضىء . ورأى 
فارسا يركض جواده فى الهواء قريبا من سطح الماء فسأله عن هويته فقال إنه الخيام وإنه 
نجمح أخيرا فى الهروب من الموت . واستيقظ على منظر ساقه المطروحة لصق الصينية» 
طويلة بارزة العظام» باهتة اللون فى الضوء الأزرق . كثيفة الشعرء كبيرة الأصابع مقوسة 
الأظافر من طول إهمالها بلا قصء فكاد ينكرها وعجب لعضو من جسده كيف يبدو 
كالغريب؟! ثم انتبه إلى مصطفى راشد وهو يتساءل: 


أنحن حقا كما وصفنا ولى الأمر؟ 
لا هروب ولا خلافه» ولكننا نفهم حقيقتنا كما ينبغى لنا. 
وقال على السيد: 


-عوامتنا هى الملاذ الأخير للحكمة البشرية . 

-هل الاستغراق فى الأحلام هروب؟ 

أحلام اليوم هى حقائق الغد. 

هل التطلع إلى المطلق هروب؟ 

أف . . وهل علينا من عمل سواه؟! 

وهل الجنس هروب؟ 

اخص! إنه الخلق نفسه . . 

-وهل الجوزة هروب؟ 

-هروب من البوليس إذا شئت! 

أهى هروب من الحياة؟ 

- إنها الحياة نفسها! 

فلماذا هاجمنا ولى الأمر؟ 

- إنه لم يهرج من عشرة أعوام فأراد أن يخزى عين الحسود. : 

ليلتنا فل يا جدعان! 

ووصاهم أحمد نصر بشىء من الصمت كيلا تتبدد ثمرة السهرة» ودارت الجحوزة 
دوراتها الختامية المركزة . 

وارتفع القمر عن مجال الإبصار» وهو وحده الذى قرأ فى نظرة سمارة هزيمة 


ل انت تا 





نر فق اليل 7*0 
حزينة. وتبدت وجوههم شاحبة ناعسة . وجادة أيضا على رغمهم» ورمق مصطفى 
سمارة باهتمام وسأل عن رأيها فيما سمعت فقال رجب : 

-لم يخلق آخر الليل للمناقشة . 
فلماذا خلق؟ ذهبوا جميعا عدا على السيد وسنية كامل . وما لبثت الصالة أن خلت 
له. وجاء عم عبده كالعادة فأنجر مهمته دون أن يتبادلا كلمة ثم ذهب . وزحف نحو 
الشرفة فرأى القمر من جديد متألقا فى مركز القبة المرصعة . ناجاه مغمغما أن ليس 
كعوامتنا شىء : الحب لعبة قديمة بالية ولكنه رياضة فى عوامتناء الفسق رذيلة فى 
المجالس والمعاهد ولكنه حرية فى عوامتناء والنساء تقاليد ووثائق فى البيوت ولكنهن 
مراهقة وفتنة فى عوامتناء» والقمر كوكب سيار خامد ولكنه شعر فى عوامتناء والجنون 
مرض فى أى مكان ولكنه فلسفة فى عوامتنا. والشىء شىء حيثما كان ولكنه لا 
شىء فى عوامتنا. أيها الحكيم القديم «إيبوور» أقدم بعصرك الذى اضمحل فيه كل 
شىء إلا الشعر وأسمعنا الغناء. حدثنى ماذا قلت لفرعون. أقبل الحكيم 'إيبو-ور» وهو 
ينشد : 
إن ندماءك كذبواعليك 
هذه سنوات حرب وبلاء 
قلت: أسمعنى مزيدا أيها الحكيم! فأنشد: 
ماهذالذى حسلدلث فى مصر؟ 
إن النيل لا يزال يأتى بفلي اف انه 
إن من كان لا يمتلك أضحى الآن من الأثرياء 
ياليتنى رفعت صوتى فى ذلك الوقت 
قلت : ماذا قلت أيضا أيها الحكيم «إيبو-ور»؟ فقال: 
لديك الحكمة والبصير والعدالة 
ولكنك تتركالفسدد ينهش البلاد 
انظركيف متهن وامرك 
وهل لك أن تأمر حتى يأتيك من يحدثك بالحقيقة؟ 





7 مشر فق اللي 


١ ؟‎ 


استيقظ على صوت يهمس باسمه» فتح عينيه وهو مستلق على ظهره فى الشرفة فرأى 
هالة ناصعة فى السماء تشى بالقمر المختفى عن ناظريه . أين المكان والزمان؟ ! 

د أمنتاذ انين ! 

التفت فرأى سمارة واقفة فوق عتبة الشرفة . جلس معتمدا على ذراعيه رافعا إليها 
عينين لم تفيقا بعد من سكرة الحلم . 

آسفة لعودتى فى وقت غير مناسب . . 

- أما نزال فى نفس الليلة؟ 

مضى على ذهابنا ساعة» أكرر الأسف . 

تزحزح حتى أسند ظهره إلى جدار الشرفة وحاول أن يتذكر. 

عدت من ميدان التحرير بعد أن أوصلنى رجب إليه . 

-شرفت» إليك حجرتى إذا تنازلت . . . 

قالت بجزع: 

-لم أعد لأنام وأنت تعلم ذلك جيدا . 

ثم بهدوء وهى تخفض عينيها : 

أريد مذكرتى . . 

تساءل مقطبا: 

مذكرتك؟ ! 

إذا سميحثت. 

قطت شياطين العبث فى نفسه فقال محتجا : 

- تتهميننى بالسرقة؟ ! 

كلا . ولكنك عثرت عليها بطريقة ما. 

هذا يعنى أننى سرقتها . 

بالله ردها إلى فلا وقت للكلام . 


11100 





وى مه ٠‏ مس لد 2 
مو 


رة قوق "07 


لست ميخطئة . 

-إنى أرفض أن أسمع التهمة مرة أخرى . 

-لا أتهمك بشىء . رد إلى مذكرتى التى فقدت منى هنا. . 

لا أعرف مكانها. . 

واسكعاف واتت تردة ما دون فيها! 

-لا أفهم . 

-بل تفهم كل شىء ولا داعى لتعذيبى . 

التعذيب ليس هوايتى . 

- الليل ينتهى بسرعة . 

فسألها مداعيا: 

أتحاسبك ماما على التأخير؟ 

أستاذ» كن جادا ولو دقيقة واحدة. 

نحن لا نعرف الجد. 

تساءلت فى قلق : 

-من أين لى ذلك وآنا لا أدرى عنها شيئا؟ ! 

كن لطيفا كالعهد بك . 

لست لطيفاء أنا نصف مجنون ونصف ميت . : 

- المدون فى المذكرة لا يمثل رأيى فيكم» ولكنه جملة الآراء التى أعدها للمسرحية. 
- عدنا إلى الألغاز والاتهام . 

-ما زلت طامعة فى كرم أخلاقك . 

ما الذى حملك على هذا الظن؟ 

أنك رددت كلماتى بالحرف . 

ألا تؤمنين بتوارد الخواطر؟ 

- إنى مؤمنة بأنك سترد إلى مذكرتى . . 

-إذن فأنت تتصورين أنك قادرة على أن تفهمى فى أيام ما أعجز عنه فى أعوام ! 
وضحك ضحكة خرقت صمت الخلاء فوق النيل وقال بلهجة جديدة : 
أفكارك فارغة» صدقينى . . 





4 فق اليل 
هتفت بارتياح : 
-ها أنت تسلم . 
-سأردها إليك» ولكنها لا تصلح لشىء. 
ما هى إلا ملاحظات مبدئية لم تدرس بعد. 
لكنك فتاة رديئة ! 
الله يسامحك . 
جئت لا لصداقة ولكن للتجسس . 
قال مسية: 
- لا تسئ بى الظنء إنى أحبكم حقا وأرغب فى صداقتكم» وفضلا عن هذا وذاك 
فإننى أؤمن بأنه يوجد بطل كامل فى كل فرد. ولم يكن يهمنى معرفة حقيقتكم بقدر 
أن أخلق منها ما ينفع المسرحية . 
- لا تجهدى نفسك فى انتحال الأعذار فإن الأمر فى الواقع لا يهمنى . 
ومد لها يده بالمذكرة وهو يقول: 
أما الخمسون قرشا فيسرنى أن أظل مدينا بها إليك . 
فتساءلت فى انزعاج : 
ولكن كيف؟ . . أعنى . . 
كيف سرقتها؟ . . المسألة غاية فى البساطة فنحن نعتبر جميع ما تقع عليه اليد فى 


العوامة من القطاع العام! 
بالله أعطنى تفسيرا يريح القلب . 
فقال ضاحكا: 


كانت نزوة لا تقاوم. . 

أكنت فى حاجة إليها. . ؟ 

-كلاء لم يبلغ بى الفقر هذا الحد. 

إذن لماذا أخذتها؟ 

وجدت فى استغلالها على ذلك الوجه نوعا من القربى إليك! 
الحق أنى لا أفهم . 

ولا أنا. . 

ولكنى بدأت أشك فى منهجى كله . 


11100 





ثرثرة وق اليل 1" 

- من الأفضل ألا يكون لك منهج على الإطلاق . 

ضحكت فقال : 

إلا ما يوصلك إلى الرجل المنشود ! 

ضحكت مرة أخرى فعاد يقول : 

-إنى أفهمك كما يفهمك الجميع . 

كانت قد همت بالذهاب فثبتت فى مكانها مستطلعة فقال: 
-إنك شرفتنا من أجل رجب . . 

فضحكت باستهانة» فقال وهو يشير إلى الحجرة المغلقة : 
حذار أن توقظى العاشقين! 

لست كما تظنون. إنى فتاة. . 

فقاطعها: 

- إن كنت فتاة حقا فتعالى إلى حجرتى لتثبتى ذلك ! 

-كم أنك ظريف ولكننى لن أعجبك . . 

-لماذا؟ 

لأنه فظيع أن تكون الفتاة جادة . 

ولكننى لا أدعو من الفتيات إلا الجادات . . 

حقا؟ ! 

جميع بنات الليل جادات . 

- الله يسامحك . 

- لا يعرفن العبث» يعملن حتى الهزيع الأخير من الليل» لا للهو أو لذة» ولكن 
لهدف تقدمى وهو أن يعشن حياة أفضل ! 
-عيب هذه العوامة أنه لا يعرف بها الجد من الهزل . 
الجد والهزل اسمان لشىء واحد. 

تنهدت مؤذنة بإنهاء الحديث» غير أنها ترددت لحظة ثم سألته: 
-هل تنوى أن تفشى سر المذكرة؟ 
-لو كان ذلك فى نيتى لفعلت . 
أستحلفك بكل عزيز أن تصارحنى بما فى نفسك . 





0 مث فق النيل 


أن أختفى خير من أن أطرد . 
صافحته مودعة وهى تقول بنبرة حميمة : 
شكرا. 


ذهبت مسرعة وصوت عم عبده يؤذن لصلاة الفجر. 


١*7 


اهتزت العوامة مؤذنة بقادم جديدعلى رغم تمام المجلس » وتساءلوا عمن يكون» ثم 
التفتوا نحو الباب باهتمام لا يخلو من قلق» وقام أحمد نصر ليعترض سبيل القادم عند 
المدخل ولكن ضحكة معروفة ترامت إليهم ثم وضح صوت سناء وهى تهتف «هاللو!» 
دخلت ساحبة وراءها شابا أنيقا فنهض رجب لاستقباله وهو يقول: 

أهلا رءوف! 

وقدمه للصحاب قائلا: «نجم الشاشة المعروف». وجلسا وسط ترحاب رسمى فاتر. 
وقالت سناء بصوت أجرأ من عادتها : 

أتعبنى حتى أذعن للمجىء, قال: كيف نقتحم على أناس خلوتهم؟ ! ولكنه خطيبى 
والعوامة أسرتى! 

وتلقت التهانى من جميع الشلة» فعادت تقول وقد وشت أنفاسها بالشراب : 

وهو مثلكم من أهل ذلك . 

وأشارت إلى الجوزة ضاحكة. ولم يبال أنيس بالحرج وأدار الجوزة بكل نشاط . 
وقالت سناء : 

هذه فرصة سعيدة يا رءوف . إليك الناقد الكبير على السيد والكاتبة المعروفة سمارة 

بهجت» ومن تجمعهم الجوزة لا يفرق بينهم رأى أو ذوق! 

فقالرجب: 

ولكن سمارة للأسف لا تتعامل مع الجوزة . 

فتساءلت بسخرية : 

إذن فلماذا تدمن على زيارة العوامة؟ 


1110 





تئر وق اليل 070 

وهمس رءوف فى أذنها بكلمات لم يتبينها أحد ولكنها ضحكت فى استهتار. وجاء 
عم عبده ليغير ماء الجوزة» فلما ذهب قالت سناء لرءوف : 

أتصدق أن كل هذا البناء رجل واحد؟ ! 

وضحكت ولكن وحدها. وساد صمت متوتر مقدار ربع ساعة ثم أقنعها رءوف 
بوجوب الذهاب فقام اخذا بذراعها وهو يقول: 

معذرة»ء لا بد من الذهاب لموعد عاجل». فرصة سعيدة . . 

أوصلهما رجب حتى الباب ثم عاد مكانه. وتجهم المجلس على رغم دوران الجوزة» 
وجعل رجب يبتسم إلى سمارة ملاطفاء ولكنها قالت وهى تومىئ إلى الجوزة : 

مهما قلت فلن يصدقنى أحد. . 

فقالت ليلى زيدان : 

على أى حال فليست هى بالتهمة الشائنة . . 

إلا عند الأعداء . 

فقال رجب ببساطة : 

لا أعداء لك إلا الرواسب البرجوازية . 

ولكنها تكلمت عن الإشاعات فى الوسط الصحفى» وذكرت مسكنها القديم فى 

المنيل» وكيف كانت عودتها المتأخرة إلى البيت تثير القيل والقال بين الجارات . 

-ولما قالت ماما لهن إن عملها فى الصحافة يضطرها إلى ذلك» قلن وما الذى 

اضطرها للعمل فى الصحافة؟ ! 

فقال رجب: 

لكنك تقيمين الآن فى شارع قصر العينى . . 

وأراد مصطفى راشد أن ينكش أنيس لعله يجدد ثورة الأمس فيبدد وجوم المجلس 
ولكنه لم يخرج من عالمه. كان يفكر فى الحلقات المفرغة التى تحاصره كل يوم كشروق 
الشمس وغروبها وبزوغ القمر وأفوله والحضور والانصراف فى الوزارة والإقبال والإدبار 
فى الجلسة والصحو والنوم» تلك الحلقات المذكرة بالنهاية والتى تجعل من أى شىء لا 
شىء . وقد دار معها الآباء والأجداد. وتنتظر الأرض انتظارا لا يعرف الجزع لتستمد من 
آمالنا ومسراتنا أسمدة لتربتها. فلا بأس أن تحتدم الأشواق فى سحابات الدخان المضمخ 
بشذا السحر المحرم الغامض . 

أما ليلى فتعذب نفسها بال حب العقيم وتوغل فى الفضاء كسفينة كونية أفلتت من 
مدارها. وإله الجنس يمد ساقه حتى استقر حذاؤه الأبيض لصق المجمرة وهو يرامق الفتاة 





0 مشر فق انيل 
المزعجة اللذيذة بنظرات متسللة من عينيه السوداوين الحذابتين . وكلام كثير قيل عن سناء 
و خطيبها ولكن رجب لم يشترك فيه. ولا انتبه الصحاب إلى انهماكه الكلى فى سمارة 


فقال خالد عزوز: 

«قلتبية باشمة اللقيقى.. 

فقال أحمد نصر: 

- بالله لا تفسد علينا الحلم . 

فقالت ليلى زيدان : 

الجديد فيه أن أحد طرفيه إنسان جاد . 
وتساءل خالد عزوز: 


-ترى ما موقف محبة جادة من محب عابث؟ 

فأجاب رجب: 

تطهره من عبثه . 

وإذا كان العبث جوهره الذى لا يتغير ؟ 

- لا مفر من انتصار الحب فى النهاية . 

وضحكت سمارة هازئة . فقال خالد: 

- يهمنى أن أرى فتاة جادة وهى تحب. إذ إن انزلاق قدم وزير أضحك بكثير من انزلاق 
قدم بهلوان. 


فقال على السيد: 
-لا فرق فى الحب بين جادة وعابثة» الجدية دعوة إلى الاهتمام العملى بالشئون العامة 
أسوة بالشئون الخاصة . . 


فغمز خالد بعينيه ناحية سمارة وتساءل : 

بأى الناحيتين تراها مهتمة الآن؟ ! 

وارتفع الضحك ثم عاد خالد يتساءل: 

-هل ثمة أمل فى تطويرها نحو الاهتمامات العامة؟ 
إن آمالها متعلقة بالجيل الجديد . 

فنظر خالد نحو رجب قائلا : 


1110 





ترثرة وق اليل 0 

الظاهر أن جيل الأربعين لم يعد يصلح إلا للحب. . 

-هذا إذا كان يصلح له حقا. 

فقال أحمد نصر: 

اليل الجديد خير منا . 

فتساءل مصطفى راشد : 

أليس ثمة أمل فى أن نتغير نحن؟ 

فأجاب خالد: 

نحن نتغير عادة فى المسرحيات والأفلام» وهذا هو سر ضعفها. 

هذا هو سر تجاح الهزليات التى تصورنا على حقيقتنا . 

-لماذا لا تعترف بذلك فى مقالاتك؟ 

لأننى منافق. . وقد عنيت بقولى السابق الهزليات الغربية» أما هزلياتنا المحلية 
فتنتهى عادة بتغير مفاجئ للممثل الهزلى فى شكل موعظة سخيفة» ولذلك فالفصل 
الثالث يكون عادة أضعف فصول المسرحية وهو يكتب فى الواقع للرقابة. 

والتفت خالد نحو سمارة وقال: 

إذا فكرت يوما أن تكتبى مسرحية عن أناس مثلنا فأنصحك كزميل فى الفن أن 
تختارى الشكل الهزلى» أعنى المهزلة أو اللامعقول وكلاهما شىء واحد. . 

فقالت متجاهلة نظرات رجب : 

فكرة تستحق الدراسة ! 

تجنبى الأبطال الهادفين الذين لا يبتسمون ولا ينطقون إلا عن المثل الأعلى ويدعون 
إلى كيت وكيت» ويحبون بصدق. يضحون.ء ويرددون الشعارات» ثم يقتلون فى 
النهاية النظارة بثقل دمهم . 

سأعمل بنصيحتك وأكتب عن الآخرين الذين يقتلون النظارة بخفة دمهم! 

ولكن لهؤلاء أيضا مشكلتهم الفنية. إنهم يعيشون بلا عقيدة» يقضون أوقاتهم فى 
العبث لينسوا أنهم سيتحولون بعد قليل إلى رماد وعظام وبرادة حديد وأزوت 
ونيتروجين وماءء ويرهقهم فى الوقت ذاته أن الحياة اليومية تفرض عليهم ألوانًا من 
الجدية الحادة التى لا معنى لهاء وأن مجانين من حولهم يهددونهم بالنسف فى أى 
لحظة. أمثال هؤلاء لا يعلمون ولا يتطورون» فكيف تصنعين بهم فى مسرحية 
ترجين لها النجاح؟ 

هذه هى المسألة ! 





7 تمر وق اليل 
-وثمة مشكلة أخرىء أن أحدهم لا يختلف عن الآخر إلافى القشورء ذلك أن 
أحدهم لا يكون شخصية ولكنه يتكون من عناصر متحللة كبناء متهدم» ونحن قد 
نفرق بين بيت وبيت ولكن كيف نفرق بين كومين من الأحجار والأخشاب والزجاج 
والخرسانة والملاط والتراب والطلاء؟ . . إنهم كلوحات الفن الحديث . . الواحد 
كالآخرين فكيف تبررين تعدد الشخصيات فوق المسرح؟ 
-إنك توشك أن تنصحنى بالعدول عن الأدب! 
كلا ولكنى أقول لك إنه كما أن الطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين فإن مسرح 
العبث للعبئيين. لن يحاسبك الأخ على السيد على انعدام الحدث أو الشخصية أو 
الحوار» ولن يحرجك أحد بالسؤّال عن معنى هذا أو ذاك . ولما كان لا يوجد أساس 
للتقييم فلن يهزك من يخفضك وستجدين من يرفعك ومن يقول بحق إنك عبرت 
بمسرح فوضوى عن عالم ماهيته الفوضى ! 
ولكننا لا نعيش فى عالم ماهيته الفوضى ! 
فقال وهو يتنهد: 
هذا فراق بينى وبينك» ويمكنك الآن أن تعودى إلى نظرات الأخ رجب! 
لا شىء هنا يدور بيقين وهو يعرف هدفه إلا الجوزة. وعما قليل سيهبط النعاس من 
موطنه السحرى بين النجوم فيعقل الآلسنة. والراجح أن العشق الجديد سيثمر قبلة فى 
الهزيع الأخير من الليل تحت شجرة الجوافة . ومن قبل دارت الأرض ملايين ملايين 
السنين حتى أثمرت هذا المجلس فوق سطح النيل . واختفى القمر عن ناظريه ولكنه رأى 


البرص فوق باب الشرفة. يجرى ثم يتوقف ثم يجرى . كأنما يبحث عن شىء» وتساءل : 


لماذا توجد حركة؟ 

فالتفتوا نحوه متوقعين مفاجأة ماء وسأله مصطفى : 
أى حركة تعنى يا ولى الأمر؟! 

فتمتم وهو يواصل عمله : 

-أى حركة . . 


١ 


ولما كان اليوم عطلة رسمية لمناسبة الهجرة» فإن أنيس قضى النهار بين الشرفة والصالة 
غائبا فى انسجام شامل» وقبيل المغيب جاء عم عبده ليعد المجلس فهنا أنيس بالعيد لثالث 


11100 





شر فق اليل 7ل 

أو لرابع مرة وهو يظن أنه يهنئه لأول مرة. وسأله أنيس عما يعلم عن العيدء فأجاب 
الرجل بأنه اليوم الذى هاجر فيه النبى من الكفار» ولعن الكفار» فقال أنيس : 

سوف يملئون هذا المجلس الذى تعده بعد قليل! 

فضحك العجوز غير مصدق فمضى أنيس فى عبثه قائلا : 

- إنك يا عم عبده هارب فى الإيمان . 

-هارب؟!. . جكت إلى هنا ذات يوم فوق عربة قطار. 

من أى بلد؟ 

- أووه. 

- من أى جريمة هربت؟ 

أووه. . 

إنه مصر على النسيان» فلعله جاء هربا من جريمة أو حملته موجة الثورة سنة .١91١9‏ 
وإنه لم يعد يدرى ولن يدرى أحد. 

وسأله موغلا فى العبث : 

أأنت جاد يا عم عبده؟ 

- أووه. . 

ألم تعلم بأن سمارة نبية جديدة؟ 

- أستغفر الله العظيم . 

وقد جندت منا جيشا سنحارب به العدم ثم نسير إلى الأمام . . 

فسأله الرجل بسذاجة : 

إلى أين؟ 

- إلى السجن أو مستشفى المجاذيب . 

فقال وهو يمضى إلى صلاة المغرب : 

-إنى أبحث عن قط لكثرة الفئران فوق الجسر. 

وما لبث أن جاء الصحاب مبكرين عن موعدهم احتفالا بالعطلة الرسمية. وشرع 
أنيس فى نشاطه» وتحدثوا بعض الوقت عن شئونهم العائلية. وأعلن رجب عن عزمه 
على رفع أجره فى الفلم إلى خمسة آلاف جنيه» فهنأه خالد عزوز وقال له إنه بذلك يثبت 
ولاءه للاشتراكية العربية . وضحك رجب ولكنه لم يعلق على قول صاحبه وراح يتحدث 
عن سناء وكيف تظهر مع رءوف فى المجتمعات والإستديوهات بصفتها خطيبته مؤكدا أن 
الخطبة لن تتوج بالزواج . وهنا تساءلت ليلى زيدان: 





7 مر فق انيل 
حتى متى تظل شلتة الجدية شاغرة؟ 
فأجاب على السيد : 
-عادت مع البعثة الصحافية من زيارة المصانع أمس وستجىء سمارة الليلة غالبا. 
وقال خالد عزوز لرجب : 
حدثنا بصراحة عن علاقتك بها . 
فابتسم دون أن يجيب» فقال خالد: 
هل ثمة جرسنييرة من وراء ظهورنا؟ 
-كلاء يجب أن تصدقونى فليس بين أهل العوامة سر! 
- إذن فيجب أن تعترف بأول هزيمة تحل بك فى حياتك . 
-كلاء ولكنى لم أركز الهجوم كى أستعيد ذكريات الهوى العذرى! 
إذن يوجد حب؟ 
من ناحيتك أيضا؟ 
جذب نفسا طويلا ثم زفره متأنيا وقال: 
لا أخلو من حب. 
تساءلت سنية كامل : 
حب رجبى؟ 
ولكنه موديل جديد! 
هذا يعنى أنه لا شىء من حيث الجوهر . 
فلننتظر حتى نرى . 
فقال أحمد نصر: 
-إنها جميلة حقا. 
فقال على السيد: 
ولكنها ذات شخصية قوية . 
فقالت سنية كامل : 
إنها صفة منفرة لدرجة ما فى المرأة . 
فحدجتها ليلى بنظرة استياء فاستدركت فى مرح : 
إلا فيما ندر. . 


1110 





مر فق الشيل ارو 


وقال رجب: 

- إن عظمة الغزاة تقاس بمناعة الحصون التى يفتحونها. . 

فقالت ليلى زيدان : 

-ولكن الذرة لم تجعل للحصون قيمة ولا للغزاة فضلا! 

فقال أحمد نصر: 

إنها رفضت زواجا فاخراء وهذا تصرف يستحق الإعجاب فى ذاته . 

قالت سنية كامل : 

لا تحكم من قبل أن تعرف (ثم متوجهة إلى رجب) ألم تلمح لك بطريقة ما إلى 
الزواج؟ 


- الزواج يجىء أحيانا بلا تلميح كالموت. . 

صارحنى : أيمكن أن تفكر أنت جديا فى الزواج؟ 

تردد قليلا قبل أن يقول: لا. أثر تردده فى النفوس تأثيرا عميقا. 

لماذا لا أدفع بالمجمرة إلى الشرفة لأستمتع بمهرجان اللهب . إن توهجه خالد لا 
كتوهج النجوم الزائفة» ولكن المرأة كالغبار لا تعرف برائحتها الدسمة ولكن عندما تستقر 
أنفاسها المحترقة فى الأعماق . وكليوباطرة على كثرة غرامياتها لم يعرف سر قلبها. 
وحب المرأة كالفن الهادف لا شك فى سمو هدفه ولكن تحوط بنزاهته الريب . ولا ينتفع 
مخلوق بهذه العوامة كالفئران والصراصير والأبراص . وليس كالحزن شىء يقتحم عليك 
الملأوى بلا دعوة. وأمس قال لى الفجر عند طلوعه إنه فى الحقيقة لا اسم له. وانتبه 
إليهم وهم يتناقشون فى اللحوم البلدية والسمك الروسى والعملة الصعبة والمعادلة 
العسيرة . ثم يضجون بالضحك . واهتزت العوامة مؤذنة بقادم فساد الصمت ثم تمتمت 
سنية كامل : 

العروس! 

جاءت سمارة مرحة نشيطة فصافحتهم بحرارة وهنأتهم بالعيد» وسرعان ما سئلت 
عن الرحلة فأجابت بأنها كانت رائعة» وأن عليهم أن يقوموا بمثلها لكى يخلقوا خلقا 
جديدا. ونقل خالد عينيه بين الحاضرين ثم تساءل : 

-ترى أيمكن أن نخلق خلقا جديدً؟ ! 

تبادلوا النظرات ثم أغرقوا فى الضحك . وقال لها مصطفى راشد: 

الحق عليك» إنك لم تكشفى لنا عن سر جديتك وحماسك! 

-لن أقع فى الشرك! 





م . 


07 ره فو 2 


-واضح أنك فى الإيمان القديم مثلناء ومثلنا أيضا فى الطبقة التى تنحدر نحو 

الهاوية» فكيف عثرت بعد ذلك على معنى؟ ! وخبرينا على الأقل ما هو؟ 

ترددت مليا ثم قالت: 

- إنها اللحياة لا اللحتى. . 

نحن نشعر بدفعها فى غرائزناء وفى تلك الحدود تمارسها على خير وجه . 

كلا. . 

- سبق أن قلنا لك. . 

قاطعته : 

- بعض غرائزنا تعبد الموت كما تعلمون. . 

- والمخرج؟ 

الخروج من القوقعة. . 

كلام طلى ولكنه لا يقدم ولا يؤخر 

الحياة فوق المنطق . 

عند ذلك قال لهارجب: 

-عودى إلى حذرك فقد وقعت فى الشرك . 

وجاء عم عبده ليغير ماء الجوزة» فأثنى له على السيد على جودة الصنف فقال 
الرجل : 

أمس نصحنى المعلم بأن نشترى تموين شهر لأن المخبرين يراقبونه . 

مؤامرة لابتزاز أموالنا فلا تصدقه . 


وسألته سمارة: 
- وأنت يا عم عبده ألا تخاف المخبرين؟ 
فأجاب عنه مصطفى راشد 


لقد طعن فى السن لدرجة تجعله فوق القانون! 

ولمع نجم فى الأفق كبسمة صافية. سأله عن المخبرين وهل يراقبون المعلم حقا؟ 
فأجاب بأنهم يراقبون المفيقين لا المساطيل» وأن النجوم تلمع كلما اقتربت من الأرض 
وتخبو كلما أوغلت فى الفضاءء وأن بعض الأضواء التى تزين القبة صدرت فى الأصل 
عن نجوم قد كفنها العدم» وأن القوة التى تسخرك للاشىء أقوى من القوى التى تسخرك 
لأشياء . وتهاوى شهاب فجأة حتى خال أنه استقر وراء العوامة فوق البنفسج . وقال: 

جميع موظفى الإدارة أخذوا مكافآت تشجيعية سواى . 


1100 





مم فوق الثيل رف 


ولعن أحمد نصر المدير العام» فقال أنيس : 
وقفت فى الحجرة غاضبا لأعلن احتجاجى ولكن غلبنى الضحك . 
وضحكوا ولكنه هز كتفيه . وتذكر على السيد كيف كانوا يحتفلون بالهجرة فى 
القناطر» فقال رجب القاضى : 
خير احتفال بالهجرة أن نهاجر. . 
وتألق وجهه بخاطر جديد فيما بدا فقال: 
ما رأيكم فى أن نجوب الخلوات فى سيارتى؟ 
ولكننا لم ننسطل بعد. . 
ننطلق بعد منتصف الليل . 
رحبت سمارة بالاقتراح . وقال أحمد نصر إن فى الحركة بركة. ولم يعترض أحد إلا 
انيسن الذى عتم : 
ا 
ولكن هل قمضى القافلة فى سيارتين؟ بل فى سيارة واحدة وإلا فلا معنى لها. كيف 
والسيارة لا تتسع إلا لسبعة ونحن تسعة؟ فلتجلس ليلى على حجر خالد وسنية على 
حجر على . وتضاعف الحماس للرحلة التى جاءت بغير تدبير سابق . وقال أنيس بفتور: 
0 
ولكنهم أصروا على اصطحابه» وهل تتم مغامرة كهذه بغير ولى الأمر؟! ورفض أن 
يتحرك أو أن يغير ملابسه» فأصروا على أخذه بالجلباب . وعند منتصف الليل قاموا 
للذهاب . وأذعن أنيس لهم على كره. ومضوا نحو السيارة مبكرين عن موعدهم فوقف 
عم عبده أمام كوخه كالنخلة وهو يتساءل: 
-هل أنظف المكان؟ 
فقال أنيس : 
-اترك كل شىء على حاله حتى نرجع . 


١6 


تحركت السيارة تحمل فى المقعد الأمامى رجب وسمارة وأحمد نصر على حين تكدس 
الباقون فى المقعد الخلفى كجسد مفلطح ذى خمسة رءوس . اتجهت نحو شارع الهرم فى 





ى” مره وق اليل 


شبه خلاء من المارة والسيارات . واقترح رجب طريق سقارة مجالا للراحة فلاقى اقتراحه 
استحسانا تمن عرف الطريق ومن لم يعرفه. أما أنيس فقبع فى جلبابه صامتا وقد ضغط 
فى جانب السيارة الأيمن. قطعوا طريق الهرم فى دقائق ثم انعطفوا نحو طريق سقارة» 
وهناك انسابت السيارة فى سرعة غير عادية فى طريق مظلم مقفر . 

ووضحت معالم الطريق بعض الشىء على ضوء السيارة» فإذا به يمتد فى الظلام بلا 
نهاية» محفوفا من الجانبين بأشجار الجازورينا الضخمة تتلاقى أغصانها فى الأعلى» 
ويكتنفه من الناحيتين فضاء ريفى المنظر والنسمة والوحشة» يجلله الصمتء. ويشق 
جناحه الأيسر بطول الطريق ترعة قائمة الوجه تتضح بعض سطوحها بلون رصاصى غامق 
مميز عما حولها تحت ضوء النجوم الخافت . وازدادت السيارة سرعة» وتدفق الهواء من 
النافذة جافا منعشا مشبعا بأخلاط النباتات . وقالت سنية كامل لرجب: 

-.هدئ السرعة. 

وقال خالد عزوز: 

لا تتجاوز السرعة اللائقة بمساطيل . 

وسألته سمارة: 

أأنت من هواة السرعة؟ 

نحن نزور الآن قرافة فرعونية قديمة فلنقرأ الفاتحة . 

وسرعان ما استردت السيارة سرعتها الأولى فاقترح خالد أن يتوقفوا قليلا ليتجولوا 
فى الظلام . رحبوا جميعا بالاقتراح فمضت السيارة تهدئ من سرعتهاء ثم مال بها رجب 
إلى رقعة متربة بين شجرتين ووقف. فتحت أبواب وغادرها أحمد وخالد وسنية وليلى 
ومصطفى وعلى . تزحزح أنيس عن الباب المغلق وجلس جلسة مريحة لأول مرة وهو 
ينفض جلبابه ليطلق سراحه ويفتش بقدمه عن فردة شبشبه التى انسلتت فى الزنقة. ولما 
دعوه إلى اللحاق بهم قال بإيجاز : 

كلا . 

فقبض رجب على يد سمارة التى همت بالخروج وهو يقول: 

- لا يجوز أن نترك ولى الأمر وحده. 

ابتتعدت القافلة نحو شاطئ الترعة وهم يتكلمون ويضحكون. انقلبوا أشباحا تحت 
أشعة النجوم. وسرعان ما اختفوا تماما فى توغلهم فلم يعد يجىء من ناحيتهم إلا 
أصوات مجردة . وتساءل أنيس بنبرة خاملة : 

-ما معنى هذه الرحلة؟ 


11100 





مم فق اليل 761 

فأجاب رجب معابثا : 

- لمهم الرحلة لا المعنى ! 

همهمت سمارة احتجاجا على التعريض بهاء ولكن أنيس تشكى قائلا : 

الظلام يبعث على النوم . َ 

- انعم بالنوم يا ولى الأمر. 

والتفت نحو سمارة وقال: 

- يجب أن نتكلم عن شئوننا بصراحة توافق الصدق الفطرى المحيط بنا. 

يعز النوم على من يشاهد كوميديا غرامية» والصدق يحلو بعد متتصف الليل فى 
طريق سقارة» وهاهى ذى ذراعه تزحف فوق مسند المقعد. كل شىء يحتمل أن يحدث 


فى طريق سقارة. 
-نا؟ 


-نا. . نا. . حينا هذا ما عنيته تماما . 

يتعذر على أن أتعامل مع إله . 

يتعذر على أن شفتينا لم تتعارفا بعد ! 

حولت رأسها نحو الحقول كأنما لتصغى إلى صرار الليل والضفادع . وتمتمت: 

-ما أجمل النجوم فوق الحقول! 

ترى أى أفكار جديدة دونت فى المذكرة؟ وهل يقدر لنا أن نرى أنفسنا فوق خشبة 
المسرح ذات ليلة وأن نقهقه مع النظارة؟ 

أعرف ما تودين قوله: 

دهه؟ 

-إنك لست كالأخريات؟ 

-أنت تقول ذلك؟ 

ولكن الحب. . 

ولكن الحب؟ 

إنك لا تصدقيننى ! 

أين الصدق فى هذا الظلام؟ وما تعنى أصواتنا للحشرات؟ وأنت فى الأربعين وعليك 





7 ةوق النْيل 
أن تغير دورك فى الأفلام المقبلة . ألا تدرى كيف انطوى كازانوفا الهائل فى مكتبة 
الدوق؟ 

لاتقل رواسب برجوازية من فضلك . 

فكيف أفسر خوفك؟ 

أنا لا أخاف! 

إذن فهى عقدة الثقة؟ 

- سمعتك تردد ذلك فى فلم . 

- لعلى لم أومن بعد بالجدية» ولكنى آمنت بك . 

- إنها عقدة دون جوان! 

أشباح تتراءى فى الحقول أو فى الرأس . كالقرية فى الأيام الخالية . الزوجية والأبوة 
والطموح والموت. والنجوم قد عاشت بلايين السنين ولكنها لم تسمع بعد عن نجوم 
الأرض. لا أشباح هناك ولكنها أشجار وحشية أهملت وسط الحقول. 

ممكن أن التزم بالبراءة حتى نتزوج! 

- نتزوج؟! 

- ولكن بى شيطانًا يثور على الروتين. . 

«الرولي 11 

بالإشارة تفهمين كل شىء ولكننى لا أفهمك . . 

أين الشرفة وصوت تلاطم الأمواج؟ أين؟ والجوزة ورائحة الماء وعم عبده أين؟ 
والخواطر التى تومض كالبرق ترتطم بأشباح الجازورينا ثم تختفى ولكن أين؟ 

-لماذا رفضت الزواج من الرجل المرموق؟ 

- لم أقتنع به . 

يعنى لم تحبيه؟ 

إذا شعت . . 

- إنه مثلى فى الأربعين؟ 

لمن الك 

الاقتناع مهم فى الاختيار الحر لا فى الحب . 

-لا أدرى. 


داجس ؟ 
1110 





ره وق اليل 7 

سؤال جدير بالإهمال. 

وصاح أنيس بصوت بدد دأب الليل: 

دقعي وتبويب للسة والحب: والحتس:ياذرية علماء النبحؤ .... 

التفتا نحوه فى انزعاج ثم ضحكاء وقال رجب: 

- ظئنتك نائما. 

حتى متى نبقى فى هذا السجن؟ 

مكثنا ساعة . 

- ولماذا لم نتتتحر؟ 

كنا نحاول الحب! 

وترامت من جوف الليل أصوات القافلة» ثم لاحت أشباحهم مبعثرة وهى تقترب . 
أقبلوا نحو السيارة ثم أحاطوا بمقدمهاء أجل يا عزيزى كان من السهل قتلنا فى الخلاء . 
واأسفاه على أيام الفرسان والصعاليك . وقال خالد إنه أوشك أن يرتكب الخطيئة الأولى 
لولا الرائدة الزائفة . 

وقال مصطفى راشد : 

وفى الظلام قررنا أن نختبر عصريتنا فاستبقنا إلى الاعتراف بأخطائنا . 

أثنى رجب على براعة الفكرة فاستطرد مصطفى : 

واعترف كل منا بآثامه . . 

آثامه؟ ! 

أعنى ما يعتبر كذلك لدى الرأى العام . . 

وكيف كانت النتيجة؟ 

رائعة . 

كم منها ما يعد جريمة؟ 

عشرات. 

-ومايعد جلحة؟ 

مئكات . 

- ألم يرتكب أحدكم فضيلة ما؟ 

المدعو أحمد نصر. . 

لعلك تعنى إخلاصه لزوجه؟ 





ك7” ثثرة وق اليل 

وللتعليمات المالية ولائحة المخازن والمشتريات! 

-وكيف كان رأيكم فى أنفسكم؟ 

أجمعنا على أننا طبيعيون لا يشيئنا شىء» وأن الأخلاق التى تديئنا أخلاق ميتة 

مستوحاة من عصر ميت» وأننا رواد أخلاق جديدة صادقة لم يتتظمها التشريع 

دامراقوء +يرافق» . 

استسلم لمنظر الأشجار وهى تطوق الطريق على طوله بإحكام جمالى خارق. لو 
باكر ورا ممه ع جانزي الكاريق انيرك !لخر والعاواب . وها هى ذى حية تسعى 
حول غضى تريد أن تقول شيقا . أجل قولى شيئا يستحق أن يسمع . ولكن ما ألعن 
الفنوضاء! 

-دعونى أسمع ! 

فضحكوا لزعقته : وتساءل مصطفى: 

- ماذا تريد أن تسمع؟ 

وتكدسوا فى السيارة فانضغط فى الباب كأول الأمر واختفت الحية تماما. وقال 
رجب : 

- سيقودكم سائق عصرى! 

تحركت السيارة وهى تزمجر كالعاصفة,» ثم انطلقت فى قوة» ومضت تستزيد من 
سرعتها حتى بلغت ذروة جنونية . 

ندت ضحكات هستيرية» وأصوات متهدجة. ثم ارتفعت احتجاجات واستغاثات 
انهالت الأشجار متطايرة إلى الوراء واجتاح الأجساد إحساس أهوج بالتردى فى هاوية 
وتوقع مفزع بالارتطام فى قرارها . 

جئون! . . هذا جنون! 

-سيقضى علينا بلا رحمة . 

قف . . يجب أن نسترد أنفاسنا . 

للك . حتى الحنون يجب أن يقف عند حد. . 

لكنه رفع رأسه فى نشوة مخيفة ودفع السيارة إلى أقصى سرعة وهو يصرخ كالهنود 

الحمرء فاضطرت سمارة إلى مس ذراعه هامسة : 

من فضلك . . 

وقال خالد بعصبية : 


1110 





ةق اليل 4ن 
-ليلى تبكى فارجع إلى صوابك! 
آه مات الخيال ولم يبق فى الرأس إلا ضغط الدم. القلب يهبط كأسوإ تكسات 
البلبعة . أطبق جفنيك حتى لا ترى الموت بعينيك . 
وفجأة دوت صرخة مروعة. فتح عينيه مرتعدا فرأى شبحا أسود يطير فى الهواء . 
ارتجت السيارة بعنف وكادت تفقد توازنهاء وهصرتهم فرملة شديدة فارتطموا فى المساند 
والأبواب وانعصروا فى تأوه وحشى . 


شخص ما تحطم . 

قتل عشر مرات . 

- نهاية متوقعة . 

-وليلة سوداء. 

صاح رجب بصوت أجش : 


- تمالكوا أنفسكم . 

وقام نصف قومة لينظر إلى الوراء» ثم جلس مرة أخرى ودفع السيارة فانطلقت . مال 
أحمد نصر نحوه كالمستطلع فقال بتصميم : 

وركبهم صمت مريض فاستدرك : 

-هو ال حل الوحيد. 

لم ينبس أحد بكلمة حتى همست سمارة : 

لعله فى حاجة إلى مساعدة؟ 

- لقد انتهى . 

فقالت بصوت أعلى درجة : 

- لا يمكن القطع برأى . 

-لشنا أطياء على أى حال 

فوجهت سؤالها إلى الجميع : 

ما رأيكم؟ 

5 

وإذا به يفرمل غاضبا حتى وقف بالسيارة فى وسط الطريق ثم التفت إليهم قائلا : 





آ», رثرة فق النيل 
-لن يقال غدا إننى قررت الهرب برأيى وحده. إنى رهن إشارتكم» فمارأيكم؟ 
انو 1 أعدكم بأن أصدع با تأمرون. 
قال خالد: 
يجب أن نهرب, هو الحل الوحيد. . 
فقال أحمد نصر: 
أبعدنا عن الطريق لتتهيأ لنا فرصة للتفكير فى مكان آمن . . 
لاوقت للعدالة» أريد رأيا صريحا. . 


فقال على السيد: 
-امض» يجب أن نهرب» ومن عنده رأى آخر فليتكلم 
وقال مصطفى فى جزع : 


تحرك وإلا ضاع الأمل . 

وبكت ليلى فسرت عدواها إلى سنية» عند ذلك التفت رجب إلى سمارة قائلا : 

إنه إجماع كما ترين. . 

ولما لم تنبس حرك السيارة وهو يقول: 

نحن فوق الأرض لا على خشبة مسرح . 

انطلقت السيارة فى سرعة رزينة وهو يقودها واجما مخشبا وقد غشاهم صمت 
جنائزى . وأغمض أنيس عينيه ولكنه رأى الشبح الأسود وهو يطير فى الهواء . ترى أما 
زال يتألم؟ ألم يعرف لماذا وكيف قتل؟ أو لماذا وجد؟ أم انتهى إلى الأبد؟ وهل تمضى 
الحياة كأن شيئا لم يكن؟ 

استمرت السيارة فى انطلاقها حتى وقفت أمام العوامة» غادروها صامتين وتخلف 
رجب ليفحص مقدمها. واستقبلهم عم عبده واقفا ولكن لم يلتفت إليه أحد. وتبدت فى 
ضوء المصباح وجوههم الشاحبة المنهزمة. وما لبث أن لحق بهم رجب بوجه متصلب لم 
ير من قبل . 

ولم يعد الصمت يحتمل فقال على السيد: 

- ليس بمستحيل أن يكون حيوانا! 

فقال أحمد نصر: 

الصرخة كانت صرخة إنسان. . 

-ترى هل يؤدى التحقيق إلى التعرف علينا؟ 

111010 





ترثرة فق النيل 7 


-لن نجنى من الفكر إلا الأرق . 

وتمتم رجب: 

- وإرادتنا بريئة! 

فقالت سمارة: 

ولكن الهرب جريمة . . 

فقال بحدة : 

- لم يكن منها بد وقد أيدها الجميع . 

وراح يتمشى بين الشرفة والبارفان ثم قال: 

إنى حزين جدا ولكن يحسن بنا أن ننسى الموضوع كله . 

يجب أن ننسى» أى تصرف آخر كان يعنى القضاء على سمعة ثلاث سيدات وبهدلة 
الآخرين» وسوقى أنا إلى المحكمة. . 

وجاء عم عبده فنظروا إليه فى تبرم ولكنه لم يلحظ شيئا: 

-أى خدمة؟ 

فأشار له رجب أن يذهب فمضى قائلا : 

أنا ذاهب إلى المصلى . . 

تساءل رجب بعد ذهابه : 

-ترى هل فهم العجوز شيئًا؟ 

فأجاب أنيس : 

- إنه لا يفهم شيئا . 

فقال رجب بعصيبة : 

يحسن بنا أن ننصرف . 

فصدق خالد على قوله قائلا: 

الفجر وشيك الطلوع. . 

وذهب خالد وليلى وعلى وسنية ومصطفى وأحمد وقال رجب لسمارة . 

- إنى آسف على تكدير صفوك ولكن تعالى لأوصلك . 

هزت رأسها بتقزز قائلة : 

- ليس فى تلك السيارة . . 





7 م وق انيل 


- هل تؤمنين بالعفاريت؟ 

-كلاء ولكنها صدمتنى أنا. . 

لا تبالخى فى الخيال. . 

الحق أنى محطمة . 

- على أى حال فلن أتركك» سنسير معا حتى تجدى وسيلة للمواصلات . 
ووقف قبالتها ينتظر حتى قامت . 


١1 


وتناهى إليه صوت عم عبده وهو يؤذن فقال إننى وحيد. وإنه يحسن به أن يدعو 
أحدا أو أن ينضم إلى أحد. ولوح بذراعه لليل وقال إن السر قد تبخر من رأسه فهو 
مفيق. وضحك من غرابة الفكرة. لكنه مفيق وها هو ذا ليل الفجر بلا صوت يتحدث 
وليس للحوت من أثر. أين بقية الغبارة؟ هل داستها سيارة؟ والحاكم بأمر الله كان يقتل 
بلا حسابء ولا آمن بأنه إله حرم على الناس الملوخية. لماذا أذعنت للخروج معهم؟ 
هكذا توجت قاتلاء القتل والسرعة الجنونية والهرب, والمناقشة المدببة وأخذ الأصوات 
فى ديموقراطية دامية. وبعثت الزوجة والبنت ثم ماتتا من جديد. ولن ينام الليلة إلا 
متى يرحم العقل نفسه ويستسلم للنوم؟ وصعد الحاكم بأمر الله إلى قمة الجبل ليمارس 
أسراره العلوية» ولم يعدء حتى اليوم لم يعد ولم يعثر له على أثرء وحتى الساعة لم 
يتوقف البحث عنه. لذلك أقول إنه حى» وقد رآه رجل أعمى ولكن أحدا لم يصدقهء 
وغير بعيد أن يتجلى للمساطيل فى ليلة القدر. أما الإنسان المجهول فقد قُتل كما قُتل 
النوم . 

وتريث بصره الحائر عند الفريجيدير فوق أعلى بابها فاكتشف لأول مرة وجه الشبه بين 
منحنى الباب وجبين على السيد» وأيضا فهو له عينان تغرورقان فى الضحك . وقالوا إن 
الحاكم بأمر الله قد قتل» كلا فمن كان مثله لا يقتل ولكنه إن شاء ينتتحر» وقد ألقى نظرة 
من فوق الجحبل على القاهرة ثم أمر الجبل أن يدكهاء ولما لم يصدع الحبل بأمره أدرك أن 
جهاده عبث فانتحر . لذلك أقول إنه حى وغير بعيد أن يتجلى للمساطيل فى ليلة القدر. 

وترامى إليه من الحديقة صوت عم عبده لدى رجوعه وهو يبسمل » فناداه فجاء الرجل 
من توه وهو يقول: 


0110 





ممه وق النيل 7 


عل الم يعدا 

فسأله بلهفة: 

هل أخذت بقية الغبارة؟ 

كلا . 

فتشت عنها فى كل مكان ولا أدرى أين ذهبت. . 

-لماذا لم تنم؟ 

فرغ رأسى فى الرحلة المشئومة. . 

يجب أن تنام فالصباح يقترب . 

وعندما تحرك العجوز للذهاب سأله : 

-يا عم عبده ألم تقتل أحدا فى حياتك؟ 

-أووه! 

فتأوه قائلا فى حنق : 

أذهب. 

ومضى يذهب ويجىء حتى تعب» وانتقل إلى الشرفة فاستلقى فوق شلتة ولكن 
حدة اليقظة أيأسته من النوم. وخلو العوامة من الكيف ضاعف من قلقه ووساوسه. 
وقال إنه يجب أن يتحلى بصبر النجوم. وانطفأت مصابيح الطريق فاستقلت الطبيعة 
بألوانها. وتسلل ضياء الغسق فصبغ الأفق بلون بنفسجى ضارب للقرنفل» ثم انحسر 
الغبش عن مولد أشجار الأكاسيا واللبخ . ونهض يائسا ومتحديا. أسلم رأسه للصنبور 
طويلا ثم تناول زجاجة حليب من الفريجيدير فشربها بلا رغبة . وصنع بيديه قهوة 
فاحتساها. وضاق بالمكان فارتدى بدلته وغادر العوامة مبكرا ليتسكع فى الطرقات حتى 
يأزف موعد الدواوين. 

استقبل الطريق مفيقا لأول مرة. بباطن بعيد ككل البعد عن السلطنة والخيال 
والضحك. وامتد الشارع أمامه طويلا تكتنفه الأشجار السامقة من الجانبين تتدانى 
أعاليها على مرمى البصر كجبين مقطب . لأول مرة يرى العوامات والذهبيات الراسية 
على امتداد الشاطئ المرصع بحدائقها المتشابهة والمتباينة . 

العجب أن لكل عوامة شخصيتها ولونها وشبابها أو كهولتها ووجوها آدمية تتراءى فى 
نوافذها. وأعجب مارأى نخلة محملة بالبلح الأصفر وما كان يصدق أنه توجد على 
الشاطئ نخلة واحدة. . وثمة كثير من الأشجار مختلفة الأحجام والأشكال والأزهار لا 
يدرى عن أسمائها أو خواصها شيئا. 





2 مر وق اليل 

ومرت به قافلة من الجمال يقودها رجل فتساءل: من أين أتت؟ وإلى أين تذهب؟ 
وداخله شعور كاليقين بأنها تزحف فى ضيق مفعم بالتوتر والألم . وق رأ على باب عوامة 
لافتة تعلن عن «دور مفروش للإيجار» . ها هى ذى شقة خالية» وها هى ذى امرأة لا بأس 
بشكلها وعمرها تنظر نحوه من الدور الأعلى» ولن يستطيع الخيال أن يحصى الاحتمالات 
الممكن أن يصادفها ساكن جديد أعزب . ولكن كيف يمكن أن ينطوى نهار المفيق؟ 

واعترضه جذع شجرة فاستوقفه لضخامته وغلظه فرفع عينيه إلى الغصون المنتشرة فى 
الهواء كقبة هائلة مغروسة الهامة فى سحابات الصباح الشفافة الدانية» ثم رجع إلى الجذع 
المعمر هابطا إلى جذور كالحة متفرعة عن أصله وضاربة فى أرض الطوار كأنا تنشب فيه 
أظافرها فى اندفاعة متوترة غاصة بالتحدى والألم. وهاك رقعة من اللحاء الخارجى قد 
تاكلت كاشفة عن طبقة من اللحاء الداخلى ذات لون أصفر باهت على هيئة بوابة قوطية 
استوت أمامه بطول قامته داعية إياه للدخول . وقال إن طول عمر الشجرة ‏ وحده ‏ يكفى 
لإقناع من لا يريد أن يقتنع بأن النبات كائن لا عقل له. 

ومضى وهو يمعن النظر فيما حوله ومتسائلا فى غرابة: ترى ألون الوجود أحمر أم أنه 
أصفر؟ وهل لحاء الشجر كجلد ميت» ولكن متى رأيت جلد ميت؟! وثبت له أن شيئا ما 
فى الطريق يعترضه متحديا معاندا مثيرا للآلم . 

وتذكر بغتة أنه لم يحلق ذقنه . وأنه لم ينس ذلك قط وهو مسطول. وأن ذلك سيزيد 
من تعقيد الأمور. وسأله صوت عن الساعة فلم يعن بإجابته ولم يلتفت نحوه» وسار 
متثاقلا حتى لوح له بائع الجرائد بصحف الصباح فمضى عنه فى غير مبالاة. إنه لم يقرأ 
جريدة منذ دهر طويل» ولا يعرف من الأحداث إلا ما تلوكه ألسنة المساطيل فى هذيانها 
الأبدى . من الوزراء؟ وما السياسة؟ وكيف تسير الأمور؟ . 

انظر يا سيدى. مادمت تسير فى طريق شبه خال دون أن يهاجمك قاطع طريقء مادام 
عم عبده يجيئك بالغبارة كل مساءء مادام الحليب متوافرا فى الفريجيدير» فالأمور تسير 
حتما سيرا حسناء أما آلام الإفاقة» وحوادث السيارات» وأحاديث الليل المغلقة» فلم 
يعرف بعد على من تقع مسئولية حلها. 

وذهب إلى الإدارة مبكراء وما كاد يستقر على كرسيه الخشبى حتى اجتاحته رغبة لا 
تقاوم فى النوم فطرح رأسه على المكتب وغاب فى سبات عميق . ودعاه زملاؤه إلى 
مناقشة عن لائحة العقوبات فقال لهم إن خير ما تصلح به الحكومة هو لائحة الوصايا 
العشر وبخاصة بند السرقة وبند الزنا. وغادر الحجرة إلى القرية فأحاط به غلمان الصبا 
ورموه بالتراب فانقض عليهم رافعا يده بحجر ولكن عديلة قبضت عليها وقالت له أنا 
زوجتك فلا تضربنى . فسألها عن البنت فقالت إنها سبقت إلى جنة الخلد وأنها تدور على 


000011001 





مر فق اليل ان 


الخالدين بالماء العذب . وفرح جدا وقال لها إن عمرا طويلا انقضى وهو يحاول عبثا أن 
يتذكر ذلك» وإن طريق الجنة محفوف بأشجار الجازورينا ويتعذر السير فيه ليلا ولكن 
السيارة تقطعه فى ثوان مرهقة بالرعب» ويصرخ الإنسان ولكن صوته ينحبس فى 
حنجرته ولا يسمعه أحد. فطارت فى الهواء ثم سقطت فوق غصن شجرة فقال بعجب: 
إذن هو أنت؟! فقالت: كيف لم تعرف؟! فقال: إنه الليل يقطر سوادا ولا يرى فيه شىء 
ويتكلم كثيرا بلا جدوى . فقالت: خبرنى عما تريد. فقال: أريد ما فنشت عنه فى كل 
مكان . ولكن ها هو ذا قادم على هيئة سحابة داكنة وعما قليل ستمطر السماء مطرة 
واحدة ولكنها تكفى لبل ريق المنصهر المعذب . ثم مد نحوها ذراعه ولكنه لمح عم عبده 
قادما من أقصى الطريق راكضا بكل قوته لا يتوقف ولا يلتفت . غير أنه شعر طيلة الوقت 
بالعجوز وهو يوشك أن يطبق عليه . وبلغ العوامة فاندفع فوق السقالة ثم أغلق الباب 
وراءه ووجد لدهشته المجلس مكتملا والإخوان يتضاحكون كعادتهم فعانقهم وهو لا 
يصدقء وقال لهم: لقد حلمت حلما مزعجا. فسأله رجب عما رأى» فقال رأيت 
مجلسنا فى سيارتك وأنت تدفعنا بجنون فصدمنا رجلا فطار فى الهواء! فضحكوا 
طويلاء وقال له مصطفى : أحكم اللحاف حولك عند النوم . فتأوه قائلا اسطلونى! 
فقدمت له سمارة الجوزة وهى تقوم على خدمتها فجذب منها نفسا طويلا عميقا حتى دار 
رأسه وجعل يضحك منها ويقول: ألم نقل لك؟! فنحت الجوزة جانبا وقامت فتمنطقت 
بالإشارب وراحت ترقص رقصة بلدية فدعاهم إلى التصفيق» ولكنه لم يجد منهم أحدا! 
أجل لم يكن فى العوامة أحد سواهماء فراح يصفق لها وحده ثم ضمها بين ذراعيه وهو 
يقول: لقد فتشت عنك فى كل مكان وسألت عنك عم عبده. . وعند ذلك تهاوت 
الضربات فوق الباب وارتفع صوت عم عبده وهو يصيح: افتح! . . فجرها من يدها إلى 
الفريجدير واندسا فيها ثم أغلق الباب. . واشتدت الضربات حتى زلزل المكان» واستمر 
الزلزال حتى فتح عينيه فرأى زميله وهو يهزه قائلا : 

صح النوم! 

دعك عينيه فقال الآخر: 

اذهب إلى المدير العام فإنه يريدك . 

ونظر فى الساعة فإذا بها تدور فى العاشرة . قام مترنحا ثقيل القلب فمضى إلى المرفق فغسل 
وجهه. ثم ذهب إلى مكتب المدير العام ومثل بين يديه . حدجه الرجل بنظرة باردة وقال: 

أحلام سعيدة! 

فلم ينبس من الألم والقرف» فقال الرجل : 

- رأيتك بعينى فى سابع نومة وأنا مار أمام الإدارة . 

أنا مريض . 





؟>*”, مث وق النيل 


كان يجب أن تطلب إجازة . 

-لم أشعر بالمرض إلاعند حضورى . 

وجرفه غضب مفاجئ فهتف بخشونة : 

للا.. 

أنت تخاطبنى بهذه اللهجة؟ ! 

-قلت إنى مريض فلا تهزأ منى . 

لقد جننت مافى ذلك شك . 

فصرخ بصوت كالرعد: 

لا.. 

يا مجنون ها هى ذى عاقبة الإدمان! 

احفظ لسانك أحسن لك! 

انتتر الرجل واقفا ممتقع الوجه وصاح به: 

-يا وقح يا مجرم يا مدمن! . . 

انقض بلا وعى على النشافة ورماه بها فأصابت صدره فوق رباط الرقبة. . ضغط 
الرجل على زر الجرس وهو يرتعد فصاح أنيس: 

إن نطقت بكلمة أخرى قتلتك! 

أحاط به صمت ثقيل فى مكتبه ولكنه لم ير أحدا. جلس ساهما منفصلا تماما عما 
حوله. حتى الألم لم يعد يشعر به. وقبيل الانصراف اقترب منه زميله» وهمس فى 
إشفاق : 

- يؤسفنى أن أخبرك بأن أمرا قد صدر بوقفك عن العمل وإحالتك إلى النيابة الادارية . 


١ 7ع‎ 


استسلم للمقادير. وقال إن شر البلية ما يضحك . وهو يتناول غداءه أخبره عم عبده 
بأنه لم يجد شيعا عند التاجر وبأنهم أخطئوا فى إغفال نصيحته . والعمل؟ سيجرب حظه 
عند تاجر آخر ولكنه غير متأكد من نتيجة مسعاه . 


11100 





ثرة وق اليل ون 

ها هى ذى المصائب تتجمع كسحب الشتاء . واستلقى على فراشه وراح يطالع فصولا 
عن عصر الشهداء . قرأ طويلا ولكن النوم لم يأت . سقط شهيد فى إثر شهيد ولكن النوم 
لم يأت . وكره الرقاد فقام يتسلى بإعداد المجلس . عندما تتكاثر المصائب يمحو بعضها 
بعضا وتحل بك سعادة جنونية غريبة المذاق. وتستطيع أن تضحك من قلب لم يعد يعرف 
الخوف. ولنا فوق ذلك نزهة لطيفة فى النيابة الإدارية : ما اسمك بالكامل: أنيس زكى 
ابن آدم وحواء»ء سنك : ولدت بعد مولد الأرض بألف مليون سنة. وظيفتك: 
برومثيوس مسطولاء مرتبك : ما قيمته خمسة وعشرون كيلو من اللحم البلدى . 

والتاجر على أى حال يجب أن يوجد. ودخل الشرفة فجذب سمعه صوت عم عبده 
وهو يؤم المصلين لصلاة العصر . تقدمهم كالطود واصطفوا خلفه كالأقزام ما بين خفير 
عوامة وقروى وخادم. ومخرت النيل قافلة من المراكب الشراعية محملة بالأحجار. 
وتتابعت الأمواج سمراء ضاربة للاخضرار فى هدوء رتيب كأن الطمأنينة تحكم الكون. 
واستوت على الشاطئ أشجار الأكاسيا كالبركات مستقلة بكون آخر. 

وجاء عم عبده عقب الصلاة ولكنه وجد المجلس جاهزا . 

ورجع أنيس إلى الصالة وهو يقول له مداعبا: 

تطاردنى يا عجوز! 

دهه؟ 

رأيتك فى المنام تطاردنى . 

خيرا إن شاء الله . 

- ماذا تصنع لو طردتك من العوامة؟ 

وهو يضحك: 

-جميع الناس يحبون عم عبده. 

أتحب الدنيا يا عجوز؟ 

أحب كل ما خلق الرحمن . 

ولكنها كريهة أحيانا. أليس كذلك؟ 

الدنيا حلوة ربنا يطول عمرك . 

إياك وأن ترجع خالى اليدين. 

ربنا موجود. 

وتلقت العوامة الهزة المألوفة فنظر أنيس نحو الباب ليرى القادم المبكر. وما كادعم 
عبده يختفى حتى ظهرت سمارة . متجهمة شاحبة الوجه تعكس عيناها توجسا وقلقا وقد 
ركد ماء الشباب فى وجهها. صافحته فى آلية ثم جلسا متباعدين. 





2 ,/6: 


وانتبهت إلى المجلس المعد بغرابة وتمتمت : 
أيمكن أن تمضى الحياة كما كانت؟ 
لا شىء يكون كما كان. 
قالت وهى تغمض عينيها : 
-لم أنم أمس دقيقة واحدة. 
ولا أنا. . 
فتأوهت قائلة : 
الحق أن الموت يطاردنا بشدة منذ أمس . 
مدت له يدها بالجريدة المسائية وهى تقول : 
جثة رجل فى الخمسين» شبه عار» كسر فى الفقار والساقين وعظام الرأس» دهمته 
سيارة وهرب الجحناة» لم تعرف هويته كما لم يعرف له أهل . 
قرأ الخبر ثم رمى بالجريدة قائلا : 
عدنا إلى الجحيم . 
-لم نخرج من الجحيم . 
نحن لم نخرج من الجحيم ! 
نحن فى الواقع قتلة. 
نحن فى الواقع قتلة! 
ثم وهو ينظر إلى النيل : 
وقص عليها قصة المدير العام. وتبادلا نظرات ميتة وهى تعرب عن أسفها. ثم سألته : 
ألك مورد غير الوظيفة؟ 
فضحك ضحكة أغنت عن الجواب» وقال: 
إنهم يدفعون أجرة العوامة وتكاليف السهرة كافة. 
-الرفت عقوبة نادرة الحدوث . 
سيقول لكل كائن إننى مدمن منحل ! 
-يا للبلاء! لقد تراكمت المصائب . 
وانطوى كل فى قوقعته . 
وإذا بالعوامة تخفق فى هزات متتابعة ثم جاء الصحاب جميعا بوجوه غريبة . 


110 





ثرة فق اليل “7 

وقال أنيس لنفسه : إنهم يتوقعون متاعب من ناحية سمارة. وسأله رجب ‏ وهو يشير 
إلى الجوزة لماذا لا يعمل؟ فأجابه بأنه لا يوجد شىء . وقال لنفسه إنه يتظاهر بالاستهانة 
ولكن دون جدوى . وتبين أنهم اطلعوا على الخبر فى الجريدة . أجل . وما لبثوا أن علموا 
بمأساته مع المدير العام . وتأوه على السيد قاتلا : «يا للمصائب!»» وقال أحمد نصر 
باهتمام : 

يجب أن نتخلص من الحوزة وأدواتها فى الحال. 

وحدجوه باستنكار فاستطرد : 

لا أستبعد أن يعمل المدير على الإيقاع بالعوامة ! 

وفى تصميم قام من فوره وراح يرمى بالجوزة والكراسى والمعسل وسائر الأدوات 
المساعدة إلى النيل» ثم ارتمى على الشلتة وهو يقول : 

اعتبروا العوامة منطقة خطر حتى ينجلى الموقف . 

وتبادلوا نظرات كثيبة عارية من التصنع حتى تمتم أنيس : 

وتلق ولت] 

ولما لم ينبس أحد رجع يقول: 

كانت خرجة مشكومة» لماذا فكرتم فى الخروج؟ ! 

فقال رجب بصوت حاد: 

- علينا أن ننسى الماضى . 

أجل لننس ولكن وجوهكم لا تريد أن تنسى . ونفخت سمارة قائلة: 

كيف ننسى ووراءنا قتيل؟ ! 

فقال بصوت أجش : 

لذلك يجب أن ننسى . 

ولكنه فوق المستطاع . 

رماها بنظرة طويلة . لا يدرى أحد بما يدور فى رأسه» ولا يدرى أحد عن محنة الحب 
شيئا. ترى أتسوء الأمور أكثر ما ساءت؟ وقلب رجب عينيه فى الوجوه ثم قال: 

خمنت ما سيحدث هنا من قبل أن أحضر» ونحن الآن على بعد من الحادث يتيح لنا 

التفكير فى هدوءء فعلينا أن نتكاشف . 

فقال على السيد فى ضجر: 

ألم نعتبر كل شىء منتهيا؟ 

- يبدو أن لسمارة رأيا آخر! 





70 مثرة وق اليل 

لا تعودوا إلى ذلك الحديث . إنى منهارة تماما . 

وقالت ليلى : 

- قضيت ليلة جهنمية وأمامنا عذاب طويل» حسبنا ذلك! 

ولكن يبدو كما قلت أن لسمارة رأيا آخر. 

التفت على السيد نحو سمارة وقال بنبرة رزينة حزينة : 

سمارة» خبرينى عما ترين» جميعنا محزونون معذبون» لم يذق أحدنا النوم» ليس 
بيننا من يحب القتل أو حتى يتصوره» ونحن نشاركك عواطفك» وقد حز فى 
نفوسنا الخبر. رجل مسكين لعله من مهاجرى الريف» مجهول بلا أهل» ولا سبيل 
أمامنا لإصلاح الخطإء هل من سبيل؟ إذا ظهر له أهل فسنجد وسيلة لتعويضهم» 
ولكن ما العمل الآن؟ 

لم تنبس ولم ترفع إليه عيناء فواصل حديثه : 

لعلك تقولين لنفسك إن الواجب واضح . من الناحية النظرية هذا حق» كان يجب 
أن نتوقف لا أن نهربء وعندما نتأكد من موته غضى من فورنا إلى النقطة وندلى 
باعترافناء ثم نقدم للمحاكمة لينال كل جزاءه» أليس كذلك؟ 

فقال رجب: 

جزائى السجن بلا ريب! 

والفضيحة المزرية للجميع بمن فيهم أنت! 

فقال مصطفى : 

-ولن يبعث الرجل بعد ذلك حياء ولن يفيد من تضحياتنا. . 

وعاد على السيد يقول : 

إنى أعرفك خيرا من الآخرين» فتاة مثالية بكل معنى الكلمة؛ ولكن لابد من شىء 
من المرونة لكى نواجه أعباء الحياة. ليس الحادث المؤسف بقضية وطن ولا مبدإء 
المسألة بكل بساطة: مجهول قتل خطأ. وهناك مسئولية لا أنكر» حماقة مألوفة ويا 
للأسف! ولكن هل نهون عليك جميعا؟! هل تريدين حقا التضحية بسعادتنا 
وكرامتنا؟ ! بل دعينى أقول بسعادتك وكرامتك أنت أيضاء فى سبيل لا شىء؟ ! 
تمتمت وهى تتنهد : 

-لن أصلح بعد ذلك لشىء! 

.وهم لا أساس له» آلاف يقتلون كل يوم بلا سببء والدنيا بعد ذلك بخيرء 


1110م 





مم فق الثيل 1 
الصحفى الذكى ولا عن همتك المعروفة فى الوحدة الأساسية» ولا ولاولاء بل 
لعله سيدفعك إلى مضاعفة الجهد. . 

كما يدفع أحيانا الشعور بالإثم؟ 

إنه ليس بإثمك على أى حال» وهو خليق بأن يحملنا على إعادة التفكير فى كل 
شىء . . أما رجب فقد تطور بالفعل» بفضلك,. على الأقل فيما يتعلق بنظراته نحو 
المرأة» فكرى بذلك كله بقلب سمح . 

فقالت فى قهر شديد: 

-إنى صائرة إلى موت محقق! 

فقال خالد عزوز: 

-ليس ثمة ما هو أفظع من الموت . 

ثمة موت يدركك وأنت حى . 

وإذا برجب يصيح بانفعال غاضب شديد : 

ألا يهمك أن تنشر الصحف أنك كنت بصحبة رجال سيئى السمعة فى النصف 
الأخير من الليل وهم يعبثون ويقتلون؟ 

وهاجتها حدته فهتفت بحدة : 

لايهمنى! 

فتمادى فى الغضب صائحا : 

-إنك تمثلين دور الشجاعة مطمئنة إلى معارضتنا الإجماعية . . 

كذب! 

إذن هلمى إلى النقطة . . 

فصاح مصطفى راشد حانقا : 

- إن ما نبنيه فى دهر تهدمه أنت بحماقتك فى ثانية واحدة؟ 

وقامت إليه سئية فلمست يده ملاطفة وقبلت جبينه حتى عدل عن المناقشة. ثم وقفت 

أتعنين حقا أن تضحى بنفسك وبنا؟ 





مره / تئر فق النّيل 

فأجابت بإصرار وهى لا تزل تحت وطأة الغضب: 

-نعم! 

ليكن»؛ افعلى بنا ما تشائين . 

وقبل أن تنطق سمارة بكلمة دخل عم عبده فخرست الألسنة» أعطى أنيس لفافة 
صغيرة وهو يقول: 

-وجدتها بطلوع الروح. . 

فقال أحمد نصر لأنيس : 

تخلص منها فى الحال . 

للا.. 

لقد قلت مافيه الكفاية. 

ليس أسهل من رميها فى الماء عند الضرورة . 

وتساءل عم عبده : 

-ماذا جرى؟ 

فأعادها أنيس إليه ليعد فنجال قهوة فمضى بها الرجل . وقد غير مجيئه الجو بعض 
الشىء . وساد الصمت حتى قال مصطفى راشد متأسفا: 

فقال خالد عزوز: 

فلنلف سجائر لعل وعسى . . 

وتهلل وجه على السيد بتفاؤل مباغت فقال برجاء : 

أراهن على أن رجب سينجب أطفالا! 

وإذا بأنيس يضحك. ضحك على رغم توتر أعصابه وقال: 

- عملتم من الحبة قبة. 

ولما لم يعره أحد انتباها قال : 

- سمارة فتاة ذات مبادئ» ولكنها امرأة ذات قلب. . 

فنظروا إليه محذرين فى استياء واضح ولكنه مضى يقول : 

- نحن مديئون للحب. . 

وأكثر من صوت رجاه أن يسكت ولكنه أكمل قائلا : 

- فهو الذى أنقذنا من حكم المبادئ . 


1110 





مر فق اليل 4 


تأففت سمارة فى عصبية» ثم أ جهشت فى بكاء عنيف كأنه إعصار اجتاح أعصابها . 
واقترب على السيد منها متأثرا محاولا تهدتتها. أما رجب فقد انقض على أنيمس 


صارخا: 
-أنت! . . أنت! 
وأهوى بقوة على وجهه بكفه! 


١ 


قبض أحمد نصر على ذراعه إلى الوراء بشدة وهو يقول بصوت متهدج : 

أنت مجنون؟! . . أى مصيبة! . . وأى جنون! . . 

وكفت سمارة عن البكاء فاغرة فاها. وحل صمت كالموت . وتلقى أنيس الصفعة 
دون أن يتحرك . ونظر إلى رجب طويلا دون أن ينبس . وأراد مصطفى أن يقترب ليواسيه 
ولكنه مد ذراعه إلى الأمام ليصده وهو يقول : 

عن إذنك . . 

خطأ مفجع بلا أدنى شكء» ولكن المذنب صديق أبيض القلب أعماه الغضب . 

فصرخ بصوت كالرعد: 

ل 

وجاء عم عبده كأنما يلبى نداءه وهو يقول: 

القهوة فوق النار. 

فلوح بيده أن يذهب فذهب . وقام واقفا وراح يتمشى بعرض الصالة ذهابا وإيابا. 
وجعل يكلم نفسه بصوت لا يسمعه أحد. وفجأة وثب على رجب وأطبق بيديه على 
عنقه . وبسرعة ضربه رجب على ذراعيه ليخلص رقبته» فنطحه أنيس فى أنفه ثم انهالا 
أحدهما على الآخر ضربا ولكما وركلا. واندفع الآخرون للحيلولة بينهماء ولكن أنيس 
ترنح وتهاوى ساقطا على الأرض . وظهر عم عبده عند الباب فوقف ينظر ذاهلا ثم تمتم : 


0 
فأمره أحمد نصر بالذهاب ولكنه مضى يردد : 
ولح لات 





7 مر وق اليل 
السيد على مساعدة أنيس للجلوس على الفوتيل» وأحاط الآخرون برجب الذى راح 
يمسح الدم النازف من أنفه» وبسط أنيس يديه على ذراعى الكرسى ومال برأسه إلى 
مسنده ثم أغمض عينيه نصف إغماضة . وقامت ليلى وسنية بإسعاف أولى فجاءتا بماء 
وقطن ومسحتا الدم عن شفته السفلى وحاجبيه. ثم بللتا وجهه وعنقه. أما سمارة فقد 
تقلص وجهها ألما وغمغمت بكلمات لم يسمعها أحد. 

وضرب أحمد نصر كفا على كف وهو يقول: 

لم أكن أتصوو» : 

فتمتم على السيد: 

-يا للخراب! . 

لقد ركبنا الشيطان فلم يعد لنا من وجود. . 

واغرورقت عينا سنية بالدموع. وقالت: 

من يصدق أن يحدث ذلك فى عوامتنا! 

فعادت سمارة إلى البكاء ولكن دون أن يند عنها صوت . وفتح أنيس عينيه» لم ينظر 
إلى أحد» ومال على السيد عليه وهو يسأل : 

كيف حالك؟ 

لكنه لم يجب فقال صاحبه : 

سأدعو طبيبا بعد إذنك . . 

عند ذاك قال أنيس : 

لا داعى لذلك . 

الحزن قتلنا صدقنى» حتى رجب نفسه . وهو يود مصالحتك . 

فقال بهدوء غريب : 

كل شىء يهون إلا. . 

وازدرد ريقه ثم استطرد: 

إلا جريمة القتل. . 

لم يبد على أحد أنه فهم شيئا. واعتدل هو فى جلسته» وقال على السيد: 

أنت الآن أحسن؟ 

فقال بالهدوء نفسه: 

كل شىء يهون إلا جريمة القتل. . 


1110 





نر فق اليل 7 
ماذا تعنى؟ 
أعنى أن العدالة يجب أن تتحقق . . 
-رجب على استعداد. . 
فقاطعه: 
إنما أعنى قتل الرجل المجهول. . 
تبادلوا نظرات غريبة ثم هز على السيد منكبيه قائلا : 
الأهم أن تعود إلى حالتك الطبيعية. . 
-عدت إليها تماما فشكراء إنى أتكلم عما يجب عمله بعد ذلك . . 
- ولكننى لا أفهم ما تعنيه يا عزيزى؟! 
-ليس كلامى غامضا بحال. إننى أعنى القتيل المجهول» وأقول إن العدالة يجب أن 
تتحقق ! 
ابتسم على السيد ابتسامة حائرة بلهاء ثم قال : 
-ها أنت ذا ترانا فى غاية من التعاسة ولم يبق إلا أن ننفجر هالكين. . 
يجب أن تأخذ العدالة مجراها. . 
الكلام يتعبك ولا شك . 
- يجب الإبلاغ عن الجريمة فورا. . 
إنك لا تعنى ما تقول . 
- بل أعنيه بكل دقة ووعى . . 
-شىء لا يصدق . . 
صدقه فهو حقيقى مؤكد. 
ولكن القضية لم تهمك قط! 
لا يهمنى الآن سواها. . 
وجاء أحمد بكأس ويسكى ولكنه رفضه شاكرا فأراد أن يلف له سيجارة إلى أن تنضج 
القهوة ولكنه قال بأنه سيفعل ذلك بنفسه فى الوقت المناسب . وقالت له ليلى برجاء : 
بالله لا تزدنا تعاسة! 
أنه قفي كراد له 
- لقد انتهينا من ذلك وسمارة نفسها قد رحمتنا. . 
قلت مافيه الكفاية. . 





0 ثرة فق التي 
وقال خالد بعصبية : 
-يا جماعة عليئا أن نذهب. لقد مسنا الجنون ولن يزيده اجتماعنا إلا استفحالا. 
ولكنى سأذهب إلى النقطة بنفسىء» فليكن ذلك فى علمكم. . . 
تركزت عليه الأنظار بذهول. وحول رجب وجهه إلى النيل لينفخ غضبه فى الهواء . 
وقال أحمد نصر: 
والسنق في كام واغياك. 
دبل فى كامل وقوى. 
أتدرى ما العواقب؟ 
أن ينال كل جزاءه. 
فصاح رجب بأعلى صوته: 
- إنه يائس مرفوت ولا يهمه فى شىء أن يندك المعبد على من فيه! 
فصاح به على السيد: 
اسكت أنت . إنك المسئول الأول عن كل شىء فلا تنطق بكلمة . 
ثم التفت إلى أنيس قاتلا بحرارة : 
أتصورت حقا أن نتتخلى عنك فى محنتك؟ ليس من المحتوم أن ترفت» وإذا رفت 
فنحن وراءك ومعك حتى تهد عملا آخر. 
شكراء ولكن لا علاقة بين هذا وذاك. . 
-بالله كن معقولاء لاسبب فى الدنيا كلها يبرر موقفك». حتى سمارة اقتنعت برأيناء 
إنى لا أفهمك! 
فصاح رجب: 
- ألا تفهم حقا؟ 
اسكت أنت . 
- ألم تفهم أنه مصمم على الانتقام منى؟ 
-اسكت أنت . 
لقد جن ولا فائدة من مناقشة مجنون . 
قلنا لك اسكت . 
- فلتدك السماوات على الأرض قبل أن أسمح لمدمن مجنون بأن يدمر مستقبلى . 
وأرادت سمارة أن تقول شيئا ماء ولكن رجب لوح نحوها بقبضته غاضبا وصاح: 


1110 





ثرة وق اليل ون 


ماذا تريدين يارأ س البلوى؟ 

000 
إذا لم يكن من تهمة القتل بد» فلتكن جريمة قتل حقيقية 

كل روا هله أن تصميع رحدل الجود اول اليا ١‏ 

-كارثة . . ستقع كارثة فتقتلعنا جميعا. 

وظهر عم عبده مرة أخرى وهو يقول : 

و حدواالله! 

فصاح به أحمد نصر: 

-غر . . اذهب بعيدا وإياك أن تعود! 

ولما ذهب العجوز قال لأنيس : 

- أنيس» ها أنت ذا ترى. . باسم صداقتنا أعلن أنك لا تعنى ما تقول. 

فقال أنيس بإصرار: 

-لن أتراجع أبدا . 

-دينك ودين أهلك! 

والتفت نحو سمارة داعيا إياها بنظرة جزعة وجلة إلى التدخل . وتركزت الأنظار 
عليها واضحة فى حثها على الكلام وفى تحميلها مسئولية ما وقع معا. وركبها القهر 
والحرج. ونظرت نحو أنيس» وازدردت ريقهاء ثم همت بالكلام ولكنه سبقها قائلا : 
لا تراجع. أقسم لكم على ذلك! 

وهجم رجب محاولا فك الحصار المضروب حوله ليثب عليه» ولكنهم شددوا فى 
حصاره وقبضوا على ذراعيه ووسطه . وبذل كل قوته للتخلص من أيديهم دون جدوى . 
وعند ذاك قام أنيس ثم سار نحو باب المرافق فاختفى دقيقة ثم رجع قابضا على سكين 
المطبخ ووقف بين الباب والفريجيدير متوثبا للدفاع عن نفسه حتى الموت. وصرخت 
النساء . وهددت سنية باستدعاء البوليس عند أول بادرة شر . وضاعفت السكين من ثورة 
رجب فانهال على أنيس سبا وقذفاء وكرر المحاولة للوثوب عليه حتى صاح خالد عزوز: 
يجب أن نذهب فى الحال . 

فصرخ رجب : 

- سأقضى عليه قبل أن يقضى على . 

ولكنهم دفعوه نحو الباب الخارجى على رغم مقاومته. 

وعنفت حركاته للتخلص منهم فعنف كذلك إصرارهم حتى انقلب ما بينهم إلى ما 
يشبه المعركة . وهددهم إذا لم يتركوه بالضرب فهددوه بدورهم بالضرب . 





ئى”و”, زر قوق اسمبا 


وتابع أنيس المنظر بغرابة» إنهم يتصارعون. الوحش يريد أن يقتل . استماتوا فى 
الدفاع فلم يغلبهم . 

وكف فجأة عن الهجوم . ها هو ذا يقف جامدا وهو يلهث ثم ينتفض غضبا . وبرقت 
فى عينيه نظرة جنونية» وصرخ : 

- إنكم تتوهمون أننى وحدى المسئول! 

لندع الكلام حتى نغادر العوامة . 

لقد هربتم معى ! 

فلنتكلم فى الخارج بهدوء . 

كلا يا أوغاد» إنى ذاهب» سأذهب إلى النقطة بنفسى» إنى أتحدى الخراب والموت 

بالفاطيق 1ت 

واندفع إلى الخارج وهم فى أعقابه. وتبعتهم فى الحال سنية وليلى. ارتجت العوامة 
ومادت تحت الأقدام الثقيلة الغاضبة . 

وضع السكين فوق الخوان ومضى إلى أقرب شلتة ثم جلس غير بعيد من سمارة . نظر 
كلاهما إلى الليل خارج الشرفة مستسلما للصمت والوحدة. لم يتبادلا نظرة ولا كلمة؛ 
ولكنه قال لنفسه إن الدنيا قد زلزلت وإنها على وشك الانفجار. وشعر بأقدام تقترب 
مألوفة اللغة» فلم يلتفت حتى وقف العجوز وراء ظهره وقال: 

-ذهبوا. . 

فلم يجبه فعاد الآخر يقول: 

لعب الشيطان بكم حتى شبع . 

فلم يخرج من صمته فقال العجوز . 

جئتك بالقهوة . 

فتحسس فكيه وقال: 

اتركها أمامى . 

خذها فى الحال من يد مباركة لتسكن الألم . 

وقرب الفنجان من فيه بإصرار حتى احتساه» فقال العجوز: 

لتكن هذه المرة للشفاء . 

ثم تحول عن موقفه ماضيا نحو الباب ولكنه توقف عند البارفان وقال: 

اعتزمت أن أفك سلاسل العوامة لو كان عاد إلى ضربك! 

فقال أنيس بدهشة : 


01100 





مير فق النيل 7*7 


- لكننى كنت سأغرق مع الآخرين؟ 

فقال وهو يمضى : 

على أى حال ربنا ستر! 

وضحك أنيس ضحكة خافتة» وسألها: 

أسمعت ما قال العجوز؟ 

فسألته بدورها: 

- ألا ترى أنه يجب استدعاء طبيب؟ 

كلاء لا حاجة إلى ذلك . 

وأشعرته إثارة الموضوع بالألم من جديد ولكنه كان طفيفا وكانت القهوة قد استقرت 
فى معدته . 

وسألته مرة أخرى : 

أيذهب حقا إلى النقطة؟ 

-لا أدرى شيئا عما يقع فى الخارج . 

فترددت قليلا ثم سألته : 

ما الذى جعلك . . . ؟ 

وقطعت عبارتها فأدرك معناها ولكنه لم يجب فسألته : 

-الغضب؟ 

دربا. 

-ربما؟ ! 

ثم وهوايشيم: 

وأردت أيضا أن أجرب قول ما يجب قوله! 

تفكرت قليلا ثم سألته : 

-لماذا؟ 

لا أدرى بالضبط» ريما لأمتحن كيف يكون أثره. 

-وكيف وجدته؟ 

كما رأيت. 

- ألا تنوى أن تبلغ بنفسك إذا لم يفعل؟ 

-إنك لا تريدين ذلك! 





”7 تئر فق النّيل 
فتنهدت قائلة : 
كان الموقف فوق طاقتى فانهزمت . 
- ولكن التجربة أثبتت أنه نمكن؟ 
- ولكن يبدو أنك لن تسير فيها إلى النهاية . 
- لآسبب لذلك عتدى مكلك . . 
-ها أنت ذا تعود إلى قتلى! 
فصمت مليا ثم قال: 
إنك تحبينه » أليس كذلك؟ 
فلاذت بالصمت متجاهلة ترقبه» فقال: 
أوجدته مختلفا عن الرجل الممتاز الذى رفضته من قبل؟ 
فقالت بنبرة متشكية : 
-روح القتال لم تفارقك بعد. 
- ليس ثمة ما يخجل فى ذلك» فهو رجل ممتاز أيضا. 
ولكنه بلا أخلاق! 
-لم يعد للأخلاق وجودء حتى أحمد نصر! 
- أود أن أقول إنك متشائم ولكن لا حق لى فى ذلك . 
على أى حال ستحميهم لا أخلاقياتهم من ارتكاب حماقة أخلاقية» وسوف يعود 
إليك الحب! 
- عذبنى كيف شئت» فإنى أستحقه وأكثر . 
فضحك ضحكة أشعرته بآلام فكيه» وقال: 
وها أنا ذا أعترف لك بأن الغيرة كانت باعثا من بواعث سلوكى الغريب! 
فحدجته بنظرة دهشة» فابتسم قائلا : 
لا يصح أن أخدعك . فقد تتوهمين أن إحدى شخصيات مسرحيتك قد تطورت إلى 
النقيض بتأثير كلامك أو بدافع من حدة التجربة» فأوقعك فى نهاية مفتعلة! 
لبثت ترامقه بدهشة» فقال: 
وثمة نهاية أخرى لا تقل عن السابقة سخفا وهى أن تبادلينى الحب! 
فغضت من عينيها وهى تسأله : 
- فكيف ترى النهاية؟ 


1110 





مث فق اليل 0 
هذه هى مشكلتنا لا مشكلة المسرحية وحدها. . 
لكنك تكلمت عن قول ما يجب قوله؟ 
ذلك حق. لم يكن الغضب ولا الغيرة وحدهماء ولكن خطر لى بعد ذلك أن أقول 
ما يجب قوله» وأن أقف موقفا جادا لأمتحن أثره» فوقع زلزال لا ندرى شيئا عن 
عواقبه» وحتى أنت انهزمت! 
انلك عقا اس 
-بل إنى أحبك . 
تجلت فى عينيها نظرة حزن عميق» وقالت: 
أعترف لك بأننى مصرة على أن أكون جادة أكثر منى جادة بالفعل. . 
-هاتى ما عندك بسرعة فإن القهوة على وشك. . . ! 
- فى أويقات الراحة من العمل يعترضنى العبث كأنه وجع الأسنان. 
ذاك بعض أعراضه . 
ولكننى أحاربه بعقلى وإرادتى . 
فقال ساخرا: 
لا يبعد أن تجدى التطور الضرورى فى المسرحية فى تطور البطلة إلى الوراء! 
فاحتدت قائلة : 
كلا . . كلا. . إنى مصممة. 
سكت إشفاقاء فقالت: 
- ومع ذلك فإننى مقتنعة بأن المسألة ليست مسألة العقل والإرادة وحدهما. . 
- إذن ماذا؟ 
أتعرف لعبة الساقية فى لونابارك؟ 
كلا . 
- إنها تدور بركابها من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل . . 
وبعد؟ 
عندما تكون صاعدا فإنك تتلقى إحساسا صاعدا بطريقة تلقائية. . وعندما تكون 
هابطا فإنك تتلقى إحساسا هابطا بطريقة تلقائية كذلك» وبلا تدخل فى الحالين ‏ من 
العقل أو الإرادة! 
- زيدينى شرحا وتذكرى القهوة! 
- نحن من الركاب الهابطين. . 





73 ير فق الشيلن 


والعمل؟ 

-ليس لنا إلا العقل والإرادة! 

والهزيمة؟ 

فقالت بحدة : 

كلا . 

-هل تعدين نفسك مثالا للانتصار؟ 

- من الركاب الهابطين من جاوز نفسه وحتى من أهلكها. 

وراحت تتكلم عن الأمل» فنظر إلى الليل. ورفرف الليل بجناحيه فتناثرت الأسرار 
كالنجوم. واستحال كلامها وشوشة منبعثة من تهويمات حلم . وشىء حدثه بأنه عما 
قليل سينشق سطح الماء القاتم عن رأس الحوت . 

وقالت له: 

فقّال محدثا نفسه: 

أصل المتاعب مهارة قرد! 

- ما كان ينبغى أن تشرب القهوة! 

- تعلم كيف يسير على قدمين فحرر يديه . 

هذا يعنى أنه يجب أن أذهب . 

وهبط من جنة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة . 

-سؤال أخير قبل أن أذهب : ألديك خطة للمستقبل إذا تأزمت الأمور؟ 

- وقالوا له عد إلى الأشجار وإلا أطبقت عليك الوحوش . 

أتستحق معاشا مناسبا إذا لا سمح الله رفت؟ 

-فقبض على غصن شجرة بيد وعلى حجر بيد وتقدم فى حذر وهو يمد بصره إلى 

طريق لا نهاية له. 


11100 








١ 
* 
15 
16 
15 
./ 
- 56 
0-08 
5ت‎ 
١ 
فيك‎ 


بيت سبئ السمعة 
الشحاذ 

ثرئرة فوق النيل 
مكاعسار 
أولاد حارتنا 


ترجمة 
مجموعة قصصية 
رواية تاريخية 
رواية تاريخية 
رواية تاريخية 
رواية 
رواية 
رواية 
رواية 
رواية 
رواية 
رواية 


رواية 


9 


رواية 


2 


١3 
١8 
١ 
١01 
١0:5 
1 
١055 
١ /ا‎ 
١ 
١1. 
١005 
١ /ا0‎ 
١ /ا‎ 
١ ا‎ 
١451 
١ 
103 
١ 
١6 
١1955 
١ 
١ / 


اع 


37ت 
14 
1 
11د 
يفيك 
30 
4 
الاك 
3د 
شك 
7 
ا 
3 
كت 
اا 
7 
3 


1 
5- 
"27ت 
5- 
6 
ك5 
/ا5- 
- 
46- 


خمارة القط الأسود 
تحت المظلة 


حكاية بلا بداية ولا نهاية 


شهر العسل 
الملريا 
الحب تحت المطر 
الجريمة 
الكرنك 
حكايات حارتنا 
قلبالليل 
حضرة المحترم 
الحرافيش 


الحب فوق هضبة الهرم 


الشيطان يعظ 
عصرالحب 
أفراح القبة 

ليالى ألف ليلة 

رأيت فيما يرى النائم 


الباقى من الزمن ساعة 
أمام العرش (حوار بين الحكام) 


العائش فى الحقيقة 
يوم قتل الزعيم 


حديث الصباح والمساء 


صباح الورد 
قث 9 
الفحر الكاذب 


11100 


ها 
.ام 


مل 


0 


رواية 
رواية 
رواية 
مجموعة قصصية 
رواية 


١18 
١84 
١1/١ 
١/١ 
١/7 
١ ا‎ 
١ ا‎ 
١ 
١ ا‎ 
١/0 
١ ا‎ 
١ اا‎ 
١0 
١ 
١8 
١8١ 
١1 
١18 
١187 
الا‎ 
١87 
١١10: 
١6 
١6 
١ 81/ 
١ /41ة‎ 
١84 
١84 





6١ 
"هه‎ 
6 
65 


مه 


أصداء السيرة الذاتية 
القرار الأخير 
صدى النسيان 
فتوةالعطوف 
أحلام فترة النقاهة 


ع مه 


عه 


مامه 


مجموعة قصصية 


ممه 


مجموعة قصصية 


امه 


مجموعة قصصية 


الالا 


١16 
١145 
١|١11 
5 
5 





رقم الإبداع ٠5/11/0504‏ 
الترقيم الدولى 6 - 1782 - 09 - 977 


القاهرة: 4 شارع سيبويه المصرى -ات: 14:79498 - فاكس: /31/051 .1 (035) 
بيروت: ص .ب: 8١54‏ هاتف: 70869 - 48١1/51‏ فاكس: 50لال1١01(41)‏ 


11100 


0 









الا 


ظ